لم يتمكن الألمان من استخدام المضائق في الحرب العالمية الثانية، لذلك قاموا بنقل غواصاتهم إلى البحر الأسود بطريقة غير مألوفة لاستخدامها ضد الروس.
شهدت السواحل التركية أحداثا غير عادية إبان الحرب العالمية الثانية، فقد تم تنزيل ثلاث غواصات من أصل ستة غواصات ألمانية بطريقة مدهشة إلى البحر الأسود، وتمكنت هذه الغواصات من إغراق السفن الروسية. ومؤخرًا اكتُشِفَ حطام الغواصة U23 المفقودة منذ 75 عامًا، إحدى الغواصات الألمانية في عام 2019، من قبل سفينة البحث والإنقاذ التابعة لقيادة القوات البحرية التركية.
قوبل اكتشاف الغواصة على عمق 40 مترا قبالة ساحل "شيلة-أغوا باغيرغانلي"، باهتمام المجتمع الدولي.
"وجّه أدولف هتلر عينيه إلى الشرق، الذي كان يطلَق عليه اسم اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وقام 3 ملايين جندي ألماني في 22 حزيران/ يونيو 1941، بتنفيذ هجوم من أجل السيطرة على موارد طبيعية خاصة البترول، سميت هذه العملية "بربروسا". كان هتلر مقتنعا بأن القوات البرية ستجعل روسيا تجثو على ركبتها، وتقدم الألمان بسرعة ليحتلوا ساحل البحر الأسود، ثم وصلوا إلى منطقة "تاوبسه"، لكنهم لم يكن لديهم قوة بحرية تستطيع السيطرة على سواحل البحر الأسود وتحمي طرق الإمداد".
وفقا لاتفافية مونترو، تم إغلاق مدخل البحر الأسود، وبالرغم من أن تصريح العبور إليه كان في يد تركيا إلا أنها وقفت على الحياد، كما قامت بإغلاق الطرق المؤدية إلى البحر الأسود في وجه السفن العسكرية بمضيقي جناق قلعة والبوسفور، وتم تركيب خطوط مغناطيسية تحت الماء لتمنع المرور السرّي للغواصات التي تتقدم بعمق وهدوء.
طلبت الحكومة الألمانية من تركيا فتح طريق للغواصات عبر المضيق، إلا أنها رفضت، ثم طلبت ألمانيا شراء الغواصات التركية "أتيلاي" و"سالديراي" و"ييلديراي"، إلا أن الحكومة التركية رفضت ذلك أيضا، لعقدها العزم على البقاء محايدة، فبقي الألمان عاجزين بعد أن قلت خياراتهم، فقرروا تنفيذ خطة مجنونة تقضي بنقل الغواصات برا من بحر الشمال إلى البحر الأسود، كان طريقها من قاعدة "كييل" البحرية إلى ميناء "كوستنجه" الروماني، ما يعني نقلها مسافة 3 آلاف و500 كيلومترا عبر الأنهار الأوروبية.
اختار الألمان لهذه الرحلة الغير عادية أخف وأصغر أنواع الغواصات من "فئة B2"، وتم اختيار ستة غواصات من هذه الفئة التي سمّيت "أسطول الثلاثين"، وهي "U9" و"18" و"19" و"20" و"23" و"24" لهذه المهمة الخاصة، وتوجب نقلها سلسلة عمليات معقدة بتكنولوجيا هندسية، لعدم إمكانية نقلها قطعة واحدة في السفن حتى لو كانت صغيرة الحجم، لذلك تم تفكيكها، ثم وضعت أجزاؤها بطوافات معدة خصيصا لسحبها بالقاطرات.
تم نقل أول مجموعة من أجزاء ثلاث غواصات في ربيع عام 1942، عبر نهري "الدانوب" و"إلبه"، الذين تفصل بينهما مسافة 300 كيلومتر، واستغرق نقل الغواصات الألمانية الست إلى ميناء كوستنجه الروماني حوالي 11 شهرا، ثم جمعت أجزاؤها وبدأ عملها الخطر في البحر الأسود اعتبارا من تشرين الأول/ أكتوبر 1942، وأجرت خلال وجودها 56 عملية وأغرقت 26 سفينة تزن حوالي 45 ألفًا و426 طنًا.
على الرغم من نجاح الغواصات الألمانية الذي جاء متاخرا، إلا أن الروس استطاعوا الدخول إلى قاعدة الغواصات الوحيدة في كوستنجه والسيطرة على الثلاث غواصات U9 و18 و24، وبدؤوا بالقضاء على القوات الألمانية البرية، التي خسرت الحرب تقريبا، بعد تغيير رومانيا موقفها في الحرب في صيف 1944. أما الغواصات الثلاث الأخرى فبقيت بلا دعم وبلا ميناء. وصف قائد الغواصة U23 رودلف أرندت، الغواصات المحاصرة في البحر بقوله: "كما لو أنك حصرت قططًا ووضعتهم في كيس".
اضطر للألمان للتواصل مع الأتراك مرة أخرى لاستعادة غواصاتهم من الروس، مقابل إعادة العاملين، إلا أن جوابهم كان محايدا مرة أخرى، فأدرك حينها قائد القوات البحرية الأدميرال كارل دونيتز، بأن ليس لديه خيار آخر، فوجه أمرا إلى قادة الغواصات بإغراق الغواصات والانسحاب إلى البر، فاستجاب العساكر للأمر وخرجوا إلى أرض الأناضول جنوبا، ثم تواصلوا مع السفن الألمانية في بحر إيجه لحمايتهم.
اجتمع القادة الثلاث مع غواصاتهم في نقطة واحدة قريبة من الساحل التركي في 9 أيلول/ سبتمبر 1944، لتحديد النقاط التي سيتم إغراق الغواصات فيها. أغرقت غواصة U19 في "أرغلي" بالبحر الأسود، وU20 في "كاراسو" بسكاريا، كما اختار قائد غواصة U23، رودلف أرندت، ساحل "أغوا".
بدأ التحدي الحقيقي بخروج البحارة الألمان إلى اليابسة، لتواجدهم في دولة لا يعرفون عنها شيئًا، ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا ليلاحظ الأهالي الجنود الشقر ذوي العيون الزرقاء والسراويل القصيرة، وتم القبض عليهم في اليوم التالي رغم انقسامهم لمجموعات.
أبدت تركيا اهتماما بالعساكر الألمان، الذين كانوا حلفاءها إبان الحرب العالمية الأولى، وتمت استضافتهم لمدة عامين في معسكرات خاصة في "بيشهير" أولا لمدة 8 أشهر ثم نقلوا إلى إسبارطة، كما تم منحهم راتبًا شهريا من الهلال الأحمر، والبعض منهم عمل في وظائف حسب اختصاصهم، فالطبيب عمل بالمستشفى والإسكافي عمل بصنع الأحذية وبعضهم عمل بإصلاح الآلات المعطلة في الورشات والمصانع.
بعد انتهاء الحرب التي حولت العالم إلى بحيرة دم في سبتمبر 1945، تم إرسال الغواصين الألمان في قطار مع عساكر أخرين معتقلين إلى إزمير في تموز/ يوليو 1946، ثم نقلوا بالسفينة إلى إيطاليا. ليتم تسليمهم إلى الأمريكان بموجب اتفاقية السلام، كما تم استجوابهم في معتقل "داخاو" بالقرب من مدينة ميونخ الألمانية، ثم عادوا إلى منازلهم في سبتمبر 1946.
بقيت الغواصات الشاهدة على تلك الفترة صامتة راقدة في أماكن مجهولة في سواحل أرغلي بزنغولداك وكاراسو بسكاريا وباغيرغانلي بكوجايلي، وكانت غواصة U20 أول من كسر هذا الصمت حين عثرت عليها سفينة البحث والإنقاذ التابعة للقوات البحرية التركية قبالة ساحل كاراسو على بعد ميلين وعمق 26 مترا في عام 1994، وتم التعرف على هوية الغواصة من قبل الباحث سلجوق كولاي.
كانت غواصة U23 أول غواصة وصلت إلى البحر الأسود، وبدأت وظيفتها في حزيران/ يونيو 1943، حيث قامت بإغراق سبع سفن وبدوريات في مناطق سيفاستوبول وباتوم ونوفوروسيسك، إلى أن تم إغراقها في سبتمبر 1944، واكتشفت القوات البحرية غواصة U23 قبل عامين في عام 2019.
وتنتظر الغواصة الثالثة U19 الراقدة في السواحل التركية بمنطقة أرغلي بزنغولداك، من يعثر عليها.