جاء في نصّ الرسالة التي أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، أنه قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ، وَ(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [متفق عليه].
اختلاف الروايات في لفظ كلمة الأريسيين:
وردت هذه الكلمة في الكتاب الذي أرسله الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، ولم ترد في غيره من الكتب، قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: قَوْله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَرِيسِيِّينَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة الْأُولَى فِي مُسْلِم (الْأَرِيسِيِّينَ) وَهُوَ الْأَشْهَر فِي رِوَايَات الْحَدِيث وَفِي كُتُب أَهْل اللُّغَة، وَعَلَى هَذَا اُخْتُلِفَ فِي ضَبْطه عَلَى أَوْجُه: أَحَدهَا بِيَاءَيْنِ بَعْد السِّين، وَالثَّانِي بِيَاءٍ وَاحِدَة بَعْد السِّين، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْهَمْزَة مَفْتُوحَة وَالرَّاء مَكْسُورَة مُخَفَّفَة، وَالثَّالِث: الْإِرِّيسَيْنِ بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَتَشْدِيد الرَّاء وَبِيَاءٍ وَاحِدَة بَعْد السِّين، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة فِي مُسْلِم، وَفِي أَوَّل صَحِيح الْبُخَارِيّ (إِثْم الْيَرِيسِيِّينَ) بِيَاءٍ مَفْتُوحَة فِي أَوَّله وَبِيَاءَيْنِ بَعْد السِّين.
معنى كلمة الأريسيين:
اختلف علماء الحديث واللغة من مدلول هذه الكلمة، فقال البعض: هم الأكاريون أو الحراثون، وقيل: إن (الأريسيين) هي جمع (أريسي)، وهم أتباع فرقة من فرق النصارى وقفوا في وجه مبدأ الثالوث، وكانوا يؤمنون بالتوحيد، مما جعلهم في صراع مع دعوة تأليه المسيح وتسويته بالإله الواحد الصمد، ولهذا فمن المرجح أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنى هذه الفرقة بقوله: (فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين) ذلك لأنهم كانوا موحدين. وقد ذكر الإمام أبو جعفر الطحاوي هذه الفرقة فقال: وقد ذكر بعض أهل المعرفة بهذه المعاني أن في رهط هرقل فرقة تعرف بالأروسية، توحد الله، وتعترف بعبودية المسيح له عز وجل، ولا تقول شيئا مما يقول النصارى في ربوبيته وتؤمن بنبوته، فإنها تمسك بدين المسيح مؤمنة بما في إنجيله، جاحدة لما يقوله النصارى سوى ذلك، وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يقال لهذه الفرقة (الأريسيون) في الرفع، (الأريسيين) في النصب والجر، كما ذهب إليه أصحاب الحديث. وجاء في كتاب موسوعة الأديان الميسرة (ص13): آريوس أحد رجال الكنيسة في القرن الرابع الميلادي، أصله ليبي، وقد عاش في مصر، وفيها حاول مقاومة فكرة ألوهية المسيح، وأن الابن مساوٍ للأب التي بدأ يتداولها بعض رجال الكنيسة، وقد أظهر آريوس مواقفه وآراءه في عهد بطريرك الإسكندرية ألكسندر الذي حاول مقاومة ما يطرحه آريوس.
يقول جون لوريمر: من الواضح أن الدافع لآريوس هو الحفاظ على كمال الله الآب وسرمديته وألوهيته، وفي الوقت نفسه نسب دوراً هاماً للمسيح الابن، يفرزه عن الآخرين على أن آريوس لم يستطع أن يقبل وجود تغيير أو انقسام من الأب الذي كان الجوهر النهائي. وتنقل نصوص مجموعة الشرع الكنسي أن آريوس أنكر لاهوت المسيح، وزعم أنه مخلوق من العدم وغير مساوٍ للآب في الجوهر، وأنه لم يكن أزلياً وهو دون الرتبة الألوهية، ويسمى مجازاً ابن الله وحكمته وقوته. فالمسيح والآب عند آريوس ليسا في جوهر واحد، والروح القدس عنده وُلد من الكلمة، وهو أقل ألوهية من الكلمة (المسيح الابن) نفسها.
من هنا فإن آريوس كان يريد توحيد الله وتنزيهه، ولذلك رفض فكرة تأليه المسيح وأن الابن إله حق من إله حق، وكان يريد أن يضع حداً فاصلاً بين الخالق والمخلوق، وعنده أن الابن من ضمن المخلوقات، وفي عدادها، ووافق فقط على القول بأن المسيح خليفة عليا، ولكنه خليفة فقط.
ترافق ظهور آريوس والتفاف الأتباع حوله استلام قسطنطين الثاني السلطة، وكان أن دعا قسطنطين عام 325م إلى مجمع مسكوني في نيقية، أدانوا فيه كل الآراء القائلة بعدم ألوهية المسيح، ومنها آراء آريوس، ورموه بالهرطقة، وبأن مواقفه بدعة، وصدر عن هذا المجمع ما عُرف فيما بعد باسم (دستور الإيمان النيقاوي) وفي نصه: أن المسيح إله حق من إله حق، وأنه مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر. وبعد مجمع نيقية تم نفي آريوس وعزله لإيقاف تأثيره [موسوعة الأديان]
واستمر كفاح هذه الفرقة ضد عقيدة الثالوث، ووقف بطريق الاسكندرية مع أثيناسيوس وقفة قوية ضد آريوس الذي ينادي بأن الإله واحد، وله طبيعة واحدة، كما كان ينادي ببطلان القول الذي يزعم أن عيسى وروح القدس آلهة ملتحمة مع الإله الواحد، وقال: بأن مثل هذا الزعم لا يتمشى مع مبدأ التوحيد، وقال: إن عيسى بشر فوق البشر الآخرين، لكنه لا يمكن أن يكون إلهاً، لأن للإله طبيعة واحدة، وهذه الطبيعة لا تتجزأ. وبعد مؤتمر نيقية تكونت النواة الأولى للديانة المسيحية التي تؤمن بأن الذات الإلهية قد صارت منقسمة إلى الأب والابن، والروح القدس، ونادى هذا المؤتمر بأن الإله الابن يمثل نشاط الإله الأب وحركته، فهو الجزء المتحرك من الإله، وأن روح القدس أيضاً من طبيعة الإله، وهو إله أيضاً كالابن يمثل جانب الحركة والنشاط للإله الأب، وأن روح القدس روح غير مخلوقة كالابن تماماً منبثقة عن الذات الإلهية الواحدة. وأصبحت عقيدتهم بأن الأب والإبن والروح القدس كلهم جميعهم آلهة، أو أقانيم مشتركة في الجوهر والطبيعة الواحدة (طبيعة واحدة وجوهر واحد لثلاثة آلهة) ثم جاء القديس أوغسطين في القرن الخامس، وأيد هذا المبدأ، ثم جاء فلاسفة الغرب ونقلوا هذه الأفكار عن القديس أوغسطين وهو يعد من أهم آباء الكنيسة الذين أرسوا دعائم المسيحية [منهجية جمع السنة، وجمع الأناجيل دراسة مقارنة، د.عزية طه (ص 147).
ولد آريوس في قورينا (ليبيا الحالية) عام 270م، لأب اسمه أمونيوس من أصل ليبي بربري. ودرس تعليمه اللاهوتي بمدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وتاثر بفكر عمادها اوريجن متاثراً بالفكر الأفلاطوني، ومن ثم درس أيضا بمدرسة انطاكيا متاثراً بالمنطق الأرسطي لوكيانوس بأنطاكية حيث كان زميل دراسة لبعض الأشخاص الذين ارتقوا فيما بعد إلى درجات الرئاسة الكهنوتية. وهم الذين عضدوه ودفعوا به للمضى في طريق الكفاح لأجل نشر أفكاره، كان آريوس ذا موهبة في الخطابة فصيحاً بليغاً قادراً على توصيل أفكارة بسلاسة بين العامة والمفكرين، وأضحى رمزاً للتوحيد، حتى أنّ كلّ من جاء بعده وأنكر التّثليث وُصم بأنه آريوسي أو أرياني، عاد أريوس إلى الإسكندرية، وأخذ بعمل بحماس شديد وبأساليب مبتكرة لأجل عقيدته بأن يسوع مخلوق، ونشرها بين الجماهير، وقد ساعد على نشر عقيدته ما كان يظهر به أريوس من مظاهر الورع والتقوى إلى جانب ما يتصف به من الكبرياء والتباهي وحبه للنضال...
أهم المعتقدات في مذهب الأريسيين:
تنصّ عقيدة التوحيد المسيحي التي تبنّاها آريوس، على أن (الله واحدٌ فَردٌ غير مولود، لا يشاركه شيء في ذاته تعالى. فكل ما كان خارجاً عن الله الأحَد إنما هو مخلوق من لا شيء، وبإرادة الله ومشيئته). وهذا يعني أن المسيح، ضمن هذا التّعريف، بشرٌ مخلوق. ولا يعتقد هذا المذهب بألوهة المسيح ويقول بأن الإبن الكلمة (المسيح) ليس بإله، وأن علاقته مع الآب هي علاقة بنوة وليست مساواة أو مشاركة في ذات الطبيعة الإلهية، وعلى هذا فالكلمة ليس أزلي ولكن مخلوق خاضع لله.
يرى آريوس وأتباعه أنه لا يمكن إلاّ أن يكون هناك إله واحد، ولهذا فلا بد أن يكون المسيح قد خلق في زمن ما، ولا بد أن يكون ككل المخلوقين معرضاً للتغير والخطيئة، ولكي يواجه آريوس مخالفيه استعان ببعض آيات من الكتاب المقدس ليثبت بها صحة أفكاره، منها: (الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم) [أمثال 8: 22] وقد عُدُّ آريوس، من وجهة النّظر الأرثوذُكسية زنديقاً شكّل خطراً على العقيدة المسيحيّة طوال عشرة القرون الأولى من تاريخ المسيحيّة. وقد رُفض مذهبه منذ مجمع نيقية، حيث صاغوا القسم الأول من قانون الإيمان الذي يقول بإلوهة المسيح وتساويه مع الآب، وأعلنوا حرمان آريوس وجميع أتباعه، وأعلنوا أن العقيدة التي أقرها آباء الكنيسة في مجمع نيقية هي العقيدة الرسمية للامبراطورية كلها، ولكن هذا لم يوقف انتشار الآريوسية بين مسيحيي ذلك الزمان، فقد لقيت هذه العقيدة أنصاراً كثيرين في الإسكندرية وغيرها، فقد أعلن الإمبراطور البيزنطي قُنسطنطينوس ابن قُنسطنطين أنه آريوسياً. ومع مجيء العام 359م حلّت الآريوسية محلّ المسيحية الرّومانية. ورغم شجبها في مَجمَع القسطنطينيّة عام 381م، استمرّت هذه العقيدة بالانتشار، حتى إذا كان القرن الخامس كانت كل أسقفية في العالم المسيحي إما آريوسية أو شاغرة. ومما تجدر الإشارة إليه أن مذهب التّوحيد الآريوسي كان موجوداً في نواحي الشام والتّخوم الشمالية للجزيرة العربية، زمن البعثة النّبوية وقيام الدّعوة الإسلاميّة بالقرن السّابع الميلادي بالإضافة إلى أنه كان المذهب المتبع في مصر زمن فتحها، مما سهل على الفاتحين للقطر المصري فتحها دون عناء يذكر، وتبعه أتباع الأقباط المصريون للإسلام كدين توحيدي خالص، ولعلهم الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي ارسله إلى (هِرَقل عظيم الرّوم) يدعوه فيه إلى الإسلام.
هل استمر مذهب الآريوسيين؟
لم يبق هذا المذهب على ما هو عليه، بل تغير وتبدل، وتكاد تكون جماعة شهود يهوه في عصرنا، تستخدم ذات الأفكار التي استخدمها آريوس قديماً، بل يستخدمون نفس المقاطع الكتابية، وينادون بأن المسيح ليس هو الله، بل إله، وهو ليس واحد مع الله في الجوهر، لكنه مخلوق من مخلوقات الله، فهو بكر خلائق الله. وجاء في كتاب النصرانية والإسلام، لمؤلفه المستشار محمد عزت إسماعيل الطهطاوي (ص: 32): إن قرارات مجمع نيقية تنص على ما يلي: إثبات ألوهية المسيح. وتكفير من يذهب إلى أن المسيح إنسان. وعلى تكفير آريوس وطرده وحرمانه من عضوية الكنيسة. وإحراق جميع الكتب التي لا تقول بألوهية المسيح، وتحريم قراءتها، ومن هذه الكتب إناجيل فرق التوحيد، التي تقر ببشرية المسيح، وتفيد أنه رسول فقط ومن هذه الأناجيل إنجيل برنابا.
وجاء في كتاب منهجية جمع السنة تحت عنوان مؤتمر كالسيدون (عام 451م) وما ترتب عليه: إن أتباع آريوس كانوا وإلى القرن الخامس الميلادي يشكلون مجموعة كبيرة فقرر أنصار الثالوث عقد مؤتمر في كالسيدون بآسيا الصغرى لرد مقالة الآريوسية ولإعادة تأكيد ألوهية عيسى، لأن الآراء اختلفت وتضاربت، والصراعات احتدمت بين مختلف الفرق، ولم يقتنع جميع النصارى بألوهية عيسى عليه السلام، وفي هذا المؤتمر تقرر عقيدة الصلب كأساس للديانة المسيحية.
يقول الدكتور محمد عابد الجابري في مقال له في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية: "كلمة (الارِيـسِـيّـِين) فسرها معظمهم بـالأكارين، أي، الفلاحين، وعلى هذا الأساس جعلوا معنى قول النبي: (فإن توليت فعليك إثم الأريسيين) كما يلي: وإن لم تدخل في الإسلام فلا تحُل بين الفلاحين وبين الإسلام، وبعضهم قال: الأريسيون العشارون يعني أهل المكس، وآخرون رووا العبارة هكذا: (عليك إثم الفلاحين) هذا في حين أن الصواب يقتضي قراءة هذه الكلمة كما يلي: أرْيُسِـيِّـين (فتح الهمزة وسكون الراء وضم الياء الأولى• نسبة إلى (أريوس) وقد خيل إلينا في بداية الأمر أن أي أحد لم ينتبه إلى هذا المعنى، ولكننا عندما عدنا نراجع مصادرنا المختلفة انتبهنا إلى أن (لسان العرب) ذكر من جملة آخر ما ذكر بصدد هذه الكلمة قوله: وقيل: إِنهم أتباع عبداللَّه بن أَريس، كما وجدنا في فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني (كتاب التفسير) ما نصه: وحكى غيره أن الأريسيين ينسبون إلى عبدالله بن أريس: رجل كانت النصارى تعظمه ابتدع في دينهم أشياء مخالفة لدين عيسى، وذكر ابن حزم أن أتباع عبدالله بن أريس كانوا أهل مملكة هرقل، وهكذا فرسالة النبي إلى هرقل تنطوي على دليل قاطع على أنه عليه السلام كان يدرك، عندما بعث رسالته تلك أن كثيراً من المنضوين تحت إمبراطورية هرقل هم من (الموحدين) أتباع مذهب أريوس، ولذلك حمّله مسؤولية الإثم الذي يترتب عليه إذا هو لم يسلم، لأن عدم إسلامه سيحول دون إسلام رعيته". وذكر اليعقوبي في كتابه (تاريخ اليعقوبي1/135) أن هرقل لما جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله: إلى أحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى من قيصر ملك الروم: أنه جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك واغسل قدميك. فقال رسول الله: يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم.
اختلاف الروايات في لفظ كلمة الأريسيين:
وردت هذه الكلمة في الكتاب الذي أرسله الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، ولم ترد في غيره من الكتب، قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: قَوْله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَرِيسِيِّينَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة الْأُولَى فِي مُسْلِم (الْأَرِيسِيِّينَ) وَهُوَ الْأَشْهَر فِي رِوَايَات الْحَدِيث وَفِي كُتُب أَهْل اللُّغَة، وَعَلَى هَذَا اُخْتُلِفَ فِي ضَبْطه عَلَى أَوْجُه: أَحَدهَا بِيَاءَيْنِ بَعْد السِّين، وَالثَّانِي بِيَاءٍ وَاحِدَة بَعْد السِّين، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْهَمْزَة مَفْتُوحَة وَالرَّاء مَكْسُورَة مُخَفَّفَة، وَالثَّالِث: الْإِرِّيسَيْنِ بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَتَشْدِيد الرَّاء وَبِيَاءٍ وَاحِدَة بَعْد السِّين، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة فِي مُسْلِم، وَفِي أَوَّل صَحِيح الْبُخَارِيّ (إِثْم الْيَرِيسِيِّينَ) بِيَاءٍ مَفْتُوحَة فِي أَوَّله وَبِيَاءَيْنِ بَعْد السِّين.
معنى كلمة الأريسيين:
اختلف علماء الحديث واللغة من مدلول هذه الكلمة، فقال البعض: هم الأكاريون أو الحراثون، وقيل: إن (الأريسيين) هي جمع (أريسي)، وهم أتباع فرقة من فرق النصارى وقفوا في وجه مبدأ الثالوث، وكانوا يؤمنون بالتوحيد، مما جعلهم في صراع مع دعوة تأليه المسيح وتسويته بالإله الواحد الصمد، ولهذا فمن المرجح أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنى هذه الفرقة بقوله: (فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين) ذلك لأنهم كانوا موحدين. وقد ذكر الإمام أبو جعفر الطحاوي هذه الفرقة فقال: وقد ذكر بعض أهل المعرفة بهذه المعاني أن في رهط هرقل فرقة تعرف بالأروسية، توحد الله، وتعترف بعبودية المسيح له عز وجل، ولا تقول شيئا مما يقول النصارى في ربوبيته وتؤمن بنبوته، فإنها تمسك بدين المسيح مؤمنة بما في إنجيله، جاحدة لما يقوله النصارى سوى ذلك، وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يقال لهذه الفرقة (الأريسيون) في الرفع، (الأريسيين) في النصب والجر، كما ذهب إليه أصحاب الحديث. وجاء في كتاب موسوعة الأديان الميسرة (ص13): آريوس أحد رجال الكنيسة في القرن الرابع الميلادي، أصله ليبي، وقد عاش في مصر، وفيها حاول مقاومة فكرة ألوهية المسيح، وأن الابن مساوٍ للأب التي بدأ يتداولها بعض رجال الكنيسة، وقد أظهر آريوس مواقفه وآراءه في عهد بطريرك الإسكندرية ألكسندر الذي حاول مقاومة ما يطرحه آريوس.
يقول جون لوريمر: من الواضح أن الدافع لآريوس هو الحفاظ على كمال الله الآب وسرمديته وألوهيته، وفي الوقت نفسه نسب دوراً هاماً للمسيح الابن، يفرزه عن الآخرين على أن آريوس لم يستطع أن يقبل وجود تغيير أو انقسام من الأب الذي كان الجوهر النهائي. وتنقل نصوص مجموعة الشرع الكنسي أن آريوس أنكر لاهوت المسيح، وزعم أنه مخلوق من العدم وغير مساوٍ للآب في الجوهر، وأنه لم يكن أزلياً وهو دون الرتبة الألوهية، ويسمى مجازاً ابن الله وحكمته وقوته. فالمسيح والآب عند آريوس ليسا في جوهر واحد، والروح القدس عنده وُلد من الكلمة، وهو أقل ألوهية من الكلمة (المسيح الابن) نفسها.
من هنا فإن آريوس كان يريد توحيد الله وتنزيهه، ولذلك رفض فكرة تأليه المسيح وأن الابن إله حق من إله حق، وكان يريد أن يضع حداً فاصلاً بين الخالق والمخلوق، وعنده أن الابن من ضمن المخلوقات، وفي عدادها، ووافق فقط على القول بأن المسيح خليفة عليا، ولكنه خليفة فقط.
ترافق ظهور آريوس والتفاف الأتباع حوله استلام قسطنطين الثاني السلطة، وكان أن دعا قسطنطين عام 325م إلى مجمع مسكوني في نيقية، أدانوا فيه كل الآراء القائلة بعدم ألوهية المسيح، ومنها آراء آريوس، ورموه بالهرطقة، وبأن مواقفه بدعة، وصدر عن هذا المجمع ما عُرف فيما بعد باسم (دستور الإيمان النيقاوي) وفي نصه: أن المسيح إله حق من إله حق، وأنه مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر. وبعد مجمع نيقية تم نفي آريوس وعزله لإيقاف تأثيره [موسوعة الأديان]
واستمر كفاح هذه الفرقة ضد عقيدة الثالوث، ووقف بطريق الاسكندرية مع أثيناسيوس وقفة قوية ضد آريوس الذي ينادي بأن الإله واحد، وله طبيعة واحدة، كما كان ينادي ببطلان القول الذي يزعم أن عيسى وروح القدس آلهة ملتحمة مع الإله الواحد، وقال: بأن مثل هذا الزعم لا يتمشى مع مبدأ التوحيد، وقال: إن عيسى بشر فوق البشر الآخرين، لكنه لا يمكن أن يكون إلهاً، لأن للإله طبيعة واحدة، وهذه الطبيعة لا تتجزأ. وبعد مؤتمر نيقية تكونت النواة الأولى للديانة المسيحية التي تؤمن بأن الذات الإلهية قد صارت منقسمة إلى الأب والابن، والروح القدس، ونادى هذا المؤتمر بأن الإله الابن يمثل نشاط الإله الأب وحركته، فهو الجزء المتحرك من الإله، وأن روح القدس أيضاً من طبيعة الإله، وهو إله أيضاً كالابن يمثل جانب الحركة والنشاط للإله الأب، وأن روح القدس روح غير مخلوقة كالابن تماماً منبثقة عن الذات الإلهية الواحدة. وأصبحت عقيدتهم بأن الأب والإبن والروح القدس كلهم جميعهم آلهة، أو أقانيم مشتركة في الجوهر والطبيعة الواحدة (طبيعة واحدة وجوهر واحد لثلاثة آلهة) ثم جاء القديس أوغسطين في القرن الخامس، وأيد هذا المبدأ، ثم جاء فلاسفة الغرب ونقلوا هذه الأفكار عن القديس أوغسطين وهو يعد من أهم آباء الكنيسة الذين أرسوا دعائم المسيحية [منهجية جمع السنة، وجمع الأناجيل دراسة مقارنة، د.عزية طه (ص 147).
ولد آريوس في قورينا (ليبيا الحالية) عام 270م، لأب اسمه أمونيوس من أصل ليبي بربري. ودرس تعليمه اللاهوتي بمدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وتاثر بفكر عمادها اوريجن متاثراً بالفكر الأفلاطوني، ومن ثم درس أيضا بمدرسة انطاكيا متاثراً بالمنطق الأرسطي لوكيانوس بأنطاكية حيث كان زميل دراسة لبعض الأشخاص الذين ارتقوا فيما بعد إلى درجات الرئاسة الكهنوتية. وهم الذين عضدوه ودفعوا به للمضى في طريق الكفاح لأجل نشر أفكاره، كان آريوس ذا موهبة في الخطابة فصيحاً بليغاً قادراً على توصيل أفكارة بسلاسة بين العامة والمفكرين، وأضحى رمزاً للتوحيد، حتى أنّ كلّ من جاء بعده وأنكر التّثليث وُصم بأنه آريوسي أو أرياني، عاد أريوس إلى الإسكندرية، وأخذ بعمل بحماس شديد وبأساليب مبتكرة لأجل عقيدته بأن يسوع مخلوق، ونشرها بين الجماهير، وقد ساعد على نشر عقيدته ما كان يظهر به أريوس من مظاهر الورع والتقوى إلى جانب ما يتصف به من الكبرياء والتباهي وحبه للنضال...
أهم المعتقدات في مذهب الأريسيين:
تنصّ عقيدة التوحيد المسيحي التي تبنّاها آريوس، على أن (الله واحدٌ فَردٌ غير مولود، لا يشاركه شيء في ذاته تعالى. فكل ما كان خارجاً عن الله الأحَد إنما هو مخلوق من لا شيء، وبإرادة الله ومشيئته). وهذا يعني أن المسيح، ضمن هذا التّعريف، بشرٌ مخلوق. ولا يعتقد هذا المذهب بألوهة المسيح ويقول بأن الإبن الكلمة (المسيح) ليس بإله، وأن علاقته مع الآب هي علاقة بنوة وليست مساواة أو مشاركة في ذات الطبيعة الإلهية، وعلى هذا فالكلمة ليس أزلي ولكن مخلوق خاضع لله.
يرى آريوس وأتباعه أنه لا يمكن إلاّ أن يكون هناك إله واحد، ولهذا فلا بد أن يكون المسيح قد خلق في زمن ما، ولا بد أن يكون ككل المخلوقين معرضاً للتغير والخطيئة، ولكي يواجه آريوس مخالفيه استعان ببعض آيات من الكتاب المقدس ليثبت بها صحة أفكاره، منها: (الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم) [أمثال 8: 22] وقد عُدُّ آريوس، من وجهة النّظر الأرثوذُكسية زنديقاً شكّل خطراً على العقيدة المسيحيّة طوال عشرة القرون الأولى من تاريخ المسيحيّة. وقد رُفض مذهبه منذ مجمع نيقية، حيث صاغوا القسم الأول من قانون الإيمان الذي يقول بإلوهة المسيح وتساويه مع الآب، وأعلنوا حرمان آريوس وجميع أتباعه، وأعلنوا أن العقيدة التي أقرها آباء الكنيسة في مجمع نيقية هي العقيدة الرسمية للامبراطورية كلها، ولكن هذا لم يوقف انتشار الآريوسية بين مسيحيي ذلك الزمان، فقد لقيت هذه العقيدة أنصاراً كثيرين في الإسكندرية وغيرها، فقد أعلن الإمبراطور البيزنطي قُنسطنطينوس ابن قُنسطنطين أنه آريوسياً. ومع مجيء العام 359م حلّت الآريوسية محلّ المسيحية الرّومانية. ورغم شجبها في مَجمَع القسطنطينيّة عام 381م، استمرّت هذه العقيدة بالانتشار، حتى إذا كان القرن الخامس كانت كل أسقفية في العالم المسيحي إما آريوسية أو شاغرة. ومما تجدر الإشارة إليه أن مذهب التّوحيد الآريوسي كان موجوداً في نواحي الشام والتّخوم الشمالية للجزيرة العربية، زمن البعثة النّبوية وقيام الدّعوة الإسلاميّة بالقرن السّابع الميلادي بالإضافة إلى أنه كان المذهب المتبع في مصر زمن فتحها، مما سهل على الفاتحين للقطر المصري فتحها دون عناء يذكر، وتبعه أتباع الأقباط المصريون للإسلام كدين توحيدي خالص، ولعلهم الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي ارسله إلى (هِرَقل عظيم الرّوم) يدعوه فيه إلى الإسلام.
هل استمر مذهب الآريوسيين؟
لم يبق هذا المذهب على ما هو عليه، بل تغير وتبدل، وتكاد تكون جماعة شهود يهوه في عصرنا، تستخدم ذات الأفكار التي استخدمها آريوس قديماً، بل يستخدمون نفس المقاطع الكتابية، وينادون بأن المسيح ليس هو الله، بل إله، وهو ليس واحد مع الله في الجوهر، لكنه مخلوق من مخلوقات الله، فهو بكر خلائق الله. وجاء في كتاب النصرانية والإسلام، لمؤلفه المستشار محمد عزت إسماعيل الطهطاوي (ص: 32): إن قرارات مجمع نيقية تنص على ما يلي: إثبات ألوهية المسيح. وتكفير من يذهب إلى أن المسيح إنسان. وعلى تكفير آريوس وطرده وحرمانه من عضوية الكنيسة. وإحراق جميع الكتب التي لا تقول بألوهية المسيح، وتحريم قراءتها، ومن هذه الكتب إناجيل فرق التوحيد، التي تقر ببشرية المسيح، وتفيد أنه رسول فقط ومن هذه الأناجيل إنجيل برنابا.
وجاء في كتاب منهجية جمع السنة تحت عنوان مؤتمر كالسيدون (عام 451م) وما ترتب عليه: إن أتباع آريوس كانوا وإلى القرن الخامس الميلادي يشكلون مجموعة كبيرة فقرر أنصار الثالوث عقد مؤتمر في كالسيدون بآسيا الصغرى لرد مقالة الآريوسية ولإعادة تأكيد ألوهية عيسى، لأن الآراء اختلفت وتضاربت، والصراعات احتدمت بين مختلف الفرق، ولم يقتنع جميع النصارى بألوهية عيسى عليه السلام، وفي هذا المؤتمر تقرر عقيدة الصلب كأساس للديانة المسيحية.
يقول الدكتور محمد عابد الجابري في مقال له في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية: "كلمة (الارِيـسِـيّـِين) فسرها معظمهم بـالأكارين، أي، الفلاحين، وعلى هذا الأساس جعلوا معنى قول النبي: (فإن توليت فعليك إثم الأريسيين) كما يلي: وإن لم تدخل في الإسلام فلا تحُل بين الفلاحين وبين الإسلام، وبعضهم قال: الأريسيون العشارون يعني أهل المكس، وآخرون رووا العبارة هكذا: (عليك إثم الفلاحين) هذا في حين أن الصواب يقتضي قراءة هذه الكلمة كما يلي: أرْيُسِـيِّـين (فتح الهمزة وسكون الراء وضم الياء الأولى• نسبة إلى (أريوس) وقد خيل إلينا في بداية الأمر أن أي أحد لم ينتبه إلى هذا المعنى، ولكننا عندما عدنا نراجع مصادرنا المختلفة انتبهنا إلى أن (لسان العرب) ذكر من جملة آخر ما ذكر بصدد هذه الكلمة قوله: وقيل: إِنهم أتباع عبداللَّه بن أَريس، كما وجدنا في فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني (كتاب التفسير) ما نصه: وحكى غيره أن الأريسيين ينسبون إلى عبدالله بن أريس: رجل كانت النصارى تعظمه ابتدع في دينهم أشياء مخالفة لدين عيسى، وذكر ابن حزم أن أتباع عبدالله بن أريس كانوا أهل مملكة هرقل، وهكذا فرسالة النبي إلى هرقل تنطوي على دليل قاطع على أنه عليه السلام كان يدرك، عندما بعث رسالته تلك أن كثيراً من المنضوين تحت إمبراطورية هرقل هم من (الموحدين) أتباع مذهب أريوس، ولذلك حمّله مسؤولية الإثم الذي يترتب عليه إذا هو لم يسلم، لأن عدم إسلامه سيحول دون إسلام رعيته". وذكر اليعقوبي في كتابه (تاريخ اليعقوبي1/135) أن هرقل لما جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله: إلى أحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى من قيصر ملك الروم: أنه جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك واغسل قدميك. فقال رسول الله: يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم.