حرب القوقاز وأبعادها الاستراتيجية
في ليلة الثامن من شهر أغسطس الماضي 2008م، قامت القوات الجورجية بشن هجوم عسكري عنيف على أراضي إقليم (أوسيتيا الجنوبية)، أعقبه رد أشد عنفاً وقسوة وصرامة من جانب روسيا على جمهورية جورجيا، وفي الثامن والعشرين من الشهر نفسه، أعلنت موسكو استقلال إقليمي (أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا) الانفصاليّيْن عن جمهورية جورجيا، وأسفر اتفاق الثامن من سبتمبر الذي تولته فرنسا باعتبارها الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي عن انسحاب القوات الروسية، ونشر مراقبين دوليين، وإطلاق المناقشات حول الأمن والاستقرار في المنطقة. هذه الحرب، وإن كان ظاهرها أنها حرب إقليمية محدودة حول الإقليم الانفصالي (أوسيتيا الجنوبية) ، وأهميته لكل من روسيا وجورجيا، إلاّ أن هذه الحرب في حقيقتها قامت بين روسيا والغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية بسبب مجموعة من المصالح الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية لكلا الطرفين في منطقة القوقاز.
وهذه المقالة تسعى للوقوف على طبيعة العلاقات التي سادت مسرح الحرب بين الدول ذات العلاقة طيلة السنوات الماضية، وما جرى على هذا المسرح من تفاعلات بين مختلف القوى ، ثم رصد الأبعاد الاستراتيجية لهذه الحرب بعد أن ظن الغرب والولايات المتحدة أن التاريخ قد انتهى بنهاية الاتحاد السوفيتي السابق.
أولاً: مسرح الحرب وتفاعلات العلاقات الأمريكية الروسية
1 مسرح الحرب:
كانت (أوسيتيا) الموحدة إحدى دويلات منطقة القوفاز التي تحمل الاسم التاريخي (ألانيا)، وأعلنت عام 1774م انضمامها إلى الامبراطورية الروسية القيصرية، وظلت جزءاً من أراضيها حتى اندلاع الثورة البلشفية في أكتوبر عام 1917م، حيث شهدت المنطقة عدداً من المعارك الضارية عقب هذه الثورة بين البلاشفة وخصومهم من البلاشفة والبورجوازيين، وفي 31 ديسمبر 1931م، أصدرت رئاسة الحزب الشيوعي الجورجي قرارها حول تأسيس (أوسيتيا) في المناطق التي يسكنها الأوسيتيون، وتم ترسيم حدودها من قِبل اللجنة الثورية الموالية للبلاشفة، إلاّ أن النزاع احتدم حول هذه الحدود لاحقاً، وأسفر عن انضمام المنطقة الشمالية (أوسيتيا الجنوبية) إلى روسيا، بينما استطاعت جورجيا فرض سيطرتها على المناطق الجنوبية (أوسيتيا الجنوبية)، وأعلنته واحداً من أقاليمها مع منح سكانه الحكم الذاتي في 5 ديسمبر 1936م. وفي 9 ديسمبر 1991م، استقلت جورجيا رسمياً عن الاتحاد السوفيتي بعد أن خضعت للهيمنة الروسية (190) عاماً من (1801 1991م) وإن بقي لروسيا وجود عسكري بها ما بين قواعد عسكرية، ومشاركة في قوة حفظ السلام على الأراضي الجورجية(1).
بدأ التوتر في العلاقات بين (جورجيا) و (أوسيتيا الجنوبية) مع ظهور بوادر الديمقراطية نتيجة إعلان
الرئيس السوفيتي الأسبق (جورباتشوف) سياسة (البروسترويكا) عام 1985م، فاتجهت جورجيا نحو الاستقلال، فيما أعلنت (أوسيتيا الجنوبية) عام 1989م عن طريق مجلس نوابها تحويل الإقليم إلى جمهورية ذات حكم ذاتي، وهو ما اعترض عليه البرلمان الجورجي، لتبدأ المواجهات بين الانفصاليين الأوسيتيين والشرطة الجورجية، مما أسفر عن اندلاع حرب أهلية، إلى أن أعلن أبناء الإقليم انفصالهم الكامل، وقيام جمهورية (أوسيتيا الجنوبية) في 20 ديسمبر 1990م(2). وفي يناير 1992م، جرى استفتاء على استقلال الإقليم، وأسفرت نتائجه عن تأييد القسم الأكبر من سكانه للانفصال عن (جورجيا)، وأوقفت العمليات العسكرية الفعلية بين (جورجيا) والإقليم، بعد توقيع اتفاقات مبادئ تسوية، وساعد على التهدئة إدخال قوات حفظ سلام روسية جورجية أوسيتية مختلطة.
ورغم اتفاقات التهدئة، ظل جوهر الأزمة قائماً بين (الجورجيين) و (الأوسيتيين) في عدم اعتراف (جورجيا) باستقلال (أوسيتيا الجنوبية) على الرغم من اتخاذ الأخيرة إجراءات استقلالية أحادية الجانب تحت مظلة قوات حفظ السلام الروسية على وجه التحديد، ومما عقّد الأمور، وصول الرئيس الحالي (ميخائيل ساكاشفيلي) المعروف عنه موالاته للغرب إلى الرئاسة الجورجية، ففي عام 2004م، عادت الاشتباكات بين الطرفين(3).
وفي 12 أبريل 2008م، قدّمت (جورجيا) عرضاً لكل من (أوسيتيا الجنوبية)، وإقليم (أبخازيا) بعودة الاندماج في (جورجيا) مقابل حصول الإقليمين على الحكم الذاتي، ولكن هذا العرض رُفض من قادة الإقليمين، وصرّحوا بأنهم لن يقبلوا أي عرض لا يعترف باستقلال الإقليمين، وتبع ذلك إعلان روسيا في 16-4-2008م أنها ستعترف بالمؤسسات والهيئات التجارية في الإقليمين في خطوة اعتبرتها جورجيا مقدمة لضمها. وتصاعدت المخاوف من تحوّل التوتر إلى نزاع مسلح بعد أن اتهمت (جورجيا) روسيا بإسقاط طائرة استطلاع جورجية بدون طيار فوق إقليم (أبخازيا)، ومن ثم طالبت (جورجيا) الاتحاد الأوروبي بإرسال قوة حفظ سلام أوروبية إلى (أبخازيا) لتحل محل القوة الروسية التي اعتبرتها جورجيا غير حيادية، وفي المقابل اتهمت روسيا (جورجيا) بأنها تعزز قواتها في منطقة النزاع، استعداداً لمهاجمة إقليم (أبخازيا)، وقامت موسكو في 29 أبريل 2008م بزيادة عدد قوات حفظ السلام الروسية في (أبخازيا) و (أوسيتيا)، كما زوّدت معظم سكانها (أوسيتيا الجنوبية 70 ألف نسمة، وأبخازيا 200 ألف نسمة) بجوازات سفر روسية، ثم أخذت تعلن أنها ستحمي مواطنيها في الإقليمين في حالة حدوث أي تصعيد من قِبل (جورجيا)(4)، وهو ما حدث بالفعل، فقد اتخذ البرلمان الجورجي قراراً في 8-8-2008م، بشن حرب لإخضاع إقليمي (أوسيتيا الجنوبية) المطالبين بالانفصال(5)، ومن ثم حدثت المواجهة الروسية الجورجية، واستطاعت روسيا إنهاء خمسة أيام من الحرب بإحكام سيطرتها على إقليمي (أوسيتيا الجنوبية)، و (أبخازيا) المنشقّين عن (جورجيا)، والقضاء على كل أمل في استعادة السيطرة على كل أراضي البلاد يوماً ما، إذ نجح الكرملين في فرض منطقة عازلة حول (أوسيتيا الجنوبية) و (أبخازيا) تمنع كل القوات الجورجية من دخولها، وفي الوقت ذاته، نجحت روسيا في الحصول على ضمانات بأن (جورجيا) لن تلجأ إلى القوة مرة أخرى لاستعادة الأراضي التي فقدتها، كما أن موسكو ستكون مطمئنة إلى أن هيمنتها على (أوسيتيا الجنوبية) و(أبخازيا) لن تكون موضع اختبار مرة أخرى في المستقبل المنظور (6) .
2 التفاعلات على مسرح الحرب
تحظى (جورجيا) باهتمام بالغ وشديد في السياسة الأمريكية، نظراً لمميزات الموقع الجغرافي المميز، فهي دولة فاصلة بأطول حدود بين جمهورية روسيا الاتحادية والجمهورية التركية أكبر حليف للولايات المتحدة في المنطقة وبين شعوب آسيا الوسطى، وهي نقطة العزل والتماس الرئيسة مع روسيا والدول المحيطة بها مباشرة، ف (جورجيا) قد تصبح بالدعم الأمريكي الممر الأهم لأنابيب النفط والغاز من (بحر قزوين) إلى تركيا، بدلاً من مرور النفط بروسيا باتجاه أوروبا الغربية، مما يؤدي إلى حرمان روسيا من الاستفادة منه، فتبدو السيطرة على منطقة (القوقاز) المنطقة الاستراتيجية الأهم في قارة أوراسيا وتمدد حلف شمال الأطلسي إلى الحدود المتاخمة لروسيا، شرطاً أساسياً لتحقيق السيطرة الكاملة على جمهوريات آسيا الوسطى.
وعلى الرغم من انتهاء حقبة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، والتي توّجت بانهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، لاتزال الإدارات الأمريكية المتعاقبة، تعتبر جمهورية روسيا الاتحادية خليفة الاتحاد السوفيتي، ومن ثم فهي تمثّل الخطر والاهتمام الأول لهذه الإدارات، ولذلك تعتبرها العدو الأول، وبخاصة على المستوى العسكري والأمني، نظراً لكونها روسيا تتربّع على ترسانة نووية هي الأكبر من نوعها في دول العالم، ففي وثيقة للبنتاجون عام 1992م، لتحديد الاستراتيجية الأمريكية جاء فيها: إن هدفنا الأول منع ظهور منافس جديد على تراب الاتحاد السوفيتي السابق، أو في أي مكان من العالم، كما أن الأسلحة النووية الاستراتيجية الأمريكية يجب أن تواصل استهداف الجوانب الحيوية للمؤسسة العسكرية السوفيتية، لأن روسيا ستظل القوة الوحيدة في العالم التي لديها القدرة على تدمير الولايات المتحدة(7).
في ظل هذه الاستراتيجية، يمكن النظر إلى الدعم الأمريكي ل (جورجيا) للتخلّص من الانفصال والنفوذ الروسي من جهة، وإقامة قواعد عسكرية أمريكية بها لخدمة أهداف جيواستراتيجية لحلف شمال الأطلسي، فقد بات واضحاً أن الولايات المتحدة بدعمها (جورجيا) ترمي إلى إيجاد وضع عسكري على الحدود الروسية لتحقيق هدفين(8):
الأول: خلق نموذج جديد في تلك المنطقة الحسّاسة من العالم، أقل تكلفة وأكثر نجاحاً من النموذج العراقي، مع تأمين تصدير النفط القزويني بشركات أمريكية، وتضييع الفرصة على البديل الروسي.
الثاني: إكمال المشروع الأمريكي الطموح بإقامة القواعد العسكرية، وفي الوقت نفسه الضغط على روسيا من الجهة الجنوبية بعد أن أكمل الناتو الضغط عليها من الجهة الغربية، وذلك بهدف تفويت الفرصة على روسيا في خلق عالم ثنائي القطب، وحصرها في مساحة جغرافية لم تعرفها روسيا منذ القرن الثامن عشر.
وعلى ذلك، لا يمكن فهم تطورات الحرب التي شنّتها (جورجيا) على (أوسيتيا الجنوبية)، ثم الحرب الروسية المعاكسة ضد القوات الجورجية بمعزل عن الصراع الروسي الأمريكي، وسعي واشنطن ومن خلفها حلف الناتو لتعزيز انتصار القطب الواحد الأمريكي على الاتحاد السوفيتي ووريثه روسيا، وحصاره ومنع نهضته العسكرية والاقتصادية مرة أخرى، إنه صراع نفوذ وصراع على مصادر وطرق الطاقة التي تسيطر عليها كل من (أبخازيا) و (أوسيتيا الجنوبية).
ثانياً: أهداف الأعمال العسكرية
بناءً على التفاعلات التي جرت على مسرح الحرب، يمكن القول إن لكل القوى المتصارعه أهدافها من الحرب وفقاً لما سنوضحه فيما يلي:
1 أهداف جورجيا من العمل العسكري:
يمكن النظر إلى القرار الجورجي بشن الحرب في ضوء الأهداف الأمريكية التالية:
أ دعم المرشح الجمهوري الأمريكي: بحسب مصادر مختلفة، هناك رواية روسية تقول إن نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) هو الذي حرض الرئيس الجورجي (ساكاشفيلي) على شنّ تلك الحرب أملاً منه بدعم حملة (جون ماكين) الانتخابية، وهناك رواية نصف أوروبية ترى أن تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) خلال زيارتها السابقة ل (جورجيا) قبل تلك الحرب بعشرة أيام فقط حملت رسالتين واضحتين إلى الرئيس الجورجي، ووزير دفاعه الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية أصلاً أولاهما: أن واشنطن ستبذل ما بوسعها من أجل تسريع قبول (جورجيا) في عضوية حلف شمال الأطلسي، ثانيتهما: أن واشنطن لا تشك لحظة واحدة في أنها ستقف دوماً إلى جانب أصدقائها من دون تردد(8)، وهو ما جعل بعض المحللين يعقدون مقارنة سياسية بين إيماءات السفيرة (ابريل غلاسي) لصدام حسين قبل غزو الكويت أغسطس 1990م، وتشجيع (كونداليزا رايس) للرئيس الجورجي على ضرب (أوسيتيا الجنوبية)(9).
ب إيجاد الذريعة لنشر الدرع الصاروخي الأمريكي: طرح خبراء آخرون تفسيراً ثالثاً لشن الحرب من جانب جورجيا ربما يكون مكملاً للتشجيع الأمريكي، وهو أن الولايات المتحدة طوال الثمانية عشر شهراً الأخيرة ظلت تسعى بإلحاح من أجل نشر نظامها الصاروخي الجديد في كل من: تشيكيا، وبولندا في مواجهة معارضة روسية قاطعة وحاسمة، فإذا قامت (جورجيا) بتفجير الموقف في القوقاز فيمكن أن تكون تلك الخطوة قبل الأخيرة في خطة استكمال محاصرة روسيا بالكامل، أما الخطوة التالية فستكون انضمام (جورجيا) و (أوكرانيا) إلى الحلف، وفي حال انضمام (جورجيا) تصبح قوات الأطلسي بقيادة أمريكية على مسافة (1200) كيلومتر من الكرملين، وفي حالة انضمام (أوكرانيا) فسوف تقصر المسافة إلى (750) كيلو متراً فقط(10).
ج شل القدرات الاقتصادية الروسية: حيث يميل رجال الاقتصاد إلى طرح فرضيات إضافية بهدف سعي الولايات المتحدة لتشويه صورة روسيا كبلد مهيأ للاضطلاع بدور استثماري قيادي، وهو ما يعود إلى مطلع يونيو الماضي 2008م، عندما افتتح الرئيس الروسي (ميدفيديف) المؤتمر الاقتصادي في (بطرسبرج)، وأعلن أن بلاده تعي مسؤولياتها تجاه مصير العالم أكثر من الولايات المتحدة، وقال أمام ألوف رجال الأعمال، الذين قدموا من أوروبا وآسيا: إن القوانين الجديدة تشجع على الاستثمار في (42) قطاعاً من قطاعات الاقتصاد الروسي، وكانت النتيجة أن وُقِّعت عقود بقيمة تزيد عن العام السابق، بحيث بلغت (12) بليون دولار، ويتردد في واشنطن أن أزمة (جورجيا) هربت ما نسّبته (5،16) بليون دولار خلال أسبوع واحد بعد 8 أغسطس 2008م، كل هذا يشير إلى النيّة المبيّتة لشل القدرات الاقتصادية الروسية، خصوصاً بعد ما قرّر رئيس الوزراء الروسي (بوتين) توظيف سياسة الانفتاح لتعزيز دور بلاده في العالم العربي، خصوصاً وأن روسيا نجحت في التخلّص من كل ديونها للغرب سنة 2000م(11).
2 أهداف الرد الروسي
في المقابل، فإن روسيا أرادت بهجومها الواسع على الأراضي الجورجية توجيه عدة رسائل للعديد من الأطراف(12)؛ الأولى: رسالة للرئيس الجورجي (ساكاشفيلي) بأن هجوم القوات الجورجية على (أوسيتيا الجنوبية) لن يمر دون عقاب، وأن دعم واشنطن لحركته لن يفيده على المدى البعيد، وأن واشنطن لن يصل خلافها مع موسكو إلى مرحلة الصدام المباشر، كما أن الاتحاد الأوروبي الذي تسعى (جورجيا) للانضمام إليه أو حلف الناتو لن يفيداها لضخامة حجم المصالح بين هذه الأطراف وموسكو.
الرسالة الثانية: أن موسكو لن تدع لاعباً آخر في منطقة (بحر قزوين) و (البحر الأسود)، حيث ممرات الطاقة من البترول والغاز، وأن هذه المنطقة منطقة نفوذ ومصالح روسيا.
كما بعثت روسيا برسالة ثالثة لحلف الناتو بعد تصريح أمينه العام في مؤتمر (بوخارست) منذ عدة شهور بثقته في ضم (جورجيا) للإقليمين (أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا)، فجاء الرد على أرض الواقع وبحسم عسكري، أما أخطر الرسائل، فكانت لواشنطن وهي أنها بتحالفها مع الدائرة القريبة من حدودها سوف تجد رد فعل عنيف من جانب روسيا، وربما تجد واشنطن نفسها عاجزة عن الرد كما حدث بالفعل.
ثالثاً: الأبعاد الاستراتيجية للحرب
نظراً لأن هذه الحرب نشبت بالوكالة عن واشنطن وموسكو، فمن الطبيعي أن تكون لها أبعاد استراتيجية مختلفة:
1 التحوّل في العلاقات الروسية الأمريكية :
يستطيع المراقب للعلاقات الروسية الأمريكية أن يرصد تحوّلاً حاداً في هذه العلاقات، وهو ما يتضح من رصد مسار هذه العلاقات خلال السنوات الأخيرة فيقف على أسباب هذا التحوّل ومظاهره:
أ قراءة في مسار العلاقات :
في السنوات التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي برئاسة (يلتسين) لروسيا الاتحادية، لم تكن هناك سياسة مستقلة لروسيا عن الاستراتيجية الأمريكية، ومع وصول (فلاديمير بوتين) إلى السلطة، حاول في البداية الانضمام إلى عضوية حلف شمال الأطلسي، ورفضت أمريكا طلبه في التو واللحظة، بعدها تمدّد الحلف إلى دول البلطيق، وبولندا، والبحر الأسود، في نقض أمريكي صريح لتعهد أمريكي أعطته لموسكو سابقاً، وبعد أن فرغت
الولايات المتحدة من إلحاق كل دول أوروبا الشرقية بحلف شمال الأطلسي، بدأت تغازل (أوكرانيا) و (جورجيا)، وترتب فيهما وغيرهما الثورات التي جعلت روسيا تعود للوراء، وبعد أن تسامح (بوتين) مع إقامة قواعد عسكرية أمريكية مؤقتة في المحيط المجاور (شمال أفغانستان)، تحت عنوان (محاربة الإرهاب)، وجد أن هذه القواعد المؤقتة تتحوّل إلى قواعد دائمة.
وبينما اشترطت الولايات المتحدة على روسيا التحوّل الكامل إلى اقتصاد السوق كشرط من شروط انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، اعترضت أمريكا فوراً عندما فعلت روسيا هذا بالنسبة لأسعار تصدير الغاز الروسي، فلقد كانت (أوكرانيا) و (بيلاروسيا)، وحلفاء سابقون آخرون يحصلون على الغاز الروسي بأسعار سياسية مخفضة، لكن حينما طلبت روسيا التعامل بأسعار السوق، قام الإعلام الأمريكي والأوروبي بالتنديد بالسلوك الروسي، وبينما تسعى الولايات المتحدة إلى وضع يدها على بترول العالم بالضغط، أو التهديد، أو الغزو المسلح، كما في حالة العراق، نددت الولايات المتحدة بالرئيس الروسي حينما قام بإعادة تأميم كبرى شركات البترول الروسي، وبينما يجري الضغط على روسيا للتعجيل بسحب قواتها من (جورجيا) و (مولديفيا) يتقدم حلف شمال الأطلسي بقواعده إلى (بلغاريا) و (رومانيا)، وبينما تقوم روسيا بتوريد التقنية النووية السلمية لإيران، تضغط الولايات المتحدة عليها لوقف هذا التعاون، وبينما لروسيا حق النقض في مجلس الأمن الدولي، تسعى الولايات المتحدة إلى الابتعاد عن المنظمة الدولية لتتصرف منفردة في المسرح الدولي. لذلك وغيره من الأسباب، اتجهت روسيا إلى الإعلان عن موقفها تجاه الولايات المتحدة؛ ففي 10-2-2007م علا صوت الرئيس الروسي السابق (فلاديمير بوتين) في (ميونيخ) بألمانيا، حينما شنَّ هجوماً عاصفاً على تجاوز الولايات المتحدة لحدودها في كل المجالات(13).
في ليلة الثامن من شهر أغسطس الماضي 2008م، قامت القوات الجورجية بشن هجوم عسكري عنيف على أراضي إقليم (أوسيتيا الجنوبية)، أعقبه رد أشد عنفاً وقسوة وصرامة من جانب روسيا على جمهورية جورجيا، وفي الثامن والعشرين من الشهر نفسه، أعلنت موسكو استقلال إقليمي (أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا) الانفصاليّيْن عن جمهورية جورجيا، وأسفر اتفاق الثامن من سبتمبر الذي تولته فرنسا باعتبارها الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي عن انسحاب القوات الروسية، ونشر مراقبين دوليين، وإطلاق المناقشات حول الأمن والاستقرار في المنطقة. هذه الحرب، وإن كان ظاهرها أنها حرب إقليمية محدودة حول الإقليم الانفصالي (أوسيتيا الجنوبية) ، وأهميته لكل من روسيا وجورجيا، إلاّ أن هذه الحرب في حقيقتها قامت بين روسيا والغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية بسبب مجموعة من المصالح الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية لكلا الطرفين في منطقة القوقاز.
وهذه المقالة تسعى للوقوف على طبيعة العلاقات التي سادت مسرح الحرب بين الدول ذات العلاقة طيلة السنوات الماضية، وما جرى على هذا المسرح من تفاعلات بين مختلف القوى ، ثم رصد الأبعاد الاستراتيجية لهذه الحرب بعد أن ظن الغرب والولايات المتحدة أن التاريخ قد انتهى بنهاية الاتحاد السوفيتي السابق.
أولاً: مسرح الحرب وتفاعلات العلاقات الأمريكية الروسية
1 مسرح الحرب:
كانت (أوسيتيا) الموحدة إحدى دويلات منطقة القوفاز التي تحمل الاسم التاريخي (ألانيا)، وأعلنت عام 1774م انضمامها إلى الامبراطورية الروسية القيصرية، وظلت جزءاً من أراضيها حتى اندلاع الثورة البلشفية في أكتوبر عام 1917م، حيث شهدت المنطقة عدداً من المعارك الضارية عقب هذه الثورة بين البلاشفة وخصومهم من البلاشفة والبورجوازيين، وفي 31 ديسمبر 1931م، أصدرت رئاسة الحزب الشيوعي الجورجي قرارها حول تأسيس (أوسيتيا) في المناطق التي يسكنها الأوسيتيون، وتم ترسيم حدودها من قِبل اللجنة الثورية الموالية للبلاشفة، إلاّ أن النزاع احتدم حول هذه الحدود لاحقاً، وأسفر عن انضمام المنطقة الشمالية (أوسيتيا الجنوبية) إلى روسيا، بينما استطاعت جورجيا فرض سيطرتها على المناطق الجنوبية (أوسيتيا الجنوبية)، وأعلنته واحداً من أقاليمها مع منح سكانه الحكم الذاتي في 5 ديسمبر 1936م. وفي 9 ديسمبر 1991م، استقلت جورجيا رسمياً عن الاتحاد السوفيتي بعد أن خضعت للهيمنة الروسية (190) عاماً من (1801 1991م) وإن بقي لروسيا وجود عسكري بها ما بين قواعد عسكرية، ومشاركة في قوة حفظ السلام على الأراضي الجورجية(1).
بدأ التوتر في العلاقات بين (جورجيا) و (أوسيتيا الجنوبية) مع ظهور بوادر الديمقراطية نتيجة إعلان
الرئيس السوفيتي الأسبق (جورباتشوف) سياسة (البروسترويكا) عام 1985م، فاتجهت جورجيا نحو الاستقلال، فيما أعلنت (أوسيتيا الجنوبية) عام 1989م عن طريق مجلس نوابها تحويل الإقليم إلى جمهورية ذات حكم ذاتي، وهو ما اعترض عليه البرلمان الجورجي، لتبدأ المواجهات بين الانفصاليين الأوسيتيين والشرطة الجورجية، مما أسفر عن اندلاع حرب أهلية، إلى أن أعلن أبناء الإقليم انفصالهم الكامل، وقيام جمهورية (أوسيتيا الجنوبية) في 20 ديسمبر 1990م(2). وفي يناير 1992م، جرى استفتاء على استقلال الإقليم، وأسفرت نتائجه عن تأييد القسم الأكبر من سكانه للانفصال عن (جورجيا)، وأوقفت العمليات العسكرية الفعلية بين (جورجيا) والإقليم، بعد توقيع اتفاقات مبادئ تسوية، وساعد على التهدئة إدخال قوات حفظ سلام روسية جورجية أوسيتية مختلطة.
ورغم اتفاقات التهدئة، ظل جوهر الأزمة قائماً بين (الجورجيين) و (الأوسيتيين) في عدم اعتراف (جورجيا) باستقلال (أوسيتيا الجنوبية) على الرغم من اتخاذ الأخيرة إجراءات استقلالية أحادية الجانب تحت مظلة قوات حفظ السلام الروسية على وجه التحديد، ومما عقّد الأمور، وصول الرئيس الحالي (ميخائيل ساكاشفيلي) المعروف عنه موالاته للغرب إلى الرئاسة الجورجية، ففي عام 2004م، عادت الاشتباكات بين الطرفين(3).
وفي 12 أبريل 2008م، قدّمت (جورجيا) عرضاً لكل من (أوسيتيا الجنوبية)، وإقليم (أبخازيا) بعودة الاندماج في (جورجيا) مقابل حصول الإقليمين على الحكم الذاتي، ولكن هذا العرض رُفض من قادة الإقليمين، وصرّحوا بأنهم لن يقبلوا أي عرض لا يعترف باستقلال الإقليمين، وتبع ذلك إعلان روسيا في 16-4-2008م أنها ستعترف بالمؤسسات والهيئات التجارية في الإقليمين في خطوة اعتبرتها جورجيا مقدمة لضمها. وتصاعدت المخاوف من تحوّل التوتر إلى نزاع مسلح بعد أن اتهمت (جورجيا) روسيا بإسقاط طائرة استطلاع جورجية بدون طيار فوق إقليم (أبخازيا)، ومن ثم طالبت (جورجيا) الاتحاد الأوروبي بإرسال قوة حفظ سلام أوروبية إلى (أبخازيا) لتحل محل القوة الروسية التي اعتبرتها جورجيا غير حيادية، وفي المقابل اتهمت روسيا (جورجيا) بأنها تعزز قواتها في منطقة النزاع، استعداداً لمهاجمة إقليم (أبخازيا)، وقامت موسكو في 29 أبريل 2008م بزيادة عدد قوات حفظ السلام الروسية في (أبخازيا) و (أوسيتيا)، كما زوّدت معظم سكانها (أوسيتيا الجنوبية 70 ألف نسمة، وأبخازيا 200 ألف نسمة) بجوازات سفر روسية، ثم أخذت تعلن أنها ستحمي مواطنيها في الإقليمين في حالة حدوث أي تصعيد من قِبل (جورجيا)(4)، وهو ما حدث بالفعل، فقد اتخذ البرلمان الجورجي قراراً في 8-8-2008م، بشن حرب لإخضاع إقليمي (أوسيتيا الجنوبية) المطالبين بالانفصال(5)، ومن ثم حدثت المواجهة الروسية الجورجية، واستطاعت روسيا إنهاء خمسة أيام من الحرب بإحكام سيطرتها على إقليمي (أوسيتيا الجنوبية)، و (أبخازيا) المنشقّين عن (جورجيا)، والقضاء على كل أمل في استعادة السيطرة على كل أراضي البلاد يوماً ما، إذ نجح الكرملين في فرض منطقة عازلة حول (أوسيتيا الجنوبية) و (أبخازيا) تمنع كل القوات الجورجية من دخولها، وفي الوقت ذاته، نجحت روسيا في الحصول على ضمانات بأن (جورجيا) لن تلجأ إلى القوة مرة أخرى لاستعادة الأراضي التي فقدتها، كما أن موسكو ستكون مطمئنة إلى أن هيمنتها على (أوسيتيا الجنوبية) و(أبخازيا) لن تكون موضع اختبار مرة أخرى في المستقبل المنظور (6) .
2 التفاعلات على مسرح الحرب
تحظى (جورجيا) باهتمام بالغ وشديد في السياسة الأمريكية، نظراً لمميزات الموقع الجغرافي المميز، فهي دولة فاصلة بأطول حدود بين جمهورية روسيا الاتحادية والجمهورية التركية أكبر حليف للولايات المتحدة في المنطقة وبين شعوب آسيا الوسطى، وهي نقطة العزل والتماس الرئيسة مع روسيا والدول المحيطة بها مباشرة، ف (جورجيا) قد تصبح بالدعم الأمريكي الممر الأهم لأنابيب النفط والغاز من (بحر قزوين) إلى تركيا، بدلاً من مرور النفط بروسيا باتجاه أوروبا الغربية، مما يؤدي إلى حرمان روسيا من الاستفادة منه، فتبدو السيطرة على منطقة (القوقاز) المنطقة الاستراتيجية الأهم في قارة أوراسيا وتمدد حلف شمال الأطلسي إلى الحدود المتاخمة لروسيا، شرطاً أساسياً لتحقيق السيطرة الكاملة على جمهوريات آسيا الوسطى.
وعلى الرغم من انتهاء حقبة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، والتي توّجت بانهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، لاتزال الإدارات الأمريكية المتعاقبة، تعتبر جمهورية روسيا الاتحادية خليفة الاتحاد السوفيتي، ومن ثم فهي تمثّل الخطر والاهتمام الأول لهذه الإدارات، ولذلك تعتبرها العدو الأول، وبخاصة على المستوى العسكري والأمني، نظراً لكونها روسيا تتربّع على ترسانة نووية هي الأكبر من نوعها في دول العالم، ففي وثيقة للبنتاجون عام 1992م، لتحديد الاستراتيجية الأمريكية جاء فيها: إن هدفنا الأول منع ظهور منافس جديد على تراب الاتحاد السوفيتي السابق، أو في أي مكان من العالم، كما أن الأسلحة النووية الاستراتيجية الأمريكية يجب أن تواصل استهداف الجوانب الحيوية للمؤسسة العسكرية السوفيتية، لأن روسيا ستظل القوة الوحيدة في العالم التي لديها القدرة على تدمير الولايات المتحدة(7).
في ظل هذه الاستراتيجية، يمكن النظر إلى الدعم الأمريكي ل (جورجيا) للتخلّص من الانفصال والنفوذ الروسي من جهة، وإقامة قواعد عسكرية أمريكية بها لخدمة أهداف جيواستراتيجية لحلف شمال الأطلسي، فقد بات واضحاً أن الولايات المتحدة بدعمها (جورجيا) ترمي إلى إيجاد وضع عسكري على الحدود الروسية لتحقيق هدفين(8):
الأول: خلق نموذج جديد في تلك المنطقة الحسّاسة من العالم، أقل تكلفة وأكثر نجاحاً من النموذج العراقي، مع تأمين تصدير النفط القزويني بشركات أمريكية، وتضييع الفرصة على البديل الروسي.
الثاني: إكمال المشروع الأمريكي الطموح بإقامة القواعد العسكرية، وفي الوقت نفسه الضغط على روسيا من الجهة الجنوبية بعد أن أكمل الناتو الضغط عليها من الجهة الغربية، وذلك بهدف تفويت الفرصة على روسيا في خلق عالم ثنائي القطب، وحصرها في مساحة جغرافية لم تعرفها روسيا منذ القرن الثامن عشر.
وعلى ذلك، لا يمكن فهم تطورات الحرب التي شنّتها (جورجيا) على (أوسيتيا الجنوبية)، ثم الحرب الروسية المعاكسة ضد القوات الجورجية بمعزل عن الصراع الروسي الأمريكي، وسعي واشنطن ومن خلفها حلف الناتو لتعزيز انتصار القطب الواحد الأمريكي على الاتحاد السوفيتي ووريثه روسيا، وحصاره ومنع نهضته العسكرية والاقتصادية مرة أخرى، إنه صراع نفوذ وصراع على مصادر وطرق الطاقة التي تسيطر عليها كل من (أبخازيا) و (أوسيتيا الجنوبية).
ثانياً: أهداف الأعمال العسكرية
بناءً على التفاعلات التي جرت على مسرح الحرب، يمكن القول إن لكل القوى المتصارعه أهدافها من الحرب وفقاً لما سنوضحه فيما يلي:
1 أهداف جورجيا من العمل العسكري:
يمكن النظر إلى القرار الجورجي بشن الحرب في ضوء الأهداف الأمريكية التالية:
أ دعم المرشح الجمهوري الأمريكي: بحسب مصادر مختلفة، هناك رواية روسية تقول إن نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) هو الذي حرض الرئيس الجورجي (ساكاشفيلي) على شنّ تلك الحرب أملاً منه بدعم حملة (جون ماكين) الانتخابية، وهناك رواية نصف أوروبية ترى أن تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) خلال زيارتها السابقة ل (جورجيا) قبل تلك الحرب بعشرة أيام فقط حملت رسالتين واضحتين إلى الرئيس الجورجي، ووزير دفاعه الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية أصلاً أولاهما: أن واشنطن ستبذل ما بوسعها من أجل تسريع قبول (جورجيا) في عضوية حلف شمال الأطلسي، ثانيتهما: أن واشنطن لا تشك لحظة واحدة في أنها ستقف دوماً إلى جانب أصدقائها من دون تردد(8)، وهو ما جعل بعض المحللين يعقدون مقارنة سياسية بين إيماءات السفيرة (ابريل غلاسي) لصدام حسين قبل غزو الكويت أغسطس 1990م، وتشجيع (كونداليزا رايس) للرئيس الجورجي على ضرب (أوسيتيا الجنوبية)(9).
ب إيجاد الذريعة لنشر الدرع الصاروخي الأمريكي: طرح خبراء آخرون تفسيراً ثالثاً لشن الحرب من جانب جورجيا ربما يكون مكملاً للتشجيع الأمريكي، وهو أن الولايات المتحدة طوال الثمانية عشر شهراً الأخيرة ظلت تسعى بإلحاح من أجل نشر نظامها الصاروخي الجديد في كل من: تشيكيا، وبولندا في مواجهة معارضة روسية قاطعة وحاسمة، فإذا قامت (جورجيا) بتفجير الموقف في القوقاز فيمكن أن تكون تلك الخطوة قبل الأخيرة في خطة استكمال محاصرة روسيا بالكامل، أما الخطوة التالية فستكون انضمام (جورجيا) و (أوكرانيا) إلى الحلف، وفي حال انضمام (جورجيا) تصبح قوات الأطلسي بقيادة أمريكية على مسافة (1200) كيلومتر من الكرملين، وفي حالة انضمام (أوكرانيا) فسوف تقصر المسافة إلى (750) كيلو متراً فقط(10).
ج شل القدرات الاقتصادية الروسية: حيث يميل رجال الاقتصاد إلى طرح فرضيات إضافية بهدف سعي الولايات المتحدة لتشويه صورة روسيا كبلد مهيأ للاضطلاع بدور استثماري قيادي، وهو ما يعود إلى مطلع يونيو الماضي 2008م، عندما افتتح الرئيس الروسي (ميدفيديف) المؤتمر الاقتصادي في (بطرسبرج)، وأعلن أن بلاده تعي مسؤولياتها تجاه مصير العالم أكثر من الولايات المتحدة، وقال أمام ألوف رجال الأعمال، الذين قدموا من أوروبا وآسيا: إن القوانين الجديدة تشجع على الاستثمار في (42) قطاعاً من قطاعات الاقتصاد الروسي، وكانت النتيجة أن وُقِّعت عقود بقيمة تزيد عن العام السابق، بحيث بلغت (12) بليون دولار، ويتردد في واشنطن أن أزمة (جورجيا) هربت ما نسّبته (5،16) بليون دولار خلال أسبوع واحد بعد 8 أغسطس 2008م، كل هذا يشير إلى النيّة المبيّتة لشل القدرات الاقتصادية الروسية، خصوصاً بعد ما قرّر رئيس الوزراء الروسي (بوتين) توظيف سياسة الانفتاح لتعزيز دور بلاده في العالم العربي، خصوصاً وأن روسيا نجحت في التخلّص من كل ديونها للغرب سنة 2000م(11).
2 أهداف الرد الروسي
في المقابل، فإن روسيا أرادت بهجومها الواسع على الأراضي الجورجية توجيه عدة رسائل للعديد من الأطراف(12)؛ الأولى: رسالة للرئيس الجورجي (ساكاشفيلي) بأن هجوم القوات الجورجية على (أوسيتيا الجنوبية) لن يمر دون عقاب، وأن دعم واشنطن لحركته لن يفيده على المدى البعيد، وأن واشنطن لن يصل خلافها مع موسكو إلى مرحلة الصدام المباشر، كما أن الاتحاد الأوروبي الذي تسعى (جورجيا) للانضمام إليه أو حلف الناتو لن يفيداها لضخامة حجم المصالح بين هذه الأطراف وموسكو.
الرسالة الثانية: أن موسكو لن تدع لاعباً آخر في منطقة (بحر قزوين) و (البحر الأسود)، حيث ممرات الطاقة من البترول والغاز، وأن هذه المنطقة منطقة نفوذ ومصالح روسيا.
كما بعثت روسيا برسالة ثالثة لحلف الناتو بعد تصريح أمينه العام في مؤتمر (بوخارست) منذ عدة شهور بثقته في ضم (جورجيا) للإقليمين (أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا)، فجاء الرد على أرض الواقع وبحسم عسكري، أما أخطر الرسائل، فكانت لواشنطن وهي أنها بتحالفها مع الدائرة القريبة من حدودها سوف تجد رد فعل عنيف من جانب روسيا، وربما تجد واشنطن نفسها عاجزة عن الرد كما حدث بالفعل.
ثالثاً: الأبعاد الاستراتيجية للحرب
نظراً لأن هذه الحرب نشبت بالوكالة عن واشنطن وموسكو، فمن الطبيعي أن تكون لها أبعاد استراتيجية مختلفة:
1 التحوّل في العلاقات الروسية الأمريكية :
يستطيع المراقب للعلاقات الروسية الأمريكية أن يرصد تحوّلاً حاداً في هذه العلاقات، وهو ما يتضح من رصد مسار هذه العلاقات خلال السنوات الأخيرة فيقف على أسباب هذا التحوّل ومظاهره:
أ قراءة في مسار العلاقات :
في السنوات التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي برئاسة (يلتسين) لروسيا الاتحادية، لم تكن هناك سياسة مستقلة لروسيا عن الاستراتيجية الأمريكية، ومع وصول (فلاديمير بوتين) إلى السلطة، حاول في البداية الانضمام إلى عضوية حلف شمال الأطلسي، ورفضت أمريكا طلبه في التو واللحظة، بعدها تمدّد الحلف إلى دول البلطيق، وبولندا، والبحر الأسود، في نقض أمريكي صريح لتعهد أمريكي أعطته لموسكو سابقاً، وبعد أن فرغت
الولايات المتحدة من إلحاق كل دول أوروبا الشرقية بحلف شمال الأطلسي، بدأت تغازل (أوكرانيا) و (جورجيا)، وترتب فيهما وغيرهما الثورات التي جعلت روسيا تعود للوراء، وبعد أن تسامح (بوتين) مع إقامة قواعد عسكرية أمريكية مؤقتة في المحيط المجاور (شمال أفغانستان)، تحت عنوان (محاربة الإرهاب)، وجد أن هذه القواعد المؤقتة تتحوّل إلى قواعد دائمة.
وبينما اشترطت الولايات المتحدة على روسيا التحوّل الكامل إلى اقتصاد السوق كشرط من شروط انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، اعترضت أمريكا فوراً عندما فعلت روسيا هذا بالنسبة لأسعار تصدير الغاز الروسي، فلقد كانت (أوكرانيا) و (بيلاروسيا)، وحلفاء سابقون آخرون يحصلون على الغاز الروسي بأسعار سياسية مخفضة، لكن حينما طلبت روسيا التعامل بأسعار السوق، قام الإعلام الأمريكي والأوروبي بالتنديد بالسلوك الروسي، وبينما تسعى الولايات المتحدة إلى وضع يدها على بترول العالم بالضغط، أو التهديد، أو الغزو المسلح، كما في حالة العراق، نددت الولايات المتحدة بالرئيس الروسي حينما قام بإعادة تأميم كبرى شركات البترول الروسي، وبينما يجري الضغط على روسيا للتعجيل بسحب قواتها من (جورجيا) و (مولديفيا) يتقدم حلف شمال الأطلسي بقواعده إلى (بلغاريا) و (رومانيا)، وبينما تقوم روسيا بتوريد التقنية النووية السلمية لإيران، تضغط الولايات المتحدة عليها لوقف هذا التعاون، وبينما لروسيا حق النقض في مجلس الأمن الدولي، تسعى الولايات المتحدة إلى الابتعاد عن المنظمة الدولية لتتصرف منفردة في المسرح الدولي. لذلك وغيره من الأسباب، اتجهت روسيا إلى الإعلان عن موقفها تجاه الولايات المتحدة؛ ففي 10-2-2007م علا صوت الرئيس الروسي السابق (فلاديمير بوتين) في (ميونيخ) بألمانيا، حينما شنَّ هجوماً عاصفاً على تجاوز الولايات المتحدة لحدودها في كل المجالات(13).