شهد عام 2020 اندلاع الحرب الثانية بين أذربيجان وأرمينيا من أجل السيطرة على إقليم ناجورنو قره باغ أو جمهورية آرتساخ الأرمنية المنشقة عن أذربيجان. ورغم الحقائق التاريخية الخاصة بهذا الصراع القابع في جنوب القوقاز من دعم روسيا للأرمن ودعم تركيا للأذريين، إلا أن نتائج الحرب وتفاصيلها كانت لغزًا حقيقيًا، خصوصًا أمام الموقف الروسي الباهت في دعم أرمينيا.
والحاصل أن روسيا قبلت بأن يقوم الحلف الأذربيجاني-التركي بالتهام 30 % من الإقليم المنشق، على أن تقوم روسيا بنشر قواتها العسكرية تحت مسمى قوات حفظ السلام في الإقليم كاملًا.
البعض قرأ هذا التطور بوصفه انتصارًا تركيًا على ضوء تمدد النفوذ التركي في أذربيجان، وعلى ضوء حقيقة أن الرئيس التركي رجب أردوغان ذهب لاستفزاز روسيا بدعم من أوروبا، وبالتالي فإن ما جرى يُعدُّ خسارة جيوسياسية لروسيا، ولكن الكرملين يحمل في أروقته حسابات أخرى.
في بادئ الأمر، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يهمه وبشده أن يخسر النظام الأرمني تلك الحرب، فرئيس الوزراء نيكول باشينيان الذي أتى إلى السلطة على حساب سيرج سركيسيان بعد ثورة بيضاء عام 2018 أبحر بأرمينيا بعيدًا عن دائرة الجمهورية السوفيتية السابقة إلى دوائر السياسة الأوروبية، ورأى في ثورة 2018 ثورة ملونة مثلما فعلها الغرب ضد روسيا من قبل في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان ولاحقًا بيلاروسيا. وبالتالي كانت رسالة بوتين جراء ترك أرمينيا تخسر الحرب أمام تركيا المدعومة من الغرب أن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية لن ينتصروا لأي من الجمهوريات السوفيتية السابقة حينما تتعرض لخطر خارجي، عكس موسكو التي خاضت حربًا عالمية مصغرة على أرض سوريا من أجل الدفاع عن نظام سياسي موالٍ لها.
وبالفعل فإن الخسارة العسكرية للأرمن أمام تركيا قد أدت إلى زلزال سياسي في أرمينيا، وأصبحت الانتخابات البرلمانية المبكرة عام 2021 أمرًا حتميًا. ولم يكن الداخل الأرميني هو المقصود فحسب من الرسالة الروسية، بل كافة شعوب الجمهوريات السوفيتية السابقة.
كانت الرسالة واضحة، بأن الغرب لم يحترم الكرامة الوطنية لتلك الشعوب إذا ما تعارضت مع أجندته السياسية، عكس روسيا التي راعت لسنوات الكرامة الوطنية لتلك الشعوب سواء كانت تحت حكم الإمبراطورية القيصرية ثم السوفيتية أو ما بعد الحرب الباردة.
وتعمّد بوتين أن يكون ردة فعل موسكو حيال أرمينيا المتمردة متزامنًا مع ردة فعل مختلفة من موسكو حيال بلاروسيا الموالية لموسكو؛ إذ أوقف بوتين الثورة الشعبية البيلاروسية الموالية للغرب، ودعم بقاء الرئيس الموالي للكرملين حتى اليوم.
والمكسب الثاني لروسيا يتمثل في نشر قواتها العسكرية في الإقليم الواقع ما بين أرمينيا وأذربيجان مباشرة، فلم تعد روسيا بحاجة إلى وكلاء لنفوذها في تلك المنطقة، بل أصبحت لها اليد الطولى عسكريًا في جنوب القوقاز. أما أخطر ما في هذا الانتشار العسكري هو أنه يقع على الحدود الأذربيجانية الإيرانية، وعمد بوتين إلى نشر قوات بلاده العسكرية على حدود إيران الشمالية لضبط أي خلاف بين موسكو وطهران في الملف السوري على ضوء تقاسم كلا البلدين النفوذ السياسي في غرب سوريا، خصوصًا محور دمشق – اللاذقية.
والمكسب الثالث لبوتين هو المزيد من استقطاب تركيا واحتوائها، على ضوء أن المضايق التركية هي معبر 20 % من التجارة الروسية إلى العالم من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأراضي التركية اليوم هي معبر الغاز الروسي إلى القارة الأوروبية. وعلى ضوء مخاوف بوتين من محاولات أوروبا وأمريكا لتفجير تركيا في وجه روسيا فإن الكرملين قد قرر احتواء تركيا واستغلال أردوغان حتى الرمق الأخير، وحققت نتائج احتواء تركيا في ملفي سوريا وليبيا نتائج إيجابية فيما يتعلق بالأجندة الروسية لكلا البلدين.
أما المكسب الرابع -وهو الأهم- فهو أن إيران تنظر إلى القوقاز أو آسيا الوسطي بوصفها المنافس التاريخي لموسكو منذ زمن القياصرة، وعلى ضوء المشاكل التي تثيرها إيران بين الحين والآخر في الفناء القوقازي لروسيا الاتحادية، فإن إقحام تركيا بمشروعها التوسعي العثماني كان يعني عمليًا أن بوتين قرر ممارسة لعبة (فرق-تسد) وصناعة تنافس إيراني تركي في أذربيجان، وخصوصًا أن العرقية الأذرية في إيران تشكل ثلث السكان بواقع يبلغ 84 مليون نسمة.
وتقع أذربيجان على الحدود الإيرانية الشمالية حيث محافظة أذربيجان شرقي ومحافظة أذربيجان غربي، وحيث المشاعر القومية الأذرية المتدفقة التي تطالب بإعلان أذربيجان الكبرى واستقلال المحافظات الأذرية أو الشمال الأذري الإيراني عن طهران والانضمام إلى أذربيجان، أو على الأقل إعلان قيام أذربيجان الثانية.
ولم يتأخر اردوغان في لعب الدور الروسي المرسوم له، ففي أولى زيارته لأذربيجان عقب وقف إطلاق النار، صدح بنص أدبي يمجد القومية الأذرية بما عدّته السلطات الإيرانية خطابًا يدعم النزعات الانفصالية للأذريين في إيران، ما أدى إلى توبيخ نادر من طهران للرئيس التركي عقب أربع سنوات من الهدوء في العلاقات بين البلدين، وتحديدًا منذ إعلان فوز ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية نوفمبر 2016.
إن روسيا لم تنس أن إيران الخمينية قد دعمت التمرد الإسلامي في أفغانستان في سنوات الاتحاد السوفيتي الأخيرة، ولم تنس دعم ملالي إيران للتمرد الإسلامي في الشيشان في سنوات الرئيس المسن بوريس يلتسن.
وإذا كانت روسيا بوتين قد سعت لاستقطاب إيران من الغرب كما تفعل اليوم مع تركيا، فإن هذا ليس معناه أن تحافظ موسكو على نفوذ طهران ولاحقًا أنقرة، بل السعي إلى تصفية هذا النفوذ والإحلال مكانه كما فعلت موسكو في سوريا بالقفز على مواقع النفوذ الإيراني تباعًا في هدوء وصمت، وتصفية النفوذ الإيراني في غرب سوريا لصالح النفوذ الروسي طويل الأ
والحاصل أن روسيا قبلت بأن يقوم الحلف الأذربيجاني-التركي بالتهام 30 % من الإقليم المنشق، على أن تقوم روسيا بنشر قواتها العسكرية تحت مسمى قوات حفظ السلام في الإقليم كاملًا.
البعض قرأ هذا التطور بوصفه انتصارًا تركيًا على ضوء تمدد النفوذ التركي في أذربيجان، وعلى ضوء حقيقة أن الرئيس التركي رجب أردوغان ذهب لاستفزاز روسيا بدعم من أوروبا، وبالتالي فإن ما جرى يُعدُّ خسارة جيوسياسية لروسيا، ولكن الكرملين يحمل في أروقته حسابات أخرى.
في بادئ الأمر، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يهمه وبشده أن يخسر النظام الأرمني تلك الحرب، فرئيس الوزراء نيكول باشينيان الذي أتى إلى السلطة على حساب سيرج سركيسيان بعد ثورة بيضاء عام 2018 أبحر بأرمينيا بعيدًا عن دائرة الجمهورية السوفيتية السابقة إلى دوائر السياسة الأوروبية، ورأى في ثورة 2018 ثورة ملونة مثلما فعلها الغرب ضد روسيا من قبل في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان ولاحقًا بيلاروسيا. وبالتالي كانت رسالة بوتين جراء ترك أرمينيا تخسر الحرب أمام تركيا المدعومة من الغرب أن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية لن ينتصروا لأي من الجمهوريات السوفيتية السابقة حينما تتعرض لخطر خارجي، عكس موسكو التي خاضت حربًا عالمية مصغرة على أرض سوريا من أجل الدفاع عن نظام سياسي موالٍ لها.
وبالفعل فإن الخسارة العسكرية للأرمن أمام تركيا قد أدت إلى زلزال سياسي في أرمينيا، وأصبحت الانتخابات البرلمانية المبكرة عام 2021 أمرًا حتميًا. ولم يكن الداخل الأرميني هو المقصود فحسب من الرسالة الروسية، بل كافة شعوب الجمهوريات السوفيتية السابقة.
كانت الرسالة واضحة، بأن الغرب لم يحترم الكرامة الوطنية لتلك الشعوب إذا ما تعارضت مع أجندته السياسية، عكس روسيا التي راعت لسنوات الكرامة الوطنية لتلك الشعوب سواء كانت تحت حكم الإمبراطورية القيصرية ثم السوفيتية أو ما بعد الحرب الباردة.
وتعمّد بوتين أن يكون ردة فعل موسكو حيال أرمينيا المتمردة متزامنًا مع ردة فعل مختلفة من موسكو حيال بلاروسيا الموالية لموسكو؛ إذ أوقف بوتين الثورة الشعبية البيلاروسية الموالية للغرب، ودعم بقاء الرئيس الموالي للكرملين حتى اليوم.
والمكسب الثاني لروسيا يتمثل في نشر قواتها العسكرية في الإقليم الواقع ما بين أرمينيا وأذربيجان مباشرة، فلم تعد روسيا بحاجة إلى وكلاء لنفوذها في تلك المنطقة، بل أصبحت لها اليد الطولى عسكريًا في جنوب القوقاز. أما أخطر ما في هذا الانتشار العسكري هو أنه يقع على الحدود الأذربيجانية الإيرانية، وعمد بوتين إلى نشر قوات بلاده العسكرية على حدود إيران الشمالية لضبط أي خلاف بين موسكو وطهران في الملف السوري على ضوء تقاسم كلا البلدين النفوذ السياسي في غرب سوريا، خصوصًا محور دمشق – اللاذقية.
والمكسب الثالث لبوتين هو المزيد من استقطاب تركيا واحتوائها، على ضوء أن المضايق التركية هي معبر 20 % من التجارة الروسية إلى العالم من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأراضي التركية اليوم هي معبر الغاز الروسي إلى القارة الأوروبية. وعلى ضوء مخاوف بوتين من محاولات أوروبا وأمريكا لتفجير تركيا في وجه روسيا فإن الكرملين قد قرر احتواء تركيا واستغلال أردوغان حتى الرمق الأخير، وحققت نتائج احتواء تركيا في ملفي سوريا وليبيا نتائج إيجابية فيما يتعلق بالأجندة الروسية لكلا البلدين.
أما المكسب الرابع -وهو الأهم- فهو أن إيران تنظر إلى القوقاز أو آسيا الوسطي بوصفها المنافس التاريخي لموسكو منذ زمن القياصرة، وعلى ضوء المشاكل التي تثيرها إيران بين الحين والآخر في الفناء القوقازي لروسيا الاتحادية، فإن إقحام تركيا بمشروعها التوسعي العثماني كان يعني عمليًا أن بوتين قرر ممارسة لعبة (فرق-تسد) وصناعة تنافس إيراني تركي في أذربيجان، وخصوصًا أن العرقية الأذرية في إيران تشكل ثلث السكان بواقع يبلغ 84 مليون نسمة.
وتقع أذربيجان على الحدود الإيرانية الشمالية حيث محافظة أذربيجان شرقي ومحافظة أذربيجان غربي، وحيث المشاعر القومية الأذرية المتدفقة التي تطالب بإعلان أذربيجان الكبرى واستقلال المحافظات الأذرية أو الشمال الأذري الإيراني عن طهران والانضمام إلى أذربيجان، أو على الأقل إعلان قيام أذربيجان الثانية.
ولم يتأخر اردوغان في لعب الدور الروسي المرسوم له، ففي أولى زيارته لأذربيجان عقب وقف إطلاق النار، صدح بنص أدبي يمجد القومية الأذرية بما عدّته السلطات الإيرانية خطابًا يدعم النزعات الانفصالية للأذريين في إيران، ما أدى إلى توبيخ نادر من طهران للرئيس التركي عقب أربع سنوات من الهدوء في العلاقات بين البلدين، وتحديدًا منذ إعلان فوز ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية نوفمبر 2016.
إن روسيا لم تنس أن إيران الخمينية قد دعمت التمرد الإسلامي في أفغانستان في سنوات الاتحاد السوفيتي الأخيرة، ولم تنس دعم ملالي إيران للتمرد الإسلامي في الشيشان في سنوات الرئيس المسن بوريس يلتسن.
وإذا كانت روسيا بوتين قد سعت لاستقطاب إيران من الغرب كما تفعل اليوم مع تركيا، فإن هذا ليس معناه أن تحافظ موسكو على نفوذ طهران ولاحقًا أنقرة، بل السعي إلى تصفية هذا النفوذ والإحلال مكانه كما فعلت موسكو في سوريا بالقفز على مواقع النفوذ الإيراني تباعًا في هدوء وصمت، وتصفية النفوذ الإيراني في غرب سوريا لصالح النفوذ الروسي طويل الأ
مكاسب روسيا من حرب ناجورنو قره باغ الثانية – www.marsad.ecsstudies.com
marsad.ecsstudies.com