في السابع عشر من أبريل عام 1986 نفذ لواء حطين التابع لصنف المدفعية والصواريخ بالقوات المسلحة الليبية ضربة صاروخية جريئة لمحطة الملاحة LORAN التابعة لخفر السواحل الأمريكي في جزيرة لامبيدوزا الإيطالية رداً على عملية الألدورادو كانيون الأمريكية
( العدوان الأمريكي على ليبيا) ذلك الموقع الذي يعد مجهولاً برغم أهمية الخدمات التي كان يقدمها وكانت تلك المحطة تعتبر أقرب منشأة عسكرية أمريكية للسواحل الليبية.
- لامبيدوزا جزيرة إيطالية أنشأ على الجزء الغربي منها محطة الملاحة التابعة لخفر السواحل الأمريكي وتستخدم كذلك قاعدة لحلف الناتو والأسطول السادس يطلق على المحطة إسم "لوران" وهي تعمل بنظام ملاحي بلرشاد السفن وبديل لنظام التموضع العالمي GPS وكانت المحطة في وقت الهجوم الصاروخي تحت قيادة الملازم آرنست ديلبوينو ErnestDelBueno وكان قد تلقى أوامر بإخلاء الطاقم غير الأساسيين إلى المحطة الجوية البحرية الأمريكية في Sigonella صقلية والبقاء مع فريق صغير للحفاظ على دعم الإتصالات وذلك تحسباً لأي طاريء وتجنباً لأي هجوم إرهابي من المحتمل وقوعه ضد المحطة وقامت مروحية نقل تابعة للبحرية الأمريكية من سرب الدعم القتالي المروحي Helicopter Combat Support Squadron Four) (HC-4 بتنفيذ عملية إخلاء الطاقم بأكمله وذلك بحسب تقارير صحفية.
- لواء حطين هو أحد ألوية صواريخ سكود "عابرات الحدود" التي كانت ضمن القوة الإستراتيجية الضاربة للجيش الليبي وهي ( الأخضر , الصفصاف , الهواري , حطين ) وقد نفذ بمهارة وكفاءة عسكرية عالية ضربة صاروخية دقيقة على هدف مؤثر أختير بعناية بالغة حيث تعتبر المحطة عقدة الإتصالات الخاصة بحرس السواحل الأمريكي والأسطول السادس وإستهدافها يعني تعثر الإتصالات بين وحدات الأسطول وقيادته وقواعده الأخرى خاصة وأن الاتصالات تعتبر عصب الحرب الحديثة ولابد من توفرها لضمان التنسيق في العمليات العسكرية.
- كانت وحدات القوات المسلحة قد تلقت الأوامر بالانتشار خارج مدينة طرابلس وكانت عمليات الإنتشار الفعلي للوحدات قد بدأت تقريباً قبل الغارة بأيام وكانت الكلية العسكرية ضمن الوحدات التي تلقت أوامر الإنتشار وأنتقلت بكامل قوامها وهيئتها الى منطقة وشتاته بترهونة حيث منطقة الإنتشار والموقع التبادلي في معسكر التدريب الخارجي الخاص بالكلية العسكرية وكنت ضمن طلبة قسم الصواريخ الذين رافقوا لواء حطين حيث كنا نتلقى التدريبات العملية في معسكر الهضبة حيث يتمركز اللواء بشكل دائم آنذاك.
- بعد الغارة الأمريكية بيوم واحد أخبرنا آمر قسم المدفعية والصواريخ النقيب محمد المهدي وهو ضابط شاب نشط وذو أخلاق عالية من منطقة الرجبان بأنه تقرر مغادرتنا للموقع والذهاب للإلتحاق بلواء حطين في منطقة إنتشاره ولم نكن نعرف إلى أين نحن متجهون ووفقاً للتعليمات بدأت الرحلة برجوعنا لمقر الكلية في طرابلس وقضينا ليلتنا الباردة فيها في الخنادق المجهزة حتى الصباح ثم ذهبنا لمقر اللواء في معسكر الهضبة وبقينا هناك حتى المساء وخلال وجودنا بمقر اللواء حدث إختراق لجدار الصوت من قبل الطيران المعادي فوق مدينة طرابلس خلال فترة الظهر وعلى الفور أطلقت إحدى وحدات الدفاع الجوي صاروخاً كانت الأصوات قوية ومدوية ومرعبة إلى حد كبير خرجنا على الفور من المعسكر وذهبنا للجهة المقابلة للمعسكر حيث تتواجد بعض المزارع الخاصة بالمواطنين بقينا فيها بعض الوقت وكنا نشاهد بعض المواطنين وهم يغادرون المدينة محملين بأمتعتهم بإتجاه طريق قصر بن غشير ولا ننسى ذلك الرجل الطيب صاحب المزرعة الذي أحضر لنا الشاي الأحمر وفاكهة الناسبولي المعروفة في طرابلس ورحب بنا في مزرعته ودعى لنا هو وأهله بالسلامة والنصر.
- مساء ذلك الخميس غادرنا طرابلس متجهين غرباً عبر الطريق الساحلي مروراً بمدن الساحل حتى وصلنا لمشروع العسة ليلا حيث منطقة المواقع الرئيسية للواء وهناك شاهدنا في البداية عربات الـ BMP1 التابعة لسرية المخصصة لحماية اللواء ثم شاهدنا القواذف الصاروخية نوع ماز 543 وهي تغادر الموقع لتنفيذ المهمة المكلفة بها وكانت محركاتها تعمل وعوادمها ترمي بالشرر لقوة محركاتها وقد بدأت بالتحرك الفعلي في عملية نوعية دقيقة .
بعد مضي ساعة أو أكثر تناولنا العشاء بالموقع وكنا متعبين وخلدنا للنوم في خيام أعدت لإستقبالنا لكن سرعان ما صدرت الأوامر بإخلاء الموقع والإنتقال لموقع تبادلي آخر وعرفنا خلال ذلك الوقت بأن الضربة الصاروحية نفذت من موقع بمنطقة أبو كماش وأنها أستهدفت جزيرة إيطالية في المتوسط بصاروخين سكود.
غادرنا العسة وتوقفنا مرات عدة خلال الطريق قبل أن نصل لمدينة العجيلات في ساعات الليل الأخيرة وهناك إستمعنا على جهاز الراديو الخاص بأمر القسم النقيب المهدي تسحيلاً للكلمة التي وجهها القذافي وأدركنا بأن الأمور في طريقها للتهدئة وبأن هناك تحول للغة السياسة نتيجة تدخل دول عديدة على الخط وهو ما يعني فعلياً إنتهاء حالة الحرب المعلنة.
- صباح اليوم التالي وكان يوم جمعة غادرنا الموقع الذي وصلنا إليه آخر الليل لنلتحق ثانية بوحدات اللواء في مشروع العجيلات حيث الموقع التبادلي للواء وهذه المرة كنا في مقر إحدى الكتائب ولاحظنا أن القواذف الصاروخية والآليات والمعدات الفنية الملحقة للكتيبة منتشرة ومموهة بشكل ممتاز حتى أن المار بهذا المكان بالكاد يتعرف إلي وجودها ما يدل على مدى جدية وإنضباط منتسبي وحدات اللواء وحرفيتهم العالية في التعامل مع معداتهم وآلياتهم والمحافظة عليها بقينا هناك فترة ثم رجعنا لمقاعد الدراسة في الكلية بطرابلس بعد أن خفضت درجة الإستعداد وزالت حالة الإستعداد الكامل .
- بعد الهجوم واصلت المحطة الأمريكية في لامبيدوزا توفير الإتصالات لقوات حلف شمال الأطلسي وعززت القاعدة في شهر 6 بتركيب معدات اتصالات آمنة ، وأسيجة وأسلحة إضافية لضمان أن يكون الضباط المسؤلين لديهم المعدات اللازمة للرد على التهديدات المحتملة وهذا يعني بشكل غير معلن نجاح الضربة وإن لم يكن في اثرها التدميري فهو في اثرها المعنوي والنفسي وهذا التاثير أعمق وأقوى ما جعلهم يسارعون الى تعزيزها بمعدات احدث وأسلحة وفي عام 1994م حولت قاعدة الناتو في لامبيدوزا إلى مركز أمني إيطالي للمراقبة بعد تدفق موجات المهاجرين إليها.
- اليوم وبعد مرور 32 سنة على تلك المواجهة التاريخية والتي تعتبر صفحة مجيدة من صفحات التاريخ الحربي الليبي وبتجرد كامل لا يسعني إلا أن أوجه التحية لآولئك الرجال الأبطال منتسبي لواء حطين كلاً في مجال تخصصه والذين أدوا مهمتهم وواجبهم على أكمل وجه ملبين نداء الواجب بإعتزاز ووطنية صادقة برغم عدم تناول وسائل الإعلام آنذاك لما قاموا به من عمل يضاف لرصيد المنازلات التاريخية الليبية منذ زمن فيلادلفيا مرورا بخليج السدرة وحتى عملية لامبيدوزا .
- راجعت الكثير من المواقع الإخبارية التي خلدت الحدث وما كتب عنه وما تناولته وسائل الإعلام في حينه وكانت في مجملها تنقل وجهة النظر الأمريكية للأحداث وبعضها يقول بأن الهجوم نفذته زوارق صاروخية وأخرى تقول بأن الهجوم كان بصواريخ سكود ولم يكن مؤثراً ونحن نعلم بأن ذلك غير صحيح قصواريخ سكود تستحدم نظام الملاحة يغتمد على ثلاثة جيروسكوبات تسمح بالدقة النسبية في إصابة أهدافها ونسبة الخطأ فيها قليلة , ولم تتطرق للرد الليبي وهذه عادة الاعلام الغربي الذي يقلل من قدرات خصمه ولا يعترف بخسائره ، ولذلك رأيت أن أنقل الصورة بإنصاف وللتاريخ كشاهد على ذلك الحدة وتلك المهمة الجرئية فالعمليات العسكرية التي قام بها اللواء ووحدات القوات المسلحة الليبية خلال تلك الفترة والتحضيرات التي سبقت تلك الغارة كانت على مستوى الحدث من الناحية العسكرية والفنية ولم تكن توحي بتخبط القيادة العسكريث وعدم قدرتها على السيطرة على الوحدات الفرعية - واشدد هنا على الامر من ناحية مهنية بعيداً عن السياسة وإن كانت الحرب اهم ادواتها - وهذا في تقديري يرجع لمستوى الضبط والربط العالي والحرفية العالية التي كان يتمتع بهام منتسبي القوات المسلحة فى وحدات الصواريخ الذين رافقناهم وكنا معهم خلال تلك الأحداث.
- هناك عدة عوامل تحسب لنجاح العمليات العسكرية ولعل أهمها الإختيار الدقيق للأهداف المطلوب التعامل معها والعمل بصمت وسرية ولذلك فإختيار هدفاً بهذه الأهمية وتعيين موقعه بدقة في فترة لم تتوفر فيها الإتصالات بين القيادة والوحدات الأخرى لقوة وسطوة العدو وإستخدامه لوسائط الحرب الإلكترونية في التشويش على الإتصالات بأنواعها فهذا لوحده نجاح كبير يحسب لتلك الوحدات.
- تحتاج وحدات الصواريخ لزمن كاف لتجهيز الصواريخ للإطلاق ويدخل ضمن ذلك ربط الموقع مساحياً وإستلام الصواريخ وإجراء الإختبارات الفنية وتجهيز سرية الإرصاد للنشرة الجوية وهذا كله تم في زمن قياسي حيث تم تنفيذ الإطلاق نحو الهدف ليلاً للتمويه والإستفادة من الظروف الطبيعية وكل ذلك تم بنجاح وبدون أن تكتشفه طائرات الإستطلاع الأمريكية التي كانت تمشط الساحل الليبي جيئة وذهاباً ليلاً ونهاراً .
- تحركات اللواء كانت في غاية الدقة والسرية مع المحافظة على التوقيتات المعدة للتحول لوضع الانتشار والإنتقال للوضع القتالي وإعادة التمكز في المناطق التبادلية كل تلك كان مؤشرات جيدة على مستوى كفاءة وحدات الجيش الليبي وقدرة آمريها على السيطرة والقيادة في أصعب الظروف.
- ربما لم يسمع الكثير بتلك العملية وهي في الحقيقة اهملت من جانب الاعلام الليبي آنذاك لاعتبارات نجهلها لكن أردنا اليوم أن نذكر بالاعمال التي قام بها أولئك الرجال في صمت تدفعهم شجاعتهم ونخوتهم وغيرتهم ووطنيتهم وقوة الحق الذي آمنوا به عرف خلالها العدو من يكون خصمهم.