[URL="http://montada.alwasatparty.com/imgcache/1343.imgcache.jpg"][/URL]
العامل المعنوي في موازين القوى بين طرفي الصراع
لواء دكتور/ عماد السعدي
يأتي العامل المعنوي للمقاتلين قادة وضباط وصف وجنود في مقدمة العوامل التي تقاس بها موازين القوى للدول المتصارعة. ويقصد بذلك الجانب عمق الإيمان بالله تعالى، وبعدالة القضية التي يُحارب من أجلها، والثقة بالقيادات والأسلحة، مع التفاني في التدريب على إتقان كلٍّ لدوره في المعركة للدرجة التي يصل فيها إلى قناعة تامة بأنه إما تحقيق النصر وتدمير وهزيمة العدو وإما الاستشهاد دون ذلك، من خلال إدراك ويقين أن الشهادة في الحرب هي الطريق إلى جنة الخلد فداءً للشرف والعرض والدولة والأمة.
[URL="http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/qpolitic-oct-2000/gif/pic4.jpg"][/URL]
ويطلق العسكريون على هذا العامل "الكفاءة القتالية"، وتعني كفاءة استغلال ما يملكونه من قدرات تسليحية والتخطيط الإستراتيجي المتميز لاستخدامها، ثم إتقان التدريب على كافة المستويات "قادة وضباط وصف وجنود" وعلى مختلف أسلحة وإدارات وأفرع القوات المسلحة، مع المعرفة الدقيقة لنقاط القوة ونقاط الضعف في العدو، وتكليف القوات المسلحة بمهام قتالية في حدود قدراتهم وما يمتلكونه من أسلحة ومعدات قتالية؛ ليتحقق بذلك شعار هام رفعته قواتنا المسلحة في حرب أكتوبر 1973م.. وهو "النصر أو الشهادة"، ويعني التفاني والتميز والإصرار على هزيمة العدو وتدمير أسلحته ومعداته واستعادة الأرض المغتصبة عام 1967م، وتحريرها والإصرار على تحقيق ذلك الهدف حتى لو أدى إلى نيل شرف الاستشهاد على طريق تحقيقه!!
ولقد كان المستوى الرفيع للكفاءة القتالية للمقاتل المصري، والتخطيط الأمثل لإعداده وبنائه معنويًّا وقتاليًّا، كان الطريق إلى النصر في أكتوبر 1973م، حيث اعتبرت تطبيقًا أمينًا ودقيقًا لقول الحق سبحانه وتعالى:
]وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ..[ صدق الله العظيم
فكانت المفاجأة الإستراتيجية التي تحققت بالاستخدام الأمثل لقوات مسلحة تمتلك أسلحة دفاعية وتفتقر لعناصر التفوق الرئيسية في العمليات الهجومية؛ سواء في القوات الجوية أو الأسلحة المدرعة أو عناصر الحرب الإلكترونية أو آلية القيادة والسيطرة.
إلى جانب عبقرية المخطط والقائد والإنسان والمقاتل المصري الذي تغلب على كافة التحديات والمصاعب والعراقيل التي اعترضت طريق هجومه ببذل كل ما استطاع من جهد لتجاوزها والتغلب عليها، مع تكليف القوات المسلحة بمهمة في حدود ما هو متوفر لها من قدرات وإمكانيات.. فتحقق النصر.. وَعْد الحق سبحانه وتعالى.
تابع في نفس المقال:
العامل المعنوي في القوة المصرية
العامل المعنوي في القوة الإسرائيلية
[URL="http://www.tishreen.info/images%5Cth10-05-06/lo004.jpg"][/URL]
أولاً: العامل المعنوي في القوة المصرية
لإلقاء المزيد من الضوء على الدور المعنوي وانعكاساته على أداء القوات المسلحة المصرية، فإن الأمر يتطلب التعرف بعمق على موازين القوى لطرفي الصراع أثناء الحرب. ولتعدد العناصر التي تشملها قياسات موازين القوى الإستراتيجية.. فإننا سنكتفي بالتركيز على الجانب العسكري منها، وذلك بعرض لأبرز عنصرين هما: موقف تسلح وقدرات القوات المسلحة المصرية، والتحديات والعقبات التي واجهت المخطط الإستراتيجي المصري وكيف أمكنه التغلب عليها؟
1 - موقف تسليح وقدرات القوات المسلحة المصرية:
وفي مجال الحديث عن إعادة بناء القوات المصرية التي فقدت معظم أسلحتها ومعداتها في نكسة عام 1967م، يمكن القول إن مجال تنمية قدراتها وإعادة تسليحها قد تأثر بصراع العملاقين في ذلك الوقت، فالولايات المتحدة قد دعمت علاقاتها بإسرائيل، باعتبارها وسيلتها لإيقاف المد السوفييتي في الشرق الأوسط، وعلى ذلك فقد حافظت على ميزان القوى العسكري لصالح إسرائيل تأمينًا لمصالحها في المنطقة العربية، وخاصة بعد النجاح السياسي والعسكري الذي حققته القوات المسلحة الإسرائيلية في عملياتها عام 1967م، حيث ازدادت علاقة التعاون بينهما بشكل عام وفي مجال تنمية التسليح والصناعات الحربية الإسرائيلية بشكل خاص.
وعلى الجانب الآخر تذبذبت علاقات التعاون بين مصر والاتحاد السوفييتي المصدر الوحيد للإمداد بالسلاح والمعدات والذخائر للقوات المصرية، بين التقارب والفتور، خاصة بعد تقييم السوفييت لأداء الجيش المصري الذي هُزم للمرة الثانية، بما يعني هزيمة السلاح السوفييتي في مواجهة السلاح الأمريكي.
هذا ويحسب للاتحاد السوفييتي مبادرته لسرعة إمداد مصر بالأسلحة والمعدات، حيث وصل إلى مصر في 9 يونيو 1967م وفد عسكري سوفييتي على مستوى رفيع لسرعة تلبية مطالب مصر العاجلة من السلاح والمساعدة في استقبال المعدات والأسلحة السوفييتية في المواني البحرية والجوية وتوزيعها على وحدات القوات المسلحة المصرية، والتي بدأت عملية إعادة تجميعها وتنظيمها وإنشاء خط الدفاع الأول لها غرب قناة السويس، وتلاحق وصول أعداد كبيرة من الخبراء السوفييت في إطار اتفاق مع القيادة المصرية بتولي السوفييت إعادة تسليح القوات المصرية والاشتراك في تدريبها رفعًا لكفاءتها القتالية.
وفي أول أغسطس 1967م بدأت القيادة العامة المصرية أولى خطوات إعادة تنظيم القوات المسلحة وفقًا لخطة طموحة يتحول فيها إلى جيش عصري حديث يمتلك أحدث الأسلحة والمعدات التي تمكنه من إدارة عملية هجومية إستراتيجية ضد إسرائيل، وقد اصطدمت الخطة الطموحة لتسليح القوات المسلحة المصرية بالسياسة السوفييتية التي ارتكزت على عدم توفير قدرات تسليحية هجومية للجيش المصري، والاكتفاء بإمداده بقدر محدود من التسليح الذي يوفر له الحد الأدنى للدفاع عن الأراضي المصرية، مع عدم السماح له بتوفير الكم والكيف اللازمين لتحقيق التوازن مع القوات المسلحة الإسرائيلية، وذلك حتى لا تفكر القيادة السياسية والعسكرية المصرية في التخطيط لإدارة عمليات هجومية ضد إسرائيل، وقد كانت تلك السياسة مثار خلاف دائم بين الرئيس "جمال عبد الناصر" من ناحية وبين القادة السوفييت من ناحية أخرى.
وفي الثامن من مارس 1969م بدأت مصر حرب الاستنزاف ضد إسرائيل، ومع استمرار الخسائر البشرية الإسرائيلية خلالها، وفي يناير 1970م وصلت هذه الحرب إلى نقطة تحول رئيسية، حيث قامت إسرائيل بتوسيع نطاقها بتنظيم سلسلة من الغارات الجوية ضد العمق المصري، وقام سلاحها الجوي في يناير وفبراير 1970م بعدة هجمات جوية ضد أهداف مدنية في حلوان وأبي زعبل، ثم كانت كارثة مدرسة بحر البقر الذي نتج عنها قتل وإصابة أكثر من خمسين تلميذًا، الأمر الذي أثبت أن إمدادات السلاح السوفييتية لمصر لم تحقق الحد الأدنى لتوفير الدفاع عنها. وتوالت المطالبة والإلحاح من الرئيس عبد الناصر للتخلي عن السياسة السوفييتية وتوفير أسلحة وقدرات دفاعية وهجومية للقوات المصرية، دون أية استجابة من السوفييت. واستمر الوضع كذلك حتى وفاة الرئيس عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970م.
وتولى الرئيس "محمد أنور السادات" حكم مصر، ومع استمرار الوعود السوفييتية باستكمال تسليح القوات المصرية مع المماطلة في تنفيذها، بدأت تتجه العلاقات السوفييتية - المصرية نحو التردي المتزايد، خاصة مع الرفض الصريح لإمداد مصر بأسلحة هجومية، الأمر الذي أدى إلى إصدار الرئيس السادات لقراره في 7 يوليو 1972م بإنهاء مهمة كافة المستشارين السوفييت في مصر.
وهكذا ترك الاتحاد السوفييتي مصر، ولا يوجد لقواتها أي تفوق أو تعادل ليس فقط كمِّي بل أيضًا نوعي مع القوات الإسرائيلية، خاصة في أبرز عناصرها، والتي ينبني على أساسها التخطيط للعمليات الهجومية.
فكيف أمكن اتخاذ قرار لاستخدام قوات مسلحة تفتقر كل عناصر التعادل أو التوازن التسليحي تكلف بمهمة هجومية ضد عدو لديه كل إمكانيات وقدرات التفوق الكمي والنوعي إضافة لامتلاكه رادعًا نوويًّا مع عمق تعاون الإستراتيجي مع أكبر قوة مسلحة في العالم هي الولايات المتحدة الأمريكية؟؟ ذلك هو الدور المعنوي الذي حقق التعادل والتوازن المفقود وانتهى بالنصر في حرب أكتوبر 1973!!
2 - التحديات والعقبات التي واجهت التخطيط المصري:
لقد كانت التحديات كبيرة والعقبات التي تعترض طريق هجوم القوات المصرية عظيمة، إضافة إلى الخلل الحاد في ميزان القوى لصالح إسرائيل والذي نذكر منه:
أولاً: التفوق التكنولوجي الذي لا يقارن في مجال التسليح بين مصر وإسرائيل.
ثانيًا: التفوق الذي لا يقارن بين القوات الجوية في كل من مصر وإسرائيل للدرجة التي أعلنت فيها إسرائيل أنها تمتلك أقوى سلاح جوي في العالم.
ثانيًا: وسائل الاستطلاع وعلى رأسها الأقمار الصناعية الأمريكية التي كانت ترصد أدق التفاصيل عن القوات المصرية في جبهة القتال والعمق المصري.
رابعًا: امتلاك إسرائيل لجهاز مخابرات ينسق كل المعلومات مع جهاز المخابرات الأمريكية لتحليل كل صغيرة وكبيرة عن القوات المصرية.
خامسًا: التأييد الدولي المطلق لإسرائيل و"حقها" في تأمين نفسها وحدودها حتى ولو بالاحتلال أراضي الآخرين.
هذا إضافة إلى استغلال وتحويل قناة السويس إلى مانع مائي يستحيل عبوره، وإقامة ساتر ترابي موازٍ للضفة الشرقية وصل ارتفاعه إلى حوالي 15 متر، مع إقامة 43 نقطة حصينة شرق القناة فيما عُرف بخط بارليف الحصين وما خلفه!!
من هنا تجلت عبقرية المخطط والإنسان المصري في التغلب على هذه التحديات والعقبات والعراقيل، حيث خُططت الضربة المركزة بكل الإمكانيات والقدرات المتاحة للقوات الجوية لتنفذ بقوة 227 طائرة مقاتلة لتدمير مطارات العدو في عمق سيناء ومواقع الصواريخ وعشرات من المدفعيات والرادارات ومراكز التوجيه والإنذار الإسرائيلية، إلى جانب تدمير محطات ومراكز الإعاقة والشوشرة الرئيسية والمناطق الإدارية في عمق سيناء.
وقد تزامن مع تلك الضربة الجوية المركزة وأعقبها خطوة محكمة لاستخدام المدفعية المصرية لتنفيذ أقوى تمهيد نيراني وصل إلى عشرة آلاف وخمسمائة دانة مدفعية بمعدل 175 دانة كل ثانية؛ لتدمير مصادر النيران الإسرائيلية قبل بدء عبور القوات المصرية.
وكانت مدافع المياه هي الوسيلة التي ابتكرتها العقول المصرية، واعتمدت على تجريف المياه بواسطة مضخات مياه قوية لإمكان فتح 85 ممرًّا في الساتر الترابي في الضفة الشرقية بما قدر حجم الأتربة المزاحة من كل ممر بحوالي 1500 متر مكعب.
ثم كانت سلالم الحبال التي تحمل بواسطة أحد الأفراد ليتسلق بها الساتر الترابي، ثم يُعدَّها ليتسلق عليها زملاؤه… كانت تلك السلالم هي الوسيلة التي تمكنت بها مجموعات الاقتحام بأسلحتهم وذخائرهم من التغلب على أحد أعقد العراقيل التي واجهت المخطط المصري، ثم كان التخطيط لعبور مجموعات من الصاعقة المصرية إلى الضفة الشرقية قبل بدء الهجوم الرئيسي في مهمة استشهادية؛ لقفل مواسير النيران بالأسمنت لتفادي إشعال العدو لسطح القناة.. هذا إلى جانب بناء حائط الصواريخ المصري الذي حرم طائرات القتال الإسرائيلية من الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15 كيلو مترًا، مما هيَّأ عبورًا ناجحًا للقوات المصرية المهاجمة.. ثم كان دور القوات البحرية المصرية التي قفلت "باب المندب"؛ لتضيف بُعدًا جديدًا إلى عبقرية الإنسان المصري.
هذا إضافة إلى المعجزة المصرية في إعداد وتجهيز مسرح العمليات للقوات المصرية في ظل التدخل الإيجابي العسكري الإسرائيلي المباشر بقواته الجوية ومدفعياته التي ركَّزها لمنع استكمال ذلك الإعداد، والتي يكفي القوال إن حجم الإعداد الهندسي فقط لأفرع القوات المسلحة المصرية وصل إلى ما يعادل أربعة أمثال حجم الهرم الأكبر.
تلك بعض من كثير مما واجه المخطط المصري من مصاعب ومشاكل لاقتحام قناة السويس وتدمير خط "بارليف" والتي قدر المحللون العسكريون بأنها ستكلف القوات المصرية عند محاولة تجازوها حدًّا يصل إلى ما بين 75 إلى 100 ألف قتيل وجريح إضافة إلى تدمير حوالي 40 إلى 50% من حجم المعدات ووسائل القتال المصرية!!
وعلى ذلك فإن الروح المعنوية العالية وإرادة القتال الصعبة وعزيمة الإنسان المصري إلى جانب التنسيق الناجح مع القوة المسلحة السورية، ومواجهة العدو الإسرائيلي – لأول مرة - في توقيت واحد بهجوم على جبهتين، إلى جانب تضامن عربي فعَّال، وفي إطار خطة خداع إستراتيجية اشتركت فيها كافة أجهزة الدولة في مصر.. تلك كانت المفاجأة الحقيقية لكل من رأى ولم يصدق، حيث كانت كافة الاستعدادات تُجرى في ظل رصد دقيق لكل تحرك عسكري على الجبهتين المصرية والسورية.. إضافة إلى تحديد هدف إستراتيجي مناسب مع القدرات والإمكانيات التسليحية والفنية والقتالية المتاحة للقوة المسلحة المصرية.
تلك المفاجأة التي حققتها القوات المسلحة المصرية والتي أدت إلى أن وصلت خسائرها في عملية اقتحام قناة السويس وتدميرها لتحصينات خط بارليف وصلت إلى 64 شهيدًا ، 420 جريحًا فقط، مع إصابة 17 دبابة وتعطيل 26 عربة مدرعة، وإصابة 11 طائرة قتال".
وعلى الجانب الآخر قدرت خسائر إسرائيل بنهاية العمليات بنحو "2838 قتيل" 2800 جريح، 508 أسير ومفقود، 840 دبابة، و400 عربة مدرعة، 109 طائرة قتال وهليوكوبتر وسفينة حربية واحدة".
مما أجمع معه قادة جيوش العالم بأن القوة المسلحة المصرية في حرب أكتوبر 1973م قد نجحت في "قهر المستحيل" بهزيمتها للجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر!!
ثانيًا: العامل المعنوي في القوة الإسرائيلية
قبل بداية العمليات بأيام قليلة كان يمكن مشاهدة القوات المصرية والتي لا يفصلها عن القوات الإسرائيلية سوى قناة السويس بعرض حتى 180 مترًا فقط. كان يمكن مشاهدة القوات المصرية وهي قائمة بإعداد زوارق العبور وتجهيز الفتاحات على الجسور وساحات العبور على امتداد قناة السويس. قوات مسلحة بكامل أسلحتها ومعداتها على الجبهة المصرية وقوات مسلحة بكامل أسلحتها ومعداتها على الجبهة السورية، تتخذ أوضاعها لاستكمال خطة الفتح الإستراتيجي لبدء الحرب إلى جانب مظاهر أخرى كثيرة ومتعددة.
إلا أن سلوك القوات الإسرائيلية في الساعات الأولى من الهجوم كان دليلاً عمليًّا على أنه أخذته المفاجأة التامة. وقد تضاربت أقوال العدو وأدلته وشهادات قادته بعد ذلك حول هذه النقطة تضاربًا شديدًا، ففي مرحلة ساد القول "بأنهم رأوا ولكنهم لم يفهموا"! وفي رأي آخر ساد القول "بأنهم رأوا وفهموا ولكنهم لم يصدقوا". وكأن ذلك يُصَدِّق قول الله تعالى:]وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُون[ صدق الله العظيم.
إن الحقيقية المؤكدة وراء ذلك التصور يرجع أيضًا إلى الدور المعنوي الذي تغلغل في عقول ووجدان ونفوس المقاتل الإسرائيلي سواء القادة أو الضباط وضباط الصف والجنود، وهو السبب الرئيسي وراء الهزيمة الساحقة في حرب أكتوبر 1973م رغم امتلاكهم كل عناصر التفوق في معادلة موازين القوى ليس فقط بينهم وبين القوة المسلحة لكل من مصر وسوريا، بل للقوات المسلحة العربية على إطلاقها.. ويمكن الحديث هنا عن عاملين رئيسين:
أولهما: الثقة الزائدة في النفس التي وصلت إلى حد الغرور:
فقد انتشرت وسادت وتأكدت مقولة "الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر"، حيث قال موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي في ديسمبر عام 1969م: "لن تنال عمليات العبور المصرية – إن حدثت - من قبضة إسرائيل المحكمة على خط بارليف؛ لأن الاستحكامات الإسرائيلية على الخط أشد منعة وأكثر تنظيمًا.. ويمكن القول بأنه خط منيع يستحيل اختراقه، وإننا الأقوياء إلى حد نستطيع معه الاحتفاظ به إلى الأبد".
وفي مناسبة أخرى قال: "إن خطوطنا المنيعة أصبحت الصخرة التي سوف تتحطم عليها عظام المصريين، وإذا حاولت مصر عبور القناة فسوف تتم إبادة ما بقي من قواتها".
وقال رئيس الأركان دافيد إليعازر: "إن خط بارليف سيكون مقبرة للجيش المصري". وفي 10 أغسطس 1973م تحدث ديّان في كلية الأركان وقال: "إن ميزان القوى في صفنا إلى حد كبير لدرجة أنه يقضي على تفكير العرب ودوافعهم لتجديد أعمال عدوانية فورية".
ثانيهما: عدم الثقة في قدرة المقاتل العربي على التخطيط وإدارة عمليات ناجحة:
ولعل أكثر ما يؤكد ذلك أنه في يومي 4،5 أكتوبر 1973م أي قبل بدء العمليات الهجومية بساعات محدودة عرف الإسرائيليون أن الأسر السوفييتية يتم ترحيلها جوًّا من القاهرة ودمشق إلى روسيا، ومنهم عدد من المستشارين المدنيين، إلا أنه بوصول تلك المعلومات إلى رئيس الأركان الإسرائيلي، طمأنه مدير المخابرات الإسرائيلية بأن ذلك لا يعني شيئًا غير عادي.
ومع تزايد حجم التحركات للقوات المصرية، انتهت القيادة العسكرية الإسرائيلية - بالتعاون مع جهاز المخابرات الأمريكي - إلى تحليل لتلك المعلومات أفاد "أن توزيع القوات المصرية في الضفة الغربية للقناة يدل على أن المصريين يُعِدُّون أنفسهم لمهام دفاعية فقط"! وحتى صباح السادس من أكتوبر كانت هيئة الأركان الإسرائيلية ترى "أن ذلك اليوم سيمر دون أن يحدث شيء"!!
الخلاصة:
لقد أكدت حرب أكتوبر 1973م دور الجانب المعنوي وأهميته المطلقة في تحقيق النصر في المعارك الحربية، وأن إرادة القتال المرتكزة على هذا العامل يمكن أن تواجه وتنتصر على قوات متفوقة كمًّا وكيفًا.. ولعل دروس التاريخ تؤكد تلك الحقيقية؛ فقد استطاع المقاتل في فيتنام هزيمة أقوى قوة عسكرية في العالم، واستطاع المقاتل في اليابان أن يفرض على الولايات المتحدة استخدام القنبلة الذرية في هيروشيما وناجازاكي؛ لتحسم الحرب لصالحها بعد أن كان النصر مؤكدًا لصالح اليابان.
ولعل ما تم في الجنوب اللبناني وما قامت به المقاومة اللبنانية مؤخرًا ما فرض الانسحاب الإسرائيلي المخزي من جنوب لبنان، كما أن دور المقاومة الفلسطينية وانتفاضتها كانت الدافع الرئيس لاعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية وسعيها لعقد اتفاق معها.
وعلى ذكرى حرب أكتوبر 1973م فلنا أن نرصد عوامل القصور في استعداد القوات المسلحة الإسرائيلية بكل ما لديها من أسلحة تقليدية وفوق تقليدية ونووية والتي أدت إلى هزيمتها، إنما يرجع إلى العديد من العوامل لعل أهمها:
أولاً: عدم التقدير السليم بكفاءة المخطط الإستراتيجي المصري والسوري على استخدام قوات مسلحة تعاني كل ذلك القصور، سواء في التسليح أو الكفاءة الفنية (كفاءة السلاح)، خاصة بعد قطع مصر لعلاقاتها مع الاتحاد السوفييتي المورد الرئيسي للسلاح والذخائر لها.
ثانيًا: عدم الثقة في قدرة القوات المسلحة المصرية والسورية على تخطي المصاعب والعراقيل التي تعترض القوات المهاجمة من موانع طبيعية أو صناعية أو تحصينات ميدانية، أو وسائل إنذار وأجهزة نقل المعلومات سواء من عناصر إلكترونية أو أقمار صناعية.
ثالثًا: عدم تصور إمكان تنسيق بين دولتين عربيتين لاستخدام قواتهما المسلحة في تخطيط مشترك ناجح للهجوم على إسرائيل من جبهتين في وقت واحد.
رابعًا: عدم تصور إمكان تحقيق تضامن عربي فعَّال يمكن أن يحشد كل الطاقات العربية وراء القوات المسلحة المصرية والسورية سواء منها الاقتصادية والتي تمثلت في استخدام البترول كسلاح في المعركة، أو تقديم كل الدعم العسكري اللازم من معظم الدول العربية لصالح المعركة، وذلك باعتبار أن العقيدة الإسرائيلية كانت تراهن دائمًا على تفكيك وتجزئة الأمة العربية من ناحية، وعدم قدرة العرب على تجميع قدراتهم الحقيقية من ناحية أخرى.
تلك كانت أهم العوامل التي استغلتها القيادة السياسية والعسكرية ببراعة تامة من خلال إعداد معنوي مخطط ومتقن ومدروس مهد الطريق لنصر أكتوبر العظيم.
العامل المعنوي في موازين القوى بين طرفي الصراع
لواء دكتور/ عماد السعدي
يأتي العامل المعنوي للمقاتلين قادة وضباط وصف وجنود في مقدمة العوامل التي تقاس بها موازين القوى للدول المتصارعة. ويقصد بذلك الجانب عمق الإيمان بالله تعالى، وبعدالة القضية التي يُحارب من أجلها، والثقة بالقيادات والأسلحة، مع التفاني في التدريب على إتقان كلٍّ لدوره في المعركة للدرجة التي يصل فيها إلى قناعة تامة بأنه إما تحقيق النصر وتدمير وهزيمة العدو وإما الاستشهاد دون ذلك، من خلال إدراك ويقين أن الشهادة في الحرب هي الطريق إلى جنة الخلد فداءً للشرف والعرض والدولة والأمة.
[URL="http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/qpolitic-oct-2000/gif/pic4.jpg"][/URL]
ويطلق العسكريون على هذا العامل "الكفاءة القتالية"، وتعني كفاءة استغلال ما يملكونه من قدرات تسليحية والتخطيط الإستراتيجي المتميز لاستخدامها، ثم إتقان التدريب على كافة المستويات "قادة وضباط وصف وجنود" وعلى مختلف أسلحة وإدارات وأفرع القوات المسلحة، مع المعرفة الدقيقة لنقاط القوة ونقاط الضعف في العدو، وتكليف القوات المسلحة بمهام قتالية في حدود قدراتهم وما يمتلكونه من أسلحة ومعدات قتالية؛ ليتحقق بذلك شعار هام رفعته قواتنا المسلحة في حرب أكتوبر 1973م.. وهو "النصر أو الشهادة"، ويعني التفاني والتميز والإصرار على هزيمة العدو وتدمير أسلحته ومعداته واستعادة الأرض المغتصبة عام 1967م، وتحريرها والإصرار على تحقيق ذلك الهدف حتى لو أدى إلى نيل شرف الاستشهاد على طريق تحقيقه!!
ولقد كان المستوى الرفيع للكفاءة القتالية للمقاتل المصري، والتخطيط الأمثل لإعداده وبنائه معنويًّا وقتاليًّا، كان الطريق إلى النصر في أكتوبر 1973م، حيث اعتبرت تطبيقًا أمينًا ودقيقًا لقول الحق سبحانه وتعالى:
]وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ..[ صدق الله العظيم
فكانت المفاجأة الإستراتيجية التي تحققت بالاستخدام الأمثل لقوات مسلحة تمتلك أسلحة دفاعية وتفتقر لعناصر التفوق الرئيسية في العمليات الهجومية؛ سواء في القوات الجوية أو الأسلحة المدرعة أو عناصر الحرب الإلكترونية أو آلية القيادة والسيطرة.
إلى جانب عبقرية المخطط والقائد والإنسان والمقاتل المصري الذي تغلب على كافة التحديات والمصاعب والعراقيل التي اعترضت طريق هجومه ببذل كل ما استطاع من جهد لتجاوزها والتغلب عليها، مع تكليف القوات المسلحة بمهمة في حدود ما هو متوفر لها من قدرات وإمكانيات.. فتحقق النصر.. وَعْد الحق سبحانه وتعالى.
تابع في نفس المقال:
العامل المعنوي في القوة المصرية
العامل المعنوي في القوة الإسرائيلية
[URL="http://www.tishreen.info/images%5Cth10-05-06/lo004.jpg"][/URL]
أولاً: العامل المعنوي في القوة المصرية
لإلقاء المزيد من الضوء على الدور المعنوي وانعكاساته على أداء القوات المسلحة المصرية، فإن الأمر يتطلب التعرف بعمق على موازين القوى لطرفي الصراع أثناء الحرب. ولتعدد العناصر التي تشملها قياسات موازين القوى الإستراتيجية.. فإننا سنكتفي بالتركيز على الجانب العسكري منها، وذلك بعرض لأبرز عنصرين هما: موقف تسلح وقدرات القوات المسلحة المصرية، والتحديات والعقبات التي واجهت المخطط الإستراتيجي المصري وكيف أمكنه التغلب عليها؟
1 - موقف تسليح وقدرات القوات المسلحة المصرية:
وفي مجال الحديث عن إعادة بناء القوات المصرية التي فقدت معظم أسلحتها ومعداتها في نكسة عام 1967م، يمكن القول إن مجال تنمية قدراتها وإعادة تسليحها قد تأثر بصراع العملاقين في ذلك الوقت، فالولايات المتحدة قد دعمت علاقاتها بإسرائيل، باعتبارها وسيلتها لإيقاف المد السوفييتي في الشرق الأوسط، وعلى ذلك فقد حافظت على ميزان القوى العسكري لصالح إسرائيل تأمينًا لمصالحها في المنطقة العربية، وخاصة بعد النجاح السياسي والعسكري الذي حققته القوات المسلحة الإسرائيلية في عملياتها عام 1967م، حيث ازدادت علاقة التعاون بينهما بشكل عام وفي مجال تنمية التسليح والصناعات الحربية الإسرائيلية بشكل خاص.
وعلى الجانب الآخر تذبذبت علاقات التعاون بين مصر والاتحاد السوفييتي المصدر الوحيد للإمداد بالسلاح والمعدات والذخائر للقوات المصرية، بين التقارب والفتور، خاصة بعد تقييم السوفييت لأداء الجيش المصري الذي هُزم للمرة الثانية، بما يعني هزيمة السلاح السوفييتي في مواجهة السلاح الأمريكي.
هذا ويحسب للاتحاد السوفييتي مبادرته لسرعة إمداد مصر بالأسلحة والمعدات، حيث وصل إلى مصر في 9 يونيو 1967م وفد عسكري سوفييتي على مستوى رفيع لسرعة تلبية مطالب مصر العاجلة من السلاح والمساعدة في استقبال المعدات والأسلحة السوفييتية في المواني البحرية والجوية وتوزيعها على وحدات القوات المسلحة المصرية، والتي بدأت عملية إعادة تجميعها وتنظيمها وإنشاء خط الدفاع الأول لها غرب قناة السويس، وتلاحق وصول أعداد كبيرة من الخبراء السوفييت في إطار اتفاق مع القيادة المصرية بتولي السوفييت إعادة تسليح القوات المصرية والاشتراك في تدريبها رفعًا لكفاءتها القتالية.
وفي أول أغسطس 1967م بدأت القيادة العامة المصرية أولى خطوات إعادة تنظيم القوات المسلحة وفقًا لخطة طموحة يتحول فيها إلى جيش عصري حديث يمتلك أحدث الأسلحة والمعدات التي تمكنه من إدارة عملية هجومية إستراتيجية ضد إسرائيل، وقد اصطدمت الخطة الطموحة لتسليح القوات المسلحة المصرية بالسياسة السوفييتية التي ارتكزت على عدم توفير قدرات تسليحية هجومية للجيش المصري، والاكتفاء بإمداده بقدر محدود من التسليح الذي يوفر له الحد الأدنى للدفاع عن الأراضي المصرية، مع عدم السماح له بتوفير الكم والكيف اللازمين لتحقيق التوازن مع القوات المسلحة الإسرائيلية، وذلك حتى لا تفكر القيادة السياسية والعسكرية المصرية في التخطيط لإدارة عمليات هجومية ضد إسرائيل، وقد كانت تلك السياسة مثار خلاف دائم بين الرئيس "جمال عبد الناصر" من ناحية وبين القادة السوفييت من ناحية أخرى.
وفي الثامن من مارس 1969م بدأت مصر حرب الاستنزاف ضد إسرائيل، ومع استمرار الخسائر البشرية الإسرائيلية خلالها، وفي يناير 1970م وصلت هذه الحرب إلى نقطة تحول رئيسية، حيث قامت إسرائيل بتوسيع نطاقها بتنظيم سلسلة من الغارات الجوية ضد العمق المصري، وقام سلاحها الجوي في يناير وفبراير 1970م بعدة هجمات جوية ضد أهداف مدنية في حلوان وأبي زعبل، ثم كانت كارثة مدرسة بحر البقر الذي نتج عنها قتل وإصابة أكثر من خمسين تلميذًا، الأمر الذي أثبت أن إمدادات السلاح السوفييتية لمصر لم تحقق الحد الأدنى لتوفير الدفاع عنها. وتوالت المطالبة والإلحاح من الرئيس عبد الناصر للتخلي عن السياسة السوفييتية وتوفير أسلحة وقدرات دفاعية وهجومية للقوات المصرية، دون أية استجابة من السوفييت. واستمر الوضع كذلك حتى وفاة الرئيس عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970م.
وتولى الرئيس "محمد أنور السادات" حكم مصر، ومع استمرار الوعود السوفييتية باستكمال تسليح القوات المصرية مع المماطلة في تنفيذها، بدأت تتجه العلاقات السوفييتية - المصرية نحو التردي المتزايد، خاصة مع الرفض الصريح لإمداد مصر بأسلحة هجومية، الأمر الذي أدى إلى إصدار الرئيس السادات لقراره في 7 يوليو 1972م بإنهاء مهمة كافة المستشارين السوفييت في مصر.
وهكذا ترك الاتحاد السوفييتي مصر، ولا يوجد لقواتها أي تفوق أو تعادل ليس فقط كمِّي بل أيضًا نوعي مع القوات الإسرائيلية، خاصة في أبرز عناصرها، والتي ينبني على أساسها التخطيط للعمليات الهجومية.
فكيف أمكن اتخاذ قرار لاستخدام قوات مسلحة تفتقر كل عناصر التعادل أو التوازن التسليحي تكلف بمهمة هجومية ضد عدو لديه كل إمكانيات وقدرات التفوق الكمي والنوعي إضافة لامتلاكه رادعًا نوويًّا مع عمق تعاون الإستراتيجي مع أكبر قوة مسلحة في العالم هي الولايات المتحدة الأمريكية؟؟ ذلك هو الدور المعنوي الذي حقق التعادل والتوازن المفقود وانتهى بالنصر في حرب أكتوبر 1973!!
2 - التحديات والعقبات التي واجهت التخطيط المصري:
لقد كانت التحديات كبيرة والعقبات التي تعترض طريق هجوم القوات المصرية عظيمة، إضافة إلى الخلل الحاد في ميزان القوى لصالح إسرائيل والذي نذكر منه:
أولاً: التفوق التكنولوجي الذي لا يقارن في مجال التسليح بين مصر وإسرائيل.
ثانيًا: التفوق الذي لا يقارن بين القوات الجوية في كل من مصر وإسرائيل للدرجة التي أعلنت فيها إسرائيل أنها تمتلك أقوى سلاح جوي في العالم.
ثانيًا: وسائل الاستطلاع وعلى رأسها الأقمار الصناعية الأمريكية التي كانت ترصد أدق التفاصيل عن القوات المصرية في جبهة القتال والعمق المصري.
رابعًا: امتلاك إسرائيل لجهاز مخابرات ينسق كل المعلومات مع جهاز المخابرات الأمريكية لتحليل كل صغيرة وكبيرة عن القوات المصرية.
خامسًا: التأييد الدولي المطلق لإسرائيل و"حقها" في تأمين نفسها وحدودها حتى ولو بالاحتلال أراضي الآخرين.
هذا إضافة إلى استغلال وتحويل قناة السويس إلى مانع مائي يستحيل عبوره، وإقامة ساتر ترابي موازٍ للضفة الشرقية وصل ارتفاعه إلى حوالي 15 متر، مع إقامة 43 نقطة حصينة شرق القناة فيما عُرف بخط بارليف الحصين وما خلفه!!
من هنا تجلت عبقرية المخطط والإنسان المصري في التغلب على هذه التحديات والعقبات والعراقيل، حيث خُططت الضربة المركزة بكل الإمكانيات والقدرات المتاحة للقوات الجوية لتنفذ بقوة 227 طائرة مقاتلة لتدمير مطارات العدو في عمق سيناء ومواقع الصواريخ وعشرات من المدفعيات والرادارات ومراكز التوجيه والإنذار الإسرائيلية، إلى جانب تدمير محطات ومراكز الإعاقة والشوشرة الرئيسية والمناطق الإدارية في عمق سيناء.
وقد تزامن مع تلك الضربة الجوية المركزة وأعقبها خطوة محكمة لاستخدام المدفعية المصرية لتنفيذ أقوى تمهيد نيراني وصل إلى عشرة آلاف وخمسمائة دانة مدفعية بمعدل 175 دانة كل ثانية؛ لتدمير مصادر النيران الإسرائيلية قبل بدء عبور القوات المصرية.
وكانت مدافع المياه هي الوسيلة التي ابتكرتها العقول المصرية، واعتمدت على تجريف المياه بواسطة مضخات مياه قوية لإمكان فتح 85 ممرًّا في الساتر الترابي في الضفة الشرقية بما قدر حجم الأتربة المزاحة من كل ممر بحوالي 1500 متر مكعب.
ثم كانت سلالم الحبال التي تحمل بواسطة أحد الأفراد ليتسلق بها الساتر الترابي، ثم يُعدَّها ليتسلق عليها زملاؤه… كانت تلك السلالم هي الوسيلة التي تمكنت بها مجموعات الاقتحام بأسلحتهم وذخائرهم من التغلب على أحد أعقد العراقيل التي واجهت المخطط المصري، ثم كان التخطيط لعبور مجموعات من الصاعقة المصرية إلى الضفة الشرقية قبل بدء الهجوم الرئيسي في مهمة استشهادية؛ لقفل مواسير النيران بالأسمنت لتفادي إشعال العدو لسطح القناة.. هذا إلى جانب بناء حائط الصواريخ المصري الذي حرم طائرات القتال الإسرائيلية من الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15 كيلو مترًا، مما هيَّأ عبورًا ناجحًا للقوات المصرية المهاجمة.. ثم كان دور القوات البحرية المصرية التي قفلت "باب المندب"؛ لتضيف بُعدًا جديدًا إلى عبقرية الإنسان المصري.
هذا إضافة إلى المعجزة المصرية في إعداد وتجهيز مسرح العمليات للقوات المصرية في ظل التدخل الإيجابي العسكري الإسرائيلي المباشر بقواته الجوية ومدفعياته التي ركَّزها لمنع استكمال ذلك الإعداد، والتي يكفي القوال إن حجم الإعداد الهندسي فقط لأفرع القوات المسلحة المصرية وصل إلى ما يعادل أربعة أمثال حجم الهرم الأكبر.
تلك بعض من كثير مما واجه المخطط المصري من مصاعب ومشاكل لاقتحام قناة السويس وتدمير خط "بارليف" والتي قدر المحللون العسكريون بأنها ستكلف القوات المصرية عند محاولة تجازوها حدًّا يصل إلى ما بين 75 إلى 100 ألف قتيل وجريح إضافة إلى تدمير حوالي 40 إلى 50% من حجم المعدات ووسائل القتال المصرية!!
وعلى ذلك فإن الروح المعنوية العالية وإرادة القتال الصعبة وعزيمة الإنسان المصري إلى جانب التنسيق الناجح مع القوة المسلحة السورية، ومواجهة العدو الإسرائيلي – لأول مرة - في توقيت واحد بهجوم على جبهتين، إلى جانب تضامن عربي فعَّال، وفي إطار خطة خداع إستراتيجية اشتركت فيها كافة أجهزة الدولة في مصر.. تلك كانت المفاجأة الحقيقية لكل من رأى ولم يصدق، حيث كانت كافة الاستعدادات تُجرى في ظل رصد دقيق لكل تحرك عسكري على الجبهتين المصرية والسورية.. إضافة إلى تحديد هدف إستراتيجي مناسب مع القدرات والإمكانيات التسليحية والفنية والقتالية المتاحة للقوة المسلحة المصرية.
تلك المفاجأة التي حققتها القوات المسلحة المصرية والتي أدت إلى أن وصلت خسائرها في عملية اقتحام قناة السويس وتدميرها لتحصينات خط بارليف وصلت إلى 64 شهيدًا ، 420 جريحًا فقط، مع إصابة 17 دبابة وتعطيل 26 عربة مدرعة، وإصابة 11 طائرة قتال".
وعلى الجانب الآخر قدرت خسائر إسرائيل بنهاية العمليات بنحو "2838 قتيل" 2800 جريح، 508 أسير ومفقود، 840 دبابة، و400 عربة مدرعة، 109 طائرة قتال وهليوكوبتر وسفينة حربية واحدة".
مما أجمع معه قادة جيوش العالم بأن القوة المسلحة المصرية في حرب أكتوبر 1973م قد نجحت في "قهر المستحيل" بهزيمتها للجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر!!
ثانيًا: العامل المعنوي في القوة الإسرائيلية
قبل بداية العمليات بأيام قليلة كان يمكن مشاهدة القوات المصرية والتي لا يفصلها عن القوات الإسرائيلية سوى قناة السويس بعرض حتى 180 مترًا فقط. كان يمكن مشاهدة القوات المصرية وهي قائمة بإعداد زوارق العبور وتجهيز الفتاحات على الجسور وساحات العبور على امتداد قناة السويس. قوات مسلحة بكامل أسلحتها ومعداتها على الجبهة المصرية وقوات مسلحة بكامل أسلحتها ومعداتها على الجبهة السورية، تتخذ أوضاعها لاستكمال خطة الفتح الإستراتيجي لبدء الحرب إلى جانب مظاهر أخرى كثيرة ومتعددة.
إلا أن سلوك القوات الإسرائيلية في الساعات الأولى من الهجوم كان دليلاً عمليًّا على أنه أخذته المفاجأة التامة. وقد تضاربت أقوال العدو وأدلته وشهادات قادته بعد ذلك حول هذه النقطة تضاربًا شديدًا، ففي مرحلة ساد القول "بأنهم رأوا ولكنهم لم يفهموا"! وفي رأي آخر ساد القول "بأنهم رأوا وفهموا ولكنهم لم يصدقوا". وكأن ذلك يُصَدِّق قول الله تعالى:]وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُون[ صدق الله العظيم.
إن الحقيقية المؤكدة وراء ذلك التصور يرجع أيضًا إلى الدور المعنوي الذي تغلغل في عقول ووجدان ونفوس المقاتل الإسرائيلي سواء القادة أو الضباط وضباط الصف والجنود، وهو السبب الرئيسي وراء الهزيمة الساحقة في حرب أكتوبر 1973م رغم امتلاكهم كل عناصر التفوق في معادلة موازين القوى ليس فقط بينهم وبين القوة المسلحة لكل من مصر وسوريا، بل للقوات المسلحة العربية على إطلاقها.. ويمكن الحديث هنا عن عاملين رئيسين:
أولهما: الثقة الزائدة في النفس التي وصلت إلى حد الغرور:
فقد انتشرت وسادت وتأكدت مقولة "الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر"، حيث قال موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي في ديسمبر عام 1969م: "لن تنال عمليات العبور المصرية – إن حدثت - من قبضة إسرائيل المحكمة على خط بارليف؛ لأن الاستحكامات الإسرائيلية على الخط أشد منعة وأكثر تنظيمًا.. ويمكن القول بأنه خط منيع يستحيل اختراقه، وإننا الأقوياء إلى حد نستطيع معه الاحتفاظ به إلى الأبد".
وفي مناسبة أخرى قال: "إن خطوطنا المنيعة أصبحت الصخرة التي سوف تتحطم عليها عظام المصريين، وإذا حاولت مصر عبور القناة فسوف تتم إبادة ما بقي من قواتها".
وقال رئيس الأركان دافيد إليعازر: "إن خط بارليف سيكون مقبرة للجيش المصري". وفي 10 أغسطس 1973م تحدث ديّان في كلية الأركان وقال: "إن ميزان القوى في صفنا إلى حد كبير لدرجة أنه يقضي على تفكير العرب ودوافعهم لتجديد أعمال عدوانية فورية".
ثانيهما: عدم الثقة في قدرة المقاتل العربي على التخطيط وإدارة عمليات ناجحة:
ولعل أكثر ما يؤكد ذلك أنه في يومي 4،5 أكتوبر 1973م أي قبل بدء العمليات الهجومية بساعات محدودة عرف الإسرائيليون أن الأسر السوفييتية يتم ترحيلها جوًّا من القاهرة ودمشق إلى روسيا، ومنهم عدد من المستشارين المدنيين، إلا أنه بوصول تلك المعلومات إلى رئيس الأركان الإسرائيلي، طمأنه مدير المخابرات الإسرائيلية بأن ذلك لا يعني شيئًا غير عادي.
ومع تزايد حجم التحركات للقوات المصرية، انتهت القيادة العسكرية الإسرائيلية - بالتعاون مع جهاز المخابرات الأمريكي - إلى تحليل لتلك المعلومات أفاد "أن توزيع القوات المصرية في الضفة الغربية للقناة يدل على أن المصريين يُعِدُّون أنفسهم لمهام دفاعية فقط"! وحتى صباح السادس من أكتوبر كانت هيئة الأركان الإسرائيلية ترى "أن ذلك اليوم سيمر دون أن يحدث شيء"!!
الخلاصة:
لقد أكدت حرب أكتوبر 1973م دور الجانب المعنوي وأهميته المطلقة في تحقيق النصر في المعارك الحربية، وأن إرادة القتال المرتكزة على هذا العامل يمكن أن تواجه وتنتصر على قوات متفوقة كمًّا وكيفًا.. ولعل دروس التاريخ تؤكد تلك الحقيقية؛ فقد استطاع المقاتل في فيتنام هزيمة أقوى قوة عسكرية في العالم، واستطاع المقاتل في اليابان أن يفرض على الولايات المتحدة استخدام القنبلة الذرية في هيروشيما وناجازاكي؛ لتحسم الحرب لصالحها بعد أن كان النصر مؤكدًا لصالح اليابان.
ولعل ما تم في الجنوب اللبناني وما قامت به المقاومة اللبنانية مؤخرًا ما فرض الانسحاب الإسرائيلي المخزي من جنوب لبنان، كما أن دور المقاومة الفلسطينية وانتفاضتها كانت الدافع الرئيس لاعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية وسعيها لعقد اتفاق معها.
وعلى ذكرى حرب أكتوبر 1973م فلنا أن نرصد عوامل القصور في استعداد القوات المسلحة الإسرائيلية بكل ما لديها من أسلحة تقليدية وفوق تقليدية ونووية والتي أدت إلى هزيمتها، إنما يرجع إلى العديد من العوامل لعل أهمها:
أولاً: عدم التقدير السليم بكفاءة المخطط الإستراتيجي المصري والسوري على استخدام قوات مسلحة تعاني كل ذلك القصور، سواء في التسليح أو الكفاءة الفنية (كفاءة السلاح)، خاصة بعد قطع مصر لعلاقاتها مع الاتحاد السوفييتي المورد الرئيسي للسلاح والذخائر لها.
ثانيًا: عدم الثقة في قدرة القوات المسلحة المصرية والسورية على تخطي المصاعب والعراقيل التي تعترض القوات المهاجمة من موانع طبيعية أو صناعية أو تحصينات ميدانية، أو وسائل إنذار وأجهزة نقل المعلومات سواء من عناصر إلكترونية أو أقمار صناعية.
ثالثًا: عدم تصور إمكان تنسيق بين دولتين عربيتين لاستخدام قواتهما المسلحة في تخطيط مشترك ناجح للهجوم على إسرائيل من جبهتين في وقت واحد.
رابعًا: عدم تصور إمكان تحقيق تضامن عربي فعَّال يمكن أن يحشد كل الطاقات العربية وراء القوات المسلحة المصرية والسورية سواء منها الاقتصادية والتي تمثلت في استخدام البترول كسلاح في المعركة، أو تقديم كل الدعم العسكري اللازم من معظم الدول العربية لصالح المعركة، وذلك باعتبار أن العقيدة الإسرائيلية كانت تراهن دائمًا على تفكيك وتجزئة الأمة العربية من ناحية، وعدم قدرة العرب على تجميع قدراتهم الحقيقية من ناحية أخرى.
تلك كانت أهم العوامل التي استغلتها القيادة السياسية والعسكرية ببراعة تامة من خلال إعداد معنوي مخطط ومتقن ومدروس مهد الطريق لنصر أكتوبر العظيم.