كلمتُ جنّياً
الدكتور عثمان قدري مكانسي
الدكتور عثمان قدري مكانسي
ما أجمل الربيع ! .. صباحه ومساءه ، وأصيله وليله كذلك .
من عادتي أن أصلي الظهر بعد إنهاء التدريب اليومي لسريتي ، ثم أستلقي على سريري، فلا تمضي لحظات حتى أستغرق في سبات عميق ... أفيق منه بعد العصر وقد غسلت عني التعب وعدت نشيطاً، فأصلي ثم ألبس ثيابي الرياضية ، وأنطلق إلى ملعب كرة الطائرة ، فأنضم إلى أحد فريقيها ، وغالباً ما أعود خاسراً ، فهذا حظي من اللعب .
ويبدأ قرص الشمس بالاحمرار وهو يودّع الهضاب والوديان ، وينحني رويداً رويداً حتى يغيب بتواضع جمٍّ وراء التلال. وعند ذلك يخاطبك القمر بأدب لطيف : أتريد أن تسهر معي؟ فتجيبه : نعم ، حبذا صاحب أنس أنت ... فيرسل ضحكات فضية ترتسم على أديم الأرض وتكسب الوجود هيبة وجلالاً ، ومن ثَمَّ ترى أشباح الجنود طفيفة ، وتسمعهم يتنادَون لقضاء سهراتهم في بعض الخيام ...
وأجلس على دَكّة أمام خيمتي أحتسي الشاي ، أو أتناول العشاء ، ثم أقرأ بعض القصائد للبوصيري أو البُرَعي رحمهما الله أو للأعظمي العراقي الذي أعرفه ، فقد توفي رحمه الله تعالى منذ سنوات قليلة- مترنماً بها ، أعيدها مرات بأنغام متنوّعة .. ولا أخفي عنك أنني مولع بالموسيقا الحلال مشفوعة بهدوء الليل وأنسامه المائسة .
ورنّ جرس الهاتف اليدويّ ، فرفع سمير سمّاعته – وسمير جندي دمث الأخلاق ، لطيف المعشر ، يلازمني دائماً – ثم نظر إليّ ، وقال :
- سيدي : الملازم (محمد الأصفر) يود الحضور إن أذنت له .
- أهلاً به ومرحباً،هو أستاذنا وأخونا وحبيبُنا .
ولم تمض لحظات حتى رأيت ضوءاً ينوس من بعيد ، يزداد وضوحاً مع اقترابه . وعلى مدخل السرية : قف . من أنت؟ أطفئ النور .. تقدم قليلاً .. كلمة السر ... أهلاً بالملازم محمد .
لم يكن وحده ، إنما كان معه ضيف لم أره من قبل .. عرفني بنفسه : الملازم حسان .. رحبت بهما أجمل ترحيب ، فقد كان الملازم محمد عزيزاً عليّ قريباً إلى نفسي ، يشع وجهه نوراً وتتألق عيناه نُبلاً ، ولا تفارق البسمة ثغره ، متّزناً ، فإذا تكلّم أفاد علماً وأرسل حِكَماً .. ولست مبالغاً في وصفه ... وأظنك تلومني على تقصيري في مدحه – لو عرفتَه .
وما إن جلسنا قليلاً حتى حان وقت صلاة العشاء ، فصليت بهما إماماً، وقرأت سورة الجن .
قال صاحبي محمد بعد الانتهاء من الصلاة : سورة الجن هذه ذكّرّتْني بقصة لا أنساها ما حييت .. ولم ينتظر تعليقاً ، فقد قال : هل رأيتما جنّياً من قبل ؟..
قلنا : لا .
قال : ألم تكلما واحداً من الجن من وراء ستار ؟
أجبنا : بالتأكيد لا .... وهل يعقل ذلك ؟! ..
قال بهدوء كعادته : أما أنا فلم أر جنّيـّاً ، لكنني كلمتُه ، بل تجاذبت معه أطراف الحديث ، بل تحادثنا طويلاً ، وسألته عن أشياء ، فأجابني ، واستفسرته عن أمور ، فوضّحها ، واختبرته في مقدرته الخارقة ، فأثبت جدارة ..
قلنا : لقد شوّقتنا ، فهات القصة من بدايتها ...
قال : مَن منكما لا يعرف مؤسسة " الرسالة " البيروتية اللبنانية للطباعة والنشر ؟
قلت : ما من مثقف لم يقرأ كتاباً أصدرَتْه .. فقد طبعت عشرات الآلاف منها .
قال : عملت فيها سنوات عديدة ... عملي الوحيد أن أطّلع على ما ألفه الكتّاب ، فإذا وافقت مؤلفاتُهم الدار فكراً وأخلاقاً ومضموناً طبعناها وإلا اعتذرنا إليهم .
قال حسان : وما علاقة عملك بالقصة ؟
قال : من هنا نبدأ :
كنت وزميلان لي في العمل نتحدث عن الملائكة والجن والمخلوقات اللطيفة ، ولا نصدق أن الإنسان يمكنه أن يتحدّث إليها ، ففاجأنا أحدهما قائلاً : ما تقولان في أن أجمعكما بواحد من الجن ؟.
قلنا مستغربَين : نظنك مازحاً!.
قال : بل أقول الحقيقة .
قلنا وكيف ؟!.
قال : لي أخت عمُرُها لا يتعدى ست عشرة سنة ، أصيبت منذ شهرين بانفصام الشخصية ... تكون هادئة فإذا بها تنقلب ثائرة . وثقافتها بسيطة ، فقد حازت الشهادة الابتدائية فقط ، إلا أنها تتكلم – أحياناً – كلام العلماء ... صوتها ناعم . لكنه فجأة ينقلب صوت رجل ...
عرضناها على الأطباء فلا عرفوا لها داء ، ولا وصفوا لها دواءً ...
أخذناها مؤخراً إلى شيخ يتعاطى قراءة الرقى ، ويقرأ للمرضى ... فأخبرنا أن أحد الجن تلبّسهـا . فدُهشنا ، فأكد لنا هذه الحقيقة ...
قال الملازم محمد لم نصدّقْ ما يقوله زميلُنا، ورحنا نهزأ بهذا الحديث ونتهكم به ، ونقول : أضغاث أحلام . اترك لنا عقولنا سليمة يا هذا ، ولا تحدثْ به أحداً فيضحكَ منك .
قال : والله ، إنها لحقيقة ، ولن أدعكما متأرجحَين بين التصديق والتكذيب ... وسأحسم الأمر إن شاء الله ... أنا أدعوكما اتناول الغداء عندنا غداً ، وستجتمعان بأختي ، وتأتيكما بالخبر اليقين ... وإذ ذاك تُقرّان بالحقيقة ..
قال محمد : وانطلقنا في اليوم التالي إلى بيت أحمد ... وتناولنا الغداء ، وبعد شرب القهوة لم أتمالك نفسي أن قلت : أين أختك يا أحمد ؟.. ألا تدخل علينا فنسمعَ منها ونكلمها ؟!...
قال : لم أنسَ ذلك ...
وخرج من الغرفة يدعوها ، ولم تمض دقائق حتى دخل ، ودخلت وراءه فتاة متحجبة ، لا يظهر منها إلا وجهها وكفّاها ..... سلّمتْ ، ثم جلست ورحّبتْ بنا ... كان كلامها طبيعيّاً وصوتها رقيقاً .. نظرت إلى أحمد نظرة ذات معنى ، وكذلك نظر إليه صديقنا الآخر ... ففطن إلى ما نقصد ، وحسم الموقف بقوله : كيف حالك يا شيخ محمود ؟..
تغير وجه الفتاة ، فاحمرّ قليلاً ، وبدت ملامحه قاسية ... وإذا صوتٌ ذو لهجة سعودية خشنة من داخلها : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....
لم أدر ما حلّ بصاحبي لأنني شغلت بنفسي ، فقد زادت دقات قلبي عنفاً، حتى كدت أسمعها ، وشُدِهت ، ووقف شعر رأسي ، واصطكت ركبتاي ، فلم أعد أستطيع الحركة . ولم أستطع بادئ الأمر أن أجيب ... وعلمت بعد ذلك أن صاحبي حاول الهرب فخانته رجلاه وسقط على الأرض ...
لملمْتُ نفسي بعد لأي ، ورددت بصوت متهدج :
وعليـ...كم .. الـ..س.. لا..م .. ورحححـ مة .. اللله .. وبررر كااااته ..
وأدرك صاحب الصوت ما حلّ بنا ،فقال مؤانساً: أنت (محمد الاصفر)ـ.. تعمل في مؤسسة الرسالة .. تسكن في ... وزوجتك اسمها ... ولك ولدان اسماهما ... وكأن بطاقة أسرتي كانت معه يقرأ منها .
ثم فعل بصاحبي الذي يعمل معي منذ أكثر من أربع سنوات ما فعله معي ، فذكر عنه معلومات لم أكن أعرف منها إلا القليل ، فازداد عجبنا .
بدأت نفسانا تهدءان قليلاً قليلاً ،.. سألته بعدها : كيف عرفت هذه الأمور عنا ؟
قال : أعرف أكثر منها بكثير ، إن شئتَ زدتُ ؟
قلت : لا ..ولكن أسألك أسئلة تجيبني عنها بصراحة ووضوح .
قال : على الرحب والسعة . .. ثم إنني مسلم مثلكم .
قلنا : مسلم ؟!.
قال : نعم ، واسمي كما سمعتموه من قبل : الشيخ محمود .
قلت : لهجتك كما تبدو سعودية .
قال : أجل ، فأنا من جنِّ السعودية فعلاً.
قلت : ومن علمك أمور دينك؟.
فزفر زفرة فيها حسرة مكبوتة ثم قال :
اسمع يا أخي محمد ، هل تعرف الشيخ " سعيد الطنطاوي "؟
قلت : كيف لا ، وهو أخو الكاتب الكبير " علي الطنطاوي " ! ثم إنَّ أخاه عبد الغني أول من نال الدكتوراة في الرياضيات من العرب الشرقيين في السوربون ؟ وهو يدرسها الآن في جامعة الرياض .
قال : نعم هو ما قلتَ ، ولكن الشيخ سعيداً يدَرّس أيضاً الفقه والحديث في أحد مساجد الرياض .. وقد كنت ألازم حلقته إلى أن سُجنتُ في جسم هذه الفتاة .. رحم الله تلك الأيام .. أصبحت الآن ذكريات أشتاقها ، وأحن إليها .. كنت أستمع إلى دروسه ،وأرى من مكاني المسجد الحرام ، وأصلي أوقاتي كلها فيه .
قلت : وكيف ذلك ؟
قال : هذا أمر هيّن علينا معشر الجن .
قلت : أراك تتحسر. وذكرتَ أنك سجين في جسم الفتاة ، فهل يعني هذا أنك مجبر على دخول جسمها ؟... ولماذا؟..
قال : كما أن الإنس إذا أخطأ بعضهم عوقب بدخول السجن كذلك الجن إذا أخطأوا عوقبوا فسجنوا ... وقد يكون سجنهم في جسم إنسان .. وليست كل أجساد بني آدم تصلح لسجن الجن .فهناك شروط يجب أن تتوفر في جسم الإنسان .. ولن أذكر هذه الشروط لئلا يتوهّم حاملوها ، فيُصابوا بالجنون من شدة خوفهم . وجسم هذه الفتاة جاهز لعقوبة الجن .
قلت : لماذا كان نصيبك جسم هذه الفتاة لا غيره؟
قال : سؤالك وجيه .. هذه الفتاة مسلمة حيية طيبة . اخترت جسمها إشفاقاً عليها من جنيٍّ مذنب شقي فاسد الأخلاق يُطرح فيها فيذيقها (في سجنه) آلاماً ، ويلعب بأعصابها ، ويخرجها عن طورها .. وربما يؤدي بها إلى الجنون الكامل .
كان صاحبنا الآخر ، واسمه سليم قد هدأ روعه ، وسكنت نفسه ، فسأل الجنيّ : أين يكثر الشياطين ؟ .. وهل هناك فرق بين الجن والشياطين ؟
قال الشيخ محمود :أجل .. هناك فرق كبير بين الجن والشياطين ،
فالجن هم الذين آمنوا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً ، وبالرسول عليه الصلاة والسلام نبياً...
والشياطين هم الكفرة ... وهؤلاء يكثرون في أماكن القذارة والأوساخ . ولهذا يأمركم النبي عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة من الخُبُثِ والخبائث كلما أردتم دخول الخلاء .. فالشياطين يعربدون ويقضون أسعد أوقاتهم في تلك الأماكن . فإذا تعوّذ أحدُكم هربوا كما يهرب اللص من شرطة تلاحقه .. أما الجن فيطربون لذكر الله تعالى .
قال سليم : كنتم تصعدون إلى السماء فتسترقون السمع : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } فلما ولد الرسول عليه الصلاة والسلام مُنعتم بالشهب ، تنقض على المسترق فترديه قتيلاً { فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا } .
قال : نعم ، فلا تخطئه أبداً، إن سهام الله تعالى لا تخيب . إنها صواريخ " جَوْ ـ جَوْ " تقتنص الشياطين اقتناصاً .
وضحكنا، وبدا الانشراح على نفوس الجميع ، وأخذنا في الاندماج، وزال الوجوم والخوف، ثم أردف الشيخ محمود : نستطيع أن نتجوّل بعيداً عن الأرض قليلاً ولكن الويل لمن يتجاوزها كثيراً .
قال أحمد :قرأت في كتاب " الروح " لابن قيم الجوزية رحمه الله أن عيسى عليه السلام يحب " الفول " فكان طعامه المفضل ، وأن الفول طعام الجن أيضاً .
قال الجني : نعم ، في كلامك شيء من الصحة ، إلا أنني أحب الحلوى ، فأنا مغرم بها .
قلت : ما المقدار الذي تتناوله في الوجبة الواحدة ؟.
ضحك الشيخ محمود ، وقال : نحن أجسام نيرانيّة ، لا نأكل كما يأكل الإنسان . لو تصورتم جرة مليئة بالعسل ،حطّت عليها ذبابة ، ثم طارت ، هل تنقص منها شيئاً؟.. هذا ما نأكله .
قال سليم : سبحان الله الذي زوّدكم بقدرات خارقة يعجز عنها البشر . لقد سعدنا بهذا اللقاء ، وكنا نتمنى أن يكون زميلنا عبد الله معنا ليعيش هذه اللحظات الطيبة ، لكنه سافر إلى طرابلس صباحاً .
قال الجني :هل ترغبون أن أخبركم بما يصنع الآن ؟... انتظروا دقائق .
ومرت ثلاث دقائق لُذنا فيها جميعاً بالصمت ,, ثم ظهر صوت الجني جليّاً:
هو جالس الآن مع زوجته وولديه يتناولون طعام الغداء المكون من كذا وكذا .. وهو يلبس ثياب النوم ,, وزوجتُه وولداه ... وذكر لنا أشياء وأشياء ..
قام أحمد إلى الهاتف ، واتصل بعبد الله في طرابلس :
يا عبد الله ، أنتم تتناولون طعام الغداء وهو كذا وكذا ، وأنت تلبس ثياب النوم ... وبدأ يسرد عليه ما قاله الشيخ محمود ..
قال عبد الله : إنه الشيخ محمود الذي فضحنا .. أليس هذا صحيحاً ؟
بات اللقاء مريحاً والحديث مفيداً مسلياً .. ونظرت إلى ساعتي فوجدت الوقت قد مرّ سريعاً ، فقلت : لي سؤال واحد ، ثم أرجو أن تأذن لي بالانصراف أيها الأخ الجني المسلم .
قال : ماهو ؟
قلت : متى تخرج من سجنك هذا ؟.
قال الجنيّ: سيتولّى أحمد – أخو الفتاة – الجواب على سؤالك .
قال أحمد : نعم .. لقد سألت الشيخ القارئ ، فأخبرني أن الشيخ محموداً سيخرج من أسره بعد يومين إن شاء الله .
قال الجنيّ : أرجو ذلك ، ولن أنسى هذه الأسرة الطيبة .. وسأدعو لها بالخير
وأخبرنا أحمد بعد يومين أن أخته قد برئت مما ألمّ بها .
من عادتي أن أصلي الظهر بعد إنهاء التدريب اليومي لسريتي ، ثم أستلقي على سريري، فلا تمضي لحظات حتى أستغرق في سبات عميق ... أفيق منه بعد العصر وقد غسلت عني التعب وعدت نشيطاً، فأصلي ثم ألبس ثيابي الرياضية ، وأنطلق إلى ملعب كرة الطائرة ، فأنضم إلى أحد فريقيها ، وغالباً ما أعود خاسراً ، فهذا حظي من اللعب .
ويبدأ قرص الشمس بالاحمرار وهو يودّع الهضاب والوديان ، وينحني رويداً رويداً حتى يغيب بتواضع جمٍّ وراء التلال. وعند ذلك يخاطبك القمر بأدب لطيف : أتريد أن تسهر معي؟ فتجيبه : نعم ، حبذا صاحب أنس أنت ... فيرسل ضحكات فضية ترتسم على أديم الأرض وتكسب الوجود هيبة وجلالاً ، ومن ثَمَّ ترى أشباح الجنود طفيفة ، وتسمعهم يتنادَون لقضاء سهراتهم في بعض الخيام ...
وأجلس على دَكّة أمام خيمتي أحتسي الشاي ، أو أتناول العشاء ، ثم أقرأ بعض القصائد للبوصيري أو البُرَعي رحمهما الله أو للأعظمي العراقي الذي أعرفه ، فقد توفي رحمه الله تعالى منذ سنوات قليلة- مترنماً بها ، أعيدها مرات بأنغام متنوّعة .. ولا أخفي عنك أنني مولع بالموسيقا الحلال مشفوعة بهدوء الليل وأنسامه المائسة .
ورنّ جرس الهاتف اليدويّ ، فرفع سمير سمّاعته – وسمير جندي دمث الأخلاق ، لطيف المعشر ، يلازمني دائماً – ثم نظر إليّ ، وقال :
- سيدي : الملازم (محمد الأصفر) يود الحضور إن أذنت له .
- أهلاً به ومرحباً،هو أستاذنا وأخونا وحبيبُنا .
ولم تمض لحظات حتى رأيت ضوءاً ينوس من بعيد ، يزداد وضوحاً مع اقترابه . وعلى مدخل السرية : قف . من أنت؟ أطفئ النور .. تقدم قليلاً .. كلمة السر ... أهلاً بالملازم محمد .
لم يكن وحده ، إنما كان معه ضيف لم أره من قبل .. عرفني بنفسه : الملازم حسان .. رحبت بهما أجمل ترحيب ، فقد كان الملازم محمد عزيزاً عليّ قريباً إلى نفسي ، يشع وجهه نوراً وتتألق عيناه نُبلاً ، ولا تفارق البسمة ثغره ، متّزناً ، فإذا تكلّم أفاد علماً وأرسل حِكَماً .. ولست مبالغاً في وصفه ... وأظنك تلومني على تقصيري في مدحه – لو عرفتَه .
وما إن جلسنا قليلاً حتى حان وقت صلاة العشاء ، فصليت بهما إماماً، وقرأت سورة الجن .
قال صاحبي محمد بعد الانتهاء من الصلاة : سورة الجن هذه ذكّرّتْني بقصة لا أنساها ما حييت .. ولم ينتظر تعليقاً ، فقد قال : هل رأيتما جنّياً من قبل ؟..
قلنا : لا .
قال : ألم تكلما واحداً من الجن من وراء ستار ؟
أجبنا : بالتأكيد لا .... وهل يعقل ذلك ؟! ..
قال بهدوء كعادته : أما أنا فلم أر جنّيـّاً ، لكنني كلمتُه ، بل تجاذبت معه أطراف الحديث ، بل تحادثنا طويلاً ، وسألته عن أشياء ، فأجابني ، واستفسرته عن أمور ، فوضّحها ، واختبرته في مقدرته الخارقة ، فأثبت جدارة ..
قلنا : لقد شوّقتنا ، فهات القصة من بدايتها ...
قال : مَن منكما لا يعرف مؤسسة " الرسالة " البيروتية اللبنانية للطباعة والنشر ؟
قلت : ما من مثقف لم يقرأ كتاباً أصدرَتْه .. فقد طبعت عشرات الآلاف منها .
قال : عملت فيها سنوات عديدة ... عملي الوحيد أن أطّلع على ما ألفه الكتّاب ، فإذا وافقت مؤلفاتُهم الدار فكراً وأخلاقاً ومضموناً طبعناها وإلا اعتذرنا إليهم .
قال حسان : وما علاقة عملك بالقصة ؟
قال : من هنا نبدأ :
كنت وزميلان لي في العمل نتحدث عن الملائكة والجن والمخلوقات اللطيفة ، ولا نصدق أن الإنسان يمكنه أن يتحدّث إليها ، ففاجأنا أحدهما قائلاً : ما تقولان في أن أجمعكما بواحد من الجن ؟.
قلنا مستغربَين : نظنك مازحاً!.
قال : بل أقول الحقيقة .
قلنا وكيف ؟!.
قال : لي أخت عمُرُها لا يتعدى ست عشرة سنة ، أصيبت منذ شهرين بانفصام الشخصية ... تكون هادئة فإذا بها تنقلب ثائرة . وثقافتها بسيطة ، فقد حازت الشهادة الابتدائية فقط ، إلا أنها تتكلم – أحياناً – كلام العلماء ... صوتها ناعم . لكنه فجأة ينقلب صوت رجل ...
عرضناها على الأطباء فلا عرفوا لها داء ، ولا وصفوا لها دواءً ...
أخذناها مؤخراً إلى شيخ يتعاطى قراءة الرقى ، ويقرأ للمرضى ... فأخبرنا أن أحد الجن تلبّسهـا . فدُهشنا ، فأكد لنا هذه الحقيقة ...
قال الملازم محمد لم نصدّقْ ما يقوله زميلُنا، ورحنا نهزأ بهذا الحديث ونتهكم به ، ونقول : أضغاث أحلام . اترك لنا عقولنا سليمة يا هذا ، ولا تحدثْ به أحداً فيضحكَ منك .
قال : والله ، إنها لحقيقة ، ولن أدعكما متأرجحَين بين التصديق والتكذيب ... وسأحسم الأمر إن شاء الله ... أنا أدعوكما اتناول الغداء عندنا غداً ، وستجتمعان بأختي ، وتأتيكما بالخبر اليقين ... وإذ ذاك تُقرّان بالحقيقة ..
قال محمد : وانطلقنا في اليوم التالي إلى بيت أحمد ... وتناولنا الغداء ، وبعد شرب القهوة لم أتمالك نفسي أن قلت : أين أختك يا أحمد ؟.. ألا تدخل علينا فنسمعَ منها ونكلمها ؟!...
قال : لم أنسَ ذلك ...
وخرج من الغرفة يدعوها ، ولم تمض دقائق حتى دخل ، ودخلت وراءه فتاة متحجبة ، لا يظهر منها إلا وجهها وكفّاها ..... سلّمتْ ، ثم جلست ورحّبتْ بنا ... كان كلامها طبيعيّاً وصوتها رقيقاً .. نظرت إلى أحمد نظرة ذات معنى ، وكذلك نظر إليه صديقنا الآخر ... ففطن إلى ما نقصد ، وحسم الموقف بقوله : كيف حالك يا شيخ محمود ؟..
تغير وجه الفتاة ، فاحمرّ قليلاً ، وبدت ملامحه قاسية ... وإذا صوتٌ ذو لهجة سعودية خشنة من داخلها : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....
لم أدر ما حلّ بصاحبي لأنني شغلت بنفسي ، فقد زادت دقات قلبي عنفاً، حتى كدت أسمعها ، وشُدِهت ، ووقف شعر رأسي ، واصطكت ركبتاي ، فلم أعد أستطيع الحركة . ولم أستطع بادئ الأمر أن أجيب ... وعلمت بعد ذلك أن صاحبي حاول الهرب فخانته رجلاه وسقط على الأرض ...
لملمْتُ نفسي بعد لأي ، ورددت بصوت متهدج :
وعليـ...كم .. الـ..س.. لا..م .. ورحححـ مة .. اللله .. وبررر كااااته ..
وأدرك صاحب الصوت ما حلّ بنا ،فقال مؤانساً: أنت (محمد الاصفر)ـ.. تعمل في مؤسسة الرسالة .. تسكن في ... وزوجتك اسمها ... ولك ولدان اسماهما ... وكأن بطاقة أسرتي كانت معه يقرأ منها .
ثم فعل بصاحبي الذي يعمل معي منذ أكثر من أربع سنوات ما فعله معي ، فذكر عنه معلومات لم أكن أعرف منها إلا القليل ، فازداد عجبنا .
بدأت نفسانا تهدءان قليلاً قليلاً ،.. سألته بعدها : كيف عرفت هذه الأمور عنا ؟
قال : أعرف أكثر منها بكثير ، إن شئتَ زدتُ ؟
قلت : لا ..ولكن أسألك أسئلة تجيبني عنها بصراحة ووضوح .
قال : على الرحب والسعة . .. ثم إنني مسلم مثلكم .
قلنا : مسلم ؟!.
قال : نعم ، واسمي كما سمعتموه من قبل : الشيخ محمود .
قلت : لهجتك كما تبدو سعودية .
قال : أجل ، فأنا من جنِّ السعودية فعلاً.
قلت : ومن علمك أمور دينك؟.
فزفر زفرة فيها حسرة مكبوتة ثم قال :
اسمع يا أخي محمد ، هل تعرف الشيخ " سعيد الطنطاوي "؟
قلت : كيف لا ، وهو أخو الكاتب الكبير " علي الطنطاوي " ! ثم إنَّ أخاه عبد الغني أول من نال الدكتوراة في الرياضيات من العرب الشرقيين في السوربون ؟ وهو يدرسها الآن في جامعة الرياض .
قال : نعم هو ما قلتَ ، ولكن الشيخ سعيداً يدَرّس أيضاً الفقه والحديث في أحد مساجد الرياض .. وقد كنت ألازم حلقته إلى أن سُجنتُ في جسم هذه الفتاة .. رحم الله تلك الأيام .. أصبحت الآن ذكريات أشتاقها ، وأحن إليها .. كنت أستمع إلى دروسه ،وأرى من مكاني المسجد الحرام ، وأصلي أوقاتي كلها فيه .
قلت : وكيف ذلك ؟
قال : هذا أمر هيّن علينا معشر الجن .
قلت : أراك تتحسر. وذكرتَ أنك سجين في جسم الفتاة ، فهل يعني هذا أنك مجبر على دخول جسمها ؟... ولماذا؟..
قال : كما أن الإنس إذا أخطأ بعضهم عوقب بدخول السجن كذلك الجن إذا أخطأوا عوقبوا فسجنوا ... وقد يكون سجنهم في جسم إنسان .. وليست كل أجساد بني آدم تصلح لسجن الجن .فهناك شروط يجب أن تتوفر في جسم الإنسان .. ولن أذكر هذه الشروط لئلا يتوهّم حاملوها ، فيُصابوا بالجنون من شدة خوفهم . وجسم هذه الفتاة جاهز لعقوبة الجن .
قلت : لماذا كان نصيبك جسم هذه الفتاة لا غيره؟
قال : سؤالك وجيه .. هذه الفتاة مسلمة حيية طيبة . اخترت جسمها إشفاقاً عليها من جنيٍّ مذنب شقي فاسد الأخلاق يُطرح فيها فيذيقها (في سجنه) آلاماً ، ويلعب بأعصابها ، ويخرجها عن طورها .. وربما يؤدي بها إلى الجنون الكامل .
كان صاحبنا الآخر ، واسمه سليم قد هدأ روعه ، وسكنت نفسه ، فسأل الجنيّ : أين يكثر الشياطين ؟ .. وهل هناك فرق بين الجن والشياطين ؟
قال الشيخ محمود :أجل .. هناك فرق كبير بين الجن والشياطين ،
فالجن هم الذين آمنوا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً ، وبالرسول عليه الصلاة والسلام نبياً...
والشياطين هم الكفرة ... وهؤلاء يكثرون في أماكن القذارة والأوساخ . ولهذا يأمركم النبي عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة من الخُبُثِ والخبائث كلما أردتم دخول الخلاء .. فالشياطين يعربدون ويقضون أسعد أوقاتهم في تلك الأماكن . فإذا تعوّذ أحدُكم هربوا كما يهرب اللص من شرطة تلاحقه .. أما الجن فيطربون لذكر الله تعالى .
قال سليم : كنتم تصعدون إلى السماء فتسترقون السمع : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } فلما ولد الرسول عليه الصلاة والسلام مُنعتم بالشهب ، تنقض على المسترق فترديه قتيلاً { فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا } .
قال : نعم ، فلا تخطئه أبداً، إن سهام الله تعالى لا تخيب . إنها صواريخ " جَوْ ـ جَوْ " تقتنص الشياطين اقتناصاً .
وضحكنا، وبدا الانشراح على نفوس الجميع ، وأخذنا في الاندماج، وزال الوجوم والخوف، ثم أردف الشيخ محمود : نستطيع أن نتجوّل بعيداً عن الأرض قليلاً ولكن الويل لمن يتجاوزها كثيراً .
قال أحمد :قرأت في كتاب " الروح " لابن قيم الجوزية رحمه الله أن عيسى عليه السلام يحب " الفول " فكان طعامه المفضل ، وأن الفول طعام الجن أيضاً .
قال الجني : نعم ، في كلامك شيء من الصحة ، إلا أنني أحب الحلوى ، فأنا مغرم بها .
قلت : ما المقدار الذي تتناوله في الوجبة الواحدة ؟.
ضحك الشيخ محمود ، وقال : نحن أجسام نيرانيّة ، لا نأكل كما يأكل الإنسان . لو تصورتم جرة مليئة بالعسل ،حطّت عليها ذبابة ، ثم طارت ، هل تنقص منها شيئاً؟.. هذا ما نأكله .
قال سليم : سبحان الله الذي زوّدكم بقدرات خارقة يعجز عنها البشر . لقد سعدنا بهذا اللقاء ، وكنا نتمنى أن يكون زميلنا عبد الله معنا ليعيش هذه اللحظات الطيبة ، لكنه سافر إلى طرابلس صباحاً .
قال الجني :هل ترغبون أن أخبركم بما يصنع الآن ؟... انتظروا دقائق .
ومرت ثلاث دقائق لُذنا فيها جميعاً بالصمت ,, ثم ظهر صوت الجني جليّاً:
هو جالس الآن مع زوجته وولديه يتناولون طعام الغداء المكون من كذا وكذا .. وهو يلبس ثياب النوم ,, وزوجتُه وولداه ... وذكر لنا أشياء وأشياء ..
قام أحمد إلى الهاتف ، واتصل بعبد الله في طرابلس :
يا عبد الله ، أنتم تتناولون طعام الغداء وهو كذا وكذا ، وأنت تلبس ثياب النوم ... وبدأ يسرد عليه ما قاله الشيخ محمود ..
قال عبد الله : إنه الشيخ محمود الذي فضحنا .. أليس هذا صحيحاً ؟
بات اللقاء مريحاً والحديث مفيداً مسلياً .. ونظرت إلى ساعتي فوجدت الوقت قد مرّ سريعاً ، فقلت : لي سؤال واحد ، ثم أرجو أن تأذن لي بالانصراف أيها الأخ الجني المسلم .
قال : ماهو ؟
قلت : متى تخرج من سجنك هذا ؟.
قال الجنيّ: سيتولّى أحمد – أخو الفتاة – الجواب على سؤالك .
قال أحمد : نعم .. لقد سألت الشيخ القارئ ، فأخبرني أن الشيخ محموداً سيخرج من أسره بعد يومين إن شاء الله .
قال الجنيّ : أرجو ذلك ، ولن أنسى هذه الأسرة الطيبة .. وسأدعو لها بالخير
وأخبرنا أحمد بعد يومين أن أخته قد برئت مما ألمّ بها .