سنة 1972، في مقصفٍ صغير داخل القاعدة الحربية الجوية بالقنيطرة، كانت أحلام الضباط الشباب تَنبضُ بالحياة ومُفعمة بالحماسة، تتوق إلى الانعتاق ومعانقة عوالم الحرية، المُتصوَّرَة في كل طلعة من طلعاتهم البعيدة.. كانت الآمال معقودة لبناء وطنٍ جديدٍ، في مستوى انتظارات المغاربة، وهي آمال بُتِر حَبْلُ وَرِيدِها حتى قبْل تفتّقها ونُضجها، إذ داخل المقصف نفسه، الذي كان يجتمع فيه الطيارون الحالمون، نُسِجت أولى خيوط المحاولة الانقلابية الثانية (1972). هندسها الجنرال محمد أوفقير والكولونيل محمد أمقران، قائد القاعدة العسكرية، ونفذّها ضباط غُرّر بهم وآخرون عُلموا وهم في السماء أنهم بصدد القيام بانقلابٍ ضد الملك، ولم يمنعهم ذلك من الانخراط في المُحاولة؛ لأنه عندما يُهيمن الذعر، فحينها يشتد الاحتمال بوقوع الأسوأ.. أمّا ضحيتها، فكان طبعاً، المغرب، شعباً ووطناً، الذي أضاع على نفسه فرص الإقلاع، ليدخل بعد ذلك في دوامة من التيه لم يخرج منها إلا بعد سنواتٍ من "الرصاص".
أحمد الوافي كان واحداً من هؤلاء الضباط الذين وجدوا أنفسهم دون سابق إنذار في قلب عملية "البوينغ الملكي"، باعتباره رئيس العمليات في القاعدة العسكرية بالقنيطرة، حيث سيتغير كل شيء، ابتداء من يوم 16 غشت 1972، عندما أقلعت 6 طائرات حربية من القاعدة، في اتجاه الشمال، لاعتراض طائرة "البوينغ" التي كانت تقل الملك وأعضاء من الحكومة إلى جانب أفراد من الأسرة الملكية.. كان وقتها الوافي، إلى جانب الكولونيل أمقران، يُراقب تحركات الطائرة من على برج المراقبة الخاص بالقاعدة الجوية، إيمانا منه بأن الأمر يتعلق بعملية "خفر" عادية؛ لكن الذي لم يكن يعلمه الوافي هو أن الذي كان يجري أمامه في ذلك اليوم المشؤوم يتعلق بمحاولة انقلابية كان يقودها أمقران وأوفقير ضد الحسن الثاني.
هنا سنحاول إعادة ترتيب الأحداث كما رواها الضابط الوافي بنفسه في مذكراته المعنونة بـ"عملية البراق"، وهو الاسم الذي أطلق على العملية الانقلابية الفاشلة. كما سنحاول نقل جزء من تفاصيل حياته ومعاناته طيلة الثمانية عشر عاما التي قضاها في معتقل رهيبٍ، وهو معتقل "تازمامارت الشهير".
اليوم المشؤوم
16h.-16h.20
بعْدَ دَقَائِق على إقلاعِ الطائرات الحربيَّة من القاعدة الجوية القنيطرة، سَيْطُلبُ أمقران من الكابيتان العربي مَدَّهُ براديو ترانزستور لِكَيْ "يتأكَّد من بثِّ المُوسيقى العسكرية، كما اتَّفَقَ على ذلك مع أوفقير، على أمواج الإذاعة الوطنية، إيذاناً بتأسيس الجمهورية"، الغَرضُ من هَذه العملية، كَمَا سَتُظْهِرُ جلسات المُحاكمة في وقت لاحق، هو ضَبْطُ حركة الجيش والمواطنين في كل أرجاء البلاد، بعد نجاح العملية الانقلابية. وقد استَلْهَمَ أمقران هذه الفكرة من ثورة الضباط المصريين، الذين لمّا أزاحوا الرئيس المصري، قاموا ببث أغان عسكرية.
في السماء، كانت الطائرات الحربية تَقُومُ بِجَولاتٍ استطلاعية تُمشِّطُ الأجواء، بحثاً عن الطائرة الملكية، التي سَتَدْخُلُ التراب المغربي بعد دقائق. وهكذا، "بدأت المُحادثات بين الطيَّارين تَتَقَاطَرُ علينا ونَحْنُ داخل برج المراقبة"، يقول الضابط الوافي في مذكراته، كانت المحادثات تتم باللغة الإنجليزية:
ليوتنو زياد: لا أرى أي طائرة...
ليوتنو بوخالف: وأنا أيضا...لا طائرة في الأجواء
الكومندو الكويرة: سنقوم بجولة استطلاعية أوسع، فربما غيَّر الملك مساره...علينا أن نستمر في البحث.
بعد هذه المحادثة القصيرة التي جمعت الطيارين فيما بينهما، أخذ الكولونيل أمقران جهاز الاتصال اللاسلكي وبدأ يتحدث مع الكومندو الكويرة: أين أنتم؟
الكويرة: نحن في المنطقة المعلومة كولونيل... بالقرب من طنجة.. وفي هذه الأثناء لا وجود لأي طائرة في الأجواء...
16h.20- 16h.25
سادَ الصمتُ بعد ذلك. وبعد لحظاتٍ، سيَصْرخُ بوخالف على الساعة الرابعة وعشرين دقيقة: "طالهيو..طالهيو"، وهي عبارة أمريكية تعني أن الهدف جاهز. طائرة "البوينغ" الملكية أصبحت مكشوفة الآن، وهي تحلق في سماء تطوان.. سنَسْمعُ بعد ذلك، قائد الطائرة الملكية، محمد القباج، وهو طيار ماهر كان في سلاح الجو، قبل أن يَنْتَقِلَ إلى الطيران المدني، يتحدث عبر جهاز الراديو اللاسلكي: "طائرات F5...من أنتم؟.
لم يهتم أحد بالنداء وفهم الملك بسرعة بأن الأمر ليس طبيعياً وخارج المألوف، قبل أن يعود ليصرخ: "ابتعدوا ابتعدوا جلالة الملك لم يطلب الحراسة...أُعِيدْ...أخلوا المكان.
"أخلوا المكان أُعِيدْ ابتعدوا الملك لم يطلب الخفر" يُردِّد القباج بنبرة غاضبة. لكن ما هذا؟ إنهم يُجَهزون القذائف سنتعرض لهجوم... الطائرات الحربية تستعد للقصف"... كانت تصلنا كلمات قائد الطائرة الملكية بشكل متقطع، في برج المراقبة، كنا في حالة ذهل ورعب شديدين، أمقران يَحُوم في المكان بخطوات متثاقلة، لا يستطيع أن يتحكم في نفسه".
"لقد أصابوا الطائرة الملكية...لقد دمَّرُوا المحرك"... يتابع القباج الذي يقود الطائرة الملكية في ارتفاع متوسط، هنا بدأ كل شيء جلياً، نحن أمام انقلاب نعيش تفاصيله ثانية بثانية.
"الأوغاد. لقد دمَّرُوا المحرك الثاني. نار نار في الطائرة" تتوالى صيحات القائد القباج، "سنسقط... سنصطدم مع الأرض".
داخل برج مراقبة قاعدة القنيطرة، طلب الكابتان العربي من الكولونيل أمقران إرسال طائرات حربية لإنقاذ حياة الملك، والاتصال بقاعدة سلا لوضعها في الصورة، ليرد عليه الكولونيل: "اصمت، هذا شأن الضباط"، "على الجميع أن يظل في مكانه...أنا قائدكم...أنا الذي أتحكم هنا...فهمتم؟
سيبدأ الكويرة بإطلاق النار. لكن المفاجأة الكبرى أن مدفعه تَعطَّل. كان صوتُه يُسْمَعُ على الراديو، وهو يشتم آلته التي خذلته؛ لأنها ربما لم تشحن جيدا على الأرض، كما سيصرِّحُ فيما بعد، قائد سرب الطائرات صلاح حشاد، في مذكراته.
أنقذ بوخالف وزياد، اللذان علما بالعملية الانقلابية وهما في السماء، الموقف بإطلاق النار على أحد محركات البوينغ الثلاث. عندما عجز الكويرة عن تشغيل مدفعه الرشاش، قرر أن يقوم بهجومٍ انتحاري على البوينغ الملكي، على شاكلة "الكاميكاز الياباني".
"وداعاً يا أصدقائي سأَمُوتُ من أجل الوطن"، سيقول الكويرة في جهاز الراديو، قبل أن يقفز بمقعده من الطائرة، ليسقط عبر "الباراشوت" في منطقة قريبة من سوق الأربعاء الغرب، حيث سيلقي عليه الدرك الملكي القبض، وتنجو البوينغ من عملية الاصطدام وتواصل تحليقها في السماء.
بعد دقائق، سيعودُ بوخالف إلى مهاجمة الطائرة الملكية، التي بدأت تفقد بعض علوها.
وفي هذه الأثناء، سيلقي الطيار الريفي بخزانه الرئيس المليء يالكيروزين على"البوينغ"، دون جدوى، كان يريد أن يشعل النار في جسم الطائرة الملكية، التي بدأت تحلق على علو منخفضٍ فوق أرضية قاعدة القنيطرة.
16h.35- 16.40
وما هي إلا لحظات حتى ظهرت الطائرة الملكية وسط سحب من الدخان الأسود تقترب من الأرض، كانت تبدو كطائر جريحٍ يسقط من السماء. بدا الكولونيل أمقران مذهولاً لنجاة "طائرة الملك"، كيف لـ6 طائرات حربية مُعدة بأحدث التقنيات وبالقذائف الصاروخية أن تفشل في إسقاط طائرة مدنية، يقودها طيار مُحنك خَبرَ سلاح الجو لأزيد من عشرين سنة.
واصلت الطائرة تحليقها نحو مطار الرباط، مخلفةً من ورائها سرباً من الدخان سرعان ما تبدى مع رياح الصيف الحارة.
16h.40-17h
في مطار رباط سلا، كانت هناك نخبة من الوزراء والضباط السامين، من بينهم إدريس بنعمر، الجنرال المعروف في مغرب "السبعينيات"، سيصير بعد وفاة أوفقير الرجل الثاني في الجيش، تنتظر الملك الذي غاب 20 يوماً عن المغرب، وهي تجهل كل شيء عن المحاولة الانقلابية، كانت الاستعدادات على قدم وساق. فرق من الجوق الوطني تنشد أغاني حماسية، وأفراد من الحرس الملكي تُؤمِّن المكان، تظهر حيناً وتختفي حيناً.
بالعودة إلى قاعدة القنيطرة الحربية، كانت الأحداث قد تجاوزت الكولونيل أمقران، الذي بدا مستسلماً أمام أمر الواقع، وبالرغم من أنه فشل في إسقاط الملك من السماء، سيُعاود الكولونيل المحاولة من جديد، لكن هذه المرة، سيطلب من الطيارين بوخالف وزياد، اللذين حطّا لتوهما بطائراتهما في مدرج القاعدة الجوية، الالتحاق بمطار سلا، من أجل تنفيذ ضربات جوية تستهدف هذه المرة الموكب الملكي، ولم يتردد الطياران في الأمر وقاما بتسليح الطائرات من جديد قبل أن يتوجها صوب الجنوب باتجاه العاصمة الرباط.
وفور وصولهم مطار سلا الرباط، قام الطيارون بإطلاق النار على المدنيين، وتوفي العشرات في حادث مأساوي، ثم بعد ذلك قنبلوا قصر الرباط بعنفٍ؛ لكن دون جدوى، فقد سلك الملك طريقاً مغايراً إلى قصر الصخيرات بدل قصر الرباط.
وفي المساء نفسه، وصل أوفقير إلى قصر الصخيرات الصيفي، حيث وجد في انتظاره الملك الحسن الثاني مرفوقا بمحمد الدليمي، الذي سيخلف أوفقير على رأس وزارة الداخلية، ثم مولاي حفيظ العلوي، الحاجب الملكي الذي سيشكل سداً منيعا للحيلولة دون الوصول إلى القصر.
في الجزء المقبل، سنكشف للقراء اللحظات الأخيرة لعملية "البراق" التي انتهت إلى فشل ذريع؛ وهو ما دفع بالكولونيل أمقران إلى طلب اللجوء السياسي بجبل طارق، التي كانت تابعة لبريطانيا، بعدما غادر المغرب، بُعيد نجاة الملك الراحل الحسن الثاني، كما سيكون القارئ الكريم على موعد مع تفاصيل الحملة الأمنية "الواسعة" التي قادها الجنرال أحمد الدليمي، في صفوف ضباط الجيش، وكيف واجه المتمردون شبح الموت بعدما أصدرت المحكمة العسكرية في حقهم عقوبة الإعدام.
أحمد الوافي كان واحداً من هؤلاء الضباط الذين وجدوا أنفسهم دون سابق إنذار في قلب عملية "البوينغ الملكي"، باعتباره رئيس العمليات في القاعدة العسكرية بالقنيطرة، حيث سيتغير كل شيء، ابتداء من يوم 16 غشت 1972، عندما أقلعت 6 طائرات حربية من القاعدة، في اتجاه الشمال، لاعتراض طائرة "البوينغ" التي كانت تقل الملك وأعضاء من الحكومة إلى جانب أفراد من الأسرة الملكية.. كان وقتها الوافي، إلى جانب الكولونيل أمقران، يُراقب تحركات الطائرة من على برج المراقبة الخاص بالقاعدة الجوية، إيمانا منه بأن الأمر يتعلق بعملية "خفر" عادية؛ لكن الذي لم يكن يعلمه الوافي هو أن الذي كان يجري أمامه في ذلك اليوم المشؤوم يتعلق بمحاولة انقلابية كان يقودها أمقران وأوفقير ضد الحسن الثاني.
هنا سنحاول إعادة ترتيب الأحداث كما رواها الضابط الوافي بنفسه في مذكراته المعنونة بـ"عملية البراق"، وهو الاسم الذي أطلق على العملية الانقلابية الفاشلة. كما سنحاول نقل جزء من تفاصيل حياته ومعاناته طيلة الثمانية عشر عاما التي قضاها في معتقل رهيبٍ، وهو معتقل "تازمامارت الشهير".
اليوم المشؤوم
16h.-16h.20
بعْدَ دَقَائِق على إقلاعِ الطائرات الحربيَّة من القاعدة الجوية القنيطرة، سَيْطُلبُ أمقران من الكابيتان العربي مَدَّهُ براديو ترانزستور لِكَيْ "يتأكَّد من بثِّ المُوسيقى العسكرية، كما اتَّفَقَ على ذلك مع أوفقير، على أمواج الإذاعة الوطنية، إيذاناً بتأسيس الجمهورية"، الغَرضُ من هَذه العملية، كَمَا سَتُظْهِرُ جلسات المُحاكمة في وقت لاحق، هو ضَبْطُ حركة الجيش والمواطنين في كل أرجاء البلاد، بعد نجاح العملية الانقلابية. وقد استَلْهَمَ أمقران هذه الفكرة من ثورة الضباط المصريين، الذين لمّا أزاحوا الرئيس المصري، قاموا ببث أغان عسكرية.
في السماء، كانت الطائرات الحربية تَقُومُ بِجَولاتٍ استطلاعية تُمشِّطُ الأجواء، بحثاً عن الطائرة الملكية، التي سَتَدْخُلُ التراب المغربي بعد دقائق. وهكذا، "بدأت المُحادثات بين الطيَّارين تَتَقَاطَرُ علينا ونَحْنُ داخل برج المراقبة"، يقول الضابط الوافي في مذكراته، كانت المحادثات تتم باللغة الإنجليزية:
ليوتنو زياد: لا أرى أي طائرة...
ليوتنو بوخالف: وأنا أيضا...لا طائرة في الأجواء
الكومندو الكويرة: سنقوم بجولة استطلاعية أوسع، فربما غيَّر الملك مساره...علينا أن نستمر في البحث.
بعد هذه المحادثة القصيرة التي جمعت الطيارين فيما بينهما، أخذ الكولونيل أمقران جهاز الاتصال اللاسلكي وبدأ يتحدث مع الكومندو الكويرة: أين أنتم؟
الكويرة: نحن في المنطقة المعلومة كولونيل... بالقرب من طنجة.. وفي هذه الأثناء لا وجود لأي طائرة في الأجواء...
16h.20- 16h.25
سادَ الصمتُ بعد ذلك. وبعد لحظاتٍ، سيَصْرخُ بوخالف على الساعة الرابعة وعشرين دقيقة: "طالهيو..طالهيو"، وهي عبارة أمريكية تعني أن الهدف جاهز. طائرة "البوينغ" الملكية أصبحت مكشوفة الآن، وهي تحلق في سماء تطوان.. سنَسْمعُ بعد ذلك، قائد الطائرة الملكية، محمد القباج، وهو طيار ماهر كان في سلاح الجو، قبل أن يَنْتَقِلَ إلى الطيران المدني، يتحدث عبر جهاز الراديو اللاسلكي: "طائرات F5...من أنتم؟.
لم يهتم أحد بالنداء وفهم الملك بسرعة بأن الأمر ليس طبيعياً وخارج المألوف، قبل أن يعود ليصرخ: "ابتعدوا ابتعدوا جلالة الملك لم يطلب الحراسة...أُعِيدْ...أخلوا المكان.
"أخلوا المكان أُعِيدْ ابتعدوا الملك لم يطلب الخفر" يُردِّد القباج بنبرة غاضبة. لكن ما هذا؟ إنهم يُجَهزون القذائف سنتعرض لهجوم... الطائرات الحربية تستعد للقصف"... كانت تصلنا كلمات قائد الطائرة الملكية بشكل متقطع، في برج المراقبة، كنا في حالة ذهل ورعب شديدين، أمقران يَحُوم في المكان بخطوات متثاقلة، لا يستطيع أن يتحكم في نفسه".
"لقد أصابوا الطائرة الملكية...لقد دمَّرُوا المحرك"... يتابع القباج الذي يقود الطائرة الملكية في ارتفاع متوسط، هنا بدأ كل شيء جلياً، نحن أمام انقلاب نعيش تفاصيله ثانية بثانية.
"الأوغاد. لقد دمَّرُوا المحرك الثاني. نار نار في الطائرة" تتوالى صيحات القائد القباج، "سنسقط... سنصطدم مع الأرض".
داخل برج مراقبة قاعدة القنيطرة، طلب الكابتان العربي من الكولونيل أمقران إرسال طائرات حربية لإنقاذ حياة الملك، والاتصال بقاعدة سلا لوضعها في الصورة، ليرد عليه الكولونيل: "اصمت، هذا شأن الضباط"، "على الجميع أن يظل في مكانه...أنا قائدكم...أنا الذي أتحكم هنا...فهمتم؟
سيبدأ الكويرة بإطلاق النار. لكن المفاجأة الكبرى أن مدفعه تَعطَّل. كان صوتُه يُسْمَعُ على الراديو، وهو يشتم آلته التي خذلته؛ لأنها ربما لم تشحن جيدا على الأرض، كما سيصرِّحُ فيما بعد، قائد سرب الطائرات صلاح حشاد، في مذكراته.
أنقذ بوخالف وزياد، اللذان علما بالعملية الانقلابية وهما في السماء، الموقف بإطلاق النار على أحد محركات البوينغ الثلاث. عندما عجز الكويرة عن تشغيل مدفعه الرشاش، قرر أن يقوم بهجومٍ انتحاري على البوينغ الملكي، على شاكلة "الكاميكاز الياباني".
"وداعاً يا أصدقائي سأَمُوتُ من أجل الوطن"، سيقول الكويرة في جهاز الراديو، قبل أن يقفز بمقعده من الطائرة، ليسقط عبر "الباراشوت" في منطقة قريبة من سوق الأربعاء الغرب، حيث سيلقي عليه الدرك الملكي القبض، وتنجو البوينغ من عملية الاصطدام وتواصل تحليقها في السماء.
بعد دقائق، سيعودُ بوخالف إلى مهاجمة الطائرة الملكية، التي بدأت تفقد بعض علوها.
وفي هذه الأثناء، سيلقي الطيار الريفي بخزانه الرئيس المليء يالكيروزين على"البوينغ"، دون جدوى، كان يريد أن يشعل النار في جسم الطائرة الملكية، التي بدأت تحلق على علو منخفضٍ فوق أرضية قاعدة القنيطرة.
16h.35- 16.40
وما هي إلا لحظات حتى ظهرت الطائرة الملكية وسط سحب من الدخان الأسود تقترب من الأرض، كانت تبدو كطائر جريحٍ يسقط من السماء. بدا الكولونيل أمقران مذهولاً لنجاة "طائرة الملك"، كيف لـ6 طائرات حربية مُعدة بأحدث التقنيات وبالقذائف الصاروخية أن تفشل في إسقاط طائرة مدنية، يقودها طيار مُحنك خَبرَ سلاح الجو لأزيد من عشرين سنة.
واصلت الطائرة تحليقها نحو مطار الرباط، مخلفةً من ورائها سرباً من الدخان سرعان ما تبدى مع رياح الصيف الحارة.
16h.40-17h
في مطار رباط سلا، كانت هناك نخبة من الوزراء والضباط السامين، من بينهم إدريس بنعمر، الجنرال المعروف في مغرب "السبعينيات"، سيصير بعد وفاة أوفقير الرجل الثاني في الجيش، تنتظر الملك الذي غاب 20 يوماً عن المغرب، وهي تجهل كل شيء عن المحاولة الانقلابية، كانت الاستعدادات على قدم وساق. فرق من الجوق الوطني تنشد أغاني حماسية، وأفراد من الحرس الملكي تُؤمِّن المكان، تظهر حيناً وتختفي حيناً.
بالعودة إلى قاعدة القنيطرة الحربية، كانت الأحداث قد تجاوزت الكولونيل أمقران، الذي بدا مستسلماً أمام أمر الواقع، وبالرغم من أنه فشل في إسقاط الملك من السماء، سيُعاود الكولونيل المحاولة من جديد، لكن هذه المرة، سيطلب من الطيارين بوخالف وزياد، اللذين حطّا لتوهما بطائراتهما في مدرج القاعدة الجوية، الالتحاق بمطار سلا، من أجل تنفيذ ضربات جوية تستهدف هذه المرة الموكب الملكي، ولم يتردد الطياران في الأمر وقاما بتسليح الطائرات من جديد قبل أن يتوجها صوب الجنوب باتجاه العاصمة الرباط.
وفور وصولهم مطار سلا الرباط، قام الطيارون بإطلاق النار على المدنيين، وتوفي العشرات في حادث مأساوي، ثم بعد ذلك قنبلوا قصر الرباط بعنفٍ؛ لكن دون جدوى، فقد سلك الملك طريقاً مغايراً إلى قصر الصخيرات بدل قصر الرباط.
وفي المساء نفسه، وصل أوفقير إلى قصر الصخيرات الصيفي، حيث وجد في انتظاره الملك الحسن الثاني مرفوقا بمحمد الدليمي، الذي سيخلف أوفقير على رأس وزارة الداخلية، ثم مولاي حفيظ العلوي، الحاجب الملكي الذي سيشكل سداً منيعا للحيلولة دون الوصول إلى القصر.
في الجزء المقبل، سنكشف للقراء اللحظات الأخيرة لعملية "البراق" التي انتهت إلى فشل ذريع؛ وهو ما دفع بالكولونيل أمقران إلى طلب اللجوء السياسي بجبل طارق، التي كانت تابعة لبريطانيا، بعدما غادر المغرب، بُعيد نجاة الملك الراحل الحسن الثاني، كما سيكون القارئ الكريم على موعد مع تفاصيل الحملة الأمنية "الواسعة" التي قادها الجنرال أحمد الدليمي، في صفوف ضباط الجيش، وكيف واجه المتمردون شبح الموت بعدما أصدرت المحكمة العسكرية في حقهم عقوبة الإعدام.
انقلاب "البوينغ الملكي" .. "اليوم المشؤوم" في عهد الحسن الثاني
سنة 1972، في مقصفٍ صغير داخل القاعدة الحربية الجوية بالقنيطرة، كانت أحلام الضباط الشباب تَنبضُ بالحياة...
www.hespress.com