بسم الله الرحمن الرحيم،
قبل فترة أرسل لي أحد الأصدقاء خبرا من رويترز بعنوان: القوات التركية تدخل شمال سوريا. أرسل الخبر وهو يسألني عن رأيي ومالذي سيجري هناك بعد أن فرض الأتراك كلمتهم على اللاعبين الكبار: جمهورية روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية. بالطبع إذا كنت من الذين ينظرون للصحافة والخطابات الرنانة وتتابع الاخبار المتلاحق سيفوتك الإشارة وسط الضوضاء كما يقول الإحصائيون The signal trhough the noise.
المشكلة في تقييم الأحداث العالمية اليوم ليس توفر المعلومة. إطلاقا ليست هذه المشكلة. المشكلة الكبيرة بل الكبرى بل التي سيعرف عصرنا بها هي أزمة أسميتها "حملات التجهيل" أو كما تسمى لدى المتخصصين Misinformation Campaign. حملات التجهيل خرجت من رحم الاتحاد السوفييتي المتخلف قبل ان ينهار وانتشرت في عالمنا العربي عند أصحاب الفكر "التقدمي" باسم إعلام التعبئة أو ما يسمى اليوم الشئون المعنوية في بعض الدول. هذه الحملات بالذات هدفها ليس نشر معلومة خاطئة فحسب، فل التحكم بأدوات صناعة الوجدان الوطني قدر الإمكان. فمثلا تجد خبرا إيجابيا عن السعودية، يتم التعليق عليه من عشرات الصحف والكتاب والمثقفين بشكل سلبي للغاية بحيث يتم "لوي" الحقيقة، انا لا امزح هنا عندما استخدمت كلمة لوي فهي الكلمة التي تستخدم لدى الإعلام السوفييتي المتخلف، وترجمتها الحرفية للانجليزي spin operation أو عملية اللوي أو التحوير.
هذه المقدمة ضرورية لأشرح باقي المقال فلا يمكن الشرح المنضبط الواضح دون تأسيس للفكرة وهي كما يلي: كل ما تشاهده في الإعلام العربي اليوم والإعلام الليبرالي في العالم كله تمت فلترته وسط منظومة تعبئة محددة التوجه. وهي جزء من حرب رهيبة عالمية تطرقت لجزء منها في أحد مقالاتي في السابق بعنوان: العالم بين معسكرين كلاهما لا يتكلم.
ما معنى هذا الكلام وما دخله في أردوغان؟ معناه هو الآتي: كل الأخبار التي تختص بتركيا وأردوغان حاليا طالما هو مصطف مع الليبراليين المتطرفين ومشروعهم لتغيير العالم فستجد هذه الاخبار تحاط بهالة من التحوير spin لخدمة تركيا وأردوغان في المحصلة النهائية بغض النظر عما يحدث على الأرض. وهنا مربط الفرس فعلا. ما يحدث على الأرض. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتهازي، متسلق، لئيم حد الثمالة وقبل هذا هو عدو للمسلمين بشكل لا يمكن لمقال صغير كهذا أن ينصفه وقد نتطرق لجذور عداوته للمسلمين لاحقا. هذه الطباع الشخصية قادته في الفترة الماضية لأن يتحرك بشكل محدد سأشرحه لكن بعد أن أبين نقطة. هناك لحظات تاريخية يفتح التاريخ فيها والظروف صالة اليانصيب أو المقامرة، ويكون أمام قادة الأمم خيارات، أين يضع رهانه وعلى من. في السنوات القليلة الماضية فتحت أمام الرئيس التركي صالة اليانصيب التاريخي ثلاث مرات (أو هكذا كان يظن) وفي كل مرة قرر الرئيس التركي أن يراهن بكل ما يمتلك ظنا منه أن الظروف أصبحت مواتية ليكسب كل شيئ ويكوش على التاريخ كله والجغرافيا. وهذه التصرفات هي نتاج لطبيعته الشخصية والتي ستقوده حتما (وتقود تركيا من وراءه) لضربات قاصمة متتالية لا أقول ترفع نسبة فشله بل أتجرأ وأقول أنها ستضمن فشله تماما وبشكل يمكن توقعه مسبقا. ودعونا ندخل في التفاصيل الآن،،
الرهان الأول: قضية خاشقجي رحمه الله.
ظن أردوغان أنه من خلال هذه القضية وإذا قام بأن يرهن كل شيء لديه ولدى تركيا بل وكل علاقاته مع دول العالم لكي يضرب السعودية بأقصى ما يستطيع ليحصل في النهاية على كل شيء. ظن اردوغان ان ضغطه سيؤدي إلى نتيجة وأن السعوديين سينحنون أمام ما يظنه عاصفة تركية في المجتمع الدولي. ظن اردوغان انه سيكوش على صالة اليانصيب التاريخي بأكملها. سيحصل على أبرع دعم من أوروبا. سيكسر العلاقة السعودية الأمريكية. سيعزل السعودية عن محيطها الاقليمي والدولي. سيضعف نفوذ عملاق الشرق الأوسط بل سيصل لأن يبتز السعوديين بكل ما يريد. بدأ اردوغان يحلم بمجد الامبراطورية العثمانية ومجده الذاتي. دخل لؤمه ودناءة طبعه في ترتيب الأحلام وظن أنه حصل على كل شيء فعلا. استمر ضغطه على العالم وعلى السعوديين عدة أشهر لكنه نسي أمرا مهما في هذه اللعبة. نسي شيئا خطيرا جدا كان هو ذاته سبب ضربه في مقتل رهيب هدم صالة اليانصيب فوق رأسه. وشخصيا أفكر أن أدوغان يعض أصابعه من الندم والحسرة انه اخطأ الخطأ التاريخي المرعب وهو أنه راهن ضد السعودية. لا أريد أن أمدح بلدي بلا سبب موضوعي، لكن هنا يوجد سبب موضوعي وحقيقي. عندما تصعد إلى طبقات التاريخ العليا وتشاهد التجاذبات الإقليمية بإمكانك أن ترى بكل سهولة أن الرهان على السعودية لطالما كان رهانا كاسبا وأن الرهان ضدها يساوي الدمار حرفيا. من شاه ايران، ثم الخميني، ثم صدام حسين، ثم علي عبدالله صالح ثم صعاليك العراق قادة الحشد ثم صعاليك اليمن قادة الحوثي ثم وثم وثم وثم. لا يوجد شيء يستطيع هؤلاء جميعا فعله ضد السعودية والحقيقة لا تعرف العواطف فلتنظر فقط بعينيك أين هؤلاء وأين السعودية؟ راهن اردوغان ضد السعوديين وخسر. لم ينجح اردوغان في تحقيق أي من أهدافه ضدنا مهما علا زعيق الاعلام الليبرالي أو المرجفين الذين يتبعون الخط التركي العام ممن يتحدثون بلغتنا. (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا).
الرهان الثاني: احتلال شمال سوريا.
لما سمعت الخبر أول مرة شعرت بسعادة غامرة ونشوة كبيرة ثم عدت لشعوري وسألت صديقي هل أنت متأكد من الخبر؟ قال نعم وأرسل لي الخبر من رويترز ثم من وكالة أنباء الأناضول. لا أشك أبدا أن ترامب كان يبتسم ابتسامة كبيرة وهو في حديقة الزهور في البيت الأبيض. ولا أشك أن بوتين كان مسرورا غاية السرور من هذا الخبر الذي يدل على غباء لا يصدق. تعتقد أنني أبالغ؟ دعني أبدد شكوكك.
كان التماس في شمال سوريا بين لاعبين هم الأهم، الروس والأمريكيين لكن تحت هذن اللاعبين يتحرك كل من يستطيع التحرك. لكن التفاهم هناك كان بين الامريكيين والاكراد والذي يجب أن ننوه أن الرئيس ترامب هزم الجيش التركي بتويتة لا أكثر عندما حذر اردوغان من لمسهم وهذه حقيقة بإمكان أي متابع أن يتحقق منها بنفسه. الذي فعله أردوغان أنه وعلى عكس شبكة التفاهم التي أنشئت في شمال سوريا وجد فرصة ذهبية، فرصة ضخمة لأن يقتحم تلك المنطقة، فيحتلها ودمر الأكراد ويسيطر على النفط ويؤمن حدوده ويوسع رقعة تفاوضه الحغرافية في أرض ستصبح مع الزمن متأتركة بفعل التغيير الووجداني الذي تشنه عصابات اردوغان الفكرية التي اسميهم جيش الدفاع الاسطنبولي. الذي فات على أردوغان انه لم يكن للروس ابدا مبرر مقنع في اقتحام تلك المنطقة وتثبيت وجودهم هناك. فسابقا لم يكن لجيش الأسد القدرة على تغيير الواقع هناك. هذه الحقيقة تبدلت بعد أن قام اردوغان بهدم توازن القوى هناك ليضطر كل اللاعبين ان يقاتلوا من اجل الحفاظ على ما اكتسبوه. هنا وفي تلك اللحظة امر بوتين جيش الاسد بالتوجه لشمال سوريا فورا، وهذا ما حدث، تسبب ذلك التوجه ان يغطي التحرك الروسي هناك. تمركز جيش اردوغان في شمال سوريا وسط صمت امريكي مريب. لم يلبث الا ان ظهرت تهديدات البيت الابيض بعد ان غاص اردوغان في الوحل جيدا. تهديدات تضع إطارا يشل حركة جيش تركيا لتهزم من جديد. تراجع الاتراك وتقدم جيش الاسد وفي ايام معدودة وجدنا نقطة مراقبة روسية في نصر ضخم لروسيا وسط هذه المعمعة. أما الأمريكيين فقد قاموا بتأمين مواقع النفط فالسهول والقيعان لا تعنيهم كثيرا. راهن اردوغان مرة أخرى في صالة اليانصيب التاريخية. راهن وخسر. وهزم معه الجيش التركي بغض النظر عما تقول آلة الدعاية والمرجفين والمخذلين من أتباعه في كل بلد.
الرهان الثالث: احتلال ليبيا.
وقع اردوغان اتفاقية مع السراج في ليبيا تفتح بها ليبيا حدودا بحرية متماسة مع اردوغان. قال الكثير من المفكرين ذلك الوقت ومن بينهم مفكرين أحترمهم وأضع وزنا ثقيلا لكلامهم أن هذه الاتفاقية هي والعدم سواء وأنها لن تكون مهمة الخ. اتذكر انني عندما سمعت عن الاتفاقية قلت ان اردوغان ولأول مرة اتخذ قرارا ذكيا فعلا. لكن الذكاء وحده لا يكفي لتغيير الواقع على الأرض أو فرض تشكيلة جديدة تعود بالنفع على المحتل التركي. لا، أنت تحتاج لعوامل متعددة لخلق واقع جديد وهذا الواقع الجديد يجب أن يكون له شروط لكي تستطيع الاستفادة منه أولها أن يكون واقعا ثابتا مستقرا. فعدم استقرار الواقع الجديد يساوي ضياع الاستثمار في خلقه والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة جدا.
مشكلة ليبيا الجوهرية التي لن يستطيع أردوغان تغييرها هي الانقسام الحاصل فيها. هناك الكثير من الدول لديهم الكثير من المصالح في الداخل الليبي. ولن يكون مقبولا من كل اصحاب المصالح أن يأتي أردوغان ويكوش على الليلة كلها ويكسب الرهان التاريخي كاملا والبقية يتفرجون فليس هكذا تحدث الأمور حقيقة مهما ظن اردوغان ان الظروف مواتية. هناك مواقع قوة لاردوغان في ليبيا وهي تحسب له. أولا، نقله لانظمة دفاع جوي متقدمة لليبيا يدل على أنه ينوي ان يخوض المعركة للنهاية. هنا يجب عدم النظر باستهانة لهذا الامر فهذا هو أهم شيء حدث منذ انسحاب حفتر من روسيا. الدفاع الجوي التركي وصل ليبيا دعما للسراج وهذا سيساعد اردوغان في ان يحيد الطيران ضد عبيده في ليبيا. لكن هل سيكفي للنصر؟ أقولها واحسبوها على اخوكم. ان استمر اردوغان فيما يفعل فستتحول المعركة الى battle of attrition أو معركة "الإنهاك" للطرف التركي. واعتمادا على طول خط الامداد لعبيده قد نرى انهيار جبهة الدفاع التركية. لكن هذا لن يكون قريبا في تقييمي.
المحصلة النهائية وهي حقيقية وليست تمني، لا يوجد وسيلة ينتصر فيها اردوغان مهما فعل. سيكون مؤذيا للمسلمين، قاتلا لهم من دون شك لتحقيق اهدافه وبلوغ أطماعه منتهاها. سيحاول. سيحاول أكيد. لكنه سيفشل.
ختاما، هناك سر عظيم في علم الإحصاء وهو من الأمور التي تدعو للتفكر حقيقة. يقول الاحصائيون أنك عندما تجمع كل الأحداث في كل مكان ثم تضعها في توزيع وتحسب المتوسط يظهر متوسط يختص بالاحداث التي جمعتها، لكنه دائما وأبدا سيظل ناقصا لأنه لا يمثل متوسط الحقيقة population mean. متوسط الحقيقة ثابت مهما حدث. مهما فعلت. مهما صارعته. مهما قاومت وغضبت. يمضي مع مضي الزمن.
اردوغان في نظري يصارع متوسط الحقيقة. وسينسحق تحت حجم مهمته المستحيلة. سينسحق مثل كل الأغبياء الذين سبقوه على هذا الطريق.
تحية،
قبل فترة أرسل لي أحد الأصدقاء خبرا من رويترز بعنوان: القوات التركية تدخل شمال سوريا. أرسل الخبر وهو يسألني عن رأيي ومالذي سيجري هناك بعد أن فرض الأتراك كلمتهم على اللاعبين الكبار: جمهورية روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية. بالطبع إذا كنت من الذين ينظرون للصحافة والخطابات الرنانة وتتابع الاخبار المتلاحق سيفوتك الإشارة وسط الضوضاء كما يقول الإحصائيون The signal trhough the noise.
المشكلة في تقييم الأحداث العالمية اليوم ليس توفر المعلومة. إطلاقا ليست هذه المشكلة. المشكلة الكبيرة بل الكبرى بل التي سيعرف عصرنا بها هي أزمة أسميتها "حملات التجهيل" أو كما تسمى لدى المتخصصين Misinformation Campaign. حملات التجهيل خرجت من رحم الاتحاد السوفييتي المتخلف قبل ان ينهار وانتشرت في عالمنا العربي عند أصحاب الفكر "التقدمي" باسم إعلام التعبئة أو ما يسمى اليوم الشئون المعنوية في بعض الدول. هذه الحملات بالذات هدفها ليس نشر معلومة خاطئة فحسب، فل التحكم بأدوات صناعة الوجدان الوطني قدر الإمكان. فمثلا تجد خبرا إيجابيا عن السعودية، يتم التعليق عليه من عشرات الصحف والكتاب والمثقفين بشكل سلبي للغاية بحيث يتم "لوي" الحقيقة، انا لا امزح هنا عندما استخدمت كلمة لوي فهي الكلمة التي تستخدم لدى الإعلام السوفييتي المتخلف، وترجمتها الحرفية للانجليزي spin operation أو عملية اللوي أو التحوير.
هذه المقدمة ضرورية لأشرح باقي المقال فلا يمكن الشرح المنضبط الواضح دون تأسيس للفكرة وهي كما يلي: كل ما تشاهده في الإعلام العربي اليوم والإعلام الليبرالي في العالم كله تمت فلترته وسط منظومة تعبئة محددة التوجه. وهي جزء من حرب رهيبة عالمية تطرقت لجزء منها في أحد مقالاتي في السابق بعنوان: العالم بين معسكرين كلاهما لا يتكلم.
ما معنى هذا الكلام وما دخله في أردوغان؟ معناه هو الآتي: كل الأخبار التي تختص بتركيا وأردوغان حاليا طالما هو مصطف مع الليبراليين المتطرفين ومشروعهم لتغيير العالم فستجد هذه الاخبار تحاط بهالة من التحوير spin لخدمة تركيا وأردوغان في المحصلة النهائية بغض النظر عما يحدث على الأرض. وهنا مربط الفرس فعلا. ما يحدث على الأرض. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتهازي، متسلق، لئيم حد الثمالة وقبل هذا هو عدو للمسلمين بشكل لا يمكن لمقال صغير كهذا أن ينصفه وقد نتطرق لجذور عداوته للمسلمين لاحقا. هذه الطباع الشخصية قادته في الفترة الماضية لأن يتحرك بشكل محدد سأشرحه لكن بعد أن أبين نقطة. هناك لحظات تاريخية يفتح التاريخ فيها والظروف صالة اليانصيب أو المقامرة، ويكون أمام قادة الأمم خيارات، أين يضع رهانه وعلى من. في السنوات القليلة الماضية فتحت أمام الرئيس التركي صالة اليانصيب التاريخي ثلاث مرات (أو هكذا كان يظن) وفي كل مرة قرر الرئيس التركي أن يراهن بكل ما يمتلك ظنا منه أن الظروف أصبحت مواتية ليكسب كل شيئ ويكوش على التاريخ كله والجغرافيا. وهذه التصرفات هي نتاج لطبيعته الشخصية والتي ستقوده حتما (وتقود تركيا من وراءه) لضربات قاصمة متتالية لا أقول ترفع نسبة فشله بل أتجرأ وأقول أنها ستضمن فشله تماما وبشكل يمكن توقعه مسبقا. ودعونا ندخل في التفاصيل الآن،،
الرهان الأول: قضية خاشقجي رحمه الله.
ظن أردوغان أنه من خلال هذه القضية وإذا قام بأن يرهن كل شيء لديه ولدى تركيا بل وكل علاقاته مع دول العالم لكي يضرب السعودية بأقصى ما يستطيع ليحصل في النهاية على كل شيء. ظن اردوغان ان ضغطه سيؤدي إلى نتيجة وأن السعوديين سينحنون أمام ما يظنه عاصفة تركية في المجتمع الدولي. ظن اردوغان انه سيكوش على صالة اليانصيب التاريخي بأكملها. سيحصل على أبرع دعم من أوروبا. سيكسر العلاقة السعودية الأمريكية. سيعزل السعودية عن محيطها الاقليمي والدولي. سيضعف نفوذ عملاق الشرق الأوسط بل سيصل لأن يبتز السعوديين بكل ما يريد. بدأ اردوغان يحلم بمجد الامبراطورية العثمانية ومجده الذاتي. دخل لؤمه ودناءة طبعه في ترتيب الأحلام وظن أنه حصل على كل شيء فعلا. استمر ضغطه على العالم وعلى السعوديين عدة أشهر لكنه نسي أمرا مهما في هذه اللعبة. نسي شيئا خطيرا جدا كان هو ذاته سبب ضربه في مقتل رهيب هدم صالة اليانصيب فوق رأسه. وشخصيا أفكر أن أدوغان يعض أصابعه من الندم والحسرة انه اخطأ الخطأ التاريخي المرعب وهو أنه راهن ضد السعودية. لا أريد أن أمدح بلدي بلا سبب موضوعي، لكن هنا يوجد سبب موضوعي وحقيقي. عندما تصعد إلى طبقات التاريخ العليا وتشاهد التجاذبات الإقليمية بإمكانك أن ترى بكل سهولة أن الرهان على السعودية لطالما كان رهانا كاسبا وأن الرهان ضدها يساوي الدمار حرفيا. من شاه ايران، ثم الخميني، ثم صدام حسين، ثم علي عبدالله صالح ثم صعاليك العراق قادة الحشد ثم صعاليك اليمن قادة الحوثي ثم وثم وثم وثم. لا يوجد شيء يستطيع هؤلاء جميعا فعله ضد السعودية والحقيقة لا تعرف العواطف فلتنظر فقط بعينيك أين هؤلاء وأين السعودية؟ راهن اردوغان ضد السعوديين وخسر. لم ينجح اردوغان في تحقيق أي من أهدافه ضدنا مهما علا زعيق الاعلام الليبرالي أو المرجفين الذين يتبعون الخط التركي العام ممن يتحدثون بلغتنا. (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا).
الرهان الثاني: احتلال شمال سوريا.
لما سمعت الخبر أول مرة شعرت بسعادة غامرة ونشوة كبيرة ثم عدت لشعوري وسألت صديقي هل أنت متأكد من الخبر؟ قال نعم وأرسل لي الخبر من رويترز ثم من وكالة أنباء الأناضول. لا أشك أبدا أن ترامب كان يبتسم ابتسامة كبيرة وهو في حديقة الزهور في البيت الأبيض. ولا أشك أن بوتين كان مسرورا غاية السرور من هذا الخبر الذي يدل على غباء لا يصدق. تعتقد أنني أبالغ؟ دعني أبدد شكوكك.
كان التماس في شمال سوريا بين لاعبين هم الأهم، الروس والأمريكيين لكن تحت هذن اللاعبين يتحرك كل من يستطيع التحرك. لكن التفاهم هناك كان بين الامريكيين والاكراد والذي يجب أن ننوه أن الرئيس ترامب هزم الجيش التركي بتويتة لا أكثر عندما حذر اردوغان من لمسهم وهذه حقيقة بإمكان أي متابع أن يتحقق منها بنفسه. الذي فعله أردوغان أنه وعلى عكس شبكة التفاهم التي أنشئت في شمال سوريا وجد فرصة ذهبية، فرصة ضخمة لأن يقتحم تلك المنطقة، فيحتلها ودمر الأكراد ويسيطر على النفط ويؤمن حدوده ويوسع رقعة تفاوضه الحغرافية في أرض ستصبح مع الزمن متأتركة بفعل التغيير الووجداني الذي تشنه عصابات اردوغان الفكرية التي اسميهم جيش الدفاع الاسطنبولي. الذي فات على أردوغان انه لم يكن للروس ابدا مبرر مقنع في اقتحام تلك المنطقة وتثبيت وجودهم هناك. فسابقا لم يكن لجيش الأسد القدرة على تغيير الواقع هناك. هذه الحقيقة تبدلت بعد أن قام اردوغان بهدم توازن القوى هناك ليضطر كل اللاعبين ان يقاتلوا من اجل الحفاظ على ما اكتسبوه. هنا وفي تلك اللحظة امر بوتين جيش الاسد بالتوجه لشمال سوريا فورا، وهذا ما حدث، تسبب ذلك التوجه ان يغطي التحرك الروسي هناك. تمركز جيش اردوغان في شمال سوريا وسط صمت امريكي مريب. لم يلبث الا ان ظهرت تهديدات البيت الابيض بعد ان غاص اردوغان في الوحل جيدا. تهديدات تضع إطارا يشل حركة جيش تركيا لتهزم من جديد. تراجع الاتراك وتقدم جيش الاسد وفي ايام معدودة وجدنا نقطة مراقبة روسية في نصر ضخم لروسيا وسط هذه المعمعة. أما الأمريكيين فقد قاموا بتأمين مواقع النفط فالسهول والقيعان لا تعنيهم كثيرا. راهن اردوغان مرة أخرى في صالة اليانصيب التاريخية. راهن وخسر. وهزم معه الجيش التركي بغض النظر عما تقول آلة الدعاية والمرجفين والمخذلين من أتباعه في كل بلد.
الرهان الثالث: احتلال ليبيا.
وقع اردوغان اتفاقية مع السراج في ليبيا تفتح بها ليبيا حدودا بحرية متماسة مع اردوغان. قال الكثير من المفكرين ذلك الوقت ومن بينهم مفكرين أحترمهم وأضع وزنا ثقيلا لكلامهم أن هذه الاتفاقية هي والعدم سواء وأنها لن تكون مهمة الخ. اتذكر انني عندما سمعت عن الاتفاقية قلت ان اردوغان ولأول مرة اتخذ قرارا ذكيا فعلا. لكن الذكاء وحده لا يكفي لتغيير الواقع على الأرض أو فرض تشكيلة جديدة تعود بالنفع على المحتل التركي. لا، أنت تحتاج لعوامل متعددة لخلق واقع جديد وهذا الواقع الجديد يجب أن يكون له شروط لكي تستطيع الاستفادة منه أولها أن يكون واقعا ثابتا مستقرا. فعدم استقرار الواقع الجديد يساوي ضياع الاستثمار في خلقه والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة جدا.
مشكلة ليبيا الجوهرية التي لن يستطيع أردوغان تغييرها هي الانقسام الحاصل فيها. هناك الكثير من الدول لديهم الكثير من المصالح في الداخل الليبي. ولن يكون مقبولا من كل اصحاب المصالح أن يأتي أردوغان ويكوش على الليلة كلها ويكسب الرهان التاريخي كاملا والبقية يتفرجون فليس هكذا تحدث الأمور حقيقة مهما ظن اردوغان ان الظروف مواتية. هناك مواقع قوة لاردوغان في ليبيا وهي تحسب له. أولا، نقله لانظمة دفاع جوي متقدمة لليبيا يدل على أنه ينوي ان يخوض المعركة للنهاية. هنا يجب عدم النظر باستهانة لهذا الامر فهذا هو أهم شيء حدث منذ انسحاب حفتر من روسيا. الدفاع الجوي التركي وصل ليبيا دعما للسراج وهذا سيساعد اردوغان في ان يحيد الطيران ضد عبيده في ليبيا. لكن هل سيكفي للنصر؟ أقولها واحسبوها على اخوكم. ان استمر اردوغان فيما يفعل فستتحول المعركة الى battle of attrition أو معركة "الإنهاك" للطرف التركي. واعتمادا على طول خط الامداد لعبيده قد نرى انهيار جبهة الدفاع التركية. لكن هذا لن يكون قريبا في تقييمي.
المحصلة النهائية وهي حقيقية وليست تمني، لا يوجد وسيلة ينتصر فيها اردوغان مهما فعل. سيكون مؤذيا للمسلمين، قاتلا لهم من دون شك لتحقيق اهدافه وبلوغ أطماعه منتهاها. سيحاول. سيحاول أكيد. لكنه سيفشل.
ختاما، هناك سر عظيم في علم الإحصاء وهو من الأمور التي تدعو للتفكر حقيقة. يقول الاحصائيون أنك عندما تجمع كل الأحداث في كل مكان ثم تضعها في توزيع وتحسب المتوسط يظهر متوسط يختص بالاحداث التي جمعتها، لكنه دائما وأبدا سيظل ناقصا لأنه لا يمثل متوسط الحقيقة population mean. متوسط الحقيقة ثابت مهما حدث. مهما فعلت. مهما صارعته. مهما قاومت وغضبت. يمضي مع مضي الزمن.
اردوغان في نظري يصارع متوسط الحقيقة. وسينسحق تحت حجم مهمته المستحيلة. سينسحق مثل كل الأغبياء الذين سبقوه على هذا الطريق.
تحية،