كسينجر اقترح على الصينيين الاعتماد على الإسرائيليين في مجال الاسلحة الحربية .
الصين احدى الدول الفاعلة في النظام العالمي والمرشحة لأن يكون لها حضور وثقل مهمان في تفاعلاته خلال القرن المقبل ولذا باتت محوراً للاستقطاب من قبل العديد من دول العالم.واتساقا مع النهج السياسي المتجذر في الفكر الصهيوني بأهمية التوغل والانخراط في مراكز الثقل وصنع القرار الدولي، بغية تجنيدها لخدمة اهداف المشروع الصهيوني و إسرائيل ، وتحييد أي ضغوط ومخاطر قد تأتي من تلك البيئة الخارجية، أتى الاهتمام المتزايد بالصين من جانب إسرائيل . ويضاعف من حدة والحاحية هذا التوجه رؤية بعض اليهود الى ان الصين هي العالم الجديد، كما كانت الولايات المتحدة طوال القرن العشرين وهؤلاء يتكاثرون محاولين مسك خطوط المستقبل كما يفعلون الآن في مسك خطوط الحاضر. يقدم تطور العلاقات السياسية بين إسرائيل والصين نموذجا كلاسيكياً لدور الدبلوماسية السرية في العلاقات الدولية وتأثيراتها في التقارب بين الدول والمصالح التي قد تبدو متعارضة. فبين تاريخ اعتراف إسرائيل بالصين في 9 يناير 1950 كأول دول شرق أوسطية تقوم بهذا الاجراء ، وقرار البلدين اقامة علاقات دبلوماسية كاملة في 24 يناير 1992، شهدت مسارات حركة وتفاعل البلدين كما كبيرا من اللقاءات والاتصالات الثنائية داخل الصين وخارجها ، والتي ساهمت بدورها في تضييق الفجوة الايديولوجية بين البلدين وتلمس جوانب مصلحية في علاقاتهما ، تدفعها للتطور المؤسسي.
ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي بين ايدينا وهو بعنوان .. "اختراق سور الصين قصة العلاقات الدفاعية لـ "اسرائيل" مع الصين". والذي قام بتأليفه آمنون بارزيلاي المحرر الصحافي بجريدة "هآرتس" ”الإسرائيلية” وصدر في أوائل العام 1999، لكونه يرصد أبعاد ومراحل تلك الدبلوماسية السرية في علاقة البلدين.
تبدأ قصة الدبلوماسية السرية كما يقول بارزيلاي قبل عشرين عاما في 22 فبراير 1979 ، وفي الساعة الثامنة صباحا سحبت طائرة بوينج 707 غير محددة الهوية من مسار جانبي في مطار بن جوريون ،وفي غضون عدة دقائق حلقت في السماء، ولم يمر "الاسرائيليون " الثلاثون الذين حملتهم الطائرة بإجراءات التفتيش المعتادة. لقد كان مطلوبا ان تظل هويتم سرية، إذ جرى استبعاد كل ما يشير إلى "إسرائيل" ، كما منعوا من الافصاح للمقربين منهم ولأسرهم عن هدف رحلتهم. وطارت الطائرة باتجاه الشرق كانت كل هي طائرة مديري رجل الاعمال شاؤول آيزنبرج . وكان المسافرون على متنها اعضاء وفد وزارة الدفاع وكانت وجهة الرحلة الصين الشعبية.
وفي ساعة متأخرة من الليل اقلعت الطائرة من مطار الترانزيت الذي سبق تحديده، ومن ثم وصلت الى بكين. لكن عملية الهبوط في المطار العسكري بضواحي العاصمة توقفت. فقد أورد برج المراقبة ظروفا جوية صعبة وصلت فيها درجة الحرارة على الأرض 17 درجة تحت الصفر، وأدى الجليد الذي غطى المدرج إلى صعوبة اتمام عملية الهبوط. وعلى مدى ساعة كاملة حلقت الطائرة فوق المطار حتى تتلقى إذنا بالهبوط. وكانت مجموعة من الصينيين تنتظر عند عجلات الطائرة، صعد أحدهم وقدم نفسه كمندوب لإحدى شركات التصدير والاستيراد ، وقدم آيزنبرج بدوره له رئيس الوفد جبرائيل جيدور. واستقبل الصينيون "الاسرائيليين" بوجوه صارمة. وباختصار صدرت التوجيهات وتم ترجمتها، إذ توجه اعضاء الوفد إلى حافلتين بينما توجه رئيسا الوفدين إلى السيارتين السوداوين المنتظرتين باحد جوانب الطريق . وفي غضون ساعة واحدة ابتلع الظلام قافلة السيارات. وكما خرجوا سرا من "إسرائيل" دخلوا الصين سرا. ولم يمر اعضاء الوفد الإسرائيلي بأية وحدات تفتيش حدودية او جمركية ، اسرعت القافلة الصغيرة في طريقها الى العاصمة في سرعة بالغة باتجاه بيت الضيافة الرسمي للحكومة الصينية. وهكذا بدأت اولى خطوات العلاقات الدفاعية السرية بين الصين و "إسرائيل".
بيجن يلقي قنبلة الانفتاح على الصين
قبل تاريخ الزيارة بسبعة شعور ، وتحديدا في 18 مايو 1978 ، زار كما يقول المؤلف رئيس الوزراء مناحم بيجن شركة الصناعات الجوية في اللد. وكان في صحبته ايضا وزير الدفاع عزرا وايزمان ونائبه موردخاي تسبوري والقادة العسكريون، العميد افرايم بوران والعقيد آيلان تهيلا. كان ذلك بعد عام ويوم واحد من التحول السياسي الاول في "إسرائيل" وتجمعت وسائل الاعلام التي استشعرت اهمية الحدث في مكان امتلأ عن آخره. لقد توقف 10000 من عمال الشركة وتجمعوا في احد المباني للاستماع اليه، واستغل بيجن هذه الفرصة جيدا. ومما قاله رئيس الوزراء.. "إن شعوبا كثيرة أكبر منا، لا تستطيع أن تتفاخر بما تنتجه الصناعات الجوية في "إسرائيل". قليلون فقط الذين استطاعوا الربط بين هذه الكلمات وما قيل قبل ذلك بوقت يسير في نطاق محدود واكثر خصوصية. ففي حجرة الطعام بمبنى الادارة التقى بيجن ورفاقه بمدير عام شركة الصناعات الجوية جبرائيل جيدور ورئيس مجلس الادارة اسرائيل سحروف . واستعرض جيدور أمام الضيوف إنجازات الشركة واختراق منتجاتها لأكثر من اربعين دولة. استمع بيجن باهتمام ثم علق قائلا: "سيد جيدور" ما قلته رائع، والنتائج التي حققتها باهرة ومؤثرة ولكن لو كنت تستطيع ادخال الصناعة الجوية إلى الصين".
واندهش اعضاء الدارة المصغرة للصناعات الجوية ، فالصين تعتبر خارج نطاق الحسابات "الإسرائيلية" ، لكون حكومتهم لديها قائمة سوداء لدول محظور بيع اسلحة لها. وهي القائمة التي وضعتها وزارتا الخارجية والدفاع، وتأتي الصين على قمتها. وكان المعيار الرئيسي في تشكيل هذه القائمة هو مدى الخطر الذي سيعود على "إسرائيل" نفسها مع بيع السلاح والمعلومات والتقنية المتقدمة. وحتى ذلك اليوم كان واضحا للصناعات الجوية ان الصين تقع تقريبا على رأس القائمة السوداء. لقد كانت الصين صديقة للدول العربية واحدى زعامات العالم الثالث، وكان الخطاب الرسمي في تعريف "إسرائيل" انها "الكلب النابح للإمبريالية الاميركية". اضف إلى ذلك انه لم تقدم أية دولة غربية على بيع سلاح للصين. وفكرة ان تخترق "إسرائيل" هذا الحظر غير المكتوب، كانت تبدو مزعجة كما يقول المؤلف، ولذا كان من الصعب على مسؤولي الصناعات الجوية ايضا ان يتفهموا ان تأتي الفكرة من رئيس حكومة يعتبر مناوئا ومتشددا اتجاه الشيوعية . وزاد من وقعها ايضا تدخل وزير الدفاع وايزمان، الذي عرف جيدور منذ فترة خدمته في سلاح الجو قائلا.. "جدفي، أنت بالطبع فخور بما فعلته في الشركة ، لكنني اوصيك بان تدخلنا الصين".
وطلب جيدور من بيجن ووايزمان ، ان يستخدم معلومات معينة لكي يسارع بدفع الاتصالات مع الصين ، وكان له شرط واحد لقاء ذلك ان يكون على رأس الوفد الذي سيتوجه للصين. وصدر الاذن وعين جيدور نائب مدير عام الشركة للتسويق، وموشيه كيرت رئيسا لمشروع الصين. أما رئيس شعبة القوى البشرية في الادارة الإلكترونية للشركة يوسي كنتي ، فقد تولى مسؤولية التخطيط. وفي نطاق الصناعات الجوية باللد تم تخصيص مبنى خاص للمشروع "هنجي رقم 15" . واحيط بسياج من السلك ، وتم تركيب ابواب جديدة ذات مدخل يعمل بشفرات خاصة ، ووضعت عليه حراسة مشددة.
دبلوماسية آيزنبرج السرية
كانت البداية كما يقول المؤلف قبل ذلك بخمسة شهور ، ففي مطلع 1978 ، بادر رجل الاعمال آيزنبرج بالذهاب لمقابلة وزير الدفاع وايزمان في مكتبه ، وقال لمضيفه.. "يمكنني ان افتح امام وزارة الدفاع الباب إلى الصين، وانني مستعد لوضع طائرة المديرين الخاصة بي تحت امر "إسرائيل". حدث ذلك بعد اكثر من عام على موت الزعيم الصيني ماوتسي تونج. وكانت الزعامة الجديدة برئاسة دينج سيانج بينج ، اكثر برجماتية ،وكانت مستعدة للحصول على استثمارات وتقنية متقدمة من دول كانت تعتبر حتى ذلك الحين في مصاف الاعداء. كانت لآيزنبرج آنذاك علاقات اعمال متعددة في معظم دول شرق آسيا، ولكنه بينما كانت غالبية أعمال في تايوان فإنه لم يهتم بالصين. وقد اسفر التقارب بين الولايات المتحدة والصين في بداية السبعينات، ليس عن تغيير الخريطة السياسية فحسب ، بل ايضا الخريطة الاقتصادية . وقبل موت ماو تعرف آيزنبرج على فرص الاستثمار الجديدة في الصين ، ولكي يتغلب على معوقات التقارب (لم تكن شركات الطيران الغربية تطير الى الصين بعد) اشترى في النمسا عام 1975، طائرة بوينج 707، وقامت فرقة الصيانة بالصناعات الجوية بتحويلها الى طائرة ادارية فاخرة.
طلب وايزمان من بيجن الاجتماع بمجلس الوزراء المصغر، الذي يضم ايضا وزير الخارجية مشيه ديان ، وجرى الاجتماع بعد عدة ايام من محادثات وايزمان وآيزنبرج. وعرض وزير الدفاع ما قاله آيزنبرج باسم حكومة الصين، انها مهتمة باقامة علاقات أمنية مع "إسرائيل" . وكان وايزمان متحمسا، وقد حكى لمقربيه انه منذ الخمسينات يتذكر ما قاله دافيد بن جوريون قبل اجتماع كبار ضباط الجيش عن "اهمية قيام علاقات بين الشعبين العريقين في التاريخ الانساني، الشعب اليهودي والشعب الصيني ثقافيا واقتصادياً ، وبأن هذا الحلم قريب التحقق.
وكان التوقيت مناسبا بالنسبة لـ ""إسرائيل" فمنذ زيارة الرئيس المصري السادات لـ "إسرائيل" قبل ذلك بخمسة شهور تحسنت صورة "إسرائيل" في العالم. وعلمت "إسرائيل" ان الصين رحبت بالعملية السلمية، لكن حكومة "إسرائيل" وخاصة وزارة الدفاع ، كانت قلقة من تدهور الاوضاع في ايران، فقد أورد السفير أوري لوبراني تقريرا عن مرض السرطان الذي يعانيه الشاه وانعدام فعاليته. فكان التنبؤ بان حكم الشاه على وشك الانهيار. فيما عدا الاثر الاستراتيجي لسقوط حكم الشاه كان لدى وزارة الدفاع مشكلة عاجلة. فقد كانت "إسرائيل" وايران على وشك التوقيع على اتفاق تعاون موسع لتطوير انظمة تسليح كاملة للجيش الايراني. وخططت وزارة الدفاع لاستثمار الاموال الايرانية في تطوير منظومات اكثر تقدما في تسليح جيش الاحتلال الإسرائيلي . واثار عدم الاستقرار في ايران الخوف من ان يغلق مصير التمويل الايراني قريبا.
إذن كان لابد من ايجاد البديل، واتفق بيجن ووايزمان وديان فيما بينهم أن الصين، بعد رحيل ماو ،يمكن أن يكون زبونا للصناعات الامنية، "الإسرائيلية" ، واتخذ الرجال الثلاثة قرارين ، أولهما ، الحفاظ على سرية العلاقات الامنية المزمعة مع الصين ، وثانيهما يتصل بالعلاقات بين "إسرائيل" والولايات المتحدة التي اذابت جمود علاقاتها مع الصين، لكنها لم تعلن علاقات دبلوماسية كاملة (كان الاعلان عن علاقات دبلوماسية في 15 ديسمبر 1978، عشية توجه الوف الإسرائيلي إلى الصين) وكان تقدير مجلس الوزراء المصغر ان الولايات المتحدة لن تعارض تبادل الاتصال بين "إسرائيل" والصين. بعد زيارة بيجن للصناعات الجوية اتصل بمدير عام الشركة جيدور بثلاثة عناصر متعددة لها صلة بالصين. وكان احدهم آيزنبرج هو الذي ابرم الصفقة المشتركة الأولى مع الصناعات الجوية عام 1971. وبعد نجاح هذه الصفقة اقترح آيزنبرج ان يتولى إدارة اعمال الصناعات الجوية في منطقة شرق آسيا بفضل علاقاته الجيدة بدولها، وكان بذلك وكيل اسلحة الصناعات الجوية في الشرق الاقصى. وفتحت علاقاته الخاصة بالفعل امام الشركة اسواقا جديدة، وتحديدا في الشرق الاقصى. وفتحت علاقاته الخاصة بالفعل امام الشركة اسواقا جديدة، وتحديدا في الفلبين وتايوان. ولكن كانت هناك مشكلة واحدة فقط خيمت على العلاقات التعاقدية، وهي تصميم آيزنبرج على ان يحضى باحتكار المنظمة وطلب عمولة بنسبة تتراوح بين 17% الى 20 % من اجمالي المبيعات.
وقد دهش رئيس الحكومة اسحاق رابين الذي تولى منصبه 1974 من النسبة التي يطلبها آيزنبرج الذي تعنت وتمسك بمطالبه المادية. ولأنه لم يكن هناك قناة اتصال اخرى مع الشرق الاقصى، اضطرت وزارت الدفاع الخضوع لشروطه. لقد عرف بيجن وديان آيزنبرج جيداً ، فقد عرفه ديان عندما كان يشغل منصب وزير الدفاع ، وكان أول من وافق على شروط الصفقات التي ابرمها ، كذلك عرف المليونير اليهودي الطريق الى بيجن واستضافه اكثر من مرة في منزله الريفي. غير ان النسبة العالية التي تمسك بها آيزنبرج ادهشتهم ايضا. ولهذه الاسباب لم يتحمس، على ما يبدو بيجن وديان لإسناد مهمة اختراق السوق الصيني لآيزنبرج. وبعد عدة اسابيع ظهر في الصورة رجل اعمال آخر ، وهو يكوتال فيدرمان صاحب سلسلة فنادق دان.وقد علم فيدرمان صاحب مصنع "إل . أوف" لإنتاج انظمة الكترو ـ بصرية عسكرية ان الصين مهتمة بالعلوم والتقنية العسكرية التي تطورها "إسرائيل" وكان مصدر هذه المعلومات رجل الاعمال السويدي ماكس شميدت ،شريكه في احد المشروعات. وقد اوضح شميدت لفيدرمان ان الجيش الصيني مزود باسلحة قديمة وأنه باستطاعته ان يضعه على اتصال بإحد زعماء الصين.
وفي نهاية سبتمبر 1978 جرت اول مقابلة كما يقول المؤلف في فندق رويال مونسو بباريس ، خلالها قال المندوب الصيني لفيدرمان ان وزير الخارجية الامريكي الاسبق هنري كسينجر قال للصينيين.. "انه يمكنهم الاعتماد على الاسرائيليين ، حيث يصنعون اسلحة لا تقل جودة عن الاسلحة الامريكية". وذكر المندوب الصيني لفيدرمان ان الصين مثلها مثل "إسرائيل" ، اعداؤها في آسيا اكثر من الاصدقاء وفي نفس المساء شاهد فيدرمان نشرة الاخبار بالتلفزيون الفرنسي. وعندما تعرف فيدرمان على صورت الرجل ايقن انه نفس المندوب الصيني الذي التقى به في الفندق وفي احد الايام اتصل بن يوسف بفيدرمان وطلب منه وقف الاتصال مع الصينيين . وذكر له ان رئيس الحكومة قال ان آيزنبرج لديه احتكار للتعامل مع الصين ولا يجب افساده.. واتصل فيدرمان مباشرة ببيجن لكنه تلقى ردا واضحا.. "انني اقدر تماما ما تفعله، لكن لدينا شيء مهم هنا له خصوصية. وانت لا تعرف كل شيء ولا استطيع الان اتخاذ قرار بتغيير الوضع وفي هدوء ادار آيزنبرج مفاوضات شاقة مع وزارة الدفاع ليحظى بإطلاق يده واحتكار المشروع. إذ التزم بإيجاد علاقة مع الصينيين خلال أربعة او خمسة شهور. وقال آيزنبرج لوايزمان.. إذا لم انفذ ذلك اعطوا الموضوع لشخص آخر. وكان وايزمان متمسكا بمنح احتكار العلاقات مع الصين لآيزنبرج، إذ كان على قناعة كبيرة استمرت حتى اليوم أن آيزنبرج فقط هو المؤهل لاختراق الصين.
خطة أولمبيا
كان لتعنت وزارة الدفاع ازاء فكرة ان يترأس الوفد الصيني جيدور مدير عام الصناعة الجوية ، ان نشب حول ذلك جدل كبير كما يقول المؤلف ، وقد ذكر مدير عام الوزارة يوسف معيان ، ونائبه افراهان بن يوسف ان رئاسة الوفد لابد ان تكون من نصيب ممثلي الوزارة. اعقب ذلك تساؤل محوري مفاده.. هل عملية الاتصال مع الصين ستكون بين الحكومتين او بين المؤسسات الصناعية؟ .. كان لهذا التساؤل نصيب من النقاش في مجلس الوزراء الأمني المصغر. صحيح ان كل الصناعات في الصين كانت ضمن ملكية الدولة، لكن بيجن ووايزمان وديان قرروا ان تكون الرحلة إلى الصين في اطار العلاقات التصنيعية، وليس بين الحكومات. وتحدد نهائيا ان يكون جيدور رئيسا للوفد. واطلق على مشروع الصين ام "اولمبيا". وشكل رئيس شعبة دعم التصدير الامني في وزارت الدفاع اسحاق شبيرا ،فريقا من كبار العاملين في الصناعات الامنية، وامدهم آيزنبرج بمعلومات هائلة من خلال رحلاته المتتالية للصين وابلغ وايزمان وجيدور ان الصين مستعدة لشراء كل شيء.
وخلال عدة اسابيع تشكل الوفد ، وشملت القائمة ، بخلاف من يوسف وشبيرا ، ايضا رئيس قسم الشؤون الدفاعية بوزارة الدفاع حاييم كرمان، ورئيس شعبة الاتصالات الخارجية في الموساد دافيد قمحي، ومجموعة كبيرة من رجال الصناعات الامنية ومن بينهم ، من الصناعات الجوية جيدور رئيس الوفد ، د. مائير دفيرو نائب مدير عام شعبة البحث والتطوير، ود. نينو ليفي مدير عام شركة التا، ود. بن تسيون نافيه مدير هيئة تطوير الوسائل القتالية، وعقيد احتياط آهرون بيت هالحمي نائب مدير عام الصناعة العسكرية المتسقة مع الانتاج، وكان ضمن المسافرين ايضا آيزنبرج واثنان من رجاله، يوناتان زوخوفيتسكي وشالوم آرياف. وفي وزارة الدفاع تشكل فريق دراسة لجمع واعداد المادة المعلوماتية عن الصين. وكان على رأس هذا الفريق استاذان من الجامعة العبرية تخصصا في شؤون الصين والشرق الاقصى هما ، اسحاق شيمور ورافي إسرائيلي، وعلى مدى عدة اسابيع اعطى الاثنان كل المعلومات والتوجيهات المطلوبة لأعضاء الوفد عن الصين وزعمائها وتاريخها، وعرضا كل ما خفى عن أهمية الزعامة الصينية التي سبق وحكمت الصين. واستقر الامر على انضمام رافي اسرائيلي إلى الوفد كمترجم. وكان الجميع يتحدثون عن نافذة الفرص السياسية التي انفتحت في الصين. ودعم هذا الاحساس سلسلة الاحداث التي وقعت في الصين بداية من عام 1979. ففي الأول من يناير اعلنت العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين . وفي 16 يناير ترك الشاه ايران وبعد اسبوعين دخل الخوميني طهران. وفي 29 مارس وقعت مصر واسرائيل على اول اتفاقية للسلام.
بعد سقوط شاه ايران اختارت "إسرائيل" الصين سوقا بديلا لصناعاتها الحربية
إلا ان التطور الاهم من وجهة نظر بارزيلاي كان في العام 1978، حينما تدهورت العلاقات بين الصين وفيتنام. فقد اتهمت حكومة الصين جارتها الجنوبية بملاحقة مواطنين من اصل صيني، وكان وراء هذه الاتهامات سعي صيني للقيام بتغييرات على حدودها في فيتنام. ونشبت بين الدولتين معارك شرسة، وكانت حالة الجيش الصيني ليست على ما يرام. وأعلن الاتحاد السوفيتي تأييده التام لفيتنام، ومن ثم انتاب الصينيين القلق البالغ ، وقد وصلت المواجهة العسكرية بين الصين وفيتنام الى ذروتها مع نهاية 1978 وبداية 1979، اذا اكتسبت ابعاد حرب حقيقية. وقبل اسبوع من توجه الوفد الإسرائيلي للصين، ارسلت الصين مئات الآلاف من الجنود والف طائرة إلى ساحة المعركة، وخشى الاسطول السوفييتي مساعدة فيتنام، التي نجحت قواتها بمفردها في صد الجيش الصيني، وفي 20 فبراير ، قبل توجه الوفد الإسرائيلي بيومين إلى الصين بدأ 150 ألف جندي صيني في الانسحاب . وفي اليوم التالي وصلت تقارير حول استنفار عسكري سوفييتي على طول الحدود مع الصين، وفي هذه الاثناء زار آيزنبرج الصين مرتين على الاقل ، ليقف على احتياجاتها الامنية. واتضح من المعلومات التي وصلته ان الحقيقة مذهلة. فبسبب الغاء اتفاقية المساعدات السوفيتية عام 1968، وانعزالها عن الدول الغربية سقطت الصين في انحدار عسكري في التجهيزات والتقنية وبسبب المواجهة العسكرية من الجنود والتهديد من الشمال ، اصبحت الامور الامنية على رأس أولويات الزعامة الصينية الجديدة. وكانت أهم رسالة نقلها آيزنبرج ان "إسرائيل" هي الدولة الوحيدة في العالم التي يمكنها في ذلك الوقت ان تساعد الصين في إعادة بناء جيشها والرد على التحدي الذي تجده في جيش فيتنام.
لقد طورت "إسرائيل" انظمة الحرب التي استهدفت كسر الشوكة العسكرية السوفييتية، وايضا طورت وانتجت انظمة تسليحية للرد على القدرة العسكرية الروسية ، كما ظهر في حرب اكتوبر 73، قبل ذلك بخمسة أعوام. ليس ذلك فقط، فقد سقطت في أيدي جيش الدفاع ابان حرب اكتوبر ان اسلحة سوفييتية احدث مما كانت مستخدمة في الجيش الصيني، واستولت على عشرات الدبابات الروسية من طرازات متقدمة آنذاك، مثل طرازات ت55 ـ ت 62ـ ت وقد اضافت إليها "إسرائيل" أجهزة مراقبة النيران وأجهزة رؤية خاصة، وحسنت قدرتها والحقتها بالخدمة في وحداتها. وفي اعقاب حرب 73 طورت "إسرائيل" ايضا الاساليب القتالية ضد الصواريخ أرض ـ جو السوفييتية من نظام سام 6 الاكثر تقدما، التي تسببت في اضرار بالغة لسلاح الجو الإسرائيلي . كما جرى ايضا تطوير أجهزة قتالية اليكترونية ، أجهزة رادار ارضية واجهزة رادار محمولة على مقاتلات جوية. هذه الانظمة الجوية التي طورتها الصناعات الامنية كانت موجهة ضد المقاتلات السوفييتية، وهي نفس الطائرات التي كانت تهدد الصين آنذاك هذه الطائرة التي كانت من جيل اقدم، كانت في حوزة سلاح الجو الصيني. لقد كانت الصين إذن في اشد الحاجة للتقنية والعلم العسكري الإسرائيلي . وكان هناك شعور قوي عند الوفد المزمع زيارة الصين، بأن لديهم القدرة على تقديم عرض استراتيجي حقيقي للصين، نابع من الخبرة العسكرية والفنية لـ "إسرائيل" .
وقد جرى تسكين الوفد الإسرائيلي في شقق كل شقة مكونة من حجرتين ، وكان الشرط الاساسي للصينيين الا يفصح اعضاء الوفد عن هويتهم ”الإسرائيلية” وأن يبقى هذا الامر سرا. وفي ختام جلسة قصيرة ارتسمت على وجه رجل الاتصال الصيني ملامح الجدية وقال لجيدور رئيس الوفد "محظور عليكم أن تذكروا انكم اسرائيليون.. " اعترض جيدور وادعى انهم ربما يتعرضون لاسئلة لا مفر منها، لكن الصيني تمسك بما قاله.. "لن يسألكم احد ، يجب ان تقدموا ما وعدتم به السلاح السوفييتي المتقدم والاستراتيجية". وبعد ان استدعوا للنوم هذه الليلة أراد جيدور ان يستشير كبار اعضاء الوفد، بن يوسف شبيرا، وقمحي وكرمان. ولخوفه من التنصت طلب محادثتهم خارج المبنى قال لهم.. أنني أنو أن اصعد الى المنصة غدا واقول إننا اسرائيليون، ما رأيكم؟" ارتبك الجميع واختاروا ان يتركوا القرار في يد جيدور. وفي النهاية كما خرجوا سراً ، عاد اعضاء الوفد سرا إلى "إسرائيل" ومع عودة الوفد وفي حوزته المعلومات من مصدرها الاصلي حول الاحتياجات العسكرية للصين، رتبت وزارة الدفاع لإرسال وفد ثان خرجت بعده وفود اخرى تضم خبراء من صناعات السلاح ”الإسرائيلية” وكبار الضباط بالجيش. كما توجه إلى الصين مديرا عموم وزارات الدفاع والمالية، يوسف معيان ويعقوف بيئمان.
وفي يناير 1980 أعلن راديو موسكو ان "إسرائيل" ستساعد الصين للاسراع بتحديث جيشها، واعربت الصين عن ثقتها التامة فيما طورته "إسرائيل" من معلومات وعلوم عسكرية، لكنها ارادت امتلاكها وانتاجها بنفسها. وهكذا تعاملت مع ما حصلت عليه من الاتحاد السوفييتي. وقدمت وزارة الدفاع عرضها بيع المعلومات ضمن بيع انظمة التسليح التي انتجت في "إسرائيل" واضطرت الصين للموافقة. وتم توقيع اتفاق بين الدولتين لشراء العلوم والأسلحة. وحسب تصريحات غربية اشترت الصين من "إسرائيل" انظمة مراقبة للدبابات، مدافع للدبابات ، أجهزة اتصال ، أنظمة قتالية اليكترونية، وساعدت "إسرائيل" ايضا في تطور المقاتلة 10ـ ذ للصين. وقد حصل آيزنبرج الذي توسط في الصفقات واهتم بترتيب كافة الالتزامات، على نصيبه ففي مقابل المعدات والاسلحة التي سلمتها "إسرائيل" دفعت الصين سلعاً ومواد خام، فتلقى آيزنبرج البضائع (أغلبها حرير) وباعها باسعار كاملة في أسواق العالم، ومن اجمالي ما حصله دفع للصناعات العسكرية ”الإسرائيلية” . وحصل في البداية على عمولة بنسب 15% ثم زادها بعد ذلك بمعدل 2% اضافة بحجة انها تكلفت اكبر مما كان مخططا. وحتى منتصف الثمانينات بلغت المبالغ التي ربحها آيزنبرج من مبيعات السلاح الإسرائيلي للصين على الاقل نصف مليار دولار. هذا بخلاف ما ربحته الصناعات العسكرية ”الإسرائيلية”.
إن التعتيم الذي فرضته الصين واسرائيل على العلاقات بينهما استمر لخمس سنوات. وفي عام 1984 أوردت مجلة "جينز" البريطانية المتخصصة في الشؤون العسكرية ان صفقات السلاح بين الصين واسرائيل بلغت 3.5 مليار دولار . وحسب تقديرات اخرى ، حتى نهاية الثمانينات وصل معدل مبيعات السلاح "اسرائيلي" للصين ضعف ذلك.
الصين احدى الدول الفاعلة في النظام العالمي والمرشحة لأن يكون لها حضور وثقل مهمان في تفاعلاته خلال القرن المقبل ولذا باتت محوراً للاستقطاب من قبل العديد من دول العالم.واتساقا مع النهج السياسي المتجذر في الفكر الصهيوني بأهمية التوغل والانخراط في مراكز الثقل وصنع القرار الدولي، بغية تجنيدها لخدمة اهداف المشروع الصهيوني و إسرائيل ، وتحييد أي ضغوط ومخاطر قد تأتي من تلك البيئة الخارجية، أتى الاهتمام المتزايد بالصين من جانب إسرائيل . ويضاعف من حدة والحاحية هذا التوجه رؤية بعض اليهود الى ان الصين هي العالم الجديد، كما كانت الولايات المتحدة طوال القرن العشرين وهؤلاء يتكاثرون محاولين مسك خطوط المستقبل كما يفعلون الآن في مسك خطوط الحاضر. يقدم تطور العلاقات السياسية بين إسرائيل والصين نموذجا كلاسيكياً لدور الدبلوماسية السرية في العلاقات الدولية وتأثيراتها في التقارب بين الدول والمصالح التي قد تبدو متعارضة. فبين تاريخ اعتراف إسرائيل بالصين في 9 يناير 1950 كأول دول شرق أوسطية تقوم بهذا الاجراء ، وقرار البلدين اقامة علاقات دبلوماسية كاملة في 24 يناير 1992، شهدت مسارات حركة وتفاعل البلدين كما كبيرا من اللقاءات والاتصالات الثنائية داخل الصين وخارجها ، والتي ساهمت بدورها في تضييق الفجوة الايديولوجية بين البلدين وتلمس جوانب مصلحية في علاقاتهما ، تدفعها للتطور المؤسسي.
ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي بين ايدينا وهو بعنوان .. "اختراق سور الصين قصة العلاقات الدفاعية لـ "اسرائيل" مع الصين". والذي قام بتأليفه آمنون بارزيلاي المحرر الصحافي بجريدة "هآرتس" ”الإسرائيلية” وصدر في أوائل العام 1999، لكونه يرصد أبعاد ومراحل تلك الدبلوماسية السرية في علاقة البلدين.
تبدأ قصة الدبلوماسية السرية كما يقول بارزيلاي قبل عشرين عاما في 22 فبراير 1979 ، وفي الساعة الثامنة صباحا سحبت طائرة بوينج 707 غير محددة الهوية من مسار جانبي في مطار بن جوريون ،وفي غضون عدة دقائق حلقت في السماء، ولم يمر "الاسرائيليون " الثلاثون الذين حملتهم الطائرة بإجراءات التفتيش المعتادة. لقد كان مطلوبا ان تظل هويتم سرية، إذ جرى استبعاد كل ما يشير إلى "إسرائيل" ، كما منعوا من الافصاح للمقربين منهم ولأسرهم عن هدف رحلتهم. وطارت الطائرة باتجاه الشرق كانت كل هي طائرة مديري رجل الاعمال شاؤول آيزنبرج . وكان المسافرون على متنها اعضاء وفد وزارة الدفاع وكانت وجهة الرحلة الصين الشعبية.
وفي ساعة متأخرة من الليل اقلعت الطائرة من مطار الترانزيت الذي سبق تحديده، ومن ثم وصلت الى بكين. لكن عملية الهبوط في المطار العسكري بضواحي العاصمة توقفت. فقد أورد برج المراقبة ظروفا جوية صعبة وصلت فيها درجة الحرارة على الأرض 17 درجة تحت الصفر، وأدى الجليد الذي غطى المدرج إلى صعوبة اتمام عملية الهبوط. وعلى مدى ساعة كاملة حلقت الطائرة فوق المطار حتى تتلقى إذنا بالهبوط. وكانت مجموعة من الصينيين تنتظر عند عجلات الطائرة، صعد أحدهم وقدم نفسه كمندوب لإحدى شركات التصدير والاستيراد ، وقدم آيزنبرج بدوره له رئيس الوفد جبرائيل جيدور. واستقبل الصينيون "الاسرائيليين" بوجوه صارمة. وباختصار صدرت التوجيهات وتم ترجمتها، إذ توجه اعضاء الوفد إلى حافلتين بينما توجه رئيسا الوفدين إلى السيارتين السوداوين المنتظرتين باحد جوانب الطريق . وفي غضون ساعة واحدة ابتلع الظلام قافلة السيارات. وكما خرجوا سرا من "إسرائيل" دخلوا الصين سرا. ولم يمر اعضاء الوفد الإسرائيلي بأية وحدات تفتيش حدودية او جمركية ، اسرعت القافلة الصغيرة في طريقها الى العاصمة في سرعة بالغة باتجاه بيت الضيافة الرسمي للحكومة الصينية. وهكذا بدأت اولى خطوات العلاقات الدفاعية السرية بين الصين و "إسرائيل".
بيجن يلقي قنبلة الانفتاح على الصين
قبل تاريخ الزيارة بسبعة شعور ، وتحديدا في 18 مايو 1978 ، زار كما يقول المؤلف رئيس الوزراء مناحم بيجن شركة الصناعات الجوية في اللد. وكان في صحبته ايضا وزير الدفاع عزرا وايزمان ونائبه موردخاي تسبوري والقادة العسكريون، العميد افرايم بوران والعقيد آيلان تهيلا. كان ذلك بعد عام ويوم واحد من التحول السياسي الاول في "إسرائيل" وتجمعت وسائل الاعلام التي استشعرت اهمية الحدث في مكان امتلأ عن آخره. لقد توقف 10000 من عمال الشركة وتجمعوا في احد المباني للاستماع اليه، واستغل بيجن هذه الفرصة جيدا. ومما قاله رئيس الوزراء.. "إن شعوبا كثيرة أكبر منا، لا تستطيع أن تتفاخر بما تنتجه الصناعات الجوية في "إسرائيل". قليلون فقط الذين استطاعوا الربط بين هذه الكلمات وما قيل قبل ذلك بوقت يسير في نطاق محدود واكثر خصوصية. ففي حجرة الطعام بمبنى الادارة التقى بيجن ورفاقه بمدير عام شركة الصناعات الجوية جبرائيل جيدور ورئيس مجلس الادارة اسرائيل سحروف . واستعرض جيدور أمام الضيوف إنجازات الشركة واختراق منتجاتها لأكثر من اربعين دولة. استمع بيجن باهتمام ثم علق قائلا: "سيد جيدور" ما قلته رائع، والنتائج التي حققتها باهرة ومؤثرة ولكن لو كنت تستطيع ادخال الصناعة الجوية إلى الصين".
واندهش اعضاء الدارة المصغرة للصناعات الجوية ، فالصين تعتبر خارج نطاق الحسابات "الإسرائيلية" ، لكون حكومتهم لديها قائمة سوداء لدول محظور بيع اسلحة لها. وهي القائمة التي وضعتها وزارتا الخارجية والدفاع، وتأتي الصين على قمتها. وكان المعيار الرئيسي في تشكيل هذه القائمة هو مدى الخطر الذي سيعود على "إسرائيل" نفسها مع بيع السلاح والمعلومات والتقنية المتقدمة. وحتى ذلك اليوم كان واضحا للصناعات الجوية ان الصين تقع تقريبا على رأس القائمة السوداء. لقد كانت الصين صديقة للدول العربية واحدى زعامات العالم الثالث، وكان الخطاب الرسمي في تعريف "إسرائيل" انها "الكلب النابح للإمبريالية الاميركية". اضف إلى ذلك انه لم تقدم أية دولة غربية على بيع سلاح للصين. وفكرة ان تخترق "إسرائيل" هذا الحظر غير المكتوب، كانت تبدو مزعجة كما يقول المؤلف، ولذا كان من الصعب على مسؤولي الصناعات الجوية ايضا ان يتفهموا ان تأتي الفكرة من رئيس حكومة يعتبر مناوئا ومتشددا اتجاه الشيوعية . وزاد من وقعها ايضا تدخل وزير الدفاع وايزمان، الذي عرف جيدور منذ فترة خدمته في سلاح الجو قائلا.. "جدفي، أنت بالطبع فخور بما فعلته في الشركة ، لكنني اوصيك بان تدخلنا الصين".
وطلب جيدور من بيجن ووايزمان ، ان يستخدم معلومات معينة لكي يسارع بدفع الاتصالات مع الصين ، وكان له شرط واحد لقاء ذلك ان يكون على رأس الوفد الذي سيتوجه للصين. وصدر الاذن وعين جيدور نائب مدير عام الشركة للتسويق، وموشيه كيرت رئيسا لمشروع الصين. أما رئيس شعبة القوى البشرية في الادارة الإلكترونية للشركة يوسي كنتي ، فقد تولى مسؤولية التخطيط. وفي نطاق الصناعات الجوية باللد تم تخصيص مبنى خاص للمشروع "هنجي رقم 15" . واحيط بسياج من السلك ، وتم تركيب ابواب جديدة ذات مدخل يعمل بشفرات خاصة ، ووضعت عليه حراسة مشددة.
دبلوماسية آيزنبرج السرية
كانت البداية كما يقول المؤلف قبل ذلك بخمسة شهور ، ففي مطلع 1978 ، بادر رجل الاعمال آيزنبرج بالذهاب لمقابلة وزير الدفاع وايزمان في مكتبه ، وقال لمضيفه.. "يمكنني ان افتح امام وزارة الدفاع الباب إلى الصين، وانني مستعد لوضع طائرة المديرين الخاصة بي تحت امر "إسرائيل". حدث ذلك بعد اكثر من عام على موت الزعيم الصيني ماوتسي تونج. وكانت الزعامة الجديدة برئاسة دينج سيانج بينج ، اكثر برجماتية ،وكانت مستعدة للحصول على استثمارات وتقنية متقدمة من دول كانت تعتبر حتى ذلك الحين في مصاف الاعداء. كانت لآيزنبرج آنذاك علاقات اعمال متعددة في معظم دول شرق آسيا، ولكنه بينما كانت غالبية أعمال في تايوان فإنه لم يهتم بالصين. وقد اسفر التقارب بين الولايات المتحدة والصين في بداية السبعينات، ليس عن تغيير الخريطة السياسية فحسب ، بل ايضا الخريطة الاقتصادية . وقبل موت ماو تعرف آيزنبرج على فرص الاستثمار الجديدة في الصين ، ولكي يتغلب على معوقات التقارب (لم تكن شركات الطيران الغربية تطير الى الصين بعد) اشترى في النمسا عام 1975، طائرة بوينج 707، وقامت فرقة الصيانة بالصناعات الجوية بتحويلها الى طائرة ادارية فاخرة.
طلب وايزمان من بيجن الاجتماع بمجلس الوزراء المصغر، الذي يضم ايضا وزير الخارجية مشيه ديان ، وجرى الاجتماع بعد عدة ايام من محادثات وايزمان وآيزنبرج. وعرض وزير الدفاع ما قاله آيزنبرج باسم حكومة الصين، انها مهتمة باقامة علاقات أمنية مع "إسرائيل" . وكان وايزمان متحمسا، وقد حكى لمقربيه انه منذ الخمسينات يتذكر ما قاله دافيد بن جوريون قبل اجتماع كبار ضباط الجيش عن "اهمية قيام علاقات بين الشعبين العريقين في التاريخ الانساني، الشعب اليهودي والشعب الصيني ثقافيا واقتصادياً ، وبأن هذا الحلم قريب التحقق.
وكان التوقيت مناسبا بالنسبة لـ ""إسرائيل" فمنذ زيارة الرئيس المصري السادات لـ "إسرائيل" قبل ذلك بخمسة شهور تحسنت صورة "إسرائيل" في العالم. وعلمت "إسرائيل" ان الصين رحبت بالعملية السلمية، لكن حكومة "إسرائيل" وخاصة وزارة الدفاع ، كانت قلقة من تدهور الاوضاع في ايران، فقد أورد السفير أوري لوبراني تقريرا عن مرض السرطان الذي يعانيه الشاه وانعدام فعاليته. فكان التنبؤ بان حكم الشاه على وشك الانهيار. فيما عدا الاثر الاستراتيجي لسقوط حكم الشاه كان لدى وزارة الدفاع مشكلة عاجلة. فقد كانت "إسرائيل" وايران على وشك التوقيع على اتفاق تعاون موسع لتطوير انظمة تسليح كاملة للجيش الايراني. وخططت وزارة الدفاع لاستثمار الاموال الايرانية في تطوير منظومات اكثر تقدما في تسليح جيش الاحتلال الإسرائيلي . واثار عدم الاستقرار في ايران الخوف من ان يغلق مصير التمويل الايراني قريبا.
إذن كان لابد من ايجاد البديل، واتفق بيجن ووايزمان وديان فيما بينهم أن الصين، بعد رحيل ماو ،يمكن أن يكون زبونا للصناعات الامنية، "الإسرائيلية" ، واتخذ الرجال الثلاثة قرارين ، أولهما ، الحفاظ على سرية العلاقات الامنية المزمعة مع الصين ، وثانيهما يتصل بالعلاقات بين "إسرائيل" والولايات المتحدة التي اذابت جمود علاقاتها مع الصين، لكنها لم تعلن علاقات دبلوماسية كاملة (كان الاعلان عن علاقات دبلوماسية في 15 ديسمبر 1978، عشية توجه الوف الإسرائيلي إلى الصين) وكان تقدير مجلس الوزراء المصغر ان الولايات المتحدة لن تعارض تبادل الاتصال بين "إسرائيل" والصين. بعد زيارة بيجن للصناعات الجوية اتصل بمدير عام الشركة جيدور بثلاثة عناصر متعددة لها صلة بالصين. وكان احدهم آيزنبرج هو الذي ابرم الصفقة المشتركة الأولى مع الصناعات الجوية عام 1971. وبعد نجاح هذه الصفقة اقترح آيزنبرج ان يتولى إدارة اعمال الصناعات الجوية في منطقة شرق آسيا بفضل علاقاته الجيدة بدولها، وكان بذلك وكيل اسلحة الصناعات الجوية في الشرق الاقصى. وفتحت علاقاته الخاصة بالفعل امام الشركة اسواقا جديدة، وتحديدا في الشرق الاقصى. وفتحت علاقاته الخاصة بالفعل امام الشركة اسواقا جديدة، وتحديدا في الفلبين وتايوان. ولكن كانت هناك مشكلة واحدة فقط خيمت على العلاقات التعاقدية، وهي تصميم آيزنبرج على ان يحضى باحتكار المنظمة وطلب عمولة بنسبة تتراوح بين 17% الى 20 % من اجمالي المبيعات.
وقد دهش رئيس الحكومة اسحاق رابين الذي تولى منصبه 1974 من النسبة التي يطلبها آيزنبرج الذي تعنت وتمسك بمطالبه المادية. ولأنه لم يكن هناك قناة اتصال اخرى مع الشرق الاقصى، اضطرت وزارت الدفاع الخضوع لشروطه. لقد عرف بيجن وديان آيزنبرج جيداً ، فقد عرفه ديان عندما كان يشغل منصب وزير الدفاع ، وكان أول من وافق على شروط الصفقات التي ابرمها ، كذلك عرف المليونير اليهودي الطريق الى بيجن واستضافه اكثر من مرة في منزله الريفي. غير ان النسبة العالية التي تمسك بها آيزنبرج ادهشتهم ايضا. ولهذه الاسباب لم يتحمس، على ما يبدو بيجن وديان لإسناد مهمة اختراق السوق الصيني لآيزنبرج. وبعد عدة اسابيع ظهر في الصورة رجل اعمال آخر ، وهو يكوتال فيدرمان صاحب سلسلة فنادق دان.وقد علم فيدرمان صاحب مصنع "إل . أوف" لإنتاج انظمة الكترو ـ بصرية عسكرية ان الصين مهتمة بالعلوم والتقنية العسكرية التي تطورها "إسرائيل" وكان مصدر هذه المعلومات رجل الاعمال السويدي ماكس شميدت ،شريكه في احد المشروعات. وقد اوضح شميدت لفيدرمان ان الجيش الصيني مزود باسلحة قديمة وأنه باستطاعته ان يضعه على اتصال بإحد زعماء الصين.
وفي نهاية سبتمبر 1978 جرت اول مقابلة كما يقول المؤلف في فندق رويال مونسو بباريس ، خلالها قال المندوب الصيني لفيدرمان ان وزير الخارجية الامريكي الاسبق هنري كسينجر قال للصينيين.. "انه يمكنهم الاعتماد على الاسرائيليين ، حيث يصنعون اسلحة لا تقل جودة عن الاسلحة الامريكية". وذكر المندوب الصيني لفيدرمان ان الصين مثلها مثل "إسرائيل" ، اعداؤها في آسيا اكثر من الاصدقاء وفي نفس المساء شاهد فيدرمان نشرة الاخبار بالتلفزيون الفرنسي. وعندما تعرف فيدرمان على صورت الرجل ايقن انه نفس المندوب الصيني الذي التقى به في الفندق وفي احد الايام اتصل بن يوسف بفيدرمان وطلب منه وقف الاتصال مع الصينيين . وذكر له ان رئيس الحكومة قال ان آيزنبرج لديه احتكار للتعامل مع الصين ولا يجب افساده.. واتصل فيدرمان مباشرة ببيجن لكنه تلقى ردا واضحا.. "انني اقدر تماما ما تفعله، لكن لدينا شيء مهم هنا له خصوصية. وانت لا تعرف كل شيء ولا استطيع الان اتخاذ قرار بتغيير الوضع وفي هدوء ادار آيزنبرج مفاوضات شاقة مع وزارة الدفاع ليحظى بإطلاق يده واحتكار المشروع. إذ التزم بإيجاد علاقة مع الصينيين خلال أربعة او خمسة شهور. وقال آيزنبرج لوايزمان.. إذا لم انفذ ذلك اعطوا الموضوع لشخص آخر. وكان وايزمان متمسكا بمنح احتكار العلاقات مع الصين لآيزنبرج، إذ كان على قناعة كبيرة استمرت حتى اليوم أن آيزنبرج فقط هو المؤهل لاختراق الصين.
خطة أولمبيا
كان لتعنت وزارة الدفاع ازاء فكرة ان يترأس الوفد الصيني جيدور مدير عام الصناعة الجوية ، ان نشب حول ذلك جدل كبير كما يقول المؤلف ، وقد ذكر مدير عام الوزارة يوسف معيان ، ونائبه افراهان بن يوسف ان رئاسة الوفد لابد ان تكون من نصيب ممثلي الوزارة. اعقب ذلك تساؤل محوري مفاده.. هل عملية الاتصال مع الصين ستكون بين الحكومتين او بين المؤسسات الصناعية؟ .. كان لهذا التساؤل نصيب من النقاش في مجلس الوزراء الأمني المصغر. صحيح ان كل الصناعات في الصين كانت ضمن ملكية الدولة، لكن بيجن ووايزمان وديان قرروا ان تكون الرحلة إلى الصين في اطار العلاقات التصنيعية، وليس بين الحكومات. وتحدد نهائيا ان يكون جيدور رئيسا للوفد. واطلق على مشروع الصين ام "اولمبيا". وشكل رئيس شعبة دعم التصدير الامني في وزارت الدفاع اسحاق شبيرا ،فريقا من كبار العاملين في الصناعات الامنية، وامدهم آيزنبرج بمعلومات هائلة من خلال رحلاته المتتالية للصين وابلغ وايزمان وجيدور ان الصين مستعدة لشراء كل شيء.
وخلال عدة اسابيع تشكل الوفد ، وشملت القائمة ، بخلاف من يوسف وشبيرا ، ايضا رئيس قسم الشؤون الدفاعية بوزارة الدفاع حاييم كرمان، ورئيس شعبة الاتصالات الخارجية في الموساد دافيد قمحي، ومجموعة كبيرة من رجال الصناعات الامنية ومن بينهم ، من الصناعات الجوية جيدور رئيس الوفد ، د. مائير دفيرو نائب مدير عام شعبة البحث والتطوير، ود. نينو ليفي مدير عام شركة التا، ود. بن تسيون نافيه مدير هيئة تطوير الوسائل القتالية، وعقيد احتياط آهرون بيت هالحمي نائب مدير عام الصناعة العسكرية المتسقة مع الانتاج، وكان ضمن المسافرين ايضا آيزنبرج واثنان من رجاله، يوناتان زوخوفيتسكي وشالوم آرياف. وفي وزارة الدفاع تشكل فريق دراسة لجمع واعداد المادة المعلوماتية عن الصين. وكان على رأس هذا الفريق استاذان من الجامعة العبرية تخصصا في شؤون الصين والشرق الاقصى هما ، اسحاق شيمور ورافي إسرائيلي، وعلى مدى عدة اسابيع اعطى الاثنان كل المعلومات والتوجيهات المطلوبة لأعضاء الوفد عن الصين وزعمائها وتاريخها، وعرضا كل ما خفى عن أهمية الزعامة الصينية التي سبق وحكمت الصين. واستقر الامر على انضمام رافي اسرائيلي إلى الوفد كمترجم. وكان الجميع يتحدثون عن نافذة الفرص السياسية التي انفتحت في الصين. ودعم هذا الاحساس سلسلة الاحداث التي وقعت في الصين بداية من عام 1979. ففي الأول من يناير اعلنت العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين . وفي 16 يناير ترك الشاه ايران وبعد اسبوعين دخل الخوميني طهران. وفي 29 مارس وقعت مصر واسرائيل على اول اتفاقية للسلام.
بعد سقوط شاه ايران اختارت "إسرائيل" الصين سوقا بديلا لصناعاتها الحربية
إلا ان التطور الاهم من وجهة نظر بارزيلاي كان في العام 1978، حينما تدهورت العلاقات بين الصين وفيتنام. فقد اتهمت حكومة الصين جارتها الجنوبية بملاحقة مواطنين من اصل صيني، وكان وراء هذه الاتهامات سعي صيني للقيام بتغييرات على حدودها في فيتنام. ونشبت بين الدولتين معارك شرسة، وكانت حالة الجيش الصيني ليست على ما يرام. وأعلن الاتحاد السوفيتي تأييده التام لفيتنام، ومن ثم انتاب الصينيين القلق البالغ ، وقد وصلت المواجهة العسكرية بين الصين وفيتنام الى ذروتها مع نهاية 1978 وبداية 1979، اذا اكتسبت ابعاد حرب حقيقية. وقبل اسبوع من توجه الوفد الإسرائيلي للصين، ارسلت الصين مئات الآلاف من الجنود والف طائرة إلى ساحة المعركة، وخشى الاسطول السوفييتي مساعدة فيتنام، التي نجحت قواتها بمفردها في صد الجيش الصيني، وفي 20 فبراير ، قبل توجه الوفد الإسرائيلي بيومين إلى الصين بدأ 150 ألف جندي صيني في الانسحاب . وفي اليوم التالي وصلت تقارير حول استنفار عسكري سوفييتي على طول الحدود مع الصين، وفي هذه الاثناء زار آيزنبرج الصين مرتين على الاقل ، ليقف على احتياجاتها الامنية. واتضح من المعلومات التي وصلته ان الحقيقة مذهلة. فبسبب الغاء اتفاقية المساعدات السوفيتية عام 1968، وانعزالها عن الدول الغربية سقطت الصين في انحدار عسكري في التجهيزات والتقنية وبسبب المواجهة العسكرية من الجنود والتهديد من الشمال ، اصبحت الامور الامنية على رأس أولويات الزعامة الصينية الجديدة. وكانت أهم رسالة نقلها آيزنبرج ان "إسرائيل" هي الدولة الوحيدة في العالم التي يمكنها في ذلك الوقت ان تساعد الصين في إعادة بناء جيشها والرد على التحدي الذي تجده في جيش فيتنام.
لقد طورت "إسرائيل" انظمة الحرب التي استهدفت كسر الشوكة العسكرية السوفييتية، وايضا طورت وانتجت انظمة تسليحية للرد على القدرة العسكرية الروسية ، كما ظهر في حرب اكتوبر 73، قبل ذلك بخمسة أعوام. ليس ذلك فقط، فقد سقطت في أيدي جيش الدفاع ابان حرب اكتوبر ان اسلحة سوفييتية احدث مما كانت مستخدمة في الجيش الصيني، واستولت على عشرات الدبابات الروسية من طرازات متقدمة آنذاك، مثل طرازات ت55 ـ ت 62ـ ت وقد اضافت إليها "إسرائيل" أجهزة مراقبة النيران وأجهزة رؤية خاصة، وحسنت قدرتها والحقتها بالخدمة في وحداتها. وفي اعقاب حرب 73 طورت "إسرائيل" ايضا الاساليب القتالية ضد الصواريخ أرض ـ جو السوفييتية من نظام سام 6 الاكثر تقدما، التي تسببت في اضرار بالغة لسلاح الجو الإسرائيلي . كما جرى ايضا تطوير أجهزة قتالية اليكترونية ، أجهزة رادار ارضية واجهزة رادار محمولة على مقاتلات جوية. هذه الانظمة الجوية التي طورتها الصناعات الامنية كانت موجهة ضد المقاتلات السوفييتية، وهي نفس الطائرات التي كانت تهدد الصين آنذاك هذه الطائرة التي كانت من جيل اقدم، كانت في حوزة سلاح الجو الصيني. لقد كانت الصين إذن في اشد الحاجة للتقنية والعلم العسكري الإسرائيلي . وكان هناك شعور قوي عند الوفد المزمع زيارة الصين، بأن لديهم القدرة على تقديم عرض استراتيجي حقيقي للصين، نابع من الخبرة العسكرية والفنية لـ "إسرائيل" .
وقد جرى تسكين الوفد الإسرائيلي في شقق كل شقة مكونة من حجرتين ، وكان الشرط الاساسي للصينيين الا يفصح اعضاء الوفد عن هويتهم ”الإسرائيلية” وأن يبقى هذا الامر سرا. وفي ختام جلسة قصيرة ارتسمت على وجه رجل الاتصال الصيني ملامح الجدية وقال لجيدور رئيس الوفد "محظور عليكم أن تذكروا انكم اسرائيليون.. " اعترض جيدور وادعى انهم ربما يتعرضون لاسئلة لا مفر منها، لكن الصيني تمسك بما قاله.. "لن يسألكم احد ، يجب ان تقدموا ما وعدتم به السلاح السوفييتي المتقدم والاستراتيجية". وبعد ان استدعوا للنوم هذه الليلة أراد جيدور ان يستشير كبار اعضاء الوفد، بن يوسف شبيرا، وقمحي وكرمان. ولخوفه من التنصت طلب محادثتهم خارج المبنى قال لهم.. أنني أنو أن اصعد الى المنصة غدا واقول إننا اسرائيليون، ما رأيكم؟" ارتبك الجميع واختاروا ان يتركوا القرار في يد جيدور. وفي النهاية كما خرجوا سراً ، عاد اعضاء الوفد سرا إلى "إسرائيل" ومع عودة الوفد وفي حوزته المعلومات من مصدرها الاصلي حول الاحتياجات العسكرية للصين، رتبت وزارة الدفاع لإرسال وفد ثان خرجت بعده وفود اخرى تضم خبراء من صناعات السلاح ”الإسرائيلية” وكبار الضباط بالجيش. كما توجه إلى الصين مديرا عموم وزارات الدفاع والمالية، يوسف معيان ويعقوف بيئمان.
وفي يناير 1980 أعلن راديو موسكو ان "إسرائيل" ستساعد الصين للاسراع بتحديث جيشها، واعربت الصين عن ثقتها التامة فيما طورته "إسرائيل" من معلومات وعلوم عسكرية، لكنها ارادت امتلاكها وانتاجها بنفسها. وهكذا تعاملت مع ما حصلت عليه من الاتحاد السوفييتي. وقدمت وزارة الدفاع عرضها بيع المعلومات ضمن بيع انظمة التسليح التي انتجت في "إسرائيل" واضطرت الصين للموافقة. وتم توقيع اتفاق بين الدولتين لشراء العلوم والأسلحة. وحسب تصريحات غربية اشترت الصين من "إسرائيل" انظمة مراقبة للدبابات، مدافع للدبابات ، أجهزة اتصال ، أنظمة قتالية اليكترونية، وساعدت "إسرائيل" ايضا في تطور المقاتلة 10ـ ذ للصين. وقد حصل آيزنبرج الذي توسط في الصفقات واهتم بترتيب كافة الالتزامات، على نصيبه ففي مقابل المعدات والاسلحة التي سلمتها "إسرائيل" دفعت الصين سلعاً ومواد خام، فتلقى آيزنبرج البضائع (أغلبها حرير) وباعها باسعار كاملة في أسواق العالم، ومن اجمالي ما حصله دفع للصناعات العسكرية ”الإسرائيلية” . وحصل في البداية على عمولة بنسب 15% ثم زادها بعد ذلك بمعدل 2% اضافة بحجة انها تكلفت اكبر مما كان مخططا. وحتى منتصف الثمانينات بلغت المبالغ التي ربحها آيزنبرج من مبيعات السلاح الإسرائيلي للصين على الاقل نصف مليار دولار. هذا بخلاف ما ربحته الصناعات العسكرية ”الإسرائيلية”.
إن التعتيم الذي فرضته الصين واسرائيل على العلاقات بينهما استمر لخمس سنوات. وفي عام 1984 أوردت مجلة "جينز" البريطانية المتخصصة في الشؤون العسكرية ان صفقات السلاح بين الصين واسرائيل بلغت 3.5 مليار دولار . وحسب تقديرات اخرى ، حتى نهاية الثمانينات وصل معدل مبيعات السلاح "اسرائيلي" للصين ضعف ذلك.