الهجرة النبوية الشريفة
انتصار الخير على الشر
انتصار الخير على الشر
محمود القاعود
منذ أن خلق الله بنى آدم ، وُجد الخير والشر ، ودائماً ما ينتصر الخير على الشر مهما طال الزمان ومهما استمر الظلم والطغيان .. فالصراع بين الخير والشر صراع أبدى ودائم حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، واللبيب من يتأمل فى نهايات الصراع الشرس الممتد عبر التاريخ بين الخير والشر ..
لم نسمع أو نقرأ أبداً عن انتصار الشر على الخير .. نعم قد يبدو للناس أن هناك شراً لا خلاص منه ولا انتصار للخير عليه .. ولكن سرعان ما يبدو الخير قوياً لا يخلف وعده أبداً ونرى الشر يندحر وينزوى بعيداً ..
ولعل أولى صراعات الخير والشر التى وقعت بين بنى آدم ، هى ما حكاه رب العزة فى قرآنه الكريم بشأن ابنى آدم :
" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ " ( المائدة : 27 – 32 ) .
تسرد الآيات وقائع الصراع بين الخير والشر .. بين الصالح والطالح .. بين الاستجابة لنداء الله ، والاستجابة لنداء الشيطان الرجيم .. " قابيل " يُهدد ويتوعد شقيقه " هابيل " فيأتيه رد الخير " لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ " .
هكذا كان رد الخير على بشاعة الشر .. وهكذا كان توضيح جزاء الشر ومن يقترفه " فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ " ..
وغالباً ما يعقب الشر الندم .. لكنه فى أحيان كثيرة لا ينفع الندم ولا يُفيد الشرير بأى شئ ، ويصدق على ذلك حال الظالمين الأشرار يوم القيامة :
" يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا " ( النبأ : 40 ) .
" وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا " ( الفرقان : 27 – 29 ) .
كما أن ندم الأشرار الكفار لا يُعبر عن عقيدة راسخة تجعلهم يُتوقون إلى الإيمان والصلاح .. ولكنه ندم للهروب من المصير المخزى ، يقول تعالى :
" وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ " ( الأنعام : 27 – 31 ) .
يوضح الله تعالى حقيقة الأشرار الذين كذبوا بالله وآياته ، ويخبرنا حقيقة أمنياتهم بالعودة مرة أخرى إلى الدنيا ليعملوا صالحاً ! فيقول الله تعالى أنهم " وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " أى أن ندم الكفار الأشرار لن يُفيدهم فى شئ .
والمتأمل فى مصير الأشرار يجد أنهم لا يتعظون من حوادث التاريخ ولا من نهايات الشر المخزية ، فقد غرّتهم الحياة الدنيا واستجابوا لنداء الشيطان الرجيم ؛ رغم علمهم ويقينهم أن الشيطان سيخذلهم ولن ينصرهم أبدا ..
يقول الحق سبحانه وتعالى يحكى قصة الشيطان الرجيم يوم القيامة ، وكيف أنه يخذل من استجابوا لدعوته الآثمة ، واعتراف الشيطان بأن الله هو الحق وأن وعده الحق ، وأنه – أى الشيطان الرجيم – لا لوم عليه .. فما فعله لم يتعد أنه دعاهم للفسوق والعصيان .. وهم استجابوا لدعوته الآثمة : (( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) ( إبراهيم : 22 ) .
ويحكى الحق سبحانه وتعالى ما فعله الشيطان الرجيم عندما زين للكفار سوء أعمالهم ووسوس لهم بأنهم سينتصرون على المسلمين وأنه سيجيرهم ويُدافع عنهم ، فلما جد الجد ورأى عقاب الله ينزل بالمشركين ورأى الملائكة التى أرسلها الله للدفاع عن رسوله وصحابته ، لاذ بالفرار :
(( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ )) ( الأنفال : 48 ) .
وهو عين ما حدث من الشيطان لما زين للإنسان الكفر ، ثم اعترف بخوفه من الله رب العالمين وتبرأ من هذا الإنسان الكافر الذى استجاب لدعوته : (( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )) ( الحشر : 16 ) .
ونستخلص من هذه الآيات الكريمات أنه لا لوم على الشيطان .. ولكن اللوم على من يستجيب للشيطان .. اللوم على الأشرار الذين صدّقوا دعوة الشيطان .. وكفروا بانتصار الخير على الشر .
الهجرة النبوية الشريفة .. انتصار الخير على الشر :
من أروع الأمثلة فى تاريخ انتصارات الخير على الشر ، حادث الهجرة النبوية الشريفة .. تلك الهجرة إلى الله .. تلك الهجرة التى كانت هجراً للظلم والفحش والطغيان .. تلك الهجرة التى أسست لعالم خيرى تسود فى القيم والمثل والأخلاق .. عالم تكون فيه كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ..
لقد تعرّض الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لحملات إيذاء عاتية منذ أن بدأ يجهر بدعواه المباركة .. لم يرق لأنصار الشر الكُفار ما جاء به محمداً صلى الله عليه وسلم من عند ربه .. فأخذوا يُضيّقون عليه ويروّعون أتباعه ويُعذّبون أنصاره ، ويحاصرون قومه .. فكيف له أن يجعل الآلهة إلها واحداً ؟!
" وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ " ( ص : 4 – 8 ) .
حاول الكُفار بشتى الطرق أن يعرقلوا مسيرة الدعوة .. فلما وجدوا إصرار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على دعواه ، ذهب بعضهم إلى الترغيب علهم يجدوا فيه ما يثنيه عن الدعوة إلى عبادة الله الواحد الأحد ..
جاء فى السيرة المطهرة للرسول صلى الله عليه وسلم أن عتبة بن ربيعة، ذهب للرسول وقال له: "يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها ". فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل يا أبا الوليد، أسمع". قال: " يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد مُلكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيكَ رَئيّاً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه".
فقال الرسول : أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل. قال: ( بسم الله الرحمن الرحيم : حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ )
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها وهي قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ). فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك. فلما يأس عتبة من مساومة الرسول الأعظم خرج يبلغ قومه ما كان .. فاجتمع رأيهم على أن يجتمع بالرسول أشراف قريش من كل قبيلة، وهم: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، وأبو البَختري بن هشام، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل ونُبيه ومُنبِّه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، ليفاوضوه؛ حتى إذا ما قصرت الحجة بأحدهم لقنها إياه صاحبه.
فاجتمعوا وبعثوا إلى محمد من يخبره ويقول له: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتِهِم. فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً، وهو يظن أنه قد بدا لهم بما كلمهم فيه بَدَاء، وكان عليهم حريصاً، يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا له: يا محمد، إنّا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت لهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل إلي كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. أ.هـ
هكذا حاول الكُفار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع الحيل وشتى الطرق ، إلا أن تمسكه بالحق يزداد ووقوفه فى وجه الجور والكفر والطغيان يتعاظم .
التحايل على الخير :
ما بين تعذيب وترغيب .. اجتمع الكفار بأبى طالب عم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وابلغوه أن يُساوم محمداً فى أمر الدعوة ليريحهم ويستريح .. ليتركهم على الكفر وليكفوا آذاهم عنه وعن أتباعه ..
يقول ابن إسحاق فى سيرته : حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له يا ابن أخي ، إن قومك قد جاءوني ، فقالوا لي كذا وكذا ، للذي كانوا قالوا له فأبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد بدا لعمه فيه أنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته " قال ثم استعبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكى ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا ابن أخي ، قال فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال اذهب يا ابن أخي ، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا .
وأمام هذا التصميم الرهيب على مواصلة الدعوة وعدم الخضوع لابتزاز الشر وأهله من عتاة الكُفار .. كانت حملة عاتية ضارية شنها الكفار الفُجار ضد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وضد أصحابه الكرام الذين آمنوا بدعوته وصدقوا برسالته .
مهما طال الليل فلابد من طلوع الفجر :
لم يخبرنا التاريخ أنه فى أحد الأيام توقفت الدنيا عند الليل ولم ينبلج النهار .. ولم يجعل الله الليل سرمداً إلى يوم القيامة .. بل جعل الليل والنهار .. ومهما طال الليل فلابد من طلوع الفجر ولابد من شروق الشمس ..
وكذا مهما طال الظلم والجور فلابد أن تتحقق العدالة ولابد أن تكون هناك نهاية للعذاب ولابد أن ينتصر المظلوم فالأيام دول .. يقول الحق سبحانه وتعالى : "وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ " ( آل عمران : 140 ) .
ولله در الشاعر أبى البقاء الرندى إذ قال فى معرض رثاء الأندلس :
لكل شئ إذا ما تم نقصان فلا يُغر بطيب العيش إنسان
هى الأمور كما شاهدتها دول ومن سره زمن ساءته أزمان
أجل الأيام دول ..
لقد اشتد الإيذاء لرسول الله ولصحبه الأطهار وكانت العبارة الخالدة للرسول الكريم " صبراً آل ياسر " تعبر عن مدى بشاعة التعذيب والتنكيل والإجرام الذى يُلاقيه المسلمون .
الهجرة النبوية.. بداية النهاية لرحلة الظلم والعذاب :
اشتد الكرب والبلاء على رسول الله .. وهنا كان لابد من الهجرة .. للمحافظة على أمر هذا الدين وحامل هذه الرسالة العظيمة .. حاصر عتاة الكُفر والإجرام بيت رسول الله .. ليقتلوه .. ينام الإمام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بكل شجاعة وبطولة فى فراش المصطفى صلى الله عليه وسلم .. يعمى الله الكفار .. ويضع الرسول الكريم فوق رؤوسهم التراب إمعاناً فى إذلالهم .. يُفاجأ الكفار بما حدث .. يُعلنون عن جوائز ضخمة لمن يأتى برسول الله ...
أحداث تتلاحق ويد الله تؤيد حبيبه ومصطفاه .. يد الله ترعى الرسول وصاحبه " أبو بكر الصديق " رضى الله عنه وأرضاه .. لا يخشى من ملاحقة الكفار الأشرار الذين أقسموا ألا يتركوه حياً .. يمكث رسول الله فى الغار ومعه أبى بكر الصديق .. ويخشى أبو بكر من بطش الكفار الذين يُحاصرون الغار وبينهم وبين الرسول وصاحبه عدة أمتار " يا رسول الله ، لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا " .. لكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يُطمئن أبا بكر بأن الله هو الذى يدافع عنهما فيقول له : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا .. فتهدأ نفس أبى بكر الصديق .. فماذا بعد حماية ورعاية الله ؟
" إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " ( التوبة : 40 )
البدر يطلع فى المدينة المنورة :
ظل الأنصار ينتظرون طلوع البدر .. طلوع القمر المضئ .. طلوع رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين .. مرت الأيام وهلت أنوار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهرع أهل المدينة يستقبلون أشرف خلق الله أجمعين .. الكل يُريد شرف مصافحة الرسول والجلوس إليه .. الجميع ينشد ويردد :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعى لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
فتح مكة وانتصار الخير على الشر :
مرت الأيام ودخل رسول الله مكة التى طُرد منها وفر من عذاب أهلها وجورهم .. وسأل الكريم صلى الله عليه وسلم أهلها : يا معشر قريش : ما ترون أنى فاعل بكم .. ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : فإنى أقول لكم ما قاله يوسف لإخوانه : لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ .. اذهبوا فأنتم الطلقاء "
غفر الرسول الكريم لجميع من آذوه وضيقوا عليه وحاصروه .. لم يستجب لشهوة الانتقام برغم إجرام أهل مكة من الكفار الذين فعلوا به وبأصحابه الأفاعيل .. سامحهم وهو القوى العزيز الكريم والذى كان بإمكانه بإشارة واحدة باصبعه أن يطير أعناقهم .. بين لهم كيف أن الخير ينتصر على الشر مهما طالت الأيام والليالى .. كيف أن الظلم سرعان ما يتهاوى .. وأن العدل يجب أن يسود بين بنى البشر .. فشريعة الشيطان تؤدى إلى الشرور والآثام .. وشريعة الله تؤدى إلى العدل والإحسان والخير .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . وكل عام وأنتم بخير بمناسبة مرور 1430 سنة على هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم .