أدى الانقلاب العسكري الذي نفذه تنظيم الضباط الأحرار "إلى تسليم الجيش السلطة في مصر يوم 23 تموز (يوليو) 1952. وكان هذا التحرك السياسي للمؤسسة العسكرية الذي استهدف السلطة وخلع الملك فاروق يحمل في سيرورة أحداثه ثورة حقيقية. شكلت منعطفاً سياسياً مهماً في تاريخ مصر، لجهة حسم الصراع بين قوى الثورة المتحدية وقوائم وصيغ النظام القديم البائد، وتجسيد بداية التطور المستقل للبلاد. على أن ما تميزت به ثورة 23 يوليو أن "الجهاز السياسي الذي قام بها وهو الضباط الأحرار كان أقرب إلى أن يكون "عينة" سياسية ثورية(1).
لقد انتقلت السلطة من أيدي الإقطاعيين، وكبار الملاكيين العقاريين ومحتكري رؤوس الأموال الكبيرة الذين ينتمون إلى الطبقة العليا، والذين كانوا يشكلون القوى الحفيظة للنظام الملكي القديم، الذي عصفت به أزمات المرحلة الليبرالية المنقولة عن الغرب التي تعود بدايتها إلى ثورة 1919، والتي قوامها دستور 1923 والنظام البرلماني والحياة النيابية، إلى ممثلي شرائح الطبقة الوسطى القريبة من طموحات ومصالح الجماهير الشعبية الكادحة.
أن تقهقر الإقطاع وشبه الإقطاع، وسيطرة الملاكين العقاريين الكبار والرأسمالية الكبيرة على السلطة السياسية الداخلية في مصر، وتقهقر البرجوازية بأشكالها المختلفة وشكلها الأساس الكمبرادوري، وصعود شرائح وفئات من الطبقة الوسطى إلى السلطة، قد جعل كل البنيان الطبقي في المجتمع المصري مفتوحاً وفي حالة عدم استقرار نظراً للضعف العددي والبنيوي للطبقات الاجتماعية الكلاسيكية بالمفهوم الغربي (البرجوازية والطبقة العاملة) وللسيولة الطبقية الجارية على صعيد شرائح وفئات الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة التي أصبحت تحتل المركز الأول في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية منذ العام 1952 وحتى نهاية الستينات، والتي اضطلعت بعملية التحديث والنهضة الوطنية في مصر "الثورة" على حد مقولة موروبرجر Morroe Berger" عن "الأهمية التاريخية لنشوء الطبقة الوسطى" في مؤلفه البيروقراطية والمجتمع في مصر المعاصرة"، حيث ختم مؤلفه بالصياغة التالية لمقولته" وكثيراً ما يقال أن النظام العسكري القائم يحاول تمثيل الطبقة المتوسطة التقليدية من موظفي الحكومة وأرباب الأعمال الحرة وصغار التجار، وإنما الحقيقة تكمن في أن النظام العسكري يحاول أن يكون ممثلاً للطبقة المتوسطة (الحديثة) التي ما زالت في طور التكوين والتي تقع على عاتقها مهام تكنولوجية وإدارية وريادية في مجال تحفيز الاستثمارات، وعلى وجه التحديد، فإن النظام العسكري يحاول خلق طبقة جديدة ليمثلها" (2).
من المعلوم تاريخياً أنه ليست هي المرة الأولى التي يقوم فيها الجيش بحركة سياسية راديكالية على صعيد تحديث الدولة والمجتمع في مصر. فقد سبقت حركة (23) يوليو 1952، حركة محمد علي العسكرية التي حدثت في العام 1805، حين قامت بعملية التغيير السياسي التحديثي في مصر على نطاق الدولة القائمة وبوساطة القوة العسكرية، ومنذ ذلك التاريخ مروراً بمرحلة الاستعمار الأوروبي أصبحت علاقة الجيش قوية بالمجتمع. على الرغم من أن استقطاباته الرئيسية كانت مقتصرة في البداية على أبناء الأقليات والعلاقات الأرستقراطية والإقطاعية من الشراكسة والأرناؤوط، وعدم تصعيد العرب المصريين إلى احتلال مراتب عليا في المؤسسة العسكرية لبناء العسكر وقوى الأمن. وهكذا، أخذ الجيش يكتسب صفة المؤسسة العسكرية المنوط بها وفق تخصصها الدفاع عن الوطن، والنظام السياسي أياً كانت السياسة التي ينتهجها هذا النظام، وصفة الإسهام في عملية التحديث والتنمية في آن معاً.
والحال هذه بدأت الحركة السياسية للجيش تبرز للوجود ولكن كحركة مستقلة بذاتها لأن هذا الأمر سرعان ما تقمعه الدولة، التي لا تسمح لنشوء حركة سياسية بين ضباط الجيش قد تهدد سلطتها وتحدث تغييراً في أوضاعها -وإنما من خلال ارتباطات بحزب سياسي معين، مثل الحزب الوطني الذي تكون من خليط قيادات سياسية مدنية، وقيادات عسكرية منها أحمد عرابي. ولما كان المجتمع المصري مجتمعاً فلاحياً -زراعياً، لذا أصبحت المؤسسة العسكرية هي الوسيلة الوحيدة لأبناء الفئات والطبقات الفقيرة من الشعب من أجل الحصول على وضع أفضل على صعيد الوظيفة والضمانات الصحية والعائلية، وعلى صعيد الارتقاء في السلم الاجتماعي. وقد ضاعفت من هذه العملية استقلال مصر، وفتح أبواب الاستقطاب في الجيش المصري من فئات الشعب، خصوصاً من الطبقة الوسطى الريفية، وخريجي المدارس الثانوية، وأبناء الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً، واتجاه البرجوازية المصرية الكبيرة إلى الأعمال التجارية والصناعية بالاشتراك مع الرساميل الأجنبية، لكي تفرز من صفوفها وكلاء للشركات الاحتكارية ووكلاء لهم لكي يصدروا الإنتاج الزراعي المحلي إلى السوق الرأسمالية العالمية. علماً بأن هذه الطبقة التي نمت على أرضية الاحتلال وعلى أرضية السيطرة السياسية الإقطاعية، لم تكن منفصلة عن السيطرة الاستعمارية على مصر، وستظل الطبقة السياسية الحاكمة في مصر قناة السيطرة الإمبريالية عليها حتى اندلاع ثورة يوليو. وأمام هذا الاتجاه لأبناء البرجوازية والإقطاع والعائلات الأرستقراطية للعمل في حركة التجارة الداخلية والخارجية، والزراعة الرأسمالية الحديثة والصناعة، أكثر من اهتمامهم للعمل في الوظائف العامة للدولة، ضعف اهتمام هؤلاء الخاصة بالعمل في المؤسسة العسكرية.
ومع هذا التحول، تبدلت عملية استقطاب الضباط من العسكر من بقايا الإقطاعيين والملاكين العقاريين الكبار، ومن البرجوازيين التقليديين الكمبرادوريين، إلى الاستقطاب من شرائح وفئات الطبقة الوسطى، والبرجوازية الصغيرة والفلاحين الفقراء، وهي الفئات التي تتمخض عنها الأفكار السياسية الثورية بمختلف أشكالها في مصر والوطن العربي عامة، والتي ستعمل على تنمية وضعها الثوري داخل المؤسسة العسكرية، ولكن من خلال الاتصال مع الحركة السياسية لا بالانفصال عنها.
وهكذا اتسم العسكر بثلاث صفات متلازمة: فقد أصبح مهنة مختصة، ونموذجاً للتنمية والانتماء وصورة مصغرة عن الدولة تصل أطرافه إلى الفصائل المتنوعة في المجتمع. ومما يعزز من تصور الناس للعسكر على أنه كلية تقنية اعتبارهم إياه "جنة الوظائف" (فيدكيوتس 1967-139) وأفضلها بالفعل كان الجيش أول من اتبع سياسة الضمانات في العمل، كالضمان الصحي والتعويضات العائلية والتأمين وقواعد التقاعد والترقي والمكافآت، بالإضافة إلى ذلك توفير الجيش لأفراده الملبس والمآكل والمسكن فيصبح بذلك مثالاً للإنعاش الاجتماعي، فلا عجب أن يكتسب الجيش في العالم الثالث صفة "نموذج المستقبل" وأن يتطلع إليه القوم وكأنه أداة للتنمية" (زهر الدين 1966: 252) (3)
غير أن الحديث عن الدور السياسي للمؤسسة العسكرية يمكن حصره ما بعد الاستقلال، حين كانت المسألة الوطنية المصرية مطروحة بحدة كإحدى المعضلات الرئيسية في الصراع ضد الاستعمار البريطاني، فبدأت بذلك حركة الضباط الأحرار تنشأ كأي حركة سياسية وليدة سرية في صفوف الضباط الوطنيين، وداخل المؤسسة العسكرية. في البداية لم تتميز حركة الضباط عن الحركات السياسية السائدة في مصر من حيث أهدافها وأساليبها، سوى أنها حركة نبعت من تنظيم داخل الجيش نفسه، وبتوجه سياسي متناقض جذرياً مع الدولة وأهدافها الاستراتيجية. وكانت هذه الحركة قد شهدت تنازعاً داخلياً بين التوجه إلى الاهتمام بالأحزاب والحركات السياسية القائمة وبين التوجه إلى بناء الحركة السياسية الخاصة بالضباط داخل المؤسسة العسكرية، والمستقلة عن التنظيمات السياسية العاملة في نهاية الثلاثينيات، وبداية الأربعينات؛ حركة الأخوان المسلمين، ومصر الفتاة. ولقد كانت الغلبة للعمل وفق التوجه الثاني، عبر إنشاء تنظيم سياسي سري يعمل في نطاق المؤسسة العسكرية، ولا تربطه علاقة بالحركة الحزبية في المجتمع. وهذا التنظيم هو بمنزلة "حركة سياسية عسكرية تتكون من شباب الضباط في أصاغر الرتب وهي حركة غير حزبية وغير جماهرية، بمعنى أنها لا ترتبط تنظيمياً بالأحزاب ولا تتوجه في نشاطها لجماهير شعبية خارج المؤسسة العسكرية... ويذكر جمال حماد" أن عملية إنشاء تنظيم سري بالجيش، تمتد خلاياه داخل مختلف الأسلحة والوحدات، لم تكن أمراً هيناً في وجود أجهزة متعددة الأمن مثل المخابرات الحربية والبوليس السياسي وأجهزة الملك الخاصة بالأمن فضلاً عن نشاط أجهزة المخابرات البريطانية والأميركية"(4).
إن تشكيل تنظيم سياسي داخل المؤسسة العسكرية، يقتصر استقطابه على الضباط فقط، ويخطط لتدخل العسكر في السياسة، والسيطرة على مقاليد السلطة، قد يضعه أمام خيار واحد هو القيام بالانقلاب العسكري الفوقي لأحداث التغيير السياسي، الذي يتناقض بدون شك مع خيار الحركة السياسية ذات الطابع الحزبي التي تعمل في أوساط الشعب، وتستهدف التغيير السياسي بأسلوب العمل الجماهيري المنظم لتحقيق المطالب الشعبية والثورية. ومع ذلك، فقد التفت الاتجاهات السياسية المتباينة داخل تنظيم "الضباط الأحرار" على أرضية سياسية وطنية مشتركة تمثلت في الأهداف الستة: مهاجمة الاستعمار وطرده من مصر، والقضاء على الإقطاع، وعلى الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة حياة نيابية سليمة، وبناء جيش قوي، وهزيمة حرب فلسطين. كما أن هذا التنظيم استطاع أن يجسد الولاء السياسي بمفهومه الحزبي والولاء الفكري للمؤسسة العسكرية في آن معاً وهو الأمر الذي تميز وتفرد به عن باقي الأحزاب السياسية.
فهذا التنظيم الذي كان موحداً للحركة السياسية داخل المؤسسة العسكرية كانت تتمثل فيه معظم الاتجاهات السياسية من اليمين واليسار، مع العلم أن اليمين واليسار كانا أقليتين، في حين كانت عناصر الطبقة الوسطى بفئاتها المختلفة من الموظفين وصغار الملاك والتجار هي التي تشكل الجسم الأساسي للتنظيم، وهي التي طرحت الأفكار القومية والوطنية بأشكالها المختلفة في صفوف القوات المسلحة، لكي تضطلع المؤسسة العسكرية من موقع العمل الوطني بإسقاط الهيمنة الخارجية من جهة، وإسقاط حكم كبار الملاكين العقاريين والبرجوازية التقليدية من جهة أخرى، وهو الأمر الذي كان يؤكد أن الطبقة الوسطى قد اتخذت وجهاً ثورياً وديمقراطياً حين طرحت موضوع استلام السلطة في مصر بعد 1945.
ثمة عوامل رئيسية مهمة جعلت تنظيم "الضباط الأحرار" الذي نشأ في المجتمع المصري الفلاحي الزراعي وداخل المؤسسة العسكرية، يسلك مسلكاً سياسياً يعبر عن طموحات مشروع الجبهة الوطنية الذي لم تستطع الأحزاب الأيديولوجية الراديكالية تحقيقه في عقد الأربعينات، ويتطلع لتحقيق الإجماع القومي، وتتجاوب معه التيارات القومية والحركة السياسية العريقة، يمكن إيجازها على النحو التالي:
أولاً/ أن الدولة التقليدية في مصر على الرغم من أنها خاضت تجربة ليبرالية منقولة عن الغرب بقيادة القوى المحافظة، إلا أنها لم تطرح قضايا الثورة البرجوازية في المجتمع المصري طرحاً جدياً. وكانت الحياة السياسية عموماً منذ إخفاق ثورة 1919 وحتى العام 1952، والتجربة الديمقراطية الليبرالية خصوصاً، تعيشان أزمة حقيقية لأنهما تفتقران إلى سياسة عقلانية تطرح تحديث البنى المجتمعية التقليدية في المجتمع المصري لنقله من مجتمع ما قبل الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى مجتمع حديث بالمعنى البرجوازي. وهكذا ظلت عملية البناء الديمقراطي تواجه عقبات حقيقية وتصطدم بالأيديولوجيا التقليدية والتأخر التاريخي للسياسة المصرية بصورة شمولية من جهة، وبالطبقات والفئات البرجوازية المرتبطة مصلحياً بالسوق الإمبريالية والتي تبني رأسمالية متأخرة أو رأسمالية طرفية، وتجسد نهجاً تحديثياً كولونيالياً سطحياً يقف عند حدود متطلبات والزامات السياسة الكولونيالية من جهة أخرى. وكانت القوى الطبقية المتكونة من الاقطاع وكبار الملاكين العقاريين والبرجوازية الكمبرادورية تلعب دوراً سياسياً في قمع الجماهير الشعبية على الصعيد الداخلي، ومنع البناء والتطوير الديمقراطي، ومعاداة الحركة الوطنية والديمقراطية المصرية، بحكم ارتباطها بالامبريالية، وخوضها الصراعات السياسية لمصلحة القوى الامبريالية. وغدت التجربة الليبرالية في مصر منفذا استخدمته القوى الطبقية الحاكمة لكي ترمم بنى المجتمع التقليدي وانقساماته، وتلعب دورها السياسي والاقتصادي الذي يبقي السوق الداخلية مفتوحة للسلع الرأسمالية الغربية، وتعرقل تسييس الشعب بهدف المحافظة على المظاهر الاستبدادية تحت قناع الديمقراطية.
وهكذا اتسم العصر الليبرالي في مصر، على عكس ما هو مفترض نظرياً بالاستبداد وعدم احترام الدستور وتزييف الانتخابات وتعرض المواطنين لشتى أنواع الضغوط. وعندما قامت ثورة يوليو كان النظام القديم الليبرالي قد اثبت عجزه الكامل في استيعاب القوى الاجتماعية الجديدة، وأصبح من الضروري أن يفسح الطريق لنظام أكثر تطوراً" (5).
ثانياً/ كانت هزيمة الجيوش العربية في فلسطين العام 1948، وتأسيس دولة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، قد جعلتا القضية الفلسطينية عند بعض التنظيمات السياسية الوطنية المحور الرئيس في نضالها داعية بذلك إلى استمرار الكفاح المسلح ضد الصهيونية لخوض حرب مقدسة وطنية دينية لتحرير فلسطين. ولقد أدت الهزيمة والفساد والرشوة والانحلال الخلقي في المجتمع المصري إلى خلق وتقوية الرابطة الفكرية المشتركة في تنظيم "الضباط الأحرار" النابعة من اتجاهات سياسية مختلفة. فالهزيمة في فلسطين هي هزيمة القصر في القاهرة وحاشيته، واحزاب الأقلية التي صادرت الحريات الديمقراطية، وهنا كان تنظيم الضباط الأحرار قد بدأ يأخذ شكلاً منفصلاً عن القوى السياسية خارج الجيش... أي أنه لم يعد تنظيماً تابعاً للأخوان أو الشيوعيين أو الوفديين أو السراي... ولكن بعض أعضائه في اللجنة التأسيسية لم يقطعوا صلاتهم التنظيمية القديمة، ولم يغيروا أفكارهم دفعة واحدة... وإنما أصبح انتماؤهم إلى مجموعة واحدة يشكل جبهة وطنية متحدة(6).
وكان عبد الناصر قد اشترك في حرب فلسطين من خلال التحاقه بجيش الانقاذ، الأمر الذي مكنه من أن يبلور وعيه بالقضية الفلسطينية، وإن يكتشف بصورة أكثر جلاء فساد وانحطاط نظام الملك فاروق. وشكلت هذه المشاركة عاملاً رئيساً من بين عوامل رئيسية أخرى في تفجير ثورة 23 يوليو، إذ لخص عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" مشاركته هذه بما يلي: "ولما انتهى الحصار وانتهت المعارك إلى فلسطين وعدت إلى الوطن، كانت المنطقة كلها في تصوري قد أصبحت كلاً واحداً".
ثالثاً/ لقد أتاح ميزان القوى العالمي، بعد الحرب العالمية الثانية أرضية ملائمة جعلت عملية التحرر السياسي للأمم والشعوب المضطهدة تشق طريقها لنيل استقلالها السياسي وتحقيق سيادتها بمحتوى حقيقي، ودلت التطورات التي طرأت على الموقف العالمي إلى فقدان الدول الامبريالية الأوروبية وبخاصة فرنسا وبريطانيا السيطرة العسكرية والسياسية على العديد من مستعمراتها، وبالتالي انهيار نفوذها الاستعماري، وإلى جعل مجال سيطرتها العسكرية ضيقاً جداً. ونتيجة الحرب العالمية الثانية، وصراع الشعوب والأمم المستعمرة من أجل التحرر الوطني، شهد العالم نهاية حقبة عصر الامبراطورية الاستعمارية القديمة الفرنسية والبريطانية، وميلاد عصر جديد هو عصر الولايات المتحدة الأميركية التي تريد أن تلعب دوراً رئيساً في ترسيخ مواقعها في العالم الرأسمالي، وفي سد "فراغ القوة" الذي تركه الاستعمار الأوروبي الأفل.
ومع تصاعد حركة التحرر الوطني في دول أسيا وافريقيا، وضعف مجال سيطرة النظام العالمي الاستعماري القديم على المسرح الدولي، واعترافه بالتغيرات الأساسية في موازين القوى في العالم على طريقته، وبالتالي اضطراره إلى تبني الواقعية التاريخية، اتخذت الاستراتيجية العالمية للامبريالية الاميركية المعتمدة على إقامة الكتل والاحلاف والقواعد العسكرية "سياسة مد الجسور" كمرحلة جديدة لجلب الأنظمة في البلدان المستقلة حديثاً. لتكون من ركائز الاستعمار الجديدة، ولضمان انتقال هذه البلدان إلى طريق الرأسمالية التابعة، وذلك بوساطة المساعدات والقروض لربط مصير هذه البلدان المستقلة حديثاً بمصير الرأسمالية العالمية ككل. وعلقت الولايات المتحدة الأميركية أهمية كبيرة، على النفاذ إلى الجيوش الوطنية للبلدان المستقلة حديثاً، لأن منظري الاستعمار الجديد يقولون بأن البلدان النامية قد أصبحت الآن "ميدان الصراع الرئيسي من أجل الحرية" (كندي)، أو ميدان الصراع الحقيقي بين الشيوعية وبين المؤسسات الحرة (هاريمان) وحسب كلمات دين راسك فان الامبرياليين مهددين من خلال سلوك البلدان التي حصلت على استقلالها حديثاً، طريق الاشتراكية "بالحصار الشيوعي بالحجم العالمي"(7).
وهكذا، بعد أن حسم الصراع الامبريالي لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية فور انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الامبريالية الأميركية تتبع سياسة "مواقع القوة" التي تعكس سعي العناصر الأكثر عدوانية في الولايات المتحدة إلى قمع الحركات العمالية والثورية والتحررية الوطنية والديمقراطية، وإلى تفجير "المعسكر الاشتراكي" واستعادة سيطرتها على العالم، مع اشتداد "الحرب الباردة". وانتقلت الولايات المتحدة إلى لعب دور جديد على المسرح العالمي عرف بدور "الشرطي العالمي"، خصوصاً بعد أن شكلت الاحلاف والكتل العسكرية العدوانية التي توحد قوى الدول الامبريالية الغربية على أساس اقليمي وعالمي، كأداة للاستراتيجية الكونية الأميركية.
"ولقد عمدت الامبريالية الأميركية في خططها الاستراتيجية العالمية إلى إعطاء أهمية خاصة للتمسك بالتأثير الإمبريالي في المستعمرات القديمة من خلال استخدام سلاح اضعاف الامبرياليتين الفرنسية والبريطانية، لكي ترثهما وتبني سلسلة من الحصون القوية في هذه المستعمرات القديمة لتطويق الاتحاد السوفياتي سابقاً، والصين الشعبية، والسيطرة على الوطن العربي، الذي انغرست فيه الدولة الصهيونية، التي تحولت إلى أداة بيد الامبريالية العالمية في صراعها ضد الأمة العربية. ومنذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا، أصبح الأمن الأميركي الحقيقة الثابتة الناجزة بعد الحرب العالمية الثانية، على حد قول الدكتور خلدون النقيب، ودخل العالم في عصر الأمن الأميركي، الذي سيأخذ على عاتقه إجراءات تنظيم "الانتقال المنظم" لاستقلال المستعمرات القديمة في العالم الثالث، حيث أن واحداً من أهم ملامح هذه الاجراءات" هو دعم القوى الامبريالية للعسكر وتقوية المؤسسات العسكرية بواسطة المساعدات الاميركية المباشرة، ضمن السياسة الامبريالية الداعية إلى اعتبار العسكر أحد دعائم الاستقرار وضمان عدم انجراف هذه الدول إلى اليسار" (8)
لقد انتقلت السلطة من أيدي الإقطاعيين، وكبار الملاكيين العقاريين ومحتكري رؤوس الأموال الكبيرة الذين ينتمون إلى الطبقة العليا، والذين كانوا يشكلون القوى الحفيظة للنظام الملكي القديم، الذي عصفت به أزمات المرحلة الليبرالية المنقولة عن الغرب التي تعود بدايتها إلى ثورة 1919، والتي قوامها دستور 1923 والنظام البرلماني والحياة النيابية، إلى ممثلي شرائح الطبقة الوسطى القريبة من طموحات ومصالح الجماهير الشعبية الكادحة.
أن تقهقر الإقطاع وشبه الإقطاع، وسيطرة الملاكين العقاريين الكبار والرأسمالية الكبيرة على السلطة السياسية الداخلية في مصر، وتقهقر البرجوازية بأشكالها المختلفة وشكلها الأساس الكمبرادوري، وصعود شرائح وفئات من الطبقة الوسطى إلى السلطة، قد جعل كل البنيان الطبقي في المجتمع المصري مفتوحاً وفي حالة عدم استقرار نظراً للضعف العددي والبنيوي للطبقات الاجتماعية الكلاسيكية بالمفهوم الغربي (البرجوازية والطبقة العاملة) وللسيولة الطبقية الجارية على صعيد شرائح وفئات الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة التي أصبحت تحتل المركز الأول في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية منذ العام 1952 وحتى نهاية الستينات، والتي اضطلعت بعملية التحديث والنهضة الوطنية في مصر "الثورة" على حد مقولة موروبرجر Morroe Berger" عن "الأهمية التاريخية لنشوء الطبقة الوسطى" في مؤلفه البيروقراطية والمجتمع في مصر المعاصرة"، حيث ختم مؤلفه بالصياغة التالية لمقولته" وكثيراً ما يقال أن النظام العسكري القائم يحاول تمثيل الطبقة المتوسطة التقليدية من موظفي الحكومة وأرباب الأعمال الحرة وصغار التجار، وإنما الحقيقة تكمن في أن النظام العسكري يحاول أن يكون ممثلاً للطبقة المتوسطة (الحديثة) التي ما زالت في طور التكوين والتي تقع على عاتقها مهام تكنولوجية وإدارية وريادية في مجال تحفيز الاستثمارات، وعلى وجه التحديد، فإن النظام العسكري يحاول خلق طبقة جديدة ليمثلها" (2).
من المعلوم تاريخياً أنه ليست هي المرة الأولى التي يقوم فيها الجيش بحركة سياسية راديكالية على صعيد تحديث الدولة والمجتمع في مصر. فقد سبقت حركة (23) يوليو 1952، حركة محمد علي العسكرية التي حدثت في العام 1805، حين قامت بعملية التغيير السياسي التحديثي في مصر على نطاق الدولة القائمة وبوساطة القوة العسكرية، ومنذ ذلك التاريخ مروراً بمرحلة الاستعمار الأوروبي أصبحت علاقة الجيش قوية بالمجتمع. على الرغم من أن استقطاباته الرئيسية كانت مقتصرة في البداية على أبناء الأقليات والعلاقات الأرستقراطية والإقطاعية من الشراكسة والأرناؤوط، وعدم تصعيد العرب المصريين إلى احتلال مراتب عليا في المؤسسة العسكرية لبناء العسكر وقوى الأمن. وهكذا، أخذ الجيش يكتسب صفة المؤسسة العسكرية المنوط بها وفق تخصصها الدفاع عن الوطن، والنظام السياسي أياً كانت السياسة التي ينتهجها هذا النظام، وصفة الإسهام في عملية التحديث والتنمية في آن معاً.
والحال هذه بدأت الحركة السياسية للجيش تبرز للوجود ولكن كحركة مستقلة بذاتها لأن هذا الأمر سرعان ما تقمعه الدولة، التي لا تسمح لنشوء حركة سياسية بين ضباط الجيش قد تهدد سلطتها وتحدث تغييراً في أوضاعها -وإنما من خلال ارتباطات بحزب سياسي معين، مثل الحزب الوطني الذي تكون من خليط قيادات سياسية مدنية، وقيادات عسكرية منها أحمد عرابي. ولما كان المجتمع المصري مجتمعاً فلاحياً -زراعياً، لذا أصبحت المؤسسة العسكرية هي الوسيلة الوحيدة لأبناء الفئات والطبقات الفقيرة من الشعب من أجل الحصول على وضع أفضل على صعيد الوظيفة والضمانات الصحية والعائلية، وعلى صعيد الارتقاء في السلم الاجتماعي. وقد ضاعفت من هذه العملية استقلال مصر، وفتح أبواب الاستقطاب في الجيش المصري من فئات الشعب، خصوصاً من الطبقة الوسطى الريفية، وخريجي المدارس الثانوية، وأبناء الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً، واتجاه البرجوازية المصرية الكبيرة إلى الأعمال التجارية والصناعية بالاشتراك مع الرساميل الأجنبية، لكي تفرز من صفوفها وكلاء للشركات الاحتكارية ووكلاء لهم لكي يصدروا الإنتاج الزراعي المحلي إلى السوق الرأسمالية العالمية. علماً بأن هذه الطبقة التي نمت على أرضية الاحتلال وعلى أرضية السيطرة السياسية الإقطاعية، لم تكن منفصلة عن السيطرة الاستعمارية على مصر، وستظل الطبقة السياسية الحاكمة في مصر قناة السيطرة الإمبريالية عليها حتى اندلاع ثورة يوليو. وأمام هذا الاتجاه لأبناء البرجوازية والإقطاع والعائلات الأرستقراطية للعمل في حركة التجارة الداخلية والخارجية، والزراعة الرأسمالية الحديثة والصناعة، أكثر من اهتمامهم للعمل في الوظائف العامة للدولة، ضعف اهتمام هؤلاء الخاصة بالعمل في المؤسسة العسكرية.
ومع هذا التحول، تبدلت عملية استقطاب الضباط من العسكر من بقايا الإقطاعيين والملاكين العقاريين الكبار، ومن البرجوازيين التقليديين الكمبرادوريين، إلى الاستقطاب من شرائح وفئات الطبقة الوسطى، والبرجوازية الصغيرة والفلاحين الفقراء، وهي الفئات التي تتمخض عنها الأفكار السياسية الثورية بمختلف أشكالها في مصر والوطن العربي عامة، والتي ستعمل على تنمية وضعها الثوري داخل المؤسسة العسكرية، ولكن من خلال الاتصال مع الحركة السياسية لا بالانفصال عنها.
وهكذا اتسم العسكر بثلاث صفات متلازمة: فقد أصبح مهنة مختصة، ونموذجاً للتنمية والانتماء وصورة مصغرة عن الدولة تصل أطرافه إلى الفصائل المتنوعة في المجتمع. ومما يعزز من تصور الناس للعسكر على أنه كلية تقنية اعتبارهم إياه "جنة الوظائف" (فيدكيوتس 1967-139) وأفضلها بالفعل كان الجيش أول من اتبع سياسة الضمانات في العمل، كالضمان الصحي والتعويضات العائلية والتأمين وقواعد التقاعد والترقي والمكافآت، بالإضافة إلى ذلك توفير الجيش لأفراده الملبس والمآكل والمسكن فيصبح بذلك مثالاً للإنعاش الاجتماعي، فلا عجب أن يكتسب الجيش في العالم الثالث صفة "نموذج المستقبل" وأن يتطلع إليه القوم وكأنه أداة للتنمية" (زهر الدين 1966: 252) (3)
غير أن الحديث عن الدور السياسي للمؤسسة العسكرية يمكن حصره ما بعد الاستقلال، حين كانت المسألة الوطنية المصرية مطروحة بحدة كإحدى المعضلات الرئيسية في الصراع ضد الاستعمار البريطاني، فبدأت بذلك حركة الضباط الأحرار تنشأ كأي حركة سياسية وليدة سرية في صفوف الضباط الوطنيين، وداخل المؤسسة العسكرية. في البداية لم تتميز حركة الضباط عن الحركات السياسية السائدة في مصر من حيث أهدافها وأساليبها، سوى أنها حركة نبعت من تنظيم داخل الجيش نفسه، وبتوجه سياسي متناقض جذرياً مع الدولة وأهدافها الاستراتيجية. وكانت هذه الحركة قد شهدت تنازعاً داخلياً بين التوجه إلى الاهتمام بالأحزاب والحركات السياسية القائمة وبين التوجه إلى بناء الحركة السياسية الخاصة بالضباط داخل المؤسسة العسكرية، والمستقلة عن التنظيمات السياسية العاملة في نهاية الثلاثينيات، وبداية الأربعينات؛ حركة الأخوان المسلمين، ومصر الفتاة. ولقد كانت الغلبة للعمل وفق التوجه الثاني، عبر إنشاء تنظيم سياسي سري يعمل في نطاق المؤسسة العسكرية، ولا تربطه علاقة بالحركة الحزبية في المجتمع. وهذا التنظيم هو بمنزلة "حركة سياسية عسكرية تتكون من شباب الضباط في أصاغر الرتب وهي حركة غير حزبية وغير جماهرية، بمعنى أنها لا ترتبط تنظيمياً بالأحزاب ولا تتوجه في نشاطها لجماهير شعبية خارج المؤسسة العسكرية... ويذكر جمال حماد" أن عملية إنشاء تنظيم سري بالجيش، تمتد خلاياه داخل مختلف الأسلحة والوحدات، لم تكن أمراً هيناً في وجود أجهزة متعددة الأمن مثل المخابرات الحربية والبوليس السياسي وأجهزة الملك الخاصة بالأمن فضلاً عن نشاط أجهزة المخابرات البريطانية والأميركية"(4).
إن تشكيل تنظيم سياسي داخل المؤسسة العسكرية، يقتصر استقطابه على الضباط فقط، ويخطط لتدخل العسكر في السياسة، والسيطرة على مقاليد السلطة، قد يضعه أمام خيار واحد هو القيام بالانقلاب العسكري الفوقي لأحداث التغيير السياسي، الذي يتناقض بدون شك مع خيار الحركة السياسية ذات الطابع الحزبي التي تعمل في أوساط الشعب، وتستهدف التغيير السياسي بأسلوب العمل الجماهيري المنظم لتحقيق المطالب الشعبية والثورية. ومع ذلك، فقد التفت الاتجاهات السياسية المتباينة داخل تنظيم "الضباط الأحرار" على أرضية سياسية وطنية مشتركة تمثلت في الأهداف الستة: مهاجمة الاستعمار وطرده من مصر، والقضاء على الإقطاع، وعلى الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة حياة نيابية سليمة، وبناء جيش قوي، وهزيمة حرب فلسطين. كما أن هذا التنظيم استطاع أن يجسد الولاء السياسي بمفهومه الحزبي والولاء الفكري للمؤسسة العسكرية في آن معاً وهو الأمر الذي تميز وتفرد به عن باقي الأحزاب السياسية.
فهذا التنظيم الذي كان موحداً للحركة السياسية داخل المؤسسة العسكرية كانت تتمثل فيه معظم الاتجاهات السياسية من اليمين واليسار، مع العلم أن اليمين واليسار كانا أقليتين، في حين كانت عناصر الطبقة الوسطى بفئاتها المختلفة من الموظفين وصغار الملاك والتجار هي التي تشكل الجسم الأساسي للتنظيم، وهي التي طرحت الأفكار القومية والوطنية بأشكالها المختلفة في صفوف القوات المسلحة، لكي تضطلع المؤسسة العسكرية من موقع العمل الوطني بإسقاط الهيمنة الخارجية من جهة، وإسقاط حكم كبار الملاكين العقاريين والبرجوازية التقليدية من جهة أخرى، وهو الأمر الذي كان يؤكد أن الطبقة الوسطى قد اتخذت وجهاً ثورياً وديمقراطياً حين طرحت موضوع استلام السلطة في مصر بعد 1945.
ثمة عوامل رئيسية مهمة جعلت تنظيم "الضباط الأحرار" الذي نشأ في المجتمع المصري الفلاحي الزراعي وداخل المؤسسة العسكرية، يسلك مسلكاً سياسياً يعبر عن طموحات مشروع الجبهة الوطنية الذي لم تستطع الأحزاب الأيديولوجية الراديكالية تحقيقه في عقد الأربعينات، ويتطلع لتحقيق الإجماع القومي، وتتجاوب معه التيارات القومية والحركة السياسية العريقة، يمكن إيجازها على النحو التالي:
أولاً/ أن الدولة التقليدية في مصر على الرغم من أنها خاضت تجربة ليبرالية منقولة عن الغرب بقيادة القوى المحافظة، إلا أنها لم تطرح قضايا الثورة البرجوازية في المجتمع المصري طرحاً جدياً. وكانت الحياة السياسية عموماً منذ إخفاق ثورة 1919 وحتى العام 1952، والتجربة الديمقراطية الليبرالية خصوصاً، تعيشان أزمة حقيقية لأنهما تفتقران إلى سياسة عقلانية تطرح تحديث البنى المجتمعية التقليدية في المجتمع المصري لنقله من مجتمع ما قبل الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى مجتمع حديث بالمعنى البرجوازي. وهكذا ظلت عملية البناء الديمقراطي تواجه عقبات حقيقية وتصطدم بالأيديولوجيا التقليدية والتأخر التاريخي للسياسة المصرية بصورة شمولية من جهة، وبالطبقات والفئات البرجوازية المرتبطة مصلحياً بالسوق الإمبريالية والتي تبني رأسمالية متأخرة أو رأسمالية طرفية، وتجسد نهجاً تحديثياً كولونيالياً سطحياً يقف عند حدود متطلبات والزامات السياسة الكولونيالية من جهة أخرى. وكانت القوى الطبقية المتكونة من الاقطاع وكبار الملاكين العقاريين والبرجوازية الكمبرادورية تلعب دوراً سياسياً في قمع الجماهير الشعبية على الصعيد الداخلي، ومنع البناء والتطوير الديمقراطي، ومعاداة الحركة الوطنية والديمقراطية المصرية، بحكم ارتباطها بالامبريالية، وخوضها الصراعات السياسية لمصلحة القوى الامبريالية. وغدت التجربة الليبرالية في مصر منفذا استخدمته القوى الطبقية الحاكمة لكي ترمم بنى المجتمع التقليدي وانقساماته، وتلعب دورها السياسي والاقتصادي الذي يبقي السوق الداخلية مفتوحة للسلع الرأسمالية الغربية، وتعرقل تسييس الشعب بهدف المحافظة على المظاهر الاستبدادية تحت قناع الديمقراطية.
وهكذا اتسم العصر الليبرالي في مصر، على عكس ما هو مفترض نظرياً بالاستبداد وعدم احترام الدستور وتزييف الانتخابات وتعرض المواطنين لشتى أنواع الضغوط. وعندما قامت ثورة يوليو كان النظام القديم الليبرالي قد اثبت عجزه الكامل في استيعاب القوى الاجتماعية الجديدة، وأصبح من الضروري أن يفسح الطريق لنظام أكثر تطوراً" (5).
ثانياً/ كانت هزيمة الجيوش العربية في فلسطين العام 1948، وتأسيس دولة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، قد جعلتا القضية الفلسطينية عند بعض التنظيمات السياسية الوطنية المحور الرئيس في نضالها داعية بذلك إلى استمرار الكفاح المسلح ضد الصهيونية لخوض حرب مقدسة وطنية دينية لتحرير فلسطين. ولقد أدت الهزيمة والفساد والرشوة والانحلال الخلقي في المجتمع المصري إلى خلق وتقوية الرابطة الفكرية المشتركة في تنظيم "الضباط الأحرار" النابعة من اتجاهات سياسية مختلفة. فالهزيمة في فلسطين هي هزيمة القصر في القاهرة وحاشيته، واحزاب الأقلية التي صادرت الحريات الديمقراطية، وهنا كان تنظيم الضباط الأحرار قد بدأ يأخذ شكلاً منفصلاً عن القوى السياسية خارج الجيش... أي أنه لم يعد تنظيماً تابعاً للأخوان أو الشيوعيين أو الوفديين أو السراي... ولكن بعض أعضائه في اللجنة التأسيسية لم يقطعوا صلاتهم التنظيمية القديمة، ولم يغيروا أفكارهم دفعة واحدة... وإنما أصبح انتماؤهم إلى مجموعة واحدة يشكل جبهة وطنية متحدة(6).
وكان عبد الناصر قد اشترك في حرب فلسطين من خلال التحاقه بجيش الانقاذ، الأمر الذي مكنه من أن يبلور وعيه بالقضية الفلسطينية، وإن يكتشف بصورة أكثر جلاء فساد وانحطاط نظام الملك فاروق. وشكلت هذه المشاركة عاملاً رئيساً من بين عوامل رئيسية أخرى في تفجير ثورة 23 يوليو، إذ لخص عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" مشاركته هذه بما يلي: "ولما انتهى الحصار وانتهت المعارك إلى فلسطين وعدت إلى الوطن، كانت المنطقة كلها في تصوري قد أصبحت كلاً واحداً".
ثالثاً/ لقد أتاح ميزان القوى العالمي، بعد الحرب العالمية الثانية أرضية ملائمة جعلت عملية التحرر السياسي للأمم والشعوب المضطهدة تشق طريقها لنيل استقلالها السياسي وتحقيق سيادتها بمحتوى حقيقي، ودلت التطورات التي طرأت على الموقف العالمي إلى فقدان الدول الامبريالية الأوروبية وبخاصة فرنسا وبريطانيا السيطرة العسكرية والسياسية على العديد من مستعمراتها، وبالتالي انهيار نفوذها الاستعماري، وإلى جعل مجال سيطرتها العسكرية ضيقاً جداً. ونتيجة الحرب العالمية الثانية، وصراع الشعوب والأمم المستعمرة من أجل التحرر الوطني، شهد العالم نهاية حقبة عصر الامبراطورية الاستعمارية القديمة الفرنسية والبريطانية، وميلاد عصر جديد هو عصر الولايات المتحدة الأميركية التي تريد أن تلعب دوراً رئيساً في ترسيخ مواقعها في العالم الرأسمالي، وفي سد "فراغ القوة" الذي تركه الاستعمار الأوروبي الأفل.
ومع تصاعد حركة التحرر الوطني في دول أسيا وافريقيا، وضعف مجال سيطرة النظام العالمي الاستعماري القديم على المسرح الدولي، واعترافه بالتغيرات الأساسية في موازين القوى في العالم على طريقته، وبالتالي اضطراره إلى تبني الواقعية التاريخية، اتخذت الاستراتيجية العالمية للامبريالية الاميركية المعتمدة على إقامة الكتل والاحلاف والقواعد العسكرية "سياسة مد الجسور" كمرحلة جديدة لجلب الأنظمة في البلدان المستقلة حديثاً. لتكون من ركائز الاستعمار الجديدة، ولضمان انتقال هذه البلدان إلى طريق الرأسمالية التابعة، وذلك بوساطة المساعدات والقروض لربط مصير هذه البلدان المستقلة حديثاً بمصير الرأسمالية العالمية ككل. وعلقت الولايات المتحدة الأميركية أهمية كبيرة، على النفاذ إلى الجيوش الوطنية للبلدان المستقلة حديثاً، لأن منظري الاستعمار الجديد يقولون بأن البلدان النامية قد أصبحت الآن "ميدان الصراع الرئيسي من أجل الحرية" (كندي)، أو ميدان الصراع الحقيقي بين الشيوعية وبين المؤسسات الحرة (هاريمان) وحسب كلمات دين راسك فان الامبرياليين مهددين من خلال سلوك البلدان التي حصلت على استقلالها حديثاً، طريق الاشتراكية "بالحصار الشيوعي بالحجم العالمي"(7).
وهكذا، بعد أن حسم الصراع الامبريالي لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية فور انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الامبريالية الأميركية تتبع سياسة "مواقع القوة" التي تعكس سعي العناصر الأكثر عدوانية في الولايات المتحدة إلى قمع الحركات العمالية والثورية والتحررية الوطنية والديمقراطية، وإلى تفجير "المعسكر الاشتراكي" واستعادة سيطرتها على العالم، مع اشتداد "الحرب الباردة". وانتقلت الولايات المتحدة إلى لعب دور جديد على المسرح العالمي عرف بدور "الشرطي العالمي"، خصوصاً بعد أن شكلت الاحلاف والكتل العسكرية العدوانية التي توحد قوى الدول الامبريالية الغربية على أساس اقليمي وعالمي، كأداة للاستراتيجية الكونية الأميركية.
"ولقد عمدت الامبريالية الأميركية في خططها الاستراتيجية العالمية إلى إعطاء أهمية خاصة للتمسك بالتأثير الإمبريالي في المستعمرات القديمة من خلال استخدام سلاح اضعاف الامبرياليتين الفرنسية والبريطانية، لكي ترثهما وتبني سلسلة من الحصون القوية في هذه المستعمرات القديمة لتطويق الاتحاد السوفياتي سابقاً، والصين الشعبية، والسيطرة على الوطن العربي، الذي انغرست فيه الدولة الصهيونية، التي تحولت إلى أداة بيد الامبريالية العالمية في صراعها ضد الأمة العربية. ومنذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا، أصبح الأمن الأميركي الحقيقة الثابتة الناجزة بعد الحرب العالمية الثانية، على حد قول الدكتور خلدون النقيب، ودخل العالم في عصر الأمن الأميركي، الذي سيأخذ على عاتقه إجراءات تنظيم "الانتقال المنظم" لاستقلال المستعمرات القديمة في العالم الثالث، حيث أن واحداً من أهم ملامح هذه الاجراءات" هو دعم القوى الامبريالية للعسكر وتقوية المؤسسات العسكرية بواسطة المساعدات الاميركية المباشرة، ضمن السياسة الامبريالية الداعية إلى اعتبار العسكر أحد دعائم الاستقرار وضمان عدم انجراف هذه الدول إلى اليسار" (8)
http://www.awu-dam.org/book/97/study/114tm3/book-sd030.htm