ثورة 23 يوليو في مصر: الجيش وخيار الدولة التسلطية‏

معمر القذافى

عضو مميز
إنضم
8 أكتوبر 2008
المشاركات
2,471
التفاعل
81 0 0
أدى الانقلاب العسكري الذي نفذه تنظيم الضباط الأحرار "إلى تسليم الجيش السلطة في مصر يوم 23 تموز (يوليو) 1952. وكان هذا التحرك السياسي للمؤسسة العسكرية الذي استهدف السلطة وخلع الملك فاروق يحمل في سيرورة أحداثه ثورة حقيقية. شكلت منعطفاً سياسياً مهماً في تاريخ مصر، لجهة حسم الصراع بين قوى الثورة المتحدية وقوائم وصيغ النظام القديم البائد، وتجسيد بداية التطور المستقل للبلاد. على أن ما تميزت به ثورة 23 يوليو أن "الجهاز السياسي الذي قام بها وهو الضباط الأحرار كان أقرب إلى أن يكون "عينة" سياسية ثورية(1).‏
لقد انتقلت السلطة من أيدي الإقطاعيين، وكبار الملاكيين العقاريين ومحتكري رؤوس الأموال الكبيرة الذين ينتمون إلى الطبقة العليا، والذين كانوا يشكلون القوى الحفيظة للنظام الملكي القديم، الذي عصفت به أزمات المرحلة الليبرالية المنقولة عن الغرب التي تعود بدايتها إلى ثورة 1919، والتي قوامها دستور 1923 والنظام البرلماني والحياة النيابية، إلى ممثلي شرائح الطبقة الوسطى القريبة من طموحات ومصالح الجماهير الشعبية الكادحة.‏
أن تقهقر الإقطاع وشبه الإقطاع، وسيطرة الملاكين العقاريين الكبار والرأسمالية الكبيرة على السلطة السياسية الداخلية في مصر، وتقهقر البرجوازية بأشكالها المختلفة وشكلها الأساس الكمبرادوري، وصعود شرائح وفئات من الطبقة الوسطى إلى السلطة، قد جعل كل البنيان الطبقي في المجتمع المصري مفتوحاً وفي حالة عدم استقرار نظراً للضعف العددي والبنيوي للطبقات الاجتماعية الكلاسيكية بالمفهوم الغربي (البرجوازية والطبقة العاملة) وللسيولة الطبقية الجارية على صعيد شرائح وفئات الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة التي أصبحت تحتل المركز الأول في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية منذ العام 1952 وحتى نهاية الستينات، والتي اضطلعت بعملية التحديث والنهضة الوطنية في مصر "الثورة" على حد مقولة موروبرجر Morroe Berger" عن "الأهمية التاريخية لنشوء الطبقة الوسطى" في مؤلفه البيروقراطية والمجتمع في مصر المعاصرة"، حيث ختم مؤلفه بالصياغة التالية لمقولته" وكثيراً ما يقال أن النظام العسكري القائم يحاول تمثيل الطبقة المتوسطة التقليدية من موظفي الحكومة وأرباب الأعمال الحرة وصغار التجار، وإنما الحقيقة تكمن في أن النظام العسكري يحاول أن يكون ممثلاً للطبقة المتوسطة (الحديثة) التي ما زالت في طور التكوين والتي تقع على عاتقها مهام تكنولوجية وإدارية وريادية في مجال تحفيز الاستثمارات، وعلى وجه التحديد، فإن النظام العسكري يحاول خلق طبقة جديدة ليمثلها" (2).‏
من المعلوم تاريخياً أنه ليست هي المرة الأولى التي يقوم فيها الجيش بحركة سياسية راديكالية على صعيد تحديث الدولة والمجتمع في مصر. فقد سبقت حركة (23) يوليو 1952، حركة محمد علي العسكرية التي حدثت في العام 1805، حين قامت بعملية التغيير السياسي التحديثي في مصر على نطاق الدولة القائمة وبوساطة القوة العسكرية، ومنذ ذلك التاريخ مروراً بمرحلة الاستعمار الأوروبي أصبحت علاقة الجيش قوية بالمجتمع. على الرغم من أن استقطاباته الرئيسية كانت مقتصرة في البداية على أبناء الأقليات والعلاقات الأرستقراطية والإقطاعية من الشراكسة والأرناؤوط، وعدم تصعيد العرب المصريين إلى احتلال مراتب عليا في المؤسسة العسكرية لبناء العسكر وقوى الأمن. وهكذا، أخذ الجيش يكتسب صفة المؤسسة العسكرية المنوط بها وفق تخصصها الدفاع عن الوطن، والنظام السياسي أياً كانت السياسة التي ينتهجها هذا النظام، وصفة الإسهام في عملية التحديث والتنمية في آن معاً.‏
والحال هذه بدأت الحركة السياسية للجيش تبرز للوجود ولكن كحركة مستقلة بذاتها لأن هذا الأمر سرعان ما تقمعه الدولة، التي لا تسمح لنشوء حركة سياسية بين ضباط الجيش قد تهدد سلطتها وتحدث تغييراً في أوضاعها -وإنما من خلال ارتباطات بحزب سياسي معين، مثل الحزب الوطني الذي تكون من خليط قيادات سياسية مدنية، وقيادات عسكرية منها أحمد عرابي. ولما كان المجتمع المصري مجتمعاً فلاحياً -زراعياً، لذا أصبحت المؤسسة العسكرية هي الوسيلة الوحيدة لأبناء الفئات والطبقات الفقيرة من الشعب من أجل الحصول على وضع أفضل على صعيد الوظيفة والضمانات الصحية والعائلية، وعلى صعيد الارتقاء في السلم الاجتماعي. وقد ضاعفت من هذه العملية استقلال مصر، وفتح أبواب الاستقطاب في الجيش المصري من فئات الشعب، خصوصاً من الطبقة الوسطى الريفية، وخريجي المدارس الثانوية، وأبناء الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً، واتجاه البرجوازية المصرية الكبيرة إلى الأعمال التجارية والصناعية بالاشتراك مع الرساميل الأجنبية، لكي تفرز من صفوفها وكلاء للشركات الاحتكارية ووكلاء لهم لكي يصدروا الإنتاج الزراعي المحلي إلى السوق الرأسمالية العالمية. علماً بأن هذه الطبقة التي نمت على أرضية الاحتلال وعلى أرضية السيطرة السياسية الإقطاعية، لم تكن منفصلة عن السيطرة الاستعمارية على مصر، وستظل الطبقة السياسية الحاكمة في مصر قناة السيطرة الإمبريالية عليها حتى اندلاع ثورة يوليو. وأمام هذا الاتجاه لأبناء البرجوازية والإقطاع والعائلات الأرستقراطية للعمل في حركة التجارة الداخلية والخارجية، والزراعة الرأسمالية الحديثة والصناعة، أكثر من اهتمامهم للعمل في الوظائف العامة للدولة، ضعف اهتمام هؤلاء الخاصة بالعمل في المؤسسة العسكرية.‏
ومع هذا التحول، تبدلت عملية استقطاب الضباط من العسكر من بقايا الإقطاعيين والملاكين العقاريين الكبار، ومن البرجوازيين التقليديين الكمبرادوريين، إلى الاستقطاب من شرائح وفئات الطبقة الوسطى، والبرجوازية الصغيرة والفلاحين الفقراء، وهي الفئات التي تتمخض عنها الأفكار السياسية الثورية بمختلف أشكالها في مصر والوطن العربي عامة، والتي ستعمل على تنمية وضعها الثوري داخل المؤسسة العسكرية، ولكن من خلال الاتصال مع الحركة السياسية لا بالانفصال عنها.‏
وهكذا اتسم العسكر بثلاث صفات متلازمة: فقد أصبح مهنة مختصة، ونموذجاً للتنمية والانتماء وصورة مصغرة عن الدولة تصل أطرافه إلى الفصائل المتنوعة في المجتمع. ومما يعزز من تصور الناس للعسكر على أنه كلية تقنية اعتبارهم إياه "جنة الوظائف" (فيدكيوتس 1967-139) وأفضلها بالفعل كان الجيش أول من اتبع سياسة الضمانات في العمل، كالضمان الصحي والتعويضات العائلية والتأمين وقواعد التقاعد والترقي والمكافآت، بالإضافة إلى ذلك توفير الجيش لأفراده الملبس والمآكل والمسكن فيصبح بذلك مثالاً للإنعاش الاجتماعي، فلا عجب أن يكتسب الجيش في العالم الثالث صفة "نموذج المستقبل" وأن يتطلع إليه القوم وكأنه أداة للتنمية" (زهر الدين 1966: 252) (3)‏
غير أن الحديث عن الدور السياسي للمؤسسة العسكرية يمكن حصره ما بعد الاستقلال، حين كانت المسألة الوطنية المصرية مطروحة بحدة كإحدى المعضلات الرئيسية في الصراع ضد الاستعمار البريطاني، فبدأت بذلك حركة الضباط الأحرار تنشأ كأي حركة سياسية وليدة سرية في صفوف الضباط الوطنيين، وداخل المؤسسة العسكرية. في البداية لم تتميز حركة الضباط عن الحركات السياسية السائدة في مصر من حيث أهدافها وأساليبها، سوى أنها حركة نبعت من تنظيم داخل الجيش نفسه، وبتوجه سياسي متناقض جذرياً مع الدولة وأهدافها الاستراتيجية. وكانت هذه الحركة قد شهدت تنازعاً داخلياً بين التوجه إلى الاهتمام بالأحزاب والحركات السياسية القائمة وبين التوجه إلى بناء الحركة السياسية الخاصة بالضباط داخل المؤسسة العسكرية، والمستقلة عن التنظيمات السياسية العاملة في نهاية الثلاثينيات، وبداية الأربعينات؛ حركة الأخوان المسلمين، ومصر الفتاة. ولقد كانت الغلبة للعمل وفق التوجه الثاني، عبر إنشاء تنظيم سياسي سري يعمل في نطاق المؤسسة العسكرية، ولا تربطه علاقة بالحركة الحزبية في المجتمع. وهذا التنظيم هو بمنزلة "حركة سياسية عسكرية تتكون من شباب الضباط في أصاغر الرتب وهي حركة غير حزبية وغير جماهرية، بمعنى أنها لا ترتبط تنظيمياً بالأحزاب ولا تتوجه في نشاطها لجماهير شعبية خارج المؤسسة العسكرية... ويذكر جمال حماد" أن عملية إنشاء تنظيم سري بالجيش، تمتد خلاياه داخل مختلف الأسلحة والوحدات، لم تكن أمراً هيناً في وجود أجهزة متعددة الأمن مثل المخابرات الحربية والبوليس السياسي وأجهزة الملك الخاصة بالأمن فضلاً عن نشاط أجهزة المخابرات البريطانية والأميركية"(4).‏
إن تشكيل تنظيم سياسي داخل المؤسسة العسكرية، يقتصر استقطابه على الضباط فقط، ويخطط لتدخل العسكر في السياسة، والسيطرة على مقاليد السلطة، قد يضعه أمام خيار واحد هو القيام بالانقلاب العسكري الفوقي لأحداث التغيير السياسي، الذي يتناقض بدون شك مع خيار الحركة السياسية ذات الطابع الحزبي التي تعمل في أوساط الشعب، وتستهدف التغيير السياسي بأسلوب العمل الجماهيري المنظم لتحقيق المطالب الشعبية والثورية. ومع ذلك، فقد التفت الاتجاهات السياسية المتباينة داخل تنظيم "الضباط الأحرار" على أرضية سياسية وطنية مشتركة تمثلت في الأهداف الستة: مهاجمة الاستعمار وطرده من مصر، والقضاء على الإقطاع، وعلى الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة حياة نيابية سليمة، وبناء جيش قوي، وهزيمة حرب فلسطين. كما أن هذا التنظيم استطاع أن يجسد الولاء السياسي بمفهومه الحزبي والولاء الفكري للمؤسسة العسكرية في آن معاً وهو الأمر الذي تميز وتفرد به عن باقي الأحزاب السياسية.‏
فهذا التنظيم الذي كان موحداً للحركة السياسية داخل المؤسسة العسكرية كانت تتمثل فيه معظم الاتجاهات السياسية من اليمين واليسار، مع العلم أن اليمين واليسار كانا أقليتين، في حين كانت عناصر الطبقة الوسطى بفئاتها المختلفة من الموظفين وصغار الملاك والتجار هي التي تشكل الجسم الأساسي للتنظيم، وهي التي طرحت الأفكار القومية والوطنية بأشكالها المختلفة في صفوف القوات المسلحة، لكي تضطلع المؤسسة العسكرية من موقع العمل الوطني بإسقاط الهيمنة الخارجية من جهة، وإسقاط حكم كبار الملاكين العقاريين والبرجوازية التقليدية من جهة أخرى، وهو الأمر الذي كان يؤكد أن الطبقة الوسطى قد اتخذت وجهاً ثورياً وديمقراطياً حين طرحت موضوع استلام السلطة في مصر بعد 1945.‏
ثمة عوامل رئيسية مهمة جعلت تنظيم "الضباط الأحرار" الذي نشأ في المجتمع المصري الفلاحي الزراعي وداخل المؤسسة العسكرية، يسلك مسلكاً سياسياً يعبر عن طموحات مشروع الجبهة الوطنية الذي لم تستطع الأحزاب الأيديولوجية الراديكالية تحقيقه في عقد الأربعينات، ويتطلع لتحقيق الإجماع القومي، وتتجاوب معه التيارات القومية والحركة السياسية العريقة، يمكن إيجازها على النحو التالي:‏
أولاً/ أن الدولة التقليدية في مصر على الرغم من أنها خاضت تجربة ليبرالية منقولة عن الغرب بقيادة القوى المحافظة، إلا أنها لم تطرح قضايا الثورة البرجوازية في المجتمع المصري طرحاً جدياً. وكانت الحياة السياسية عموماً منذ إخفاق ثورة 1919 وحتى العام 1952، والتجربة الديمقراطية الليبرالية خصوصاً، تعيشان أزمة حقيقية لأنهما تفتقران إلى سياسة عقلانية تطرح تحديث البنى المجتمعية التقليدية في المجتمع المصري لنقله من مجتمع ما قبل الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى مجتمع حديث بالمعنى البرجوازي. وهكذا ظلت عملية البناء الديمقراطي تواجه عقبات حقيقية وتصطدم بالأيديولوجيا التقليدية والتأخر التاريخي للسياسة المصرية بصورة شمولية من جهة، وبالطبقات والفئات البرجوازية المرتبطة مصلحياً بالسوق الإمبريالية والتي تبني رأسمالية متأخرة أو رأسمالية طرفية، وتجسد نهجاً تحديثياً كولونيالياً سطحياً يقف عند حدود متطلبات والزامات السياسة الكولونيالية من جهة أخرى. وكانت القوى الطبقية المتكونة من الاقطاع وكبار الملاكين العقاريين والبرجوازية الكمبرادورية تلعب دوراً سياسياً في قمع الجماهير الشعبية على الصعيد الداخلي، ومنع البناء والتطوير الديمقراطي، ومعاداة الحركة الوطنية والديمقراطية المصرية، بحكم ارتباطها بالامبريالية، وخوضها الصراعات السياسية لمصلحة القوى الامبريالية. وغدت التجربة الليبرالية في مصر منفذا استخدمته القوى الطبقية الحاكمة لكي ترمم بنى المجتمع التقليدي وانقساماته، وتلعب دورها السياسي والاقتصادي الذي يبقي السوق الداخلية مفتوحة للسلع الرأسمالية الغربية، وتعرقل تسييس الشعب بهدف المحافظة على المظاهر الاستبدادية تحت قناع الديمقراطية.‏
وهكذا اتسم العصر الليبرالي في مصر، على عكس ما هو مفترض نظرياً بالاستبداد وعدم احترام الدستور وتزييف الانتخابات وتعرض المواطنين لشتى أنواع الضغوط. وعندما قامت ثورة يوليو كان النظام القديم الليبرالي قد اثبت عجزه الكامل في استيعاب القوى الاجتماعية الجديدة، وأصبح من الضروري أن يفسح الطريق لنظام أكثر تطوراً" (5).‏
ثانياً/ كانت هزيمة الجيوش العربية في فلسطين العام 1948، وتأسيس دولة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، قد جعلتا القضية الفلسطينية عند بعض التنظيمات السياسية الوطنية المحور الرئيس في نضالها داعية بذلك إلى استمرار الكفاح المسلح ضد الصهيونية لخوض حرب مقدسة وطنية دينية لتحرير فلسطين. ولقد أدت الهزيمة والفساد والرشوة والانحلال الخلقي في المجتمع المصري إلى خلق وتقوية الرابطة الفكرية المشتركة في تنظيم "الضباط الأحرار" النابعة من اتجاهات سياسية مختلفة. فالهزيمة في فلسطين هي هزيمة القصر في القاهرة وحاشيته، واحزاب الأقلية التي صادرت الحريات الديمقراطية، وهنا كان تنظيم الضباط الأحرار قد بدأ يأخذ شكلاً منفصلاً عن القوى السياسية خارج الجيش... أي أنه لم يعد تنظيماً تابعاً للأخوان أو الشيوعيين أو الوفديين أو السراي... ولكن بعض أعضائه في اللجنة التأسيسية لم يقطعوا صلاتهم التنظيمية القديمة، ولم يغيروا أفكارهم دفعة واحدة... وإنما أصبح انتماؤهم إلى مجموعة واحدة يشكل جبهة وطنية متحدة(6).‏
وكان عبد الناصر قد اشترك في حرب فلسطين من خلال التحاقه بجيش الانقاذ، الأمر الذي مكنه من أن يبلور وعيه بالقضية الفلسطينية، وإن يكتشف بصورة أكثر جلاء فساد وانحطاط نظام الملك فاروق. وشكلت هذه المشاركة عاملاً رئيساً من بين عوامل رئيسية أخرى في تفجير ثورة 23 يوليو، إذ لخص عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" مشاركته هذه بما يلي: "ولما انتهى الحصار وانتهت المعارك إلى فلسطين وعدت إلى الوطن، كانت المنطقة كلها في تصوري قد أصبحت كلاً واحداً".‏
ثالثاً/ لقد أتاح ميزان القوى العالمي، بعد الحرب العالمية الثانية أرضية ملائمة جعلت عملية التحرر السياسي للأمم والشعوب المضطهدة تشق طريقها لنيل استقلالها السياسي وتحقيق سيادتها بمحتوى حقيقي، ودلت التطورات التي طرأت على الموقف العالمي إلى فقدان الدول الامبريالية الأوروبية وبخاصة فرنسا وبريطانيا السيطرة العسكرية والسياسية على العديد من مستعمراتها، وبالتالي انهيار نفوذها الاستعماري، وإلى جعل مجال سيطرتها العسكرية ضيقاً جداً. ونتيجة الحرب العالمية الثانية، وصراع الشعوب والأمم المستعمرة من أجل التحرر الوطني، شهد العالم نهاية حقبة عصر الامبراطورية الاستعمارية القديمة الفرنسية والبريطانية، وميلاد عصر جديد هو عصر الولايات المتحدة الأميركية التي تريد أن تلعب دوراً رئيساً في ترسيخ مواقعها في العالم الرأسمالي، وفي سد "فراغ القوة" الذي تركه الاستعمار الأوروبي الأفل.‏
ومع تصاعد حركة التحرر الوطني في دول أسيا وافريقيا، وضعف مجال سيطرة النظام العالمي الاستعماري القديم على المسرح الدولي، واعترافه بالتغيرات الأساسية في موازين القوى في العالم على طريقته، وبالتالي اضطراره إلى تبني الواقعية التاريخية، اتخذت الاستراتيجية العالمية للامبريالية الاميركية المعتمدة على إقامة الكتل والاحلاف والقواعد العسكرية "سياسة مد الجسور" كمرحلة جديدة لجلب الأنظمة في البلدان المستقلة حديثاً. لتكون من ركائز الاستعمار الجديدة، ولضمان انتقال هذه البلدان إلى طريق الرأسمالية التابعة، وذلك بوساطة المساعدات والقروض لربط مصير هذه البلدان المستقلة حديثاً بمصير الرأسمالية العالمية ككل. وعلقت الولايات المتحدة الأميركية أهمية كبيرة، على النفاذ إلى الجيوش الوطنية للبلدان المستقلة حديثاً، لأن منظري الاستعمار الجديد يقولون بأن البلدان النامية قد أصبحت الآن "ميدان الصراع الرئيسي من أجل الحرية" (كندي)، أو ميدان الصراع الحقيقي بين الشيوعية وبين المؤسسات الحرة (هاريمان) وحسب كلمات دين راسك فان الامبرياليين مهددين من خلال سلوك البلدان التي حصلت على استقلالها حديثاً، طريق الاشتراكية "بالحصار الشيوعي بالحجم العالمي"(7).‏
وهكذا، بعد أن حسم الصراع الامبريالي لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية فور انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الامبريالية الأميركية تتبع سياسة "مواقع القوة" التي تعكس سعي العناصر الأكثر عدوانية في الولايات المتحدة إلى قمع الحركات العمالية والثورية والتحررية الوطنية والديمقراطية، وإلى تفجير "المعسكر الاشتراكي" واستعادة سيطرتها على العالم، مع اشتداد "الحرب الباردة". وانتقلت الولايات المتحدة إلى لعب دور جديد على المسرح العالمي عرف بدور "الشرطي العالمي"، خصوصاً بعد أن شكلت الاحلاف والكتل العسكرية العدوانية التي توحد قوى الدول الامبريالية الغربية على أساس اقليمي وعالمي، كأداة للاستراتيجية الكونية الأميركية.‏
"ولقد عمدت الامبريالية الأميركية في خططها الاستراتيجية العالمية إلى إعطاء أهمية خاصة للتمسك بالتأثير الإمبريالي في المستعمرات القديمة من خلال استخدام سلاح اضعاف الامبرياليتين الفرنسية والبريطانية، لكي ترثهما وتبني سلسلة من الحصون القوية في هذه المستعمرات القديمة لتطويق الاتحاد السوفياتي سابقاً، والصين الشعبية، والسيطرة على الوطن العربي، الذي انغرست فيه الدولة الصهيونية، التي تحولت إلى أداة بيد الامبريالية العالمية في صراعها ضد الأمة العربية. ومنذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا، أصبح الأمن الأميركي الحقيقة الثابتة الناجزة بعد الحرب العالمية الثانية، على حد قول الدكتور خلدون النقيب، ودخل العالم في عصر الأمن الأميركي، الذي سيأخذ على عاتقه إجراءات تنظيم "الانتقال المنظم" لاستقلال المستعمرات القديمة في العالم الثالث، حيث أن واحداً من أهم ملامح هذه الاجراءات" هو دعم القوى الامبريالية للعسكر وتقوية المؤسسات العسكرية بواسطة المساعدات الاميركية المباشرة، ضمن السياسة الامبريالية الداعية إلى اعتبار العسكر أحد دعائم الاستقرار وضمان عدم انجراف هذه الدول إلى اليسار" (8)‏






http://www.awu-dam.org/book/97/study/114tm3/book-sd030.htm
 
في هذه الظروف السياسية والتاريخية تأسس تنظيم الضباط الأحرار في أواخر العام 1949، وتشكلت لجنته التأسيسية. وعلى الرغم أنه كان يعد من أكبر التنظيمات السرية العاملة ككيان منظم داخل المؤسسة العسكرية، إلا أنه لم يكن التنظيم الوحيد الذي يمارس نشاطه السياسي في أوساط الضباط المصريين، بل إننا نجد تنظيمات أخرى لا تقل أهمية عن دور الضباط الأحرار، ولعل أبرزها تنظيم الضباط التابع للإخوان المسلمين. وكان التنظيمان على صلة أحدهما بالآخر.‏
وبتاريخ 23 يوليو 1952 استولى تنظيم الضباط الأحرار على السلطة في مصر، وأطاح بنظام الملك فاروق في إطار انقلاب عسكري. ولا شك أن هذا الانقلاب العسكري الذي أصبح يلقب لاحقاً بثورة يوليو قد اختمر ونما داخل جهاز الدولة كتنظيم، وأصبح جهاز الدولة مؤسستها التنظيمية، وقام من الجيش وبه فقط، وهو يختلف عن الثورة كحركة جماهيرية شعبية منظمة ومستمرة. والفارق الجوهري بين الانقلاب العسكري والثورة هو أن الانقلاب يغير الحكم، ويحدث تغييراً في الأشخاص ولا يلعب الشعب فيه أي دور مجرد مشاهد على عرض المسرح، بينما في الثورة يلعب الشعب دوراً رئيساً ومشاركاً فعالاً ومحركاً قوياً في الاستيلاء على السلطة. وتشكل الثورة في الوقت عينه عصراً بأكمله يقود إلى تغيرات جوهرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية، وفي العلاقة بين الطبقات والفئات الاجتماعية، وفي شكل الحكم.‏
ورغم أن مصر كانت تعيش في حينه حالة من الهيجان الثوري، واحتداد الصراع الطبقي في المدن والأرياف على حد سواء، ونمواً هائلاً للإضرابات العمالية، وانتفاضات فلاحية تطالب بتوزيع الملكيات الكبيرة على من يفلحها، إلا أن تنظيم ضباط الأحرار الذي كان أحدى التعبيرات السياسية عن هذا الوضع الثوري، لم يدع الشعب للمشاركة الفعلية وبقوة في تدشين المرحلة الثورية الجديدة لبناء عصر على أسس ديمقراطية وشعبية. فكان رأيهم في هذه القضية تعكسه البيانات الأولى التي صدرت في أولى أيام الثورة "كانت مناشدة الجماهير أن تخلد إلى الهدوء والسكينة والنظام دون دعوة للتحرك، ودون طرح أهداف سياسية محددة يمكن أن تسهم الجماهير في صنعها مع القيادة، وقد جاء في البيان الذي أذيع ويحمل نبأ تنازل الملك عن العرش في 26/ يوليو 1952 "أن نجاحنا الآن في قضية البلاد يعود أولاً وأخيراً إلى تضافركم معنا بقلوبكم وتنفيذكم لتعليماتنا، وإخلادكم إلى الهدوء والسكينة إنني أتوسل إليكم أن تستمروا في التزام الهدوء التام حتى نستطيع مواصلة السير بقضيتكم في أمان" (9).‏
ما يتميز به تنظيم الضباط الأحرار أنه استولى على السلطة عن طريق الانقلاب العسكري، ولكن بدون مساندة شعبية واسعة من قوى المعارضة، على الرغم من أنه قبل الانقلاب كانت تربطه صلات متشعبة مع عدد من التنظيمات الجماهيرية. فالقضية الجوهرية لا تكمن في عملية التغيير في قمة السلطة وفي خلع الملك، وفي هيمنة قيادة الجيش على سلطة الدولة، وبالتالي في أن يحل أحد تنظيمات الحركة السياسية الشعبية والوطنية الجديدة بديلاً لأ خطر مؤسسات القوى الحفيظة على النظام القديم إلا وهو السراي، وإنما في بناء قوى التحالف الثوري الذي يضم طبقات وفئات اجتماعية مختلفة لها مصلحة في تحقيق الثورة من أجل قيادة العملية التاريخية نحو تحقيق منطقها الضروري. أي الانتقال من البنية الاجتماعية الكولونيالية إلى البنية الاجتماعية الجديدة التي تكون قد قطعت بالفعل علاقتها مع بنية الانتاج الذي تنتقل منه، من خلال التغيير الراديكالي لعلاقات الانتاج الاجتماعية، أي تغيير العلاقات الطبقية القائمة داخل البنية الاجتماعية، وتعديل صيغ التوازن في تلك العلاقات، التي كانت تبنى عليها بنية النظام السياسي القديم، ومؤسساته. والسؤال الذي يطرح نفسه بالحاح، هل أن العملية الثورية التي قامت في 23 يوليو يمكن أن نسميها ثورة، وأن كانت القضية لا تكمن في المصطلحات؟‏
في الواقع أن ما جرى في مصر في ذلك الوقت يظهر لنا العلاقة العضوية بين العسكر والعملية الثورية، وعزز من تدخل العسكر في السياسة من خلال استلامه الحكم، واتخاذه إجراءات ثورية، ولكن هذا لم يكن دليلاً نظرياً أو أيديولوجياً بل ضرورة استلام تنظيم عسكري سياسي وحيد قيادة الثورة التحررية في مرحلة من مراحلها. "فالعسكر في البلدان العربية لم يتمكن من إيجاد صيغة وأيديولوجيا معينة للدولة بالرغم من سيطرته على الحكم لفترات زمنية طويلة، فهو في هذا المضمار إنما يقلد الزعماء السياسيين أنفسهم مع تحول واضح في أساليب القيادة، والدعاية الشعبية التي يستند إليها. لم يتمكن العسكر قط، بالرغم من قيامه "بالثورة" من أن يطور أيديولوجيا ثورية أو نظاماً ثورياً يحكم به، ومن خلاله...ولهذا السبب وقع في فخ السياسة التقليدية. وهذا بالضبط ما حدث في عهد الرئيس جمال عبد الناصر"(10).‏
أولاً: العسكر والسلطة والديمقراطية‏
يتفق الباحثون الاجتماعيون، والمنظرون السياسيون على أن قيادة تنظيم الضباط الأحرار التي أطاحت بالنظام الملكي القديم، وحولت الانقلاب العسكري يوليو 1952 إلى حكومة، ووضعت أسس ودعائم النظام الجديد، لم تكن تمتلك تصوراً أيديولوجياً أو فلسفة سياسية محددة لبناء دولة جديدة. وكان التفكير السياسي للرئيس عبد الناصر يتمحور في ذلك الوقت حول مفهوم الحركة الوطنية، وتأكيد الذات المصرية. ولذلك، فإن الصيرورة الفكرية والسياسية لثورة يوليو لم تتحكم فيها أيديولوجية محددة في البداية باستثناء المبادئ الستة الشهيرة التي تحدثنا عنها سابقاً. بل إن الفكر السياسي للثورة تبلور من خلال الارتقاء الصعب للناصرية في خضم تضاريس السياسة العربية والدولية، ولذا وصفت الناصرية من قبل نقادها بأنها قد غلب عليها طابع "التجريبية" و"الذرائعية" وقد اعترف عبد الناصر صراحة بذلك حين قال "بأن قادة حركة الجيش لم يكن لديهم فكرة واضحة عما يجب أن يفعلوه عندما وجدوا أنفسهم فجأة في مقاعد السلطة".‏
إذا كان صحيحاً أن الأصول الاجتماعية والاقتصادية للعسكر تلعب دوراً كبيراً في بلورة مواقفهم السياسية وتبنيهم الايديولوجيات الحديثة، فإن ما هو صحيح أيضاً بشكل واقعي أن تنظيم "ضباط الأحرار" كانت تشقه أيديولوجيات فكرية وسياسية شديدة التباين تتراوح بين الايديولوجية الإسلامية والايديولوجية الماركسية، فقيادة ثورة يوليو تضم ألواناً واتجاهات أيديولوجية متنوعة، بدءاً من المحافظين والأخوان المسلمين، وانتهاء بالأحرار المتشيعين، والتقدميين، والعلمانيين اليساريين. "وقد انعكس هذا الخليط الفكري المتباين على الممارسات السياسية لمجلس قيادة الثورة خصوصاً في المرحلة الأولى للثورة (1952-1954)، وأسفر عن عديد من الخلافات والتصفيات" (11).‏
لقد انعكس التضارب في الأفكار، وغياب البرنامج السياسي الواضح في الإجراءات الأولية التي أقدمت عليها قيادة 23/يوليو في الأيام أو الأسابيع التالية للانقلاب، والتي تخدم السير نحو تصفية النظام الملكي الاستعماري، فتم تشكيل "مجلس قيادة الثورة" تحت زعامة الشخصية لعبد الناصر مع أن رئاسته الأسمية أوكلت للواء محمد نجيب الذي ينتمي طبقياً إلى الارستقراطية العسكرية، وتربطه صلات وثيقة بطبقتي الاقطاع والبرجوازية الكبيرة. وفي هذا السياق، أصبح مجلس قيادة الثورة" هو الذي يدير دفة السلطة من الخلف، لكي لا يظهر أنه يريد إقامة حكم عسكري. وكان اختيار علي ماهر رئيساً مدنياً للحكومة.. خطوة تكتيكية في غاية الأهمية، لأن تعيين رئيس للحكومة يستلزم تصديق الملك عليه، ذلك أن علي ماهر كان رجل السراي، وقد سبق لفاروق أن عينه رئيساً لحكومة انقلاب القاهرة 26/كانون الثاني 1952. كما أن علي ماهر معروف بانتمائه إلى الطبقة الارستقراطية، وبعدائه للانجليز والديمقراطية والقوى الشعبية في آن معاً. وكان الضباط الأحرار يعتقدون أن علي ماهر سيكون رجل مرحلة انتقالية وأداة طيعة في أيديهم، غير أنه هو كان يخطط لكي لا يكون رجل مرحلة انتقالية وأن يستخدم الضباط طوع بنانه، وأن يتمتع بكامل السلطات. ولكن الضباط هم الذين ربحوا في هذا الرهان المحفوف بالمخاطر.‏
ومما يدل على أن انقلاب يوليو لم يكن خارجاً عن سياق الأمن الأميركي الذي أصبح مهيمناً على صعيد عالمي بعد الحرب الكونية الثانية هو "عندما قررت قيادة يوليو اقصاء الملك فاروق عن العرش في 26 تموز يوليو / فإن السفير الأميركي العقيد جيفرسون كافري، هوالذي قام بدور أساسي في إقناع الملك بتقبل مصيره بدون مقاومة، ومغادرة البلاد بشكل هادئ وذلك في مقابل تعهد قيادة يوليو بعدم المساس بأمن فاروق الشخصي، هو وأفراد أسرته، وتمكينه من أن يأخذ معه إلى أوروبا كل ما يستطيع، مما خف حمله وغلا ثمنه. واشترك السفير الأميركي مع عدد من ضباط القيادة في توصيل الملك إلى اليخت الذي أقله إلى ايطاليا" (12). ولم تكن قيادة الضباط الأحرار في ذلك الوقت حريصة على التصادم مع الأمريكيين بل كان هدفها كسب ود الولايات المتحدة الأمريكية ومساعدتها لها، خصوصاً بعد أن قدمت نفسها على أنها ثورة بيضاء غير راغبة في اراقة دماء خصومها، وبعد أن أصدرت حكومة علي ماهر القانون رقم 120، الذي يضمن للاجانب الذين يوظفون رؤوس أموالهم في مصر أن يحصلوا على نسبة 51 في المئة من مجموع رأسمال الشركة بدل من 49في المئة، وكان هذا القانون يخدم مصالح الاحتكارات الأجنبية التي كان علي ماهر على علاقة بها.‏
أما على الصعيد السياسي فقد كانت ثورة يوليو في سياقها الديمقراطي العام تدرك جيداً أن هناك أزمة للديمقراطية في مصر، وأن فشل الديمقراطية الليبرالية في العهد الملكي البائد كان أحد أسباب قيامها، ولذا اصطدمت في بداية الأمر بدستور 1922. وقال عبد الناصر في نقده للديمقراطية الليبرالية يوم 16أيلول 1953 ما يلي "لقد حكمتم زهاء ربع قرن في ظل دستور يضارع أرقى الدساتير في برلمانات متعددة جاءت وليدة انتخابات متتالية. حكمتم باسم الديمقراطية، ولكنكم باسم الديمقراطية المزيفة لم تنالوا حقوقكم ولم تنالوا استقلالكم، ولم تنعموا يوماً واحداً بالحرية والكرامة التي لم يكفلها الدستور في عهودكم إلا لهم من دون الشعب. فخسرتم كل شيء وكسبوا كل شيء حتى ثرتم على هذه الأوضاع فحطمتموها، فمن منا يمكن أن يقبل أن تسلم الثورة أمر الشعب باسم الديمقراطية الزائفة باسم الدستور الخلاب وباسم البرلمان المزيف إلى تلك الفئة من المخادعين؟ هؤلاء الذين عاشوا لتحقيق شهواتهم من دماء هذا الشعب جيلاً بعد جيل هؤلاء القوم الذين ثرتم من أجل تصرفاتهم ومظالمهم واستغلالهم" (13).‏
وعلى الرغم من أن دستور 1923 كان ليبرالياً في جوهره وانضوت في ظله أحزاب ليبرالية شرعية: الحزب الوطني، حزب الوفد، حزب الأحرار الدستوريين، وحزب الاتحاد، حزب الشعب، حزب مصر الفتاة، حزب السعديين، حزب الكتلة الوفدية، حزب الفلاح، حزب مصر، إلا أنه في التطبيق العملي في ظل هذه الديمقراطية الليبرالية التي تفترض تعدد الأحزاب المنضبطة والمنظمة، لم تكن السيادة فيها للشعب، الذي كان بعيداً عن ممارسة السلطة، واستمر راضخاً لحكم أقلية أوليغارشية تستأثر بمقدراته سياسياً واقتصادياً. وكان من بين كل هذه الأحزاب التي كان لها حضور قوي في العمليات الانتخابية، وقدرة على شغل الوظيفة التمثيلية داخل البرلمان بواسطة الانتخابات، هو حزب الوفد، الذي تحول إلى أكبر مدافع عن دستور 1923، باعتباره أحد أقطاب النظام الليبرالي الفاشل في مصر. وكان يتوقع من ثورة يوليو التي هدمت النظام القديم، أن تسلمه السلطة، ليعيد بناءه من جديد، ولهذا اتخذ الوفد من قضية الدفاع عن النظام الدستوري والقانوني ميداناً للصراع السياسي ضد قيادة ثورة يوليو، خصوصاً وأن الإجراءات التي اتخذتها السلطة الجديدة لمصلحة الشعب كإصدار قوانين الإصلاح الاجتماعي كانت تصطدم بالهيكل الدستوري والتشريعي القائم. وانتهت هذه المواجهة بين حكم العسكر وحزب الوفد المدافع عن أسس النظام الدستوري القائم قبل الثورة إلى إصدار بيان بإلغاء الدستور في 10 كانون أول 1952، باعتباره دستوراً لا يعبر عن إرادة الشعب، ويقنن الاستبداد والدكتاتورية والطغيان بقوانين، ونواب، وانتخابات، وأحزاب نخبة، وأصبح عائقاً بنيوياً أمام مقدرة الشعب الفعلية على ممارسة حريته الديمقراطية التي أباحها الدستور عينه (حرية إبداء الرأي خارج المنابر الدستورية، حرية الصحافة، حرية الكتابة، والنشر في الصحف والمجلات غير الرسمية، ونشرات الإعلام الحكومي، وحرية الاجتماع، وحرية الانتقال، وحرية تكوين الجمعيات والأحزاب السياسية) خارج أطر أجهزة الدولة أي في قطاع المجتمع المدني- ضد النزوع الاستبدادي للسلطة...‏
وهكذا، حدثت المواجهة مع حزب الوفد الذي كانت قيادته تنتمي إلى طبقة الأعيان. وكان أميل "للمعارضة الديمقراطية" وأكثر تمسكاً بالحياة الدستورية، وعمل على احتواء حركة الطبقة الوسطى، والقيادات التي تفرزها الحركة الشعبية، وأحدث فيها قانون الاصلاح الزراعي انقساماً في صفوفه بين الجناح اليميني والجناح اليساري بقيادة مصطفى موسى والدكتور محمد مندور رائد الصحافة الجماهيرية، هذه المواجهة التي كانت "لصيقة بالمواجهة مع أسس النظام الدستوري التشريعي القائم قبل الثورة، وهي لصيقة مع الحركة الوطنية الديمقراطية في صورتها التقليدية التي تبلورت منذ 1919. وهذا ما أعطى المواجهة طابعاً هاماً وساخناً لم يقم مع غير الوفد من أحزاب نخبة الحكم السابق على 23يوليو. أما المواجهات الهامة الساخنة الأخرى. فقد جرت كلها مع أحزاب الحركة الشعبية الجديدة أخواناً وشيوعيين وغيرهم" (14).‏
بعد إسقاط الدستور، وتزايد النقد ضد الديمقراطية الليبرالية، أصبح الجيش هو العماد الأساسي لسلطة 23 يوليو، حين لجأ إلى احتكار السلطة والحياة السياسية وإلغاء المجال السياسي المجتمعي، من خلال اصدار الأوامر إلى الأحزاب "بتطهير صفوفها" أسوة بالجيش، وإعادة صياغة برامجها بما ينسجم مع ولائها للنظام الجديد. غير أن القبول بمبدأ التطهير قد فجر الصراعات والانقسامات داخل هذه الأحزاب. وفي 8 أيلول صدر قانون لتنظيم الأحزاب يشترط موافقة الحكومة على برامجها وزعمائها، وفي 16 كانون الثاني 1953، أصدر محمد نجيب اعلاناً بحل الأحزاب السياسية قال فيه "اتضح لنا أن الشهوات الشخصية والمصالح الحزبية التي أفسدت أهداف ثورة 1919 تريد أن تسعى بالتفرقة في هذا الوقت الخطر من تاريخ الوطن، فلم تتورع بعض العناصر عن الاتصال بدولة أجنبية، وتدبرما من شأنه الرجوع بالبلاد إلى حالة الفساد السابقة!! وبناء عليه صدر المرسوم بقانون رقم 37 سنة 1953 بحظر النشاط الحزبي بالنسبة إلى أعضاء الأحزاب المنحلة (المادة 2)، وحظر تكوين أحزاب سياسية جديدة (المادة 6).‏
كما تشكلت لجنة من خمسين عضواً بهدف "وضع مشروع دستور يتفق مع أهداف الثورة" خلال فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات في 13 كانون الثاني 1953، وأصدرت في 10 شباط 1953 إعلاناً دستورياً ببيان نظام الحكم في فترة الانتقال عهد إلى مجلس قيادة الثورة بأعمال السيادة العليا (المادة 8) وعهد بالسلطة التشريعية إلى مجلس الوزراء، محل فيما يخصه (المادة 9). وعهد بالموافقة والمتابعة إلى مؤتمر يتألف من مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة مجتمعين (المادة 11)‏
ليس من شك أن ثورة يوليو التي كان العسكر أداتها السياسية بعد أن سيطر على الحكم في عملية استبدال القيادات السياسية التقليدية بالضباط السياسيين، قد اصطدمت بمشكلة الديمقراطية. وكانت مسيرتها في معالجتها للديمقراطية في ظل مجتمع فلاحي منذ البداية، مليئة بالمفاجآت والفخاخ الخطرة، والتعقيد والتعرج. لقد تحول العسكر إلى قوة سياسية ضاربة طغت على المؤسسات الأخرى، خصوصاً عندما ألغت الأحزاب السياسية، ومنعت قيام أحزاب أخرى وأقصت الأحزاب الأيديولوجية سلفاً من المشاركة في صنع القرار السياسي العام، فخلقت بذلك جداراً من العزلة بين المجتمع السياسي الذي يسيطر عليه الجيش، وبين مؤسسات وتكوينات المجتمع المدني. وتمثل هذا النهج القمعي للحركة الشعبية والمتناقض مع الديمقراطية في الأمور التالية:‏
1- الصدام مع الشيوعيين‏
وتمثل ذلك في قمع التحرك العمالي بكفر الدوار، وقتل القائدين النقابيين مصطفى خميس ومحمد البقري، ومصادرة حق التنظيم النقابي في العام 1952. فالعسكر الذي لم يكن له صيغة أيديولوجية اشتراكية معينة للدولة العصرية في بداية الثورة، قام بتوجيه ضربات ضد الحزب الشيوعي المصري، الذي كان يعتبر من القوى الراديكالية الوحيدة التي تناضل من أجل الاشتراكية، كما وجهت ضربات للحزب الاشتراكي (مصر الفتاة) الذي كان يرأسه أحمد حسين. على أثر أحداث كفر الدوار اتسعت الهوة عمقاً بين الشيوعيين والنظام بسبب الموقف من المشكلة الديمقراطية، والحال هذه "جند الحزب الشيوعي (الراية) طاقاته الفكرية والدعائية التي لم يكن مضمونها يتخذه النظام، حتى تلك الاجراءات والخطوات التي لم يكن مضمونها التقدمي خافياً: فالاصلاح الزراعي تصفه دعاية الحزب وتحليلاته بأنه "إفساد زراعي"، واشتراك جمال عبد الناصر في مؤتمر باندونغ تسخر منه جريدة الحزب (راية الشعب) في مقال لاذع تحت عنوان "فاشي مصر المفلس يبحث عن المجد في باندونغ".‏
ولم يغير الشيوعيين موقفهم المعادي هذا من النظام إلا بعد أن أبرم هذا الأخير صفقة الاسلحة مع تشيكوسلوفاكيا في خريف العام 1955.‏
2-الصراع مع الأخوان المسلمين‏
لم تعامل قيادة يوليو تنظيم الأخوان المسلمين بمثل معاملتها للاحزاب السياسية الأخرى، كالاشتراكية والوفد، نظراً للعلاقات العضوية القديمة بين تنظيم الأخوان المسلمين وتنظيم الضباط الأحرار. فضلاً عن التأثير الذي مارسته أيديولوجية الأخوان في تشكيل أفكار الضباط. ثم أن استثناء الأخوان من قرار حل الأحزاب السياسية كان مرده الموقف التكتيكي الذي اتخذته قيادة يوليو بصدد استخدام الأخوان في الصراع ضد الوفد والشيوعيين. لكن الخلاف القائم بين الأخوان والعسكر بدأ يتحول إلى صراع مكشوف طيلة العام 1953. حين بالغت قيادة الأخوان في قوتها، وطالبت بتعيين عدد من الوزراء الأخوانيين في الحكومة، لم يوافق جمال عبد الناصر على هذا الطب إلا جزئياً، حين قبل أحد قادتهم الشيخ أحمد حسن الباقوري منفرداً منصب وزير الأوقاف. فطرده الأخوان من بين صفوفهم لأن ولاءه للنظام كان يرجح على ولائه لقيادة الجماعة.. ومنذ أن بدأت قيادة يوليو تحتكر مصادر القوة في المجتمع، بعد أن وجهت ضربات قاصمة للوفد والقوى الاشتراكية، بدأت العلاقات بين الأخوان والضباط تدخل مرحلة التوتر والصدام ثم جاءت القطيعة والعداء في منتصف كانون الثاني 1954، حين أصدر عبد الناصر قراراً بحل جماعة الأخوان المسلمين، واعتقال زعمائها.‏
ولما كان تنظيم الأخوان المسلمين من أقوى الأحزاب السياسية حضوراً على الساحة السياسية والشعبية لجأ إلى استخدام العنف في مواجهة النظام، وحتى حاول اغتيال عبد الناصر، فقد استخدم العسكر ضده أقسى أشكال القمع الدموي. ولعل هذا هو المصدر الرئيسي المولد للعنف المضاد للجماعات الاسلامية المسلحة، ولظواهر التطرف والتعصب المذهبي، وما رافقهما من احتداد الحركة الارتدادية الحضارية والسياسية على صعيد مصر، والوطن العربي عامة. "وهكذا وبانهيار العلاقة بين الضباط والأخوان يبدأ الصراع حول طبيعة النظام مع الغريم الثالث نجيب. وكان قرار حل الأخوان قد صدر دون استشارة نجيب، الذي كان في ذلك الوقت رئيساً للجمهورية، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة ورئيساً للوزراء، وقائداً عاماً للقوات المسلحة، فقدم استقالته من جميع هذه المناصب (في نفس اليوم الذي غادر فيه الشيشكلي سورية) (15).‏
3-العسكر والصراع داخل المؤسسة السياسية الحاكمة:‏
لقد تصدى الجيش لمهمة قيادة الدولة في مصر باعتباره المؤسسة الأكثر عصرية والأكثر تماسكاً في المجتمع المصري، وتعرضت إلى نمط من التحديث على النسق الأوروبي- وانتهج في المرحلة الأولى من الثورة (1952-1954) منهجاً سياسياً تجريبياً، الأمر الذي قاد إلى تراكم المصاعب أمام الحكم الجديد، بعد أن تفجرت الصراعات السياسية، وضربت الحركة الحزبية في المجتمع، وفشل في معالجة أزمة الديمقراطية، من خلال حصر سيادة الشعب بوصفه المفهوم الأرقى والواقعي للديمقراطية في إطار الشكل التمثيلي الضيق والمحدود للنخب العسكرية والبيروقراطية، وانتهاج نهج قمعي للحركة الشعبية، الأمر الذي قاد إلى "تحرك شعبي واسع عام 1954 يطالب بعودة الضباط إلى ثكناتهم وإطلاق الحريات الديمقراطية" (16).‏
إن علاقة العسكر بالديمقراطية ليست علاقة ودية، بل هي علاقة تعاكسية، ذلك أن العسكر والديمقراطية يقفان على طرفي نقيض، والسبب يرجع في ذلك إلى التناسب العكسي بين الديمقراطية والعسكر. فكلما ازدادت الديمقراطية قل تدخل العسكر في السياسة والعكس صحيح. فالديمقراطية مرتبطة بالحرية السياسية بتنوعها التي تفترض قدرة المواطنين على تأليف الأحزاب السياسية، والانتماء إليها، والمشاركة في الحياة السياسية العامة بكل معاني المشاركة وشروطها، وانتخاب حكامهم، وممارسة حقوقهم بحرية تامة. ومن هذا المنطلق، فإن إلغاء الأحزاب السياسية من جانب قيادة يوليو إنما يخفي في جوهره عداء للديمقراطية ذاتها.‏
يقول العلامة "روبرت ميتشل" إن الديمقراطية لا يمكن تصور وجودها دون تنظيم، والأحزاب هي التي تتولى ذلك التنظيم، لأن التنظيم هو الوسيلة الوحيدة لخلق إرادة عامة، كذلك فإن التنظيم في يد الجماعة الضعيفة سلاح من أسلحة الكفاح ضد الأقوياء.".‏
هل كان العسكر في مصر يمتلكون قدرة على الفعل السياسي الهادئ العقلاني والمنطقي الذي يقدم حلولاً واقعية لمشكلة الديمقراطية وبناء المجتمع المدني الحديث؟‏
في الواقع بعد تحجيم الطبقة المالكة القديمة سياسياً بفضل قانون الاصلاح الزراعي المتواضع في توجهاته، والمحدود في مداه، الذي نجح في تقويض البنية الاجتماعية لطبقة الملاك، والقضاء على الأحزاب السياسية، وخنق الحركة العمالية والنقابية في مهدها. كان واضحاً أن الجيش لم يكن يمتلك مشروعاً سياسياً لحل مشكلة الديمقراطية في مصر، إذ تفجر الصراع داخل المؤسسة العسكرية حول "مفهومين متناقضين للديمقراطية مشكلة والديمقراطية حلاً".‏
كان الموقف السلبي من النظام البرلماني السابق، والديمقراطية الليبرالية التي لم تفسح للشعب المصري لكي يحكم نفسه بنفسه، ويكون له المقدرة على ممارسة الديمقراطية ضد الاستبداد والتسلط اللذين يمارسان عليه عن طريق مظاهر التمثيل النيابي، والتي سلبت الشعب المصري حريته السياسية، قد قاد العسكر إلى اختيار بديل ثان، هو تأسيس نظام جديد يعتمد أسلوب فرض الوصاية على الشعب بحكم أن أغلبية متخلفة ديمقراطياً، وعجز الأحزاب السياسية سواء منها أحزاب الأقلية أم الأحزاب الأيديولوجية الراديكالية عن الاضطلاع بإنجاز مهام حل أزمة الديمقراطية في تلازمها مع إجراء التحولات الوطنية والقومية والاجتماعية الضرورية للتقدم والاستقلال.‏
إذا كانت بنية المجتمع العربي على وجه العموم بنية تتسم بطابع التنوع الهائل على صعيد التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، ويسود فيها الانقسامات الطبقية، والطائفية، والدينية، والقومية، وهي بنية لا اقطاعية مثلما هي لا رأسمالية بالمعنى الكلاسيكي الأوروبي، وتسيطر فيها البنى التقليدية ما قبل الثورة الديمقراطية البرجوازية والتطور الرأسمالي، والتي ما زالت تهجز الاستقطاب الطبقي وتشوهه، ويسود فيها أيضاً النظام البطركي الأبوي على حد قول الدكتور هشام الشرابي، أي نظام القرابة النابذ للاندماج القومي والذي يكرس الولاء الشخصي والعلاقات الشخصانية، ويوّلد باستمرار الشقاق أو التنازع ذا الطابع القبلي والمذهبي داخل الجسم الاجتماعي، فإن هذا الوضع الأنف الذكر لا يبرر لمجلس قيادة الثورة في مصر استغلال ضعف انغراس الأيديولوجية السياسية الحديثة في المجتمع، وتخلف السياسة ولاعقلانيتها وتخلف الأحزاب في وعيها وتنظيمها، لانتهاج فلسفة في ممارسة الحكم لا تطرح سيادة الشعب بمفهوم المشاركة في مجتمع مدني، بل مفهوم النيابة عنه وانتداب نفسها لتمثله، ولا تؤمن بقدرة الشعب على تخطي ضعفه وتخلفه السياسي والأيديولوجي الديمقراطي أو قهر عدوه الخارجي، بل تؤمن فقط بضرورة اصطفاف الشعب -مثل الجيش المقاتل- خلف قائد واحد.‏
وفي هذه الظروف، تصاعدت حركة المعارضة داخل المؤسسة العسكرية، وبخاصة في سلاح الفرسان، متزامنة مع تصاعد حركة الصراع ضد العسكر، في بداية العام 1954، وتم ضرب دعاة "التنظيم السياسي للجيش" الذين كانوا يطالبون بالحكم الدستوري النيابي العام، والذين كانوا يعارضون حل تنظيم الضباط الأحرار. على الرغم من أنه لا يتسم بصفة الحزب السياسي، ولا يمتلك أسس أيديولوجية واضحة، وأساليب سياسية، ولا قدرات وروابط تنظيمية تمكنه حين استولى على السلطة من التحول إلى مؤسسة حاكمة. ولذلك تم ابعاد الضباط الأحرار من الجيش إلى الحياة المدنية، وصفيت حركة المعارضة داخل الجيش متزامنة مع تصفية حركة المعارضة الحزبية خارج الجيش، لكي تصبح الزعامة الفردية هي المهيمنة في قيادة الدولة المصرية.‏
"وفي هذا السياق بدت قدرتان زعاميتان، زعامة محمد نجيب الذي وضعه الضباط الأحرار على رأس تنظيمهم عشية الثورة، وأكسبته المنجزات الأولى للثورة تأييداً شعبياً واضحاً. وزعامة جمال عبد الناصر الرئيس الفعلي للجنة التأسيسية للضباط الأحرار، والمحرك الأول لحركة 23 يوليو، والذي استمرت علاقاته الوثيقة بالضباط، سواء في قيادة الثورة أو بين الضباط الأحرار، وقد أقُصي محمد نجيب مع هزيمة الحركة الحزبية في مواجهة قيادة الثورة، وتم ذلك في 1954" (17).‏
ويبدو من مطالعة مذكرات البغدادي، أن مجلس القيادة كان يشيع فيه مفهوم شارد عن الديمقراطية داخل المجلس، ويظهر ذلك في مناسبتين، إذ اجتمع المجلس غداة عزل الملك لبحث نظام الحكم المقبل، ووقفت الغالبية ضد النظام النيابي، ووقفت الأقلية مع هذا النظام وفيها جمال عبد الناصر، فتنحى عبد الناصر عن حضور جلسات المجلس حتى عدل المجلس عن قراره. ويذكر البغدادي أن هذا كان طعنة لمبدا القيادة الجماعية. وأساس هذا الشرود هنا، لا لأن عبد الناصر الجأ المجلس إلى الرجوع عن قراره ولكنه في الأساس يتعلق بمضمون القرار المجافي للديمقراطية، ومفارقة هذا المضمون لأسلوب اتخاذ القرار. والمناسبة الثانية جاءت في أزمة مارس 1954، عندما قرر المجلس كله مد فترة الانتقال باستثناء خالد محي الدين الذي عارض القرار متمسكاً بإعادة الحياة النيابية، وأعفي خالد محي الدين من عضوية المجلس حرصاً على أن يكون صدور القرار بالاجماع... ويذكر البغدادي "لقد أصبح المجلس بذلك هو جمال عبد الناصر".‏
وما كان للمجلس أن يستقي قوة ذاتية في مواجهة رئاسته الفردية، وهو نفسه يقف ضد حركة التمثيل الشعبي عامة، ولم يكن أمامه بعد تصفية تنظيم الضباط، ومع معركته ضد الحركة الحزبية برمتها، لم يعد ثمة وجود لأية قاعدة يمكن بها قيادة جماعية. فلم يعد للمجلس إلا أن يتفكك أو أن يقبل أعضاؤه الإنضواء تحت قيادة فردية، وهي القيادة التي استطاعت أن تجمع عناصر التحريك السياسي والتنفيذي وهيمنته باسم المجلس على أجهزة الدولة. وأثبتت جدارتها في مواجهة الأحداث وسعة حيلتها(18).‏
إذا كان الجيش المبني على التنظيم الهرمي والكلي للسلطة قد نجح من خلال حركة الضباط الأحرار في الاستيلاء على الحكم، وبناء الدولة الوطنية المستقلة في مصر. غير أنه مع بروز الزعامة الفردية، لعبد الناصر الذي خرج منتصراً من الصراعات الدرامية 1952-1954، والذي كان يحظى بدعامة العسكر، لم يمنع من سقوط النظام المصري الجديد في المنحدر الشمولي بعد أن قضي على الحركة الحزبية، وعطل الحركة النقابية، وأقصى الضباط الديمقراطيين في الجيش، الذين كانوا يتعاونون مع القيادات السياسية في الشارع السياسي.‏
وفي ظل غياب بناء النظام الديمقراطي بحجة رفض المفهوم الليبرالي للديمقراطية بمعناها الكلاسيكي الغربي، وعدم حل التناقض الجوهري الذي أفرزته المرحلة الجديدة من قيادة الشعب إلى الديمقراطية من فوقه، وبين سيطرة الأوضاع الشمولية بالنفوذ والهيمنة من جانب أجهزة القمع المباحث والمخابرات ومترادفاتها وملحقاتها على الدولة، لم يكن هناك من خيار أمام النظام الجديد عن ظهور الديكتاتورية لمجلس قيادة الثورة والزعامة الفردية للدولة وللنظام وللثورة سوى الفوضى.‏
وهكذا، مع انعدام الانتقال التدريجي نحو النظام الديمقراطي تأسست الدول التسلطية في مصر التي أطلقت يد الأجهزة من دون رقابة الشعب وفي تناقض كلي مع المجتمع المدني، "ولم يكن هناك مجال للصراع السياسي في عملية اتخاذ القرار إلا في أعلى قمة هرم السلطة. أما في غير هذا المستوى فقد سادت نظرة ترى أن السياسة ما هي في جوهرها إلا مجموعة من المشكلات الإدارية وأن الخلاف يمكن أن يدور حول هذه المشكلات وحول رفع مستوى الأداء ولكن دون أن يتطرق إلى الاختيارات والأولويات نفسها. وهكذا تبنى النظام مفهوماً "اندماجياً" وليس مفهوماً "تنافسياً" للمجتمع السياسي. وفي هذا الإطار كان الزعيم السياسي الكاريزمي الذي توفرت له أيضاً معظم السلطة التنفيذية هو قمة هرم السلطة في المجتمع جوهر تضخم وتشعب بصورة أبرزت بوضوح الطابع "النهضوي" البيروقراطي للنظام" (19).‏
إن الذي انتصر في مصر ليس البديل الثالث أي الانتقال التدريجي نحو إقامة نظام ديمقراطي تعددي، بل خيار ديكتاتورية مجلس قيادة الثورة وما نجم عن هذا الخيار من استبعاد اليسار القديم مثل خالد محي الدين ويوسف منصور صديق، وعبد المنعم عبد الرؤوف، وجمال سالم، واحتضان مجموعة الضباط التي كانت في خدمة النازيين في الفترة الممتدة 1941-1942 والتي كانت على علاقة بالأخوان المسلمين في أواخر الأربعينات. ويجمع العديد من الدارسين للثورة المصرية من عرب وأجانب، بأن الأكثرية من الضباط الأحرار ينتمون إلى التيار اليميني الوطني، وهذا لايمنع وجود رجال من ذوي الأفكار الليبرالية والاشتراكية والشيوعية بين زمرة الضباط، بل وبين الضباط الأحرار أنفسهم. لكن هؤلاء برغم ضآلة تأثيرهم قبل الانقلاب. فإن تأثيرهم هذا انتهى تماماً بعد الاستيلاء على السلطة، واستقرار النظام، ولم تكن "اشتراكية" عبد الناصر العربية امتداداً لأيديولوجية ليبرالية، أو اشتراكية، أو ماركسية، وإنما هي نتاج فكر يميني وطني(20).‏

 
عودة
أعلى