هل سبق أن صادفت في الشارع كهلاً نحيلاً أنهكه الزمن والمرض يحاول أحد المارة الذي تبدو عليه أمارات الثراء والغنى إجباره على سداد دين بعشرات الآلاف من الريالات التي لم يقترضها أصلاً؟ هل يوجد من هو أتعس من ذلك الرجل؟
قد يبدو هذا المشهد غير مألوف وربما غير منطقي بالنسبة لك، ولكنه حقيقي جداً وتشهد على ذلك أروقة المحاكم الأمريكية والأوروبية. فهناك الكثير من الوقائع التي شهدت تحقيق عدد من أغنى أغنياء العالم لأرباح تصل إلى 500% من خلال إجبار أفقر الناس على ظهر الكوكب على سداد ديون لم يأخذوها في المقام الأول.
كيف يمص الغني دم الفقير؟
في منتصف التسعينيات ابتكر رجل الأعمال الأمريكي "بول سينجر" نموذج عمل مختلفاً لصناديق التحوط، يقوم بموجبه بشراء ديون البلدان الفقيرة من المقرضين مقابل أسعار زهيدة جداً، أي بخصم كبير على قيمتها الاسمية. بمعنى أن الدين الذي تبلغ قيمته الاسمية 100 مليون دولار يشتريه مثلاً مقابل 20 مليون دولار فقط من مالكه الأصلي.
بعد ذلك يقوم "سينجر" بجر هذا البلد الفقير إلى المحاكم في أمريكا أو أوروبا ويطالبه بدفع القيمة الاسمية الكاملة للدين، أي الـ100 مليون دولار كاملة بالإضافة إلى فوائد ذلك المبلغ على مر السنين. وكأن كل ذلك لا يكفي، يطالبهم "سينجر" أيضاً بتحمل تكاليف مقاضاته لهم.
وإذا لم يتمكن ذلك البلد الفقير من الدفع كما هو متوقع يبدأ "سينجر" في ملاحقة أي شخص أو جهة خارجية تدفع الأموال لهذا البلد ويجبرها على إعطاء تلك الأموال له وذلك بمساعدة المحاكم التي تحكم في أغلب الأحيان لصالحه هو وأمثاله الذين يكونون في وضع أقوى من الناحية القانونية.
على سبيل المثال، في عام 1979 حصل ديكتاتور زامبيا السابق "كينيث كاوندا" على قرض بقيمة 15 مليون دولار من ديكتاتور رومانيا السابق "نيكولاي تشاوتشيسكو" لشراء بعض الجرارات، التي اتضح لاحقاً أن معظمها لا يعمل. ولكن بعد 20 عاماً من عدم السداد جاءت حكومة زامبيا الجديدة المنتخبة ديمقراطياً التي رأت أن البلاد غير قادرة على سداد ذلك القرض وبدأت المفاوضات مع المقرضين الرومانيين لإلغائه.
في تلك اللحظة انتهز مليونير يسمى "مايكل فرانسيس شيهان" الفرصة وقام عبر شركته "دونيجال" التي تتخذ من أحد الملاذات الضريبية البريطانية مقراً لها بشراء الدين البالغة قيمته 15 مليون دولار من رومانيا مقابل 3 ملايين دولار فقط، وذلك قبل أن يقوم بجر زامبيا إلى المحكمة في بريطانيا لإجبارها على سداد كامل المبلغ بالإضافة إلى الفوائد ليصل المجموع إلى نحو 55 مليون دولار.
على حساب من؟
أوضحت الحكومة الزامبية للمحكمة أنها لا تمتلك بالفعل ذلك القدر من المال، وشرحت لها كيف أن حالة البلاد مزرية. فخمس مواطنيها مصابون بفيروس نقص المناعة، كما أن سكانها البالغ عددهم في ذلك الوقت نحو 12 مليون نسمة لا يوجد لديهم سوى 600 طبيب ليعتنوا بهم.
ادعى مستشار الرئيس الزامبي "مارتن كالونجا باندا" أن إجبار بلاده على دفع ذلك المبلغ سيحرم ما يقرب من 100 ألف شخص من تلقي الأدوية اللازمة وسيحول كذلك دون ذهاب 300 ألف طفل إلى المدرسة، وهو الادعاء الذي تأكدت من صحته المنظمات الإغاثية. والأهم من ذلك هو أن أولئك الذين سيحرمون من العلاج والتعليم لم يكونوا على قيد الحياة أصلاً حين حصل الديكتاتور الزامبي على القرض.
تأثر القاضي البريطاني الذي كان ينظر القضية بالحالة المزرية لزامبيا، لكنه قال في النهاية إن القانون لم يعطه خياراً سوى مطالبة زامبيا بدفع 15 مليون دولار إلى "دونيجال"، أي ثلث المبلغ الذي كانت تطالب به الشركة. ورغم ذلك كان ذلك المبلغ يمثل ثروة بالنسبة للزامبيين.
في الفترة ما بين عامي 1991 و1998 تراوحت النسبة المئوية لسكان زامبيا الذين يعيشون تحت خط الفقر ما بين 69.2 و72.9%، بينما تراوحت نسبة الذين يعيشون منهم في فقر مدقع ما بين 53.2 و60.6%. وفي ظروف مثل تلك تصبح للـ15 مليون دولار قيمة وأهمية كبيرة بالنسبة للشعب الزامبي.
وعلى الرغم من أن الزامبيين لم يخرجوا تلك الأموال من جيوبهم مباشرة ليدفعوها إلى "دونيجال" إلا أن حصول الشركة البريطانية على ذلك المبلغ حرمهم من فرصة إنفاقه على خدمات التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية وغيرها من أبسط أسباب المعيشة وأكثرها حيوية.
ما الذي يمكن أن تفعله 20 مليون دولار لشعب فقير؟
ما حدث مع زامبيا حدث قبلها مع ليبيريا. ففي عام 1978 اقترضت ليبيريا 6.5 مليون دولار من شركة "كيميكال بنك" الأمريكية والتي قامت لاحقاً ببيع ذلك الدين إلى شركتي "إف اتش إنترناشونال" و"سيفيدا".
وبسرعة قامت الشركتان برفع دعوى قضائية ضد ليبيريا أمام إحدى المحاكم بنيويورك لإجبارها على سداد المبلغ، قبل أن تلزم المحكمة ليبيريا بسداد 18.4 مليون دولار للشركتين.
لم تتمكن الشركتان من تحصيل الدين من ليبيريا، ولذلك قاما ببيعه مرة أخرى إلى شركتي "همسة" التي تتخذ من الجزر العذراء البريطانية مقراً لها و"وول كابيتال" الموجودة في جزر كايمان. وفي عام 2008 بدأت الشركتان في ملاحقة ليبيريا قضائياً في المحكمة العليا في لندن.
في السادس والعشرين من نوفمبر 2009 أمرت المحكمة العليا ليبيريا بدفع أكثر من 20 مليون دولار تشمل قيمة الفائدة للشركتين البريطانيتين. ورغم قبولها لادعاء ليبيريا بعدم قدرتها على سداد مبلغ بذلك الحجم أشارت المحكمة إلى أنه على البلد الإفريقي أن يفعل ما بوسعه للسداد.
كان العشرون مليون دولار التي ربما يراها البعض مبلغاً تافهاً تعادل نحو 5% من ميزانية الحكومة الليبيرية في عام 2010 و100% من ميزانية التعليم و150% من ميزانية الصحة في عام 2008.
باختصار هذا المبلغ الذي قد لا تراه صناديق التحوط أكثر من عائد جيد لصفقة ناجحة هو بمثابة ثروة لبلد كان ولا يزال يعاني آثار الحرب الأهلية المدمرة التي استمرت لنحو 14 عاماً والتي ألحقت أضرارا بالغة ببنيته التحتية الصحية والتعليمية.
لم ينته ذلك النزاع حتى الآن، ولا تزال ليبيريا في وضع لا يسمح لها بأن تدفع ذلك المبلغ إلى صناديق التحوط، ويبدو أن مخرجها الوحيد هو أن توجه مواردها المالية الشحيحة أصلاً والتي تستخدمها في علاج وسد رمق مواطنيها لسداد الأثرياء المالكين لصناديق التحوط.
قد يبدو هذا المشهد غير مألوف وربما غير منطقي بالنسبة لك، ولكنه حقيقي جداً وتشهد على ذلك أروقة المحاكم الأمريكية والأوروبية. فهناك الكثير من الوقائع التي شهدت تحقيق عدد من أغنى أغنياء العالم لأرباح تصل إلى 500% من خلال إجبار أفقر الناس على ظهر الكوكب على سداد ديون لم يأخذوها في المقام الأول.
كيف يمص الغني دم الفقير؟
في منتصف التسعينيات ابتكر رجل الأعمال الأمريكي "بول سينجر" نموذج عمل مختلفاً لصناديق التحوط، يقوم بموجبه بشراء ديون البلدان الفقيرة من المقرضين مقابل أسعار زهيدة جداً، أي بخصم كبير على قيمتها الاسمية. بمعنى أن الدين الذي تبلغ قيمته الاسمية 100 مليون دولار يشتريه مثلاً مقابل 20 مليون دولار فقط من مالكه الأصلي.
بعد ذلك يقوم "سينجر" بجر هذا البلد الفقير إلى المحاكم في أمريكا أو أوروبا ويطالبه بدفع القيمة الاسمية الكاملة للدين، أي الـ100 مليون دولار كاملة بالإضافة إلى فوائد ذلك المبلغ على مر السنين. وكأن كل ذلك لا يكفي، يطالبهم "سينجر" أيضاً بتحمل تكاليف مقاضاته لهم.
وإذا لم يتمكن ذلك البلد الفقير من الدفع كما هو متوقع يبدأ "سينجر" في ملاحقة أي شخص أو جهة خارجية تدفع الأموال لهذا البلد ويجبرها على إعطاء تلك الأموال له وذلك بمساعدة المحاكم التي تحكم في أغلب الأحيان لصالحه هو وأمثاله الذين يكونون في وضع أقوى من الناحية القانونية.
على سبيل المثال، في عام 1979 حصل ديكتاتور زامبيا السابق "كينيث كاوندا" على قرض بقيمة 15 مليون دولار من ديكتاتور رومانيا السابق "نيكولاي تشاوتشيسكو" لشراء بعض الجرارات، التي اتضح لاحقاً أن معظمها لا يعمل. ولكن بعد 20 عاماً من عدم السداد جاءت حكومة زامبيا الجديدة المنتخبة ديمقراطياً التي رأت أن البلاد غير قادرة على سداد ذلك القرض وبدأت المفاوضات مع المقرضين الرومانيين لإلغائه.
في تلك اللحظة انتهز مليونير يسمى "مايكل فرانسيس شيهان" الفرصة وقام عبر شركته "دونيجال" التي تتخذ من أحد الملاذات الضريبية البريطانية مقراً لها بشراء الدين البالغة قيمته 15 مليون دولار من رومانيا مقابل 3 ملايين دولار فقط، وذلك قبل أن يقوم بجر زامبيا إلى المحكمة في بريطانيا لإجبارها على سداد كامل المبلغ بالإضافة إلى الفوائد ليصل المجموع إلى نحو 55 مليون دولار.
على حساب من؟
أوضحت الحكومة الزامبية للمحكمة أنها لا تمتلك بالفعل ذلك القدر من المال، وشرحت لها كيف أن حالة البلاد مزرية. فخمس مواطنيها مصابون بفيروس نقص المناعة، كما أن سكانها البالغ عددهم في ذلك الوقت نحو 12 مليون نسمة لا يوجد لديهم سوى 600 طبيب ليعتنوا بهم.
ادعى مستشار الرئيس الزامبي "مارتن كالونجا باندا" أن إجبار بلاده على دفع ذلك المبلغ سيحرم ما يقرب من 100 ألف شخص من تلقي الأدوية اللازمة وسيحول كذلك دون ذهاب 300 ألف طفل إلى المدرسة، وهو الادعاء الذي تأكدت من صحته المنظمات الإغاثية. والأهم من ذلك هو أن أولئك الذين سيحرمون من العلاج والتعليم لم يكونوا على قيد الحياة أصلاً حين حصل الديكتاتور الزامبي على القرض.
تأثر القاضي البريطاني الذي كان ينظر القضية بالحالة المزرية لزامبيا، لكنه قال في النهاية إن القانون لم يعطه خياراً سوى مطالبة زامبيا بدفع 15 مليون دولار إلى "دونيجال"، أي ثلث المبلغ الذي كانت تطالب به الشركة. ورغم ذلك كان ذلك المبلغ يمثل ثروة بالنسبة للزامبيين.
في الفترة ما بين عامي 1991 و1998 تراوحت النسبة المئوية لسكان زامبيا الذين يعيشون تحت خط الفقر ما بين 69.2 و72.9%، بينما تراوحت نسبة الذين يعيشون منهم في فقر مدقع ما بين 53.2 و60.6%. وفي ظروف مثل تلك تصبح للـ15 مليون دولار قيمة وأهمية كبيرة بالنسبة للشعب الزامبي.
وعلى الرغم من أن الزامبيين لم يخرجوا تلك الأموال من جيوبهم مباشرة ليدفعوها إلى "دونيجال" إلا أن حصول الشركة البريطانية على ذلك المبلغ حرمهم من فرصة إنفاقه على خدمات التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية وغيرها من أبسط أسباب المعيشة وأكثرها حيوية.
ما الذي يمكن أن تفعله 20 مليون دولار لشعب فقير؟
ما حدث مع زامبيا حدث قبلها مع ليبيريا. ففي عام 1978 اقترضت ليبيريا 6.5 مليون دولار من شركة "كيميكال بنك" الأمريكية والتي قامت لاحقاً ببيع ذلك الدين إلى شركتي "إف اتش إنترناشونال" و"سيفيدا".
وبسرعة قامت الشركتان برفع دعوى قضائية ضد ليبيريا أمام إحدى المحاكم بنيويورك لإجبارها على سداد المبلغ، قبل أن تلزم المحكمة ليبيريا بسداد 18.4 مليون دولار للشركتين.
لم تتمكن الشركتان من تحصيل الدين من ليبيريا، ولذلك قاما ببيعه مرة أخرى إلى شركتي "همسة" التي تتخذ من الجزر العذراء البريطانية مقراً لها و"وول كابيتال" الموجودة في جزر كايمان. وفي عام 2008 بدأت الشركتان في ملاحقة ليبيريا قضائياً في المحكمة العليا في لندن.
في السادس والعشرين من نوفمبر 2009 أمرت المحكمة العليا ليبيريا بدفع أكثر من 20 مليون دولار تشمل قيمة الفائدة للشركتين البريطانيتين. ورغم قبولها لادعاء ليبيريا بعدم قدرتها على سداد مبلغ بذلك الحجم أشارت المحكمة إلى أنه على البلد الإفريقي أن يفعل ما بوسعه للسداد.
كان العشرون مليون دولار التي ربما يراها البعض مبلغاً تافهاً تعادل نحو 5% من ميزانية الحكومة الليبيرية في عام 2010 و100% من ميزانية التعليم و150% من ميزانية الصحة في عام 2008.
باختصار هذا المبلغ الذي قد لا تراه صناديق التحوط أكثر من عائد جيد لصفقة ناجحة هو بمثابة ثروة لبلد كان ولا يزال يعاني آثار الحرب الأهلية المدمرة التي استمرت لنحو 14 عاماً والتي ألحقت أضرارا بالغة ببنيته التحتية الصحية والتعليمية.
لم ينته ذلك النزاع حتى الآن، ولا تزال ليبيريا في وضع لا يسمح لها بأن تدفع ذلك المبلغ إلى صناديق التحوط، ويبدو أن مخرجها الوحيد هو أن توجه مواردها المالية الشحيحة أصلاً والتي تستخدمها في علاج وسد رمق مواطنيها لسداد الأثرياء المالكين لصناديق التحوط.
لعبة الصناديق .. كيف تدفع الدول الفقيرة أموالاً لا تملكها؟
هل سبق أن صادفت في الشارع كهلاً نحيلاً أنهكه الزمن والمرض يحاول أحد المارة الذي تبدو عليه أمارات الثراء والغنى إجباره على سداد دين بعشرات الآلاف من ال
www.argaam.com