معجزات الهجرة النبوية (1-2)
د. محمد عبده يماني
الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام، وبعث إلينا خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، وجعلنا من جيران بيته الحرام، فنحن في مكة المكرمة نشعر بفخر عظيم عندما نحتفي بذكرى الهجرة النبوية، لأنها تمت بأمر الله من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ولهذا فمن الواجب أن نربط الناشئة بهذه الذكرى العطرة ونعلمهم بعضاً من المعجزات التي حدثت في هذه الرحلة المباركة، وتلك النعمة الكبرى التي أحاط الله عزَّ وجلّ رسوله بالعناية والرعاية والحفظ منذ خروجه من مكة إلى أن وصل إلى مشارف يثرب التي سميت بعد ذلك بالمدينة المنورة، فنورها الله سبحانه وتعالى بنور نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن تلك المعجزات:
المعجزة الأولى:
لما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار له أنصار وأصحاب من غيرهم ورأوا خروج أصحابه إليهم وأنهم أصابوا منعة حذروا أن يهاجر إليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأن يجمعوا على حربهم، كما علموا دخول الأوس والخزرج في الإسلام في المدينة، وقد هاجر إليهم عدد من أصحابه فاجتمعوا في دار الندوة حيث اجتمع أشراف بني عبدشمس وبني نوفل وبني عبدالدار وبني أسد وبني مخزوم وبني سهم وبني جمح وغيرهم ولم يختلف من أهل الرأي أحد، وكانت الوجوه البارزة:
1- أبو جهل بن هشام من بني مخزوم.
2- جبير بن مطعم طعيمة بن عدي والحارث بن عامر من بني نوفل بن عبدمناف.
3- شيبة وعتبة أبناء ربيعة، وأبوسفيان من بني عبدشمس بن عبدمناف.
4- النضر بن الحارث (وهو الذي ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلا الجزور) من بني عبدالدار.
5- أبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام من بني أسد بن عبدالعزى.
6- نبيه ومنبه أبناء الحجاج عن بني سهم.
7- أمية بن خلف من بني جمح.
ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الموعد اعترضهم إبليس في هيئة شيخ، عليه طيلسان، ووقف على الباب فقالوا له: من الشيخ؟ قال: شيخ سمع بالذي اجتمعتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأياً ونصحاً. قالوا: أجل فادخل فدخل معهم.
ولما تكامل الاجتماع بدأ عرض الحلول ودار النقاش طويلاً، قال أبو البختري بن هشام: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به من أصاب أشباهه من الشعراء حتى يصيبه ما أصابهم من هذا الموت.
قال الشيخ: لا والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه - كما تقولون - ليخرجنّ أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعونه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوا على أمركم. ما هذا لكم برأي فانظروا رأياً غيره.
قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا ولا نبالي أين ذهب؟ ولا حيث وقع؟
قال الشيخ: لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب ثم يسير بهم إليكم - بعد أن يتابعوه - حتى يطأكم بهم في بلادكم ثم يفعل بكم ما أراد أديروا فيه رأياً غير هذا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدون إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه. فنستريح منه. فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً. فلم يقدر بنو عبدمناف على حرب قومهم جميعاً فرضوا منا بالعقل (الدية) فعقلناها لهم.
فقال الشيخ: القول ما قال الرجل هذا الرأي ولا رأي غيره.
فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون عليه.
فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره صلى الله عليه وسلم بمؤامرة قريش، وأن الله أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة، قائلاً: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة إلى أبي بكر وأخبره بأن الله أذن له في الخروج، فقال أبوبكر: الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فبكى أبوبكر من شدة الفرح، تقول عائشة: ما كنت أعلم أن أحداً يبكي من شدة الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، فلما كانت عتمة من الليل أي الثلث الأول اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم وعلم ما يكون منهم قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترق صفوفهم وأخذ حفنة من تراب فجعل يذره على رؤوسهم وقد أخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه وهو تلو هذه الآيات: (يس والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم) إلى قوله: (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون) ولم يبق منهم رجل إلا وضع على رأسه تراباً.
ومضى إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمن، فأتاهم آت لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟ قالوا: محمداً فقال: خبتم وخسرتم والله قد خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً، وانطلق لحاجته فما ترون ما بكم قالوا: والله ما أبصرناه فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفرش مسجى ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه بُرده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا وقام علي عن الفراش فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان قد حدثنا. فسقط في أيديهم وقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري فأنزل الله سبحانه: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وقوله: (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين).
إنها معجزة عظيمة أن يمر بين الرجال فلا يرونه يضع على رؤوسهم التراب ضاعت أبصارهم فلا يبصرونه
المعجزة الثانية في الغار:
لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة أبي بكر في ظهر بيته ومضيا الى جبل ثور، ولما انتهيا الى الغار قال أبوبكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك، وكان في الطريق مرة يمشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: يارسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، مرة عن يمينك، ومرة عن شمالك، لا آمن عليك.
ولما دخلا الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه الغار فسترته بفروعها، وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها نسجاً متراكماً بعضه على بعض، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار.
ولما فقد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليهم ذلك وخافوا وطلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة (الذين يقتفون الأثر) في كل وجه يقتفون أثره فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: "لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال "ابن كثير يقول هذا اسناد حسن"، ولما كانوا أربعين ذراعاً من الغار تعجل بعضهم ينظر في الغار فلم ير الا حمامتين وحشيتين مع العنكبوت فقال: ليس فيه أحد، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فعرف أن الله عز وجل قد درأ عنه، وفي رواية: لما انتهوا الى فم الغار قال قائل منهم: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم الى الغار؟ إن عليه لعنكبوتاً كان قبل ميلاد محمد، ثم جاء قبالة فم الغار فقال أبوبكر: يارسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يرانا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا، وقال صلى الله عليه وسلم: جزى الله العنكبوت خيراً فإنها نسجت على الغار "جامع الأحاديث 7243".
وروي أن المطارِدين وصلوا الى باب الغار وسمع أبو بكر القافف يقول لقريش: والله ما جاز مطلوبكم من هذا الغار. حزن أبو بكر وبكى وقال والله ما على نفسي أبكي ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاتحزن إن الله معنا.
روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما "البخاري 554/1".
وكل ما جرى في الغار وحول الغار معجزات أكرم الله بها نبيه قال تعالى:{إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لاتحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم).
وكانت هناك بعض الترتيبات الضرورية قد اتخذت قبل مغادرتهما لمكة المكرمة ومنها: تكليف عبدالله بن أبي بكر ليعرف ما يقال في مكة ويأتيهما به حين يختلط الظلام ويعود من عندهما الفجر فيصبح مع قريش كبائت في بيته فلا يسمع أمراً يكيدون به إلا عاد ليخبرهما به.
وكُلف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ليروح عليهما بمنحة غنم (أي مجموعة غنم) فكان يرعاها حين تذهب ساعة من العشاء ويغدو بها عليهما فإذا خرج من عندهما تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى لايقتفوا أثر قدميه وكان يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث وذلك بإرشاد أبي بكر. وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها إذا أمست تأتيهما بما يصلحهما من الطعام وتسمى ذات النطاقين لأنها قطعت قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب والقطعة الأخرى للسقاء فسميت ذات النطاقين وقال لها صلى الله عليه وسلم: "أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة"، وكان أبو بكر قد استأجر عبدالله بن أريقط الليثي ليدلهما على الطريق وكان على دين قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه على جبل بعد ثلاث وبعد مضي الثلاث جاءهما الدليل وانطلق معهما عامر بن فهيرة فأخذ بهما طريق الساحل 1ربيع أول، 16سبتمبر 622م.
http://www.alriyadh.com/2008/12/29/article398371.html
د. محمد عبده يماني
الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام، وبعث إلينا خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، وجعلنا من جيران بيته الحرام، فنحن في مكة المكرمة نشعر بفخر عظيم عندما نحتفي بذكرى الهجرة النبوية، لأنها تمت بأمر الله من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ولهذا فمن الواجب أن نربط الناشئة بهذه الذكرى العطرة ونعلمهم بعضاً من المعجزات التي حدثت في هذه الرحلة المباركة، وتلك النعمة الكبرى التي أحاط الله عزَّ وجلّ رسوله بالعناية والرعاية والحفظ منذ خروجه من مكة إلى أن وصل إلى مشارف يثرب التي سميت بعد ذلك بالمدينة المنورة، فنورها الله سبحانه وتعالى بنور نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن تلك المعجزات:
المعجزة الأولى:
لما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار له أنصار وأصحاب من غيرهم ورأوا خروج أصحابه إليهم وأنهم أصابوا منعة حذروا أن يهاجر إليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأن يجمعوا على حربهم، كما علموا دخول الأوس والخزرج في الإسلام في المدينة، وقد هاجر إليهم عدد من أصحابه فاجتمعوا في دار الندوة حيث اجتمع أشراف بني عبدشمس وبني نوفل وبني عبدالدار وبني أسد وبني مخزوم وبني سهم وبني جمح وغيرهم ولم يختلف من أهل الرأي أحد، وكانت الوجوه البارزة:
1- أبو جهل بن هشام من بني مخزوم.
2- جبير بن مطعم طعيمة بن عدي والحارث بن عامر من بني نوفل بن عبدمناف.
3- شيبة وعتبة أبناء ربيعة، وأبوسفيان من بني عبدشمس بن عبدمناف.
4- النضر بن الحارث (وهو الذي ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلا الجزور) من بني عبدالدار.
5- أبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام من بني أسد بن عبدالعزى.
6- نبيه ومنبه أبناء الحجاج عن بني سهم.
7- أمية بن خلف من بني جمح.
ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الموعد اعترضهم إبليس في هيئة شيخ، عليه طيلسان، ووقف على الباب فقالوا له: من الشيخ؟ قال: شيخ سمع بالذي اجتمعتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأياً ونصحاً. قالوا: أجل فادخل فدخل معهم.
ولما تكامل الاجتماع بدأ عرض الحلول ودار النقاش طويلاً، قال أبو البختري بن هشام: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به من أصاب أشباهه من الشعراء حتى يصيبه ما أصابهم من هذا الموت.
قال الشيخ: لا والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه - كما تقولون - ليخرجنّ أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعونه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوا على أمركم. ما هذا لكم برأي فانظروا رأياً غيره.
قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا ولا نبالي أين ذهب؟ ولا حيث وقع؟
قال الشيخ: لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب ثم يسير بهم إليكم - بعد أن يتابعوه - حتى يطأكم بهم في بلادكم ثم يفعل بكم ما أراد أديروا فيه رأياً غير هذا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدون إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه. فنستريح منه. فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً. فلم يقدر بنو عبدمناف على حرب قومهم جميعاً فرضوا منا بالعقل (الدية) فعقلناها لهم.
فقال الشيخ: القول ما قال الرجل هذا الرأي ولا رأي غيره.
فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون عليه.
فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره صلى الله عليه وسلم بمؤامرة قريش، وأن الله أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة، قائلاً: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة إلى أبي بكر وأخبره بأن الله أذن له في الخروج، فقال أبوبكر: الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فبكى أبوبكر من شدة الفرح، تقول عائشة: ما كنت أعلم أن أحداً يبكي من شدة الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، فلما كانت عتمة من الليل أي الثلث الأول اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم وعلم ما يكون منهم قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترق صفوفهم وأخذ حفنة من تراب فجعل يذره على رؤوسهم وقد أخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه وهو تلو هذه الآيات: (يس والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم) إلى قوله: (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون) ولم يبق منهم رجل إلا وضع على رأسه تراباً.
ومضى إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمن، فأتاهم آت لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟ قالوا: محمداً فقال: خبتم وخسرتم والله قد خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً، وانطلق لحاجته فما ترون ما بكم قالوا: والله ما أبصرناه فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفرش مسجى ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه بُرده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا وقام علي عن الفراش فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان قد حدثنا. فسقط في أيديهم وقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري فأنزل الله سبحانه: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وقوله: (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين).
إنها معجزة عظيمة أن يمر بين الرجال فلا يرونه يضع على رؤوسهم التراب ضاعت أبصارهم فلا يبصرونه
المعجزة الثانية في الغار:
لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة أبي بكر في ظهر بيته ومضيا الى جبل ثور، ولما انتهيا الى الغار قال أبوبكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك، وكان في الطريق مرة يمشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: يارسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، مرة عن يمينك، ومرة عن شمالك، لا آمن عليك.
ولما دخلا الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه الغار فسترته بفروعها، وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها نسجاً متراكماً بعضه على بعض، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار.
ولما فقد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليهم ذلك وخافوا وطلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة (الذين يقتفون الأثر) في كل وجه يقتفون أثره فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: "لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال "ابن كثير يقول هذا اسناد حسن"، ولما كانوا أربعين ذراعاً من الغار تعجل بعضهم ينظر في الغار فلم ير الا حمامتين وحشيتين مع العنكبوت فقال: ليس فيه أحد، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فعرف أن الله عز وجل قد درأ عنه، وفي رواية: لما انتهوا الى فم الغار قال قائل منهم: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم الى الغار؟ إن عليه لعنكبوتاً كان قبل ميلاد محمد، ثم جاء قبالة فم الغار فقال أبوبكر: يارسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يرانا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا، وقال صلى الله عليه وسلم: جزى الله العنكبوت خيراً فإنها نسجت على الغار "جامع الأحاديث 7243".
وروي أن المطارِدين وصلوا الى باب الغار وسمع أبو بكر القافف يقول لقريش: والله ما جاز مطلوبكم من هذا الغار. حزن أبو بكر وبكى وقال والله ما على نفسي أبكي ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاتحزن إن الله معنا.
روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما "البخاري 554/1".
وكل ما جرى في الغار وحول الغار معجزات أكرم الله بها نبيه قال تعالى:{إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لاتحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم).
وكانت هناك بعض الترتيبات الضرورية قد اتخذت قبل مغادرتهما لمكة المكرمة ومنها: تكليف عبدالله بن أبي بكر ليعرف ما يقال في مكة ويأتيهما به حين يختلط الظلام ويعود من عندهما الفجر فيصبح مع قريش كبائت في بيته فلا يسمع أمراً يكيدون به إلا عاد ليخبرهما به.
وكُلف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ليروح عليهما بمنحة غنم (أي مجموعة غنم) فكان يرعاها حين تذهب ساعة من العشاء ويغدو بها عليهما فإذا خرج من عندهما تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى لايقتفوا أثر قدميه وكان يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث وذلك بإرشاد أبي بكر. وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها إذا أمست تأتيهما بما يصلحهما من الطعام وتسمى ذات النطاقين لأنها قطعت قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب والقطعة الأخرى للسقاء فسميت ذات النطاقين وقال لها صلى الله عليه وسلم: "أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة"، وكان أبو بكر قد استأجر عبدالله بن أريقط الليثي ليدلهما على الطريق وكان على دين قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه على جبل بعد ثلاث وبعد مضي الثلاث جاءهما الدليل وانطلق معهما عامر بن فهيرة فأخذ بهما طريق الساحل 1ربيع أول، 16سبتمبر 622م.
http://www.alriyadh.com/2008/12/29/article398371.html