الدكتور منصور بن حمَد العيدي / عن موقع الدرر السنية
الحمدُ لله ربِّ العالَمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَك على نبيِّنا محمَّدٍ خاتَمِ الأنبياء والمرسَلين، وعلى آله وصحْبه أجمعين، أمَّا بعدُ:
فإنَّ معرفةَ المُثقَّفين عمومًا، وطلبةِ العِلم خصوصًا ضوابطَ وقواعدَ تُمكِّنُهم من تقييمِ الأقوالِ والمقالات، ومعرفةِ صَحيحِها مِن سقيمها؛ أمرٌ في غايةِ الأهميَّة؛ لكونه سببًا في سلامةِ دِينهم وأفكارِهم، ومعينًا على فَهْمِ كلامِ عُلمائِهم، وهذه الضوابطُ وتلك القواعدُ وإنْ كانتْ مبثوثةً في كتُب الأقدمين والمُحدَثين؛ إلا أن شأنَها شأنُ بقيَّةِ العلومِ والمعارِف تحتاجُ إلى تذكيرٍ وتنبيهٍ؛ فإنَّ العلم إذا لم يُدارس اندرَس، وممَّا يُعينُ على فَهمِ هذه الضوابطِ والقواعدِ أنْ يُضرَبَ لها المثالُ؛ ليَرسخَ في الذِّهن معناها، ويَعرِفَ القارئُ كيفيَّةَ تطبيقِها.
وقد رأيتُ أنَّ مقالَ الدكتور العونيِّ الذي يَذكُرُ فيه استماعَ الصحابةِ للمُوسيقى مثالٌ مناسِبٌ لتطبيقِ بعض الضوابطِ والقواعِدِ عليه؛ لكون قضيَّةِ المعازِفِ في هذه الأيامِ قضيَّةً ساخنةً يُدلي فيها كثيرون بدَلْوِهم، وإلَّا فإنَّ مقالي هذا ليس ردًّا على ما طرَحه الدكتورُ؛ فقد ردَّ عليه جمْعٌ؛ وإنَّما الغرَضُ منه تذكيرُ القُرَّاءِ الكرامِ وتَنبيهُهم إلى أمورٍ يَتمكَّنون بها مِن تقييمِ الأقوالِ والمقالاتِ ذاتِ المضامينِ الشرعيَّةِ في زمَنٍ كثُرَ فيه زُخرفُ القولِ، وسأجتهدُ -إنْ شاءَ اللهُ تعالى- في تسهيلِ هذه الوصايا والتنبيهاتِ بلُغةٍ مُناسِبة، جاعلًا إيَّاها على شَكلِ نقاطٍ:
التنبيه الأول: معرفةُ وجه الاستِدلال مهارةٌ لا بدَّ من إتقانِها:
سواءٌ كنتَ كاتبًا تريدُ أنْ تقيمَ دليلًا على ما تقولُ، أو قارئًا متَّزِنًا لا تَقبَلُ أنْ يَستغفِلَك كاتبٌ ما؛ فعليك أنْ تعرِفَ هذه المهارةَ = مهارةَ معرفةِ وجْه الاستِدلال؛ فإنْ كُنتَ تريدُ إثباتَ حُكمٍ أو فائدةٍ من النصِّ، فلا بُدَّ أنْ تُبيِّنَ العَلاقةَ والرابطَ بين النصِّ والفائدةِ؛ فإنَّ النصوصَ الشرعيَّة ليستْ على درجةٍ واحدةٍ من الوُضوحِ؛ فتارةً تكون شديدةَ الوضوحِ، فيُفهَم المرادُ منها لأوَّلِ وهْلةٍ، كدَلالةِ قولِه تعالى: { وَأَقِيموا الصَّلاةَ } [البقرة:43] على وجوبِ الصلاةِ، وتارةً تكونُ النصوصُ الشرعيَّةُ بحاجةٍ إلى إعمالِ ذِهنٍ؛ فلا يُفهَم منها المرادُ إلَّا بالتفكُّرِ فيها وتَطلُّبِ بيانِ وجْهِ الدَّلالةِ، والرُّجوعِ إلى العُلماءِ في ذلك.
خُذْ على سبيلِ المثالِ استِدلالَ الإمامِ البُخاريِّ -رحِمه اللهُ- بحديثِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
( ما مِن أيَّامٍ العَمَلُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ مِن هذه الأيَّامِ العَشرِ ) على فضْل أيَّامِ التشريقِ، مع أنَّ الحديثَ ليس في أيَّامِ التشريقِ، وإنَّما في الأيَّامِ العَشرِ الأُوَلِ من ذي الحَجَّةِ؛ فما الرابطُ بيْن فضْلِ أيَّامِ التشريقِ وبيْن هذا النصِّ؟ في مِثل هذه الحالةِ أنت بحاجةٍ إلى بيانِ وجْهِ الاستِدلال؛ ولهذا يَعتني شُرَّاحُ الصحيحِ بذِكرِ مُناسَباتِ تراجِمِ البخاريِّ وتوضيحِ عَلاقتِها بأحاديثه.
في مقال الدكتور العونيِّ نجده قدْ ذكَر بعضَ الفوائد، مثل: استِماع الصحابةِ للموسيقى في الأعراسِ، واستعمالَ الصحابةِ المزاميرَ، هذه الفوائدُ أو الأحكامُ لم يَذكُرْ لها سوى دليلٍ وحيدٍ نقَلَه مِن عِدَّة كتُب، وفيه: ضرْب الجواري الكَبَرَ والمزاميرَ في وقتِ صلاةِ الجُمُعةِ في عُرسٍ عندهم، وانصرافُ ناسٍ مِن خُطبةِ الجُمُعةِ إلى هذا العُرس؛ ليستمعوا الكَبَر والمزاميرَ! وهذا النصُّ كما ذكَرَه هو: ((فقد ثبت أنَّ بعض الصحابة رضي الله عنهم في أعراسهم كانوا يستعملون المزامير والكَبَر))
فالدكتورُ لم يَذكُرْ وجهَ الاستدلالِ ربَّما لوضوحِه عندَه؛ فعلَى القارئِ أنْ يتلمَّسَ ذلك بنفْسِه، وعندما يُحاولُ القارئُ أن يَربِطَ بين هذه الفوائدِ وبين النصِّ سيجدُ أنَّ المذكورَ في النصِّ: استِعمالُ الجواري لهذه الأشياءِ (الكَبَر والمزامير)، وليس فيه استعمالُ الصحابةِ لها، وفرْقٌ كبيرٌ بين استِعمالِ الجواري واستعمالِ الصحابةِ، كما لا يَخفَى.
يقولُ ابنُ رجب –رحِمه الله-: "وإنما كان يَضرِبُ بالدفوفِ في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم النِّساءُ أو مَن يُشبَّه بهنَّ مِن المُخنَّثينَ". ((فتح الباري لابن رجب 6/62))
فهذا النصُّ في أقصَى دَلالتِه إنَّما يدلُّ على: مُجرَّدِ الاستِماع إلى الكَبَر والمزامير، وليس هناك ذِكرٌ للموسيقَى كما قال الدكتور، وهذا يعني وُجودَ خللٍ بين الدَّليلِ والمدلول، وكان يُمكن اجتنابُه لو أَحْكَمَ وجهَ الاستِدلالِ؛ فإنْ كان صاحبُ المقالِ -وهو الدكتور- لم يُحكِمْ هذا الوجهَ؛ فكيف بالقارئِ العاديِّ؟! وعليه فعلَى كلِّ قارئٍ أن يَتنبَّهَ إلى وجهِ الاستِدلالِ، ولا يَقرأَ الكلامَ ويَدعَه يمرُّ عليه وهو لا يَستطيعُ أنْ يُقيِّمَ صِحَّتَه. وهنا أظنُّك -أيُّها القارئُ الكريم- تسألُ؛ هل هناك فرْقٌ بين الاستِماعِ إلى الكَبَر والمزامير، وبيْن الاستماعِ إلى الموسيقَى، أوليس المؤدَّى واحدًا؟ والجوابُ عن هذا في التنبيهِ الثاني:
التنبيه الثاني: أهميَّة استِعمال الألفاظِ والتراكيبِ الصَّحيحةِ التي تُطابِقُ مُرادَك وتتَّفقُ مع دَلالةِ بُرهانك:
فكلمةُ الموسيقَى يُطلقُها كثيرونَ ويُريدونَ بها الآلاتِ الموسيقيَّةَ، لكنَّها في الأصلِ ليستِ الآلةَ الموسيقيَّةَ؛ وإنما هي ذلك الفنُّ الذي يُعنَى بتَلحينِ الكلماتِ، وتقطيعِ الأصواتِ على نِسَبٍ مُنتظِمةٍ.
والآلة: هي مُجرَّدُ أداةٍ لهذا الفِعلِ، كما أنَّ رِيشةَ الرسَّامِ ليستْ هي فنَّ الرسم؛ فالآلةُ الموسيقيَّةُ ليستْ هي الموسيقَى؛ وإنَّما هي أداتها، ولكنْ كما ذكرتُ يُطلِقُ كثيرونَ هذه الكلمةَ ويُريدون بها الآلاتِ؛ فعلَى كِلَا المعنيينِ -سواءٌ فسَّرْنا الموسيقَى بالفنِّ أو بالآلاتِ- فكلمةُ الموسيقَى لا تتَّفقُ مع دَلالةِ هذا الوصفِ الذي أتَى به الدكتورُ العونيُّ، واحتجَّ به على وقوعِ استِماعِ الصحابةِ للموسيقَى في العُرسِ.
نعمْ كِلا المعنيَينِ لا يتَّفق مع دَلالةِ النصِّ؛ فإنْ أُريد بالموسيقَى الآلاتُ الموسيقيَّةُ فلفظُ الحديثِ ليس فيه سوى نوعٍ مُحدَّدٍ منها، وهي الكَبَرُ والمزامير، والكَبَر والمزاميرُ ليستْ كلَّ الأدواتِ الموسيقيَّةِ، وليستْ أكثرَ الآلاتِ الموسيقيَّةِ، وإنْ أرادَ صاحبُ المقالِ بكَلمةِ الموسيقَى الفنَّ؛ فالموسيقَى أنواع شتَّى ( شرقيَّة - غربيَّة - مُوشَّحات - قديمة - حديثة)؛ فأيُّها المباحُ الذي استمَع له الصحابةُ؟ لم يُبيِّن ذلك المؤلِّفُ!
والطامَّة ستكون لو فُهِمَ مِن كلامِ المؤلِّفِ إباحةُ الأنواعِ الحديثة، مثل: موسيقى الراب، والروك، وما أشبهَ ذلك؛ بزعمِ أنَّ الصحابةَ استَمعوا الموسيقَى! لا شكَّ ستكونُ هذه طامَّةً عظيمةً؛ فلا وجهَ لها ولا دَلالةَ عليها من النصِّ.
فإنْ قلتَ: وما يمنَعُ فرْضَ أسوأِ الاحتمالاتِ، وهو إرادةُ المعنيينِ معًا (الآلات الموسيقيَّة- وفن الموسيقَى)؟
التنبيه الثالث: وقائع الأعيان وما جرَى مجراها ليس لها عُمومٌ:
ليس كلُّ خبرٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُفيدُ العُمومَ في جميعِ الأحوالِ والأزمنةِ والأماكنِ والأشخاصِ؛ ذلك أنَّ للعمومِ ألفاظًا تخصُّه، وبدَلالةِ هذه الألفاظِ نَعرِفُ أنَّ هذا النصَّ عامٌّ أو ليس بعامٍّ، وهذا ما ذَهب إليه السلفُ الصالحُ، وهو مُقتضَى اللُّغةِ العربيَّة، وهو الذي درَج عليه علماءُ الأُصولِ.
أمَّا الخبرُ الذي استدلَّ به الدكتورُ؛ فليس له عَلاقةٌ بألفاظِ العُمومِ، وإنما هو مِن جِنسِ وقائعِ الأعيانِ التي ليس لها عُمومٌ صادرٌ مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقولُ ابنُ رجب -رحِمه الله- في أحاديثِ الرُّخصةِ في استِعمالِ الدفِّ للنِّساءِ في النِّكاحِ، يقول: "فإنَّه ليس هناك نصٌّ عن الشارعِ بإباحةِ ما يُسمَّى غِناءً ولا دُفًّا، وإنَّما هي قضايا أعيانٍ وقَع الإقرارُ عليها، وليس لها من عُمومٍ". ((فتح الباري لابن رجب 6/60)).
ويقولُ الشاطبيُّ -رحِمه الله-: "إنَّ قضايا الأعيانِ لا تكونُ بمُجرَّدِها حُجَّةً ما لم يُعضِّدُها دليلٌ آخَرُ؛ لاحتمالِها في أنفسِها، وإمكانِ ألَّا تكونَ مُخالِفةً لِمَا عليه العملُ المستمرُّ ". ((الموافقات 3/254، 269 4/8)).
والقِصَّةُ المذكورةُ في الحديثِ الذي استدلَّ به الدكتورُ لا يُوجَدُ لفظةٌ عامَّةٌ، وإنَّما هو واقعةُ عينٍ ليس لها من عُمومٍ. فإنْ قُلتَ: توجدُ لفظةُ المزاميرِ، ولفظةُ المزاميرِ لفظةٌ عامَّةٌ صادرةٌ مِن الصحابيِّ.
فالجواب: إنْ سلَّمْنا بهذا وسلَّمْنا بأنَّ المرادَ من المزامير: آلاتُ عزْفٍ؛ فقُصارَى الأمرِ ونهايتُه هو إباحةُ المزاميرِ التي كانتْ بيدِ القومِ آنذاك، والتي وقَع عليها لفظُ الصحابيِّ، وليس إباحةَ المعازفِ برُمَّتِها؛ فالمزاميرُ أخصُّ من المعازفِ. وهذا أيضًا لا يُفيدُ إباحةَ جميعِ الآلاتِ الموسيقيَّةِ ولا فُنونَ الموسيقَى إلى قِيامِ الساعةِ؛ فالعمومُ الذي صدَر من الصحابيِّ لا تَدخُلُ فيه هذه الأشياءُ على الإطلاقِ؛ ذلك أنَّ ما جرَى وحدَّث به الصحابيُّ -إنْ ثبَت الحديثُ- هو واقعةُ عينٍ لا عُمومَ لها صادرًا من لفظِ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ.
وكل ما في الأمْرِ أنَّه كان مع القومِ مزاميرُ وقَع الإقرارُ عليها، ولا يُوجدُ لفظٌ نبويٌّ بإباحةِ المزاميرِ، وعلى المستدِلِّ بهذا الحديثِ على إباحةِ المزاميرِ أنْ يُبيِّنَ نوعَ المزاميرِ التي وقَع عليها الإقرارُ؛ فصارتْ مُرخَّصًا فيها، وعندَ ذاك نقولُ: على الرأسِ والعينِ. ولكن ليس له أنْ يُدخِلَ في هذا اللفظِ جميعَ آلاتِ اللهوِ والعَزفِ؛ وذلك لأنَّ العمومَ الصادرَ من الصحابيِّ لا يَدخُلُ فيه هذه الأشياءُ؛ وإنما يدخُلُ فيه ما تَعارَفَ عليه القومُ وقتَها.
والحال أنَّ العربَ آنذاك لم يكُنْ معهم مِن آلاتِ الطَّربِ إلا شيئًا بدائيًّا، ولا يَعرِفونَ آلاتِ الأعاجمِ في زَمانِهم، فضلًا عن أنْ يَستعمِلوها، فضلًا عن أنْ نَزعُمَ أنَّ الصحابيَّ يُريدُ بلفظ المزاميرِ: المعازِفَ بجميعِ أنواعِها إلى قِيامِ الساعةِ.
فإن اعترضتَ وقلتَ: هبْ أنَّها لا تَدخُلُ في العمومِ؛ فلماذا لا نقيسُ عليها؟ أليسَ القياسُ حُجَّةً في الشريعةِ؟ ومِن ثَمَّ نقيسُ على المزاميرِ غيرَها من آلاتِ المعازفِ!
التنبيهُ الرابع: القِياسُ الصَّحيح طريقٌ في الاستِدلالِ سليمٌ :
القياسُ الصَّحيحُ من الأدلَّةِ المُعتبَرةِ عند جماهيرِ الأصوليِّين، وهو: حمْل فرْعٍ على أصلٍ في الحُكمِ لعِلَّةٍ جامعةٍ بينهما، وقد بنَى عليه أربابُ المذاهبِ الأربعةِ المُعتمَدةِ كثيرًا من المسائِل، ولكن له شروطٌ؛ مِن أبرزِها: ألَّا يكونَ بيْن الأصلِ والفرعِ فارقٌ مؤثِّرٌ، وألَّا يكونَ للفرعِ حُكمٌ منصوصٌ عليه بنصٍّ مُخالِفٍ للأصلِ، إذا تبيَّن هذان الشرطانِ؛ فقياسُ جميعِ الآلاتِ الموسيقيَّةِ على المزاميرِ -إنْ قلنا: إنَّ المرادَ بالمزاميرِ أصلًا آلاتُ اللهو- هو قياسٌ غيرُ صحيحٍ؛ لوجودِ الفارِقِ المؤثِّرِ، وفي هذا يقولُ ابنُ رجب -رحمه الله-: "وليس الغناءُ والدفُّ المرخَّصُ فيهما في معنَى ما في غِناءِ الأعاجمِ ودُفوفِها المُصلْصَلةِ؛ لأنَّ غِناءَهم ودُفوفَهم تُحرِّكُ الطباعَ وتُهيِّجها إلى المحرَّماتِ، بخلافِ غِناءِ الأعرابِ؛ فمَن قاس أحدَهما على الآخَرِ فقدْ أخطأَ أقبحَ الخطأِ، وقاسَ مع ظُهورِ الفرْقِ بين الفرعِ والأصلِ؛ فقياسُه مِن أفسدِ القياسِ وأبعدِه عن الصوابِ". ((الفتح 6/60)).
ثم طفِقَ ابن رجب -رحِمه الله- يَذكُرُ النصوصَ المحرِّمةَ لآلاتِ المعازِف، والْحَظْ هنا: أنَّه رفَضَ قياسَ دُفٍّ على دُفٍّ -وهما متشابهانِ في الصُّورةِ- لوجودِ بعضِ الفروقِ، فماذا عساه يقولُ في الآلاتِ الحديثةِ التي تَذهَبُ بالعقولِ، وتُطرِبُ سامعَها ربَّما قهرًا، وتراهم يَتمايلونَ ويَصرُخون بحالٍ اللهُ أعلمُ بها؟!
أيصحُّ في الأذهانِ بعدَ ذلك أنْ نقيسَ هذا النوعَ مِن المعازِفِ والآلاتِ على تلك المُستعمَلةِ عندَ الأعرابِ، التي لا نَجدُها الآنَ إلَّا في دُورِ المتاحِف؟! فإذا علمتَ هذا، فلا تَعجبْ مِن أنَّ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا أبعدَ الناسِ عن هذا القياسِ؛ ولهذا لَمَّا فُتِحتْ فارسُ والرُّومُ وظهَر للصحابةِ ما كان يتعاطاه الكُفَّارُ مِن غناءٍ مُلحَّنٍ وآلاتٍ مُطرِبةٍ؛ فحينَ ذاك أنكرَ الصحابةُ الغناءَ واستماعَه، ونَهَوْا عنه، وغلَّظوا فيه.
قال ابنُ رجب -رحِمه الله-: "وهذا يدلُّ على أنَّهم فهِموا أنَّ الغِناءَ الذي رُخِّصَ فيه لم يكُنْ هذا الغِناءَ، ولا آلاتُه هذه الآلاتِ، وأنَّه إنَّما رُخِّصَ فيما كان في عَهدِه ممَّا يَتعارَفُه العربُ بآلاتِهم". الفتح 6/59.
أقول: فكيف لو شاهَدَ الصحابةُ -رضي الله عنهم- الآلاتِ الحديثةَ، وكيف لو رأوا مَن يقولُ عنهم: إنَّهم يستمعون الموسيقَى هكذا بإطلاقٍ؟!
إذا تقرَّرَ هذا؛ فهلْ يُمكِنُ أنْ نقولَ: إنَّ الحديثَ يدلُّ فقط على إباحةِ الطُّبولِ في الأعراسِ، وعلى إباحةِ المزاميرِ التي وقَع عليها الإقرارُ، إنْ علِمْنا أنَّه لا يوجدُ عندنا عمومٌ، وأنَّ القياسَ غيرُ صحيحٍ؛ فهل يُمكِنُ القولُ بجوازِ استعمالِ الطبولِ في الأعراسِ، وجوازِ استعمالِ المزاميرِ التي وقَع عليها الإقرارُ؟
التنبيه الخامس: ضرورةُ مراعاةِ أثَر الاحتِمالِ في دَلالةِ النَّصِّ :
لا بُدَّ أنْ يراعيَ المستدِلُّ أنْ يكونَ ما يَستدِلُّ به ظاهرًا في معناه على أقلِّ الأحوال؛ فإنَّه إذا كان الدليلُ محتمِلًا لأكثرَ مِن وجهٍ، فسيُعترَضُ عليه، وبالمقابلِ فعلى القارئِ والمستمِعِ أنْ يَتفطَّنَ لمثل هذا، ولا يغترَّ ببعضِ الاستدلالاتِ التي تكونُ محتملةً لأكثرَ مِن وجهٍ.
يقولُ صاحبُ ((أنوارِ البُروق)): "الدليلُ مِن كلامِ صاحبِ الشرحِ إذا استوتْ فيه الاحتمالاتُ ولم يَترجَّحْ أحدُها، سقَط به الاستدلالُ". (( أنوارِ البُروق 2/100)).
نعمْ؛ ليس كلُّ احتمالٍ يُلتفَتُ إليه، وإنَّما الاحتمالُ الذي تَحتفُّ به القرائنُ، أو له مُستنَدٌ شرعيٌّ؛ ولهذا يُعبِّر بعضُهم بقولِه: لا حُجَّةَ مع الاحتمالِ المستنِدِ إلى دليلٍ.
وعلى هذا فإذا كان صاحبُ الدليلِ سيختارُ معنًى من هذه المعانيِ المحتمِلة؛ فيجبُ أنْ يُقيمَ عليه الحُجَّةَ بأنَّه هو المرادُ، وأنَّ بقيَّةَ الاحتمالاتِ غيرُ مُرادةٍ، وليس له أنْ يختارَ تَشهِّيًا ما يُناسِبُه.
وفي مقال الدكتور العونيِّ: اختار أنَّ الكَبَرَ هو الطبلُ، وأنَّ المزاميرَ جمْع مِزمار، وفي مَقطعٍ له وصَفَه بأنَّه الزُّمَّارة أو الناي، وما ذَكَره الدكتور هو أحدُ المعاني الواردةِ فيهما، والواقع: أنَّ عددًا من أهلِ العِلمِ لا يُوافِقُه على ذلك، وبيانُ ذلك كما كالآتي:
أمَّا الكَبَر ففي كتابِ العين للخليل بن أحمد قال: "الكَبَر طَبلٌ له وجهٌ، بلُغةِ أهل الكوفة" ((1/361)).
وفي غريب الحديثِ لابن الجوزي، زاد فقال: "وكذلك قال ابنُ الأعرابي" ((2/278))، يعني أنَّه طبلٌ له وجهٌ واحدٌ.
وفي اللِّسانِ عندما فسَّر الكَبَر قدَّمَ هذا المعنى؛ قال: "طبْلٌ له وجهٌ واحدٌ" ((12/16)).
وأوْلَى ما حُمِلتْ عليه هذه المعاني هي الدُّفوفُ؛ لأنَّ الدُّفوفَ هي التي تكونُ لها وجهٌ واحدٌ، أمَّا الطُّبولُ فالغالبُ أنْ يكونَ لها وجهانِ.
نعمْ من العلماءِ مَن وصَفَ الكَبَرَ بأنَّه الطبْلُ ذو الوَجهينِ، ومنهم مَن يقولُ: طبْلٌ، ويَسكُتُ، ومنهم مَن يَذكُر القولينِ؛ يُقدِّم هذا تارةً والآخَرَ تارةً أخرى، ولستُ هنا بصددِ الترجيحِ بيْن هذه المعاني، وإنما مُرادي هو التأكيدُ على أنَّ في معنَى هذه المُفردَةِ عِدَّةَ احتمالاتٍ.
فعلَى مَن يختارُ أنَّ المرادَ بالكَبَر الطبلُ ذو الوجهينِ أنْ يَذكُرَ حُجَّةً واضحةً لتقديمِ هذا الرأي على ذاك.
بل إنَّني أقولُ: لو أنَّ شخصًا اختارَ أنَّ الكَبَر هو الدفُّ، مُستنِدًا إلى مشهورِ الأحاديثِ الصحيحةِ في إباحةِ الدُّفِّ في الأعراس في زمَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم -وهذه سأشيرُ إليها لاحقًا- لكان هذا مِن أحسنِ الاستشهادِ ومِن أحسنِ الحُججِ؛ لأنَّ به يَحصُلُ التآلُفُ بيْن الأحاديثِ وتفسيرِ بعضِها ببعضٍ.
وكما حصَل الاختلافُ في معنى الكَبَر، حصَل أيضًا في معنَى المزاميرِ؛ فبعضُ العلماءِ يقول: إنَّ الأصلَ في المزاميرِ أنَّ المرادَ بها الصوتُ الحسَنُ، وإنَّه أُطلِق الصوتُ الحسنُ على تلك الآلةِ، وهناك مَن يَتبنَّى رأيًا آخَرَ، ويَجعلُ الأصلَ الآلةَ ويَتفرَّعُ عنه الصوتُ الحسنُ.
يقولُ القُرطبيُّ –رحِمه الله-: "قال العلماءُ: المزمارُ والمزمورُ الصَّوتُ الحسنُ، وبه سُمِّيتْ آلةُ الزَّمرِ مِزمارًا" ((المفهم 2/ 423))، فهنا جعَله القرطبيُّ قولَ العلماءِ ولم يَستثنِ: أنَّ الأصلَ في المزمارِ الصوتُ الحسنُ، وليس هو الآلةَ.
وكذلك قال النوويُّ ونَسَب هذا إلى العلماءِ، وبيَّن أنَّ أصْلَ الزمرِ الغِناءُ، يعني: الكلماتِ التي تُنشَدُ بصوتٍ حسنٍ، وليس الآلةَ. ((شرح مسلم 6/80)).
قال الأصمعيُّ –رحِمه الله- في شرْح بيتٍ عَجزُه: رَجُلٌ أَجَشُّ غِنَاؤُه زَمِرُ.
ولا يُشكِلُ على هذا عطفُ المزاميرِ على الكَبَر في كونِها تُضرَبُ؛ فهو إمّا مِن باب: (عَلفتُها تِبنًا وماءً باردًا)، والماء ليس علَفًا، وإنما المعنى: وسقيتُها ماءً باردًا، فكذلك في هذا الحديثِ يكونُ المعنى: ويُغنُّون بالمزاميرِ، أي: بالأصواتِ الحَسنةِ، لا سيَّما وقدْ جرَتِ العادةُ في الأعراسِ حتَّى في زَمنِ النُّبوَّةِ بـمُصاحبةِ الغناءِ لضَربِ الدُّفِّ. وإمَّا أنْ يكونَ المرادُ يمرُّونَ بالمزاميرِ، كما في لفظٍ في الحديثِ الذي ذَكرَه الدكتورُ من رواية الطبري: " يمرون بالكبر والمزامير"
وقد يَحتمِلُ أنَّ المرادَ بالمزاميرِ نوعٌ مِن أنواعِ الدُّفوفِ؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: إنَّ اللهَ أنْزَلَ الحقَّ ليُبطِلَ به اللعبَ والمزاميرَ والكباراتِ، يعني: البرابط والزَّمَّاراتِ، يعني: الدُّفَّ". قال ابنُ كثير: إسنادُه صحيح" ((تفسير القرآن العظيم 3/178)).
وفي ((السُّننِ الكُبرى للبيهقيِّ 21/139))، قال زيدُ بنُ الحُبابِ: سألتُ أبا مودودٍ المدنيَّ عن المزاميرِ، فقال: "هي الدُّفوفُ المُربَّعةُ".
وكما قُلنا في الكَبَر: إنَّ أَوْلى الأقوالِ بالترجيحِ ما كان مُوافِقًا للأحاديثِ الأُخرى؛ فكذلك نقولُه في المزامير؛ ففي قِصَّةِ دُخولِ أبي بكرٍ على عائشةَ رضِيَ اللهُ عنهما يومَ العيدِ، قال أبو بكرٍ: ((أمزاميرُ الشيطانِ في بيتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم )) رواه البخاريُّ (962).
وفي حديث رقْم (997) قالتْ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: ((تُدفِّفانِ وتَضرِبانِ))، وجاء صريحًا في صحيحِ مسلمٍ (892): ((تَلعبانِ بدُفٍّ)) ؛ فالذي شاهدَه أبو بكر في أيَّامِ التشريقِ غِناءٌ بدُفٍّ فسمَّاه مزاميرَ الشيطان؛ فإمَّا أنْ يُقالَ: إنَّ الغناءَ هو المزاميرُ، يعني: هو الصوتُ الحسنُ؛ فهذا يَشهَدُ لقولِ مَن يقولُ: إنَّ الأصلَ في معنى المزاميرِ، هو الصوتُ الحسنُ. وإمَّا أنْ يُقالَ: بل هو الدفُّ. وقد يُقالُ: إنَّ المزاميرَ تُطلَقُ على مجموعِ الغِناءِ بالدفِّ.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يُنكرْ على أبي بكرٍ قولَه: ((أمزاميرُ الشيطانِ))، وإنَّما قال فقط صلى الله عليه وسلم: ( دعْهم؛ فإنَّ لكلِّ قومٍ عِيدًا )، يعني رُخِّص للناسِ استعمالُ الدفوفِ مِن قِبَلِ النِّساءِ في أيَّامِ العيدِ، ولم يرُدَّ صلى الله عليه وسلم على أبي بكرٍ قولَه، بل أقرَّه على ذلك. ولَمَّا ضربتِ المرأةُ الدفَّ حين نذَرتْ، فدخَل عمرُ رضِيَ اللهُ عنه فألقتِ الدُّفَّ تحتَها، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( إِيهًا يَا ابنَ الخَطَّابِ! والذي نَفْسي بيَدِهِ ما لَقِيَكَ الشَّيطانُ سالِكًا فَجًّا قَطُّ، إلَّا سَلَكَ فجًّا غَيرَ فَجِّكَ )؛ فهي كانتْ رُخصةً، ومع ذلك لا تخلو مِن هذا الوصفِ الذي جاء في حديثِ أبي بكرٍ رضِيَ اللهُ عنه، وأقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على التسميةِ، وجاءتْ صريحةً في حديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ولا نُنكرُ مجيءَ المزاميرِ (جمْع للزمَّارة)، لكن هذا أحدُ الاحتمالاتِ؛ فليس مِن الإنصافِ التحكُّمُ في اختيارِه، ودفْع الباقي دون حُجَّةٍ ظاهرةٍ، لا سيَّما وأنَّ المخالفَ يحتجُّ بأمرينِ: يحتجُّ بسُنَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويحتجُّ أيضًا بلُغةِ العربِ. وأبعدُ منه أنْ يُقالَ: إنَّ هذا التأويلَ للكَبَر والمزاميرِ -الذي ذَكرتُه عن علماءِ اللُّغةِ وفي السُّنَّة- تأويلٌ باطلٌ، وكيف يكونُ باطلًا وهو رأيُ جمهرةٍ مِن العلماءِ؛ قد نسَبه القرطبيُّ والنوويُّ للعلماءِ، بل هو ظاهرُ الحديثِ الذي في الصَّحيحَينِ؟!
وهنا ليسمَحْ لي القارئُ الكريمُ أنْ أُذكِّره بأنَّه إذا قُلنا بأنَّ المرادَ بالمزاميرِ جمْعُ الزمَّارة، فإنَّ هذا لا يَعني إباحةَ كلِّ المعازفِ ولا الموسيقَى؛ لِمَا ذَكرتُ لك سالفًا من أنَّه لا يُوجَدُ عمومٌ، وإنَّما هي قضيةُ عين، وأنَّه لا يصحُّ في الأمرِ قياسٌ؛ لوجودِ الفارقِ بيْن الأصلِ وبيْن الفرعِ. ولن أُطيلَ عليك -أيُّها القارئُ الكريمُ-؛ فسأنتقلُ إلى تنبيهٍ جديدٍ.
التنبيه السادس: الواجبُ هو الاحتياطُ في التعميمِ :
ممَّا نَسمَعه كثيرًا دعوى الإجماعِ في مسائِل، أو نفْي الخِلافِ فيها، حتى إنَّك لتعجَبُ أنَّ في المسألةِ قولينِ، وكلَّ صاحبِ قولٍ يَنسُبُ قولَه إلى الإجماعِ! وترى عِندَ بعضِ الناسِ إطلاقَ هذه التعميماتِ في مسائِلَ عِلميَّةٍ، كقولِ: هذا الحديثُ اتُّفِق على صِحَّتِه أو اتُّفِق على ضَعفِه، أو لم يُضعِّفْه أحدٌ، ونحو ذلك من العِباراتِ.
والذي ينبغي على الباحثِ أنْ يَستقرئَ بشكلٍ جيِّد، ثم بعدَ ذلك يحتاطُ لنفْسه، فيقول: لا أعلمُ في المسألةِ خِلافًا، لا أعرِفُ أحدًا صحَّحَ هذا الحديثَ، بحيثُ يَنسُبُ الأمْرَ إلى نفْسِه، لا أنْ يَقطعَ زاعمًا بأنَّه ليس في المسألةِ خلافٌ؛ هكذا بإطلاقٍ!
إنَّ مَن يَسلُكُ هذه الطريقَ فإنَّه يحتاطُ لنفْسِه أولًا؛ لأنَّه نسَبَ الأمرَ لنفْسِه ولم يَحكِه بإطلاقٍ، وأيضًا إذا استدرَك عليه مُستدرِكٌ فإنَّه لن يَشعُرَ بالحرجِ الكبيرِ.
وبعضُ الناسِ رُبَّما ادَّعى إجماعًا ونحوَه، ثُم رُبَّما أَوْردَ عليه آخَرُ قولًا مخالِفًا، فهنا تجدُ هذا الشخصَ يَحرِصُ على الانتصارِ لنفْسِه بأيِّ شكلٍ مِن الأشكالِ، ورُبَّما تعسَّف وتكلَّفَ؛ ليُحافِظَ على إجماعِه المزعومِ!
يقولُ الدكتورُ في مقاله بعدَ أنْ ذكَر هذا الحديثَ الذي يَزعُم أنَّه يدلُّ على استماعِ الصحابةِ للمُوسيقَى، يقولُ -وهو يستبقُ الأحداثَ-:"بأنَّ المُعارِضين سيحاولون تَضعيفَ الحديثِ بلا سَلَفٍ ولا حُجَّةٍ"، هذا كلامُ الدكتور، فلمَّا أُوردَ عليه: أنَّ إمامَ الصنعةِ إمامَ العِللِ الدارقطنيَّ قد ضعَّفَ هذا الحديثَ، اضطرَّ الدكتورُ أنْ يُجيبَ بجوابٍ يبدو أنَّه هو نفْسُه لم يكُنْ مُقتنِعًا به، فقال: "قد يكونُ حَديثَينِ مُنفصلَينِ"؛ فذكر ذلك مُصدِّرًا بحرْفِ (قد)! وحاول أنْ يُطيلَ في تقريرِ ذلك، فأتَى بتناقُضٍ سأَذكُره بعدَ قليلٍ.
ولا شكَّ أنَّ هذا التراجُعَ وهذا التبريرَ يدْعو إلى الابتسامةِ، ربما هو رأيٌ له شخصيٌّ، لكنْ هذا أبعدُ ما يكونُ عن رأي الدارقطنيِّ، لم يَنتبِه الدكتورُ -سامَحه اللهُ- إلى أنَّه قبْلَ أسطرٍ ذَكَر: "أنَّ الفرويَّ تابَعَ الوُحَاظيَّ على إسنادِه". أقولُ: إنْ كان قدْ تابَعَه؛ فلماذا جعلتَهما حديثَينِ؟! بل اجعَلْهما حديثًا واحدًا، وعند ذلك فيَلزمُك أنْ تُسلِّمَ أنَّ الدارقطنيَّ قد ضعَّفَ الحديثَ.
وإنْ قلتَ: بل هما حديثان؛ فإذنْ لا يصحُّ لك أنْ تقولَ: إنَّ الفرويَّ قدْ تابعَ الوُحَاظيَّ؛ لأنَّ الفرويَّ لم يَذكُرْ لا قِصَّةَ الكَبَر ولا المزاميرَ ولا العُرس، وعند ذلك سيكونُ الحديثُ قد تفرَّدَ به الوُحَاظيُّ، وهو الأمرُ الذي أنتَ تُنكِرُه؛ فكان مِن الأَوْلى للدكتورِ -وفَّقه الله- أنْ يحتاطَ لنفْسِه، وأنْ يُعبِّرَ بتعبيرٍ أكثرَ تواضُعًا، لا سيَّما أنَّه حتى بعدَ جوابِه هذا قد يُورَدُ عليه: بأنَّ الحديثَ قد ضعَّفه عالمٌ آخَرُ؛ فماذا هو صانعٌ؟ وهذا ما حصَل بالفِعلِ، فالسمعانيُّ أيضًا قد ضعَّفَ هذا الحديثَ في تفسيرِه بإشارةٍ صريحة! ((تفسير السمعاني 5/436))؛ فهل سيَخترِعُ جوابًا آخَرَ؟!
لقد كان يُغني عن كلِّ هذه العباراتِ الواسعةِ: أنْ يكونَ التعبيرُ مُقتصِرًا على شخصِه، مِن قبيل: لا أعرِفُ أحدًا ضعَّفَه. لم يُضعَّفْ بعِبارةٍ صريحةٍ؛ كان ذلك هو الأوْلى، لا أنْ يجزِمَ بذلك الجزمِ، ثم بعدَ ذلك تَتابَعُ عليه الإيراداتُ، فيضطرُّ أنْ يُجيبَ بأجوبةٍ ضعيفةٍ.
وهناك أمرٌ آخَرُ لا يقِلُّ سُوءًا عمَّا مضى، وهو قول الدكتور: إنَّه "بلا سَلَفٍ ولا حُجَّةٍ"، أي: سيُضعِّفونه بلا سلفٍ ولا حُجَّةٍ، وما أدراه؟! هل أحاطَ بكلِّ العِلمِ فتمكَّن مِن نفْي الحُجَّةِ عن الآخَرين؟! هل مِن إنصافِ الخصمِ أنْ تقولَ له: ليس له حُجَّة، وهو أصلًا لم يتكلمْ ولم يُدلِ بدَلْوه، وربما كان عندَ الخصمِ حُجَجٌ كثيرةٌ، وإذا كنتَ لا تَقتنِعُ بها فلعلَّ غيرَك يَقتنِعُ بها، وربَّما تكونُ صحيحةً في نفْسِها وأنت لا ترَى ذلك؛ فليس مِن الإنصافِ أنْ تنفيَ عن الخصمِ الحُجَّةَ وهو أصلًا لم يبدأْ ليُدليَ بدَلْوِه.
وهنا لا بدَّ أنْ يَنتبهَ القارئُ الكريمُ إلى أنَّه لا يُشترَطُ لتضعيفِ الحديثِ أو تصحيحِه أنْ يكونَ للعالِم سلَفٌ؛ وإنَّما المشروطُ أنْ تكون هناك حُجَّةٌ على هذا التصحيحِ، أو هذا التضعيفِ، وأيضًا فليس خصمُك هو المطالَبَ بإثباتِ ضعْفِ الحديثِ، بل أنتَ المطالَبُ بإثباتِ صِحَّتِه، وأنتَ المطالَبُ -يا دكتور- بدفْعِ الاعتراضاتِ عنه.
ولا يَكفي -وهو يَتبنَّى الحديثَ بقُوَّةٍ- أنْ يُقلِّدَ غيرَه في التصحيحِ، لا سيَّما وقد ضعَّفَه بعضُ الأكابرِ، وليس الأصلُ في الأحاديثِ الصِّحَّةَ إلا إذا كانتْ عند الشيخينِ، والواقع: أنَّ الحديثَ في سندِه إشكالاتٌ لا تَخفَى على المتخصِّص، ولكن لا بُدَّ لي مِن تَسهيلِها للقارئ المثقَّفِ، وهنا فلْيَسمحْ لي القارئُ الكريمُ أنْ أُبيِّنَ له بشكلٍ مُختصرٍ جِدًّا شيئًا من عِلَلِ هذا الحديثِ، ولن أُطيلَ.
أقول: هذا الحديثُ الذي ذَكرَه الدكتورُ فيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَخطُبُ خُطبتَينِ، فيجلسُ بينهما، وكان يَخطبُهما وهو قائمٌ؛ فكانتِ الجواري إذا أُنكِحْنَ يَضرِبْنَ بالكَبَر والمزاميرِ... الحديث. أقول: هذا الحديثُ لا يصحُّ إلَّا مُرسَلًا، يعني: هو مِن كلامِ مُحمَّد بن عليِّ بن الحُسَينِ التابعيِّ الجليلِ، يَرفعُه إلى النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ، وليس هو مِن حديثِ جابرٍ، إنما هو حديثٌ مُرسَلٌ.
وإنما الذي يصحُّ عن جابرٍt حديثٌ آخَرُ، وهو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَخطُب: فيَحمَدُ اللهَ ويُثني عليه، ويَذكُر الساعةَ كأنَّه مُنذِرُ جيشٍ، وهنا – في الحديث الذي احتجَّ به الدكتور- نجِد أحدَ رُواتِه، وهو سليمانُ بنُ بلالٍ وهِمَ فجَعَل الحديثَ مِن كلامِ جابرٍ موصولًا لا مُرسَلًا، وهو خطأٌ نبَّه عليه الدارقطنيُّ -رحمه الله.
إلَّا أنَّ بعضَ الرُّواةِ زادَ على الخطأِ خطأً آخَرَ، فأضافَ إلى أمْرِ الخُطبتَينِ تلك القِصَّةَ التي فيها عُرسُ الجواريِ والكَبَر والمزامير، وهذا الخطأُ يَحتمِلُ أنْ يكونَ مِن يَحيى بن صالح الوُحاظيِّ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ مِن شيخِه سُليمانَ بنِ بلالٍ؛ ولهذا ترَى أنَّ حُميدَ بنَ الأسودِ يَروي هذا الحديثَ عن جَعفرِ بنِ محمَّد، عن أبيه مُرسلًا، وابنَ أبي أُويس يَرويه أيضًا عن سُليمانَ بنِ بلالٍ مُرسَلًا.
ويَشهدُ لكونِ الحديثِ مُرسَلًا غيرَ موصولٍ: أنَّ الغالبَ على رِواياتِ جَعفرِ بنِ محمَّدٍ الإرسالُ، كما قال الحافظُ الذهبيُّ -رحمه الله- في ((السير 6/257))، وإنَّما جاءتِ القِصةُ موصولةً مِن طريقٍ آخَرَ ليس فيه لا كَبَر ولا مَزامير؛ وإنَّما فيها لَعِبٌ ولهوٌ، كما عند الطحاويِّ في أحكامه ((ص235))، وربَّما هي تلك الروايةُ التي عند ابنِ المنذِرِ.
فالخلاصةُ: أنَّ الوُحَاظيَّ تفرَّدَ عن سُليمانَ بنِ بلالٍ بلَفظَتَي الكَبَر والمزامير،كما تَفرَّد أيضًا فجعَل الحديثَ موصولًا بهاتينِ اللَّفظتَينِ، خِلافًا لبَقيَّةِ الطُّرقِ التي ليستْ فيها هذه اللفظةُ، أو تكون مُرسَلةً غيرَ موصولةٍ، ونحن نَعرِفُ أنَّ الإرسالَ نوعٌ مِن أنواعِ الحديثِ الضعيفِ، وهذا الحديثُ حتى لو فُرِضَ أنَّه يصحُّ موصولًا فإنَّه معلولٌ بالتفرُّدِ؛ ولهذا فإنَّ الإمامَ مسلمًا صاحبَ الصَّحيحِ يَروي كثيرًا من أحاديثِ سُليمانَ بنِ بلالٍ، عن جَعفرِ بنِ محمَّدٍ، عن أبيه عن جابرٍ؛ إلَّا أنَّه أهْمَل هذا الحديثَ، وإهمالُه قرينةٌ عند أهلِ العِلمِ بالحديثِ على أنَّه لا يصحٌ؛ إذ لو كان الحديثُ غيرَ معلولٍ عند الإمامِ مُسلمٍ لذَكرَه، لكنَّ إعراضَه عنه قرينةٌ على وجودِ عِلَّةٍ فيه، والواقع أنَّ الإشكالاتِ في الحديثِ أكثرُ مِن ذلك، لكنَّ المقامَ لا يتَّسعُ إلى البَسطِ.
فأنتَ ترَى -أيُّها القارئُ الكريم- أنَّ هذا الحديثَ قد حصَل فيه اختلافٌ في إسنادِه، وحصَل فيه اختلافٌ في متْنِه، وزادنا الدكتورُ -وفَّقه الله- إشكالًا آخَرَ، وهو أنَّه لا يُدرَى هل هو حديثٌ واحدٌ أو حديثانِ؛ فهذا التلوُّنُ الشديدُ يُورِثُ الشُّبهةَ القويَّةَ التي تَجعَلُ المرءَ في أقلِّ الأحوالِ يَحتاطُ في نِسبةِ هذا الحديثِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ إذا لم يجزمْ بتعليلِه على الوجهِ الذي ذهبَ إليه الدارقطنيُّ والسمعانيُّ.
وأنا هنا أؤكِّد على أنَّ هذا الإشكالَ ليس هو الإشكالَ الوحيدَ في الحديثِ، وأظنُّك الآنَ ستقولُ: إذا كان الحديثُ -كما وصفتَ- ضعيفًا؛ فلماذا صحَّحه جمهرةٌ مِن العلماءِ، مِثل الطبري، وأبي عَوانةَ، وأحمد بن سَلَمة، والأرناؤوط، وسُليم الهلالي، والوادعي كما يقولُ الدكتور، حيثُ سرَد هذه الأسماءَ قائلًا: كلُّهم قد صحَّحوا هذا الحديثَ.
فأقولُ: ليس الأمرُ كما وصفَه الدكتور، بل في هذا الكلامِ قدرٌ كبيرٌ مِن المبالغةِ، بل ستُفاجَأُ إنْ قلتُ لك: إنَّه لم يَصدُرْ عن أحدٍ مِن هؤلاءِ تنصيصٌ على صحَّةِ هذا الحديثِ، وأنَّ أقْصَى ما في الأمرِ أنَّ الشيخَ الوادعيَّ -رحمه الله- قال عنه: حديثٌ حسنٌ، وهذا ما سأُوضِّحُه لك في التنبيهِ التالي.
هناك عِباراتٌ كثيرةٌ وجُمَل ربما يَحارُ فيها غيرُ المتخصِّص، وربما يَتوهَّم منها أشياءَ هي غيرُ مَصادِيقها، مثلُ جُملة: (رجالُه رِجالُ الصحيحِ)، ومثلُ جُملةِ: (سَندُه صحيحٌ)، الذي قد يُفهَم منهما أنَّ هذا الحديث مقبولٌ.
كذلك العلماءُ لهم طرائقُهم ومَناهجُهم في الحُكْمِ على الحديثِ ليستْ كلُّها محلَّ تسليمٍ، وعلماءُ الحديثِ مُتفاوِتون في الإتقانِ والضبْطِ، شأنُهم شأنُ غيرِهم من أصحابِ الصِّناعاتِ المختلفةِ، فمنْهم المتساهِلُ في التصحيحِ، ومنهم المعتدِلُ، ومنهم المتشدِّدُ في الحُكْمِ على الرِّجالِ، ومنهم دونَ ذلك؛ فمِن الحَسنِ أنْ أذكُرَ باختصارٍ أمثلةً على ذلك؛ ليَتبيَّن بها حجْمُ المبالَغةِ في ادِّعاءِ أنَّ كلَّ أولئك العلماءِ قد صحَّحوا الحديثَ.
فالإمام الطَّبَريُّ لم ينُصَّ صراحةً على تصحيحِ حديث جابرٍ هذا، فلم يقُلْ عنه صراحةً: إنه صحيحٌ، أو حسَنٌ، أو ثابتٌ، ولم يُشِرْ إلى أمرِ الحكْمِ على الحديثِ، ولم يكُن في ذلك السِّياقِ، وهو -رحمه الله- في كتابِه التفسيرِ مُقِلٌّ جدًّا مِن الحُكمِ على الأحاديثِ والآثارِ، بخلافِ -مثلًا- كتابِ تهذيبِ الآثارِ؛ فإنَّه يَحكُم على كلِّ حديثٍ يُصدِّرُ به البابَ؛ فلذا لا عجَبَ ألَّا يَذكُرَ في التفسيرِ الحُكمَ على حديث جابرٍ، وإنما فَهِم الدكتورُ هذا التصحيحَ مِن قول الطَّبَريِّ عن جابرٍ t: "لأنَّه قد أدرَكَ أمْرَ القومِ ومَشَاهدَهم"، هذا كلُّ ما قاله الطَّبَري، فعندَ الدكتور أنه يَلزَمُ على ذلك ثُبوتُ الخبرِ! والواقعُ أنَّ هذا ليس بصريحٍ في التصحيحِ، وسأضرِبُ لك مثالًا يُقرِّب لك المعنى:
هناك إسنادٌ في تفسير الطَّبَري يُروى به الكثيرُ من الآثارِ، وهو إسنادُ "أسباط بْن نَصرٍ، عن إسماعيلَ السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، وابن مَسعودٍ، وناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم"، هذا إسنادٌ واحد، وهذا الإسنادُ نصَّ الطَّبَري صراحةً على تضعيفِه؛ مع أنه قلَّما يَفعَلُ ذلك، فقال عنه: "ولستُ أعلَمُه صحيحًا؛ إذ كنتُ في إسنادِه مُرتابًا"، فإذنْ هذا الإسنادُ عندَ الطَّبَري ضعيفٌ؛ يقول: "لستُ أعلَمُه صحيحًا"، فهو إسنادٌ ضعيفٌ بشكلٍ صريحٍ ومباشرٍ.
ومع ذلك لا يجِدُ الطَّبَريُّ غضاضةً في أن يَنسُبَ إلى ابن عباسٍ وابنِ مسعودٍ بشكلٍ جازمٍ ما يَتضمَّنه هذا الإسنادُ مِن متْنٍ. فتَراهُ مثلًا يقول: "كما قال ابنُ مسعودٍ وابنُ عباسٍ" (1/479)، أو يقولُ: "مِن قول ابن مسعودٍ وابن عباسٍ" (1/423)، ونحوَ ذلك.
فإذا كان الطَّبَريُّ لا يجِدُ غضاضةً في نِسبة القول لهما بشكلٍ جازمٍ، مع أنه ضعَّفَ الإسنادَ إليهما بشكلٍ صريحٍ وجازمٍ أيضًا، فلأَنْ يَنسُبَ إلى جابرٍ شيئًا لم يَحكُمْ بصحَّتِه أو بضعْفِه هو مِن باب أَولى، وسِرُّ ذلك -والله أعلمُ-: أنَّ العلماءَ في التفسيرِ يَتساهَلون في أمْرِ الأسانيدِ، ولا يُشدِّدون فيها تَشديدَهم في الأحكامِ؛ ففي حديثِ جابرٍ أنَّ جابرًا إنَّما فسَّرَ لفظةً ولم يَتطرَّقْ إلى حُكْمٍ عَقَديٍّ أو فِقهيٍّ؛ فلهذا يَتساهَل العلماءُ -كالطَّبَريِّ وغيره- في هذه الأسانيدِ.
بل تَرى ابنَ أبي حاتمٍ في مقدِّمة تفسيرِه يَذكُر أنه اختارَ أصحَّ الأسانيدِ، فإذا فتَّشْت كتابَه رأيتَ أسانيدَ لا يَقبَلُها العلماءُ في الأحكامِ قطُّ؛ وإنَّما يمشُّونها في التفسيرِ، مثلُ إسناد العوفيِّينَ، وإسنادُه لا يَخْفى على الدكتورِ، وما ذاك إلَّا لأنَّ العلماء يَتساهلون في أمْر التفسيرِ أكثرَ مِن غيره، ما لم يَتضمَّنْ حُكمًا فِقهيًّا أو أمرًا عَقَديًّا.
ولهذا ستجِدُ أنَّ رأيَ الطَّبَريِّ الفقهيَّ في أمْرِ المزامير مختلفًا تمامَ الاختلافِ عن رأيِ الدكتورِ العوني، كما سيأتي.
مِن جِهةٍ أخرى؛ إن سألتَ عن منهجِ الطَّبَري في الجرْح والتعديلِ والحكْمِ على الأحاديثِ، ستَجِده رحمه الله -مع إمامتِه وتقدُّمِه في العلْمِ- يَنحو مَنحى التَّساهُلِ، وسأضرِبُ لذلك مثلًا واحدًا يَعرِفه الدكتور العونيُّ جيدًا:
وهو حديثُ: ((أنا مدينةُ العِلم وعلِيٌّ بابُها))، هذا الحديث صرَّح بوضْعِه كِبارُ النُّقاد، كابن مَعِين؛ قال عنه: كذبٌ ليس له أصلٌ، منكرٌ جدًّا، والإمامِ أحمدَ قال: كذبٌ ليس له أصلٌ، وابنِ حِبَّان قال: لا أصلَ له، والعُقَيليِّ: لا يصِحُّ في هذا المتْنِ حديثٌ، وابنِ عَدِيٍّ يقول: مُنكَر موضوعٌ، وابنِ العربيِّ يقولُ: باطلٌ، وابنِ تَيميَّةَ يقول: يُعَدُّ في الموضوعاتِ، وابنِ الجَوزيِّ: يَذكُره أيضًا في الموضوعاتِ، ونحو ذلك مِن العِبارات الشَّديدةِ.
إلَّا أنَّك تَعجَبُ أنَّ الطَّبَريَّ يرى أنه صحيحٌ ولا يُجِيب على تلك الأقوالِ في كِتابِه ((تَهذيب الآثار))، وما ذاك إلا لطَبيعةِ منْهجِه في قَبول الأخبارِ المائلِ إلى التساهُلِ؛ ولهذا تراهُ في هذا الحديث يُخالِفُ ما عليه أئمَّةُ النقْدِ الكِبارُ في عصرِ الرِّواية، وإنما يُوافِقُه بعضُ العلماء المتأخِّرين ممَّن جاء بعدَ هؤلاء بقُرونٍ، وهم -على فضْلهم- لا يَبلُغون مَبلَغَ أئمَّة النقْد المتقدِّمين.
ولهذا تجِدُ أهلَ العلم يَحتاطون من أحكامِ الطَّبَريِّ الصريحةِ على الأحاديثِ، فما بالُك بعبارةٍ ليستْ بصريحةٍ؟! ثم هي في أُمور تَفسيريَّةٌ.
أمَّا أبو عَوانةَ فكذلك لم ينُصَّ على تصحيحِ الحديثِ صراحةً. ولعلَّك تقولُ لي: وهل كان البخاريُّ ومسلمٌ ينُصَّان على صِحةِ كلِّ حديثٍ؟!
فأقولُ: رُودَيكَ! فالفرقُ كبيرٌ؛ فالبخاريُّ -رحمه الله- كتابُه في الصحيحِ، ومسلمٌ أيضًا كتابه في الصحيحِ، ومِن ثَمَّ ليس هناك حاجةٌ أن ينُصَّا على حديثٍ، أما أبو عَوانةَ فكتابه ليس كتابًا في الصحيحِ، وإنَّما هو كتابٌ مُستخرَجٌ، فالأمْر مُختلِف، والمستخرَجُ: هو أن يَعمَدَ المؤلِّفُ إلى كتابٍ ما، فيَروي أحاديثَ هذا الكتاب بأسانيدِه هو، هذا هو حقيقةُ المستخرَجِ وتَختلِفُ عن حقيقةِ الصحيحِ.
ربما تقولُ لي: أليس اسمُ كتاب أبي عَوانةَ "المستخرَج الصَّحيح"؟
أقول: قد حدَث اختلافٌ في اسم هذا الكتابِ هل يَتضمَّن كلمةَ "الصحيح" أو لا يَتضمَّنها، وإنْ تضمَّنَها فما معنى هذه الجُملة في العنوانِ إنْ صَحَّت؟
يأتينا الجوابُ مِن العلَّامة المُعلِّمي؛ حيث يقولُ: "ومع ذلك زاد أبو عَوانةَ أحاديثَ ضعيفةً لم يَحكُمْ هو بصحَّتِها، فإنما يُسمى كتابه صَحيحًا؛ لأنه مُستخرَجٌ على الصحيحِ، ولأنَّ مُعظَمَ أحاديثِه -وهي المستخرَجةُ- صِحاحٌ". ((التنكيل 1/457))، فإذًا تَسميتُه بالصحيحِ فيها جانبانِ: الأول: أنَّ مُعظَمَ الأحاديثِ لمَّا كانت مُستخرَجةً على صحيحِ مسلمٍ، فهي أحاديثُ مسلمٍ في الغالب، فلهذا صحَّ أنْ يُوصَف بالصحيحِ باعتباره مُستخرَجًا على كتابٍ صحيحٍ، وهو صحيحُ مسلمٍ، ولأنه -والحالةُ هذه- ستكون مُعظمُ أحاديثِه المستخرَجةِ صحاحًا وليس كلُّها. الثاني: أنَّ التسميةَ بِناء على الأغلَبِ.
ثم نبَّهَ المعلِّمي -رحمه الله- على أنَّ أبا عَوانةَ إذا أخرَجَ لرجلٍ في الإسنادِ، فإنَّ هذا لا يَعني التوثيقَ، يقولُ -رحمه الله-: "فإنَّ إخراجَه لرجلٍ لا يَستلزِمُ توثيقَه ولا تَصديقَه، بل صاحبُ الصحيحِ نفْسه -يعني مِثل البُخاريِّ أو مسلمٍ- قد يُخَرِّجُ في المتابعاتِ والشواهدِ لمَن لا يوثِّقُه، وهذا أمْرٌ معروفٌ عند أهل الفنِّ"، ((التنكيل -1/457- طبعة دار الباز)).
لا أظنُّ أنَّه يَخفَى على الدكتورِ العوني مثلُ هذه الأشياءِ، بل إذا رجَعْتَ إلى مقدِّمةِ أبي عَوانةَ، فلن تجِدَ حرفًا واحدًا أنه الْتزَمَ ألَّا يَذكُرَ إلا ما صحَّ عنده، فضلًا ما عند غيرِه، ربما تقولُ: أليس ابنُ حَجَرٍ وغيرُه سمّاهُ صحيحًا؟ ويقولُ هو وغيرُه: صحَّحه أبو عَوانةَ.
أقول: الجوابُ ما سبَق، وهو: أنَّ هذا من بابِ الأغلَبِ، وهذا بالمناسبةِ ما نصَّ عليه مَن حقَّق كتاب أبي عَوانةَ، وهم أعلمُ الناسِ بالكتابِ الذي حقَّقوه، فإنَّما قالوا: "ووصْفُه بالمختصَرِ لعدَمِ استيعابِه جميعَ الأحاديثِ النَّبويةِ، ووصْفُه بالصَّحيحِ باعتبارِ أغْلَبِ أحَادِيثه" ((مقدمة المستخرج ص 81))، بل إنَّ ابنَ حجرٍ نفْسَه يقولُ عن المستخرَجاتِ:
"وأمَّا مَن بيَّن المُستخرِجِ وبيَّن ذلك الرَّجلِ فيَحتاجُ إلى نَقدٍ؛ لأنَّ المُستخرِجَ لمْ يَلتزِمِ الصِّحةَ في ذلك، وإنَّما جُلُّ قَصْدِه العُلوُّ، فإنْ حصَلَ وقَعَ على غَرَضِه، فإنْ كان مع ذلك صحيحًا أو فيه زِيادةُ حُسْنٍ حصَلَتِ اتِّفاقًا، وإلَّا فليس ذلك همَّتَهُ". ((تدريب الراوي 1/121)).
وبالوجهِ الأولِ الذي ذكَره المعلِّمي يُفسَّر ما ذكَره ابنُ حجر في مُقدِّمة الإتحافِ مِن قولِه: "فوجدتُ فيها عدَّةَ تصانيفَ قد الْتزَمَ مصنِّفوها الصِّحةَ" (1/158)، على أنه -رحمه الله- خالَفَ ذلك في النُّكَتِ على ابن الصلاحِ، ففرّقَ صراحةً بين مَن اشترَطَ الصِّحةَ وبين المسْتخرَجاتِ، كما تعقَّبَ مَن سمَّى الدارميَّ صحيحًا. ((النكت ص 127، 131)).
وأُنَبِّه هنا إلى أنَّ حديثَ جابرٍ الذي ذكَره الدكتور العونيُّ إنَّما أتى به أبو عَوانةَ في الشواهدِ؛ حيث ذكَرَه آخِرَ حديثٍ مرفوعٍ في باب: ذكر الخبَرِ المبيِّنِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَخطُب قائمًا، فهو ساقه مَساقَ الشواهدِ، ولم يَذكُرْه في تفسيرِ سورة الحجِّ، ولا في أحكامِ النِّكاحِ.
والشواهد يتوسَّع فيها مسلمٌ صاحبُ الأصلِ، فما بالُك بمَن استخرَجَ عليه.
فالقولُ بأن كلَّ ما في المستخرَجاتٍ صحيحٌ عند أصحابِها أمرٌ بعيدٌ عن الدِّقةِ؛ لأنَّ قصْدَه في الأساسِ هو العُلوُّ وليس الصِّحةَ، وهو الأمرُ الذي نصَّ عليه ابنُ حَجَرٍ رحمه الله، أما مَكانةُ أبي عَوانةَ في النقْدِ وتساهُلُه في الحكْمِ على الرِّجالِ، فهذا أمْرٌ يَعرِفُه المتخصِّصون، ويَعرِفُه الدكتورُ العوني، خُذْ مثالًا على ذلك حديثَ سعدٍ: ((أنَّ قومًا شَكوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قحْطَ المطَرِ، فقال لهم: اجْثُوا على الرُّكُبَ...))، ذكَر غيرُ واحدٍ من العلماءِ قديمًا وحديثًا أنه حديثٌ مُنكَر. كما نبَّه الذهبيُّ وابنُ حَجرٍ على بعضِ الوضَّاعينَ في أسانيدِ حَديثِه.
فلعلَّ القارئَ الكريمَ يَنتبِهُ إلى طَبيعةِ أسانيدِ التفسيرِ وما فيها مِن التساهُلِ، وطَبيعةِ كُتب المستخرَجاتِ، وما غرَض أصْحابِها منها، والفرْقِ بيْنها وبيْن المؤلَّفاتِ في الصحيحِ التي اشترَطَ أصحابُها صحَّةَ الحديثِ عِندَهم فيما يَذكُرونه.
وحيث انجرَّ القلَمُ إلى هذا فلا مَناصَ مِن أن أُشِيرَ إلى أنَّ الدكتورَ العونيَّ -سامَحَه الله- أقحَمَ اسمَ الحافظِ ابنِ سلَمةَ في جُملةِ مَن صحَّحَ هذا الحديثَ، وهذا الأمْرُ لا يتَّفق مع أبسَطِ مَبادئِ العِلم؛ فإنَّ كتابَ ابنِ سلَمَةَ مفقودٌ مِن قُرونٍ لم يُوقَفْ عليه، بل قدِ اختُلِفَ هل هو كِتابٌ في الصحيحِ أمْ في المستخرَجاتِ؟
والذهبيُّ -رحمه الله- يقولُ عنه -كما في الرِّسالةِ الكتانيةِ-: "له مُستخرَجٌ كهيئة صَحيحِ مُسلمٍ" (ص 28). فإذا كان العلماءُ مُختلِفينَ في حال كُتبٍ بين أيديهم ومُرادِ مؤلِّفيها، فكيف سيكونُ الحالُ في كتاب مفقودٍ مِن قُرونٍ؟ والأصلُ ألَّا نَنسُبَ لأحدٍ قولًا بالظنِّ، وفرْقٌ كبيرٌ بين العمَلِ بالظنِّ وبين نِسبةِ أقوالٍ لأشخاصٍ بالظنِّ، كيف ونحن مأْمورون بالتثبُّتِ؟!
ومِن الأوهامِ عند بعضِهم: اعتقادُهم أنَّ مُستخرَجَ أبي عَوانةَ هو مُستخرَجٌ أيضًا على كتابِ أحمدَ بنِ سَلَمةَ، وهذا أيضًا غيرُ دقيقٍ؛ ولذا يقول محقِّقُ الكتابِ: "يَختصُّ الاستخراجُ في الموضعِ الذي يقولُ فيه أبو عَوانةَ: "مِن هنا لم يُخرِّجاهُ" بكونِه على صحيحِ مسلمٍ، وأبي الفَضل أحمدَ بنِ سَلَمةَ، وأمَّا ما سواهُ فالاستخراجُ فيه مُختصٌّ بأصلِ مَوضوعِ الكتابِ على صَحيحِ مُسلمٍ وحْدَه"، هذا هو الأصلُ أنه مُستخرَجٌ على صَحيحِ مُسلمٍ وحْدَه.
فأرجو الآنَ أنه قد تَبيَّن لك أنَّنا لا نَملِكُ نصًّا صريحًا عن الطَّبَريِّ ولا عن أبي عَوانةَ يُفيدُ صِحَّةَ الحديثِ، وأنَّ فَهْمَ ذلك مِن كلامِهم أمرٌ خاضعٌ للاحتِمالِ، أما نَسبةُ التصحيحِ لابنِ سَلَمةَ فبعيدٌ جدًّا.
فأقول جوابًا عن ذلك: إنَّ الدكتورَ العوني يَعرِف جيدًا أنَّ هذه العباراتِ لا تُفيدُ الحكْمَ على الحديثِ لا بالصحةِ ولا بالحُسْنِ؛ فعِبارة "رجالُه رجالُ الصحيحِ"، وعبارة "صحيحُ الإسنادِ"، هاتانِ لا تُفيدانِ الحكْمَ على الحديثِ لا بالصحةِ ولا بالحُسْنِ، وسأبيِّن ذلك لك باختصارٍ، وهو أنَّ الحديث الصحيحَ هو ما اجتمَعَ فيه الشُّروط الخمسةُ: (عدالةُ الرُّواةِ - ضبْط الرُّواة - اتِّصال السنَدِ ظاهرًا - السلامةُ مِن الشُّذوذ - السلامة مِن العِلَّةِ).
فإذا قال العالمُ -لا سيَّما من المتأخِّرين- عن حديثٍ: إنه صحيحُ الإسنادِ أو حسَنُ الإسنادِ، فقد ضَمِن لك الشُّروطَ الثلاثةَ الأُولى (العدالة - الضَّبْط - الاتِّصال)، لكنَّه لم يَضمَنْ لك الشَّرطينِ الآخَرينِ: الشَّرْطَ الرابعَ والخامِسَ؛ لماذا؟
لأنَّهما يَحتاجانِ إلى جهْدٍ مُضاعفٍ، وخبرةٍ واسعةٍ، وقُدْرةٍ على جمْعِ الطُّرقِ وتَحليلِها، فرُبَّما لا يُسعِفُه الوقتُ لذلك، وفي الوقتِ نفْسِه لا يُريد أنْ يُحرِمَ القارئَ من الفائدةِ، فيقولُ عنه: الحديث صحيحُ الإسنادِ، أو حَسنُ الإسنادِ، فكأنَّه ضمِنَ لك الشروطَ الثلاثةَ الأُولى، لكن لا تَحكُم أنت -كما لم يَحكُمْ هو- على الحديثِ بالصِّحةِ أو الحُسْنِ، إلا إذا توفَّرت الشُّروط الخمسةُ، فتَنبَّهْ لهذا.
وأضعَفُ مِن عبارةِ (صحيح الإسنادِ - حَسن الإسنادِ)، قولُهم: رجالُه رجالُ الصحيحِ؛ لأنَّ هذا لا يفيد تحقُّقَ الشرطِ الثالثِ؛ وذلك لأنَّه ليس كلُّ رجالِ الصحيحِ يُقبَلُ حديثُهم في كلِّ الأحوالِ، فقدْ يُقبَلُ في حالٍ دون حالٍ، وفي الأمر تَفصيلٌ لا أُريد الإطالةَ عليك فيه، وبالإمكانِ مُراجعة كتاب اختصارِ عُلوم الحديثِ لابن كثير (ص43).
فأرجو أنْ يكونَ قد تبيَّن لك بهذا أنَّ قولَ الوادعيِّ: "رجالُه رجالُ الصحيحِ"، وقولَ الآخرينَ: "إسنادُه صحيحٌ"، لا يعني أنهم يُصحِّحون الحديثَ؛ وإنما فقط حسَّنه الوادعيُّ بقولِه: حديثٌ حسنٌ فقط، وأظنُّ به -رحمه الله- أنه لم يقِفْ على عِلَّتِه.
وهنا أريدُ أنْ أنَبِّهَ القارئَ الكريمَ لأمْرٍ مهمٍّ؛ وهو: لو فرَضْنا أنَّ الطَّبَريَّ وأبا عَوانةَ وابنَ سَلمةَ قد صحَّحوا الحديثَ، أو لو فرَضْنا أنَّك مُقتنِعٌ تمامًا بأنهم قد صحَّحوا الحديثَ، بل وافقْتَ وآمنتَ بكلِّ هذا؛ فهل يعني هذا أنَّ الطَّبَريَّ وأبا عَوانةَ يُبِيحانِ الموسيقى والمعازفَ... إلى آخِره؟ الجوابُ في التنبيهِ التالي:
التنبيهُ الثامنُ: رِوايةُ العالِمِ الحديثَ لا تَعني الأخْذَ به
يَنبغي أنْ يُعلَمَ أنَّ رِوايةَ العالِم الحديثَ ومعرفتَه به لا يَستلزمانِ أنْ يأخُذَ بمدْلولِه، فقد يأخُذُ به، وقد لا يأخُذُ، وإذا لم يأخُذْ به فهذا يعودُ إلى أسبابٍ مُتنوِّعةٍ؛ منها: أنه يَرى أنَّ هذا الخبرَ ذو دَلالةٍ مُحتمِلةٍ، أو يكونُ له تفسيرٌ يُخالِف فيه غيرَه، وقد يَرى العالِمُ أنَّ هذا الحديثَ مُعارَضٌ بما هو أقْوى منه، وفي ذلك تُذكَرُ القصَّة المشهورةُ للإمامِ مالكٍ؛ إذ قِيل له: إنَّك لا تأخُذُ بخيارِ المجلِسِ وقد ذكرتَ الحديثَ في كتابِك، فقال -رحمه الله- مَقولتَه المشهورةَ: "حتى يَعلَمَ الجاهلُ مِن أمثالِك أنِّي عن عِلْمٍ تركْتُه".
يُريد -رحمه الله- أنه لم يأخُذْ بالحديثِ مع عِلْمه به؛ وذلك أنَّ مالكًا -رحمه الله- رأى أنَّ عمَلَ أهلِ المدينةِ على خلافِ هذا الحديثِ، وأنَّ عمَلَهم أقوى مِن هذا الحديثِ الآحاديِّ.
قدْ نَعلمُ يقينًا أنَّ العالِمَ لم يأخُذْ به إذا ثبَت عنه نصٌّ يُخالِفُ مَضمونَ الخبرِ، وهنا يُستحسَنُ أنْ نَعرِفَ موقفَ الطَّبَريِّ وأبى عَوانةَ من مَسألةِ المزاميرِ، وما يُمكِن أنْ نَعرِفَ به فَهمَهم لهذا الحديثِ حديثُ الكَبَرِ والمزاميرِ والعُرْسِ، وهنا لا حاجةَ أنْ نُؤكِّدَ أنه لا مَجالَ هنا للحديثِ عن مُوسيقى ومعازفَ؛ لأنَّ الحديثَ ليس فيه لا هذا ولا ذاك، وإنما في الحديثِ فقط ْكَبَرٌ ومزاميرُ، فيا تُرى ما مَوقف العالِمَين من الكَبَرِ والمزاميرِ؟
أقول: الواقعُ المقطوعُ به أنَّ كلًّا منهما مُتشدِّدٌ جدًّا في هذا الأمْرِ، وكلًّا منهما أشدُّ مِن الآخَرِ من وجْهٍ ما؛ أمَّا الطَّبَريُّ فيقولُ في تهذيب الآثارِ (4/238): "لا بأسَ على الرجُلِ المسلمِ إذا رأى بعضَ ما يتَّخِذُه أهلُ الكفْرِ وأهلُ الفُسوقِ والفجورِ مِن الأشياءِ التي يُعصى اللهُ بها مما لا يَصلُحُ لغيرِ مَعصيةِ اللهِ به وهو بهَيئتِه، وذلك مِثل: الطَّنابيرِ، العِيدانِ، المزاميرِ التي لا مَعنى فيها وهي بهَيئتِها إلا التَّلهِّي به عن ذِكرِ اللهِ، والشُّغل بها عمَّا يُحِبُّه اللهُ إلى ما يُسخِطُه..."، إلى أنْ قال: "إذ كان فيها الأسبابُ التي تُوجِب لِلَّاهِي بها سخَطَ اللهِ وغَضَبَه". ثم ذكَرَ أنه لا بأسَ على المسلمِ أن يَكسِرَها، وأن يُغيِّرَ هَيئتَها، وأنَّ تَغييرَها أَولى مِن تَغيير الأصنامِ.
ثم ذكَر -رحمه الله- أنَّ هذا الذي قاله هو ما عليه السَّلَفُ، وهو ما عَمِلوا به، ولم يَذكُرْ -رحمه الله- خلافًا عنهم في ذلك، يعني في إتلافِ آلاتِ اللَّهو التي ذَكَر منها صراحةً المزاميرَ.
فالطَّبَريُّ -رحمه الله- شأنُه شأنُ أئمَّةِ الإسلامِ في مُحارَبةِ كلِّ هذه الأشياءِ، وأنَّها تُؤدِّي -على حدِّ تَعبيرِ الطَّبَري- إلى سَخَطِ الله وغضَبِه، وأنها فقطْ لصِنفينِ -على حدِّ تَعبيرِه- هما: أهلُ الكفرِ، وأهلُ الفجورِ.
أقولُ: وليستْ للصَّحابةِ ومَن تبِعَهم بإحسانٍ، فلم يَفهَمِ الإمامُ الطَّبَري مِن حديثِ جابرٍ معنى يُغضب الله كإباحة المزاميرِ، أو يَنسُبَ -عياذًا بالله- للصَّحابةِ أنهم يَستمِعون للموسيقى.
أمَّا أبو عَوانةَ فإنَّه نصَّ على إباحةِ الدُّفِّ فقطْ، متى؟ في العيدِ فقطْ لا غيرُ، فقال: بابُ بَيانِ إباحةِ اللعِبِ في يومِ العيدِ، وضرْبِ الدُّفِّ أيامَ التَّشريق، والدليلِ على أنَّها في أيامِ غيرِ العيدِ مَكروهةٌ. [(2/155) طبعة دار المعرفة]. ولم يَستثْنِ الأعراسَ.
واستدلَّ -رحِمه الله- بحديثِ أبي بكرٍ، والكراهيةُ عنده تعني أنه مَنْهيٌّ عنه، كما في (2/9).
فأبو عَوانةَ لا يَرى الدُّفَّ في الأعراسِ، فضلًا عن أنْ يَرى المزاميرَ ونحوَها مِن آلات اللهْوِ، بل الأمرُ أبلَغُ مِن ذلك، وهو: أنَّه لَمَّا روَى أحاديثَ لَعِبِ الأحباشِ في المسجدِ، قال: هذه الأخبارُ تُعارِضُ أحاديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سمِعَ رجلًا يَنشُدُ ضالَّةً في المسجدِ، فقال: ( إنما بُنِيت المساجدُ لِما بُنِيَت له ). يَذكر أنَّ هذا الحديثَ معارَضٌ، ثم قال: وقد عاب اللهُ سُبحانه مَن يَنظُر إلى اللهْوِ فقال: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا } [الجمعة:11]، فهو يرى أنَّ هذا أمْرٌ مَنهيٌّ عنه، ففَهِم مِن الآية عَيبَ مَن يَنظُرُ إلى اللهْوِ مطلقًا، ولم يُقيِّدْ ذلك بالخروجِ مِن الخُطبةِ، وإنما أتى باللفظِ العامِّ.
ممَّا يدلُّ على أنَّه -رحمه الله- يمنَعُ مِن ذلك، وتوقَّف -رحمه الله- في جَوازِ اللَّعِبِ في المسجدِ يومَ العيدِ، مع أنه ذكَرَ هذه الأحاديثَ.
وأخشى -واللهُ المستعانُ- أنْ يأتِيَنا باحثٌ آخَرُ فيقولُ: إنه يجوزُ وضْعُ ألْعابِ (السيركِ) في المساجِدِ، استدلالًا بحديثِ لَعِبِ الأحابيشِ في المسجدِ؛ فهذا -والله أعلمُ- لا يَقِلُّ سُوءًا وشرًّا عن الذي يَزعُمُ استِعمالَ الصحابةِ المعازفَ، واستِماعَهم للموسيقى؛ استدلالًا بحديثِ الكَبَرِ والمزاميرِ.
وعلى كلِّ حالٍ، فالذي عليه العالِمانِ الجليلانِ هو المَهْيَعُ الذي عليه أئمَّةُ الإسلامِ الكبارُ، أهلُ الاجتهادِ المطلَقِ، والذي صارت عليه المذاهبُ الأربعةُ مِن منْع آلاتِ اللَّهْو، واستثناءِ الدُّفِّ في مواطنَ خاصَّةٍ.
وإذ ذكَرْنا أنَّ هذا هو ما عليه هؤلاء، فهذا يَقودنا لتنبيهٍ مهمٍّ، وهو التنبيهُ التاسعُ:
التنبيهُ التاسعُ: لِيَحرِصِ المسلمُ على الأخْذ بالشائع والمشهورِ، وأن يَترُكَ الشواذَّ والغرائبَ
تَتابعَتْ وَصايا أئمَّةِ الإسلام للمسلمين عامَّةً، ولطُلَّاب العِلم خاصةً على الأخْذِ بما شاعَ واشتُهِرَ في النُّصوص الشرعيةِ، وما تتابَعَ عليه عُلماءُ الإسلامِ؛ رِوايةً وتعليمًا وعمَلًا، وبالمقابل حذَّروا مِن الغرائبِ والشواذِّ التي تكونُ بخلافِ ذلك، وهذا التحذيرُ لا يَكاد يَخلُو منه كتابٌ مِن كُتبِ أدَبِ طلَبِ العِلم.
قال الإمام مالكٌ: شرُّ العلمِ الغريبُ، وخيرُ العلمِ الظاهرُ الذي قد رواهُ الناسُ.
وقال ابنُ المبارَكِ: العلمُ: الذي يَجيئك مِن هاهنا وهاهنا. قال ابنُ رجبٍ شارحًا كلامَه: يعني المشهورَ.
وقال الإمام أحمدُ: لا تَكتبوا هذه الغرائبَ؛ فإنَّها مناكيرُ. وقال: شرُّ الحديثِ الغرائبُ التي لا يُعمَلُ بها ولا يُعتمَدُ عليها.
وسرْدُ الوصايا بهذا يَطولُ.
وهذا الحديثُ الذي أبدَأَ فيه الدكتورُ العونيُّ وأعادَ، وجعَل له حَلقاتٍ في (اليوتيوب)، هذا الحديثُ الذي فيه الكَبَرُ والمزاميرُ يَظهَرُ شُذوذُه وغرابتُه المذمومةُ مِن جِهتينِ:
الجهةُ الأولى: مِن جِهة تَفسيرِ اللَّهو في قولِه تعالى: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا } [الجمعة: 11]، بأنَّها كَبَرٌ ومزاميرُ في عُرْسٍ، بينما المنقولُ عن الصحابةِ والتابعينَ وأئمَّةِ التفسير: أنَّ اللهْوَ في الآيةِ ليس له عَلاقةٌ بعُرْسٍ، وإنما كان مُصاحبًا للقافلةِ التِّجاريَّة، فهذا ما رُوِي عن أبي هُريرةَ، ومرْويٌّ عن ابنِ عباسٍ، بل مَرْويٌّ عن جابرٍ في المشهورِ عنه، ولم نقِفْ على شيءٍ يُخالِفُ ذلك عن الصحابةِ -رضي الله عنهم-، وهذا هو المنقولُ عن التابعينَ وأئمَّةِ التفسيرِ: صَفوانَ بنِ سُلَيم، ومجاهدٍ، والسُّدِّيِّ، وأبي مالكٍ، والحسَنِ البصريِّ، وقتادةَ، وزيدِ بنِ أسلَمَ، وأبي العاليةِ، ومحمدِ بن كعبٍ الكَرْزيِّ، ومُقاتلِ بنِ سُليمانَ، ومُقاتلِ بنِ حيَّانَ.
بيْنما الحديثُ الذي فيه قصَّةُ العرْسِ والكَبَرِ والمزاميرِ والجواري، لم يَجِئْ إلا في إسنادٍ واحدٍ، واختُلِفَ في وصْلِه وإرسالِه، واختُلِفَ في ألفاظِه، ثم اختلَفَ الدكتورُ العوني هل هو حديثٌ واحدٌ أو حديثانِ؟ ولذا فلا تَعجَبْ أنَّ الواحديَّ المفسِّرَ المشهورَ -مع عِلمِه بقصَّةِ العُرْس والجواري، حيث أشار إليها في كتابِه البسيطِ- قد أهمَلَه في أسبابِ النُّزول، وحكى عن المفسِّرين قاطبةً لا يَستثني منهم أحدًا: أنَّ اللهو هنا إنَّما هو لهوٌ في تِجارةٍ، ولا عَلاقةَ له بالعُرْسِ.
ولا تَعجَبْ إذا رأيت الحافظَ ابنَ كثيرٍ رغمَ أنه جعَلَ تفسيرَ الطَّبَري أصلًا له، إلا أنه أعرَضَ عن هذا الخبر ولم يُشِرْ إليه، ولا تَعجَبْ مِن أنَّ ابنَ أبي حاتمٍ قد أهمَلَ ذِكْرَه أيضًا، وحين أشار إليه السيوطيُّ في الدُّرِّ المنثورِ أهمَلَ لفظةَ "الكَبَر والمزامير"، مع أنه لا يُمانِعُ رحمه الله -كما في لُباب النُّقولِ- أنْ تكونَ الآيةُ نزَلَت في الأمرينِ، لكنه في كتابِ الدُّرِّ المنثورِ اكتفى برِوايةِ ابنِ المنذِرِ، وقال: "إن ابنَ جريرٍ رواهُ أيضًا"، وأهمَلَ لفظةَ "الكَبَر والمزامير".
وهذا الإسناد الذي رُوِيت فيه قصَّةُ الكَبَرِ والمزاميرِ، رغَم أنه مِن رِواية جَعفرِ بن محمدٍ، عن أبيهِ، عن جابرٍ، وهي سلْسلةٌ ذات قيمةٍ عاليةٍ عند المحدِّثين؛ إلا أنَّ هذا الخبرَ المرْويَّ بها قد أهمَلَه أصحابُ الصِّحاحِ، وأصحابُ السُّننِ والمسانيدِ، وما كانوا ليُهمِلُونه وهم يَعرِفون قيمةَ هذا الإسنادِ، إلا لاستنكارِهم هذا الخبَرَ، وبالمقابلِ فإنَّ سَببَ النُّزولِ الآخَرَ المشهورَ الذي يَربِطُ الآية بتلك القافلةِ التِّجارية، والذي ليس فيه عُرْسٌ، ولا مزاميرُ، ولا كَبَرٌ، قدْ أقبَلَ عليه عُلماءُ الحديثِ زَرافاتٍ ووُحْدانًا، فأخْرَجوه في كُتبِهم؛ الصِّحاحِ، والسُّننِ، والمسانيدِ، ورواهُ جمْعٌ كثيرٌ مِن الرُّواةِ، واتَّفَقوا على اعتمادِه، لا يُنكِرُه أحدٌ فيما وقَفْنا عليه، فهذا يَدلُّك مِن جهةٍ على ذلك الشُّذوذِ وتلك الغَرابةِ في حديثِ الكَبَرِ والمزاميرِ الذي طار به الدكتورُ العوني.
الجهة الثانيةُ التي يَظهر لك فيها شُذوذُ الحديثِ وغَرابتُه: أنَّ فيها استعمالًا للمزاميرِ في العُرْسِ، بينما المشهورُ عند أصحابِ الحديث الرُّخصةُ فقطْ في الدُّفِّ، وأحاديثُ الرُّخصةِ في الدُّفِّ مَوجودةٌ في الصِّحاحِ والسُّننِ ومَشهورةٌ جدًّا، وعلى هذا فإذا كان الدُّفُّ هو الأمْرَ المحكَمَ، بينما كلمةُ "المزامير"، وكلمة "الكَبَر" حمَّالتَا أوجُهٍ، فلا أقَلَّ للمسلمِ مِن أن يأخُذَ المحكَمَ ويذَرَ المتشابِهَ.
مِن ابتلاءِ الله -تعالى- لعِبادِه أنْ جعَلَ النُّصوصَ الشرعيةَ على قِسمينِ: قسمٍ واضحٍ في معناه، وقسمٍ حمَّالِ أوجُهٍ، وقد يَحمِلُ معنًى باطلًا، فأما الموفَّقون فإنَّهم يأخُذون بالمحكَمِ ويعمَلون به، فإذا ورَدَ عليهم المتشابِهُ فإنَّ أهلَ العلمِ منهم -بما آتاهُم اللهُ مِن عِلم وحكمةٍ- يفسِّرون المتشابهَ تَفسيرًا يُوافِقُ المحكَمَ ويؤيِّدُه، ولا يَضرِبون النُّصوصَ بعضَها ببعضٍ؛ فإنَّ هذا فِعلُ مَن وصَفَهم اللهُ بأنَّ في قُلوبِهم مرَضًا.
وهذا الحديثُ الذي زُعِم فيه استماعُ الصحابةِ للموسيقى لم يكُنْ أهلُ العلمِ مِن المحدِّثين والفقهاءِ -ولا سيَّما أتباع المذاهبِ الأربعةِ- لم يكونوا -بحمْدِ اللهِ- غافلينَ عنه، جاهلينَ مَدلولهَ، حاشاهم! لكنْ كان عندهم مِن العِلم والحكمةِ ما يُحسِنون التعامُلَ به.
فهو عندهم مِن جِنس المتشابهِ الذي يُطوى ولا يُرْوى؛ لِما فيه من العِلَلِ، ومنعًا مِن إساءةِ فَهمِه، وإثارةِ الفِتنةِ به، وفي الوقتِ ذاتِه يَحمِلونه على أحسنِ المحاملِ التي فيها تَوقيرُ أصحابِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وفيها تفسيرُه بما يُوافِقُ أحاديثَ الرُّخصةِ، فلا يَضرِبون النُّصوصَ بعضَها ببعضٍ، ولا يُحرِّفون الكَلِمَ عن مَواضِعِه.
فالوصيَّةُ: أنْ يَلزَمَ المسلمُ غرْزهم، وأنْ يَهتديَ بهدْيِهم؛ اتباعًا واقتداءً، لا جُمودًا ولا تَقليدًا، هذا ما كان عندي مِن الوصايا والتَّنبيهاتِ.