ابراهيم باشا المصري يسحق العثمانيين

إنضم
7 يونيو 2019
المشاركات
6,721
التفاعل
15,335 40 0
الدولة
Egypt
مجموعة من الفلاحين المصريين، حوالي 6000 فرد.. مع إقرار التجنيد الإجباري.. قرروا أنهم يهربوا من الجندية، ومايسلموش نفسهم للجيش.. فـ"إبراهيم باشا" حاول معاهم باللين تارة، فقرر إن الفلاحين اللي مش عايزة أو مش قادرة أو خايفة تقاتل.. حيستعين بيها في زراعة المحاصيل اللازمة للجيش ومؤنه.. فرفضوا برضه.. فحاول بالشدة تارة أخرى.. وهددهم بالحبس.. فمرضوش يسلموا نفسهم إلى أقرب وحدة عسكرية، فأمر بإحضارهم بالقوة.
لما عرف الفلاحين دول بقرار "إبراهيم" باشا.. هربوا من مصر كلها.. وتوجهوا للشام.. وهناك بيتوجهوا إلى دمشق وبيرحب بهم واليها.. وبيرسل معظمهم إلى عكا.. للعمل في وظائف وضيعة بلا أجر، لقاء إقامتهم وطعامهم وحمايتهم من "إبراهيم" اللي عايز يضمهم للجيش.
التاريخ حفظ لنا القصة دي باسم "مسألة الفلاحين".. وبسببها.. بتسنح لـ"محمد علي" الفرصة الذهبية.. فبيراسل والي دمشق يطلب منه في لطف مفاجيء.. إنه يرجع الفلاحين الفارين من التجنيد.. وإلا "حدث ما لا تحمد عقباه".. رسالة تحمل في طياتها اللطف لكنها مستفزة.. دفعت والي الشام العثماني إلى إنه يرفض قطعًا طلب "محمد علي"...
وعلى إثر ذلك، بيصدر "محمد علي" أوامره لابنه على الفور، وفي فجر يوم 14 أكتوبر سنة 1831 ميلادية، الموافق 7 جمادى الأولى سنة 1247 هـجرية، بيتحرك الجيش المصري تحت قيادة "إبراهيم باشا" متجاوزًا الحدود المصرية؛ في حملة مكتملة القوى والأركان.. بلا أي نية في التراجع.. بدون إذن الدولة العثمانية ولا علمها.. لأول مرة منذ استشهاد البطل السلطان الأشرف "طومان باي".. منذ 314 سنة.. صوب فلسطين...
وكان زحف الجيش المصري على فلسطين أقرب للنزهة.. لأن البلدات مكانش فيها حاميات عسكرية عثمانية كافية.. وكانت الدولة العثمانية بتعتمد في حراسة فلسطين على لبنان و"عكا".. عكا القوية ذات الاسوار الحصينة الرهيبة والأبراج العالية، والمدفعية بعيدة المدى، عكا اللي تحدت القائد الفرنسي القوي "نابوليون بونابرت" نفسه، وفشل في اقتحامها، وردته بخفي حنين يجر أذيال الخيبة، منذ 33 عامًا.
لما بيوصل "إبراهيم باشا" لأسوار عكا.. حاكمها بيبعت له رسالة جادة.. لكنها تحمل الكثير من التهكم.. بيقول له فيها إن عكا عصية على الاختراق.. مش حيعرف يدخلها أبدًا.. وحقنًا للدماء؛ فالست آلاف فلاح الجبناء اللي هربوا من التجنيد رعايا السلطان العثماني.. ووجودهم في عكا كوجودهم في القاهرة.. فلو يحب.. ممكن ياخدهم ويرحل إلى القاهرة.
بس الرصاصة كانت انطلقت خلاص والعجلة دارت ومفيش رجوع للخلف.. فـ"إبراهيم باشا" بيرد عليه: "جئت لأصطحب الستة آلاف إلى القاهرة وفوقهم واحد".
وكان يقصد بالواحد الزيادة اللي حايتشحن على القاهرة دا.. "عبد الله باشا" نفسه.. والي عكا.
من مميزات "محمد علي باشا" إنه كان مغرم بالتاريخ.. وبيتعلم من أخطاء من سبقوه طيلة الوقت.. وكان عارف تحديدًا ليه "بونابرت" فشل في فتح عكا.. فبيصدر أوامره، وبتتحرك بالتوازي مع زحف "إبراهيم" قطع من الأسطول المصري، من فرقاطات وسفن وزوارق هجومية، وناقلات جنود.. وبتحاصر عكا من البحر، عشان ميجيلهاش أي مدد بحري من الدولة العثمانية.. بينما بيفرض عليها "إبراهيم" في الآن نفسه، حصار بري محكم.. جعل من المستحيل أن تدخلها أو تخرج منها ذبابة، دون ان يرصدها الجيش المصري.
وفي الآستانة اشتعل الموقف بغتة، وسادت الفوضى بلاط السلطان العثماني "محمود الثاني"، مع الإضطراب البالغ اللي أصاب الدولة العثمانية من زحف "إبراهيم" نحو الشام.. فبيصدر "محمود" أوامره، وبيحرك فورًا وحدات من الجيش العثماني، عشان تضم على العثماني "عثمان باشا" والي حلب.. وبالفعل بتنضم قوات الجيش العثماني على حامية حلب.. فبيترك "إبراهيم" بعض وحدات الجيش المصري، تواصل حصار عكا.. وبيتوجه للقاء "عثمان باشا".. وبالفعل بيلتقي الجيش المصري بقيادة "إبراهيم".. بالجيش العثماني تحت قيادة "عثمان باشا" في حتة اسمها "الزرّاعة" جنوب حمص.. وهناك بيتهزم الجيش العثماني أمام الجيش المصري.. ويتراجع.. ولكن "إبراهيم" مبيطاردوش.. بينسحب بدوره.. عشان يرجع إلى عكا ويواصل حصارها.
وكان "محمد علي" دخل للجيش المصري، سلاح جديد.. لأول مرة يكون في زيه في الجيش المصري.. الجد الأول في العصر الحديث للـ"كلية الفنية العسكرية" اللي نعرفها النهاردة.. سلاح المهندسين.. ومهندسين الجيش دول بيستعين بيهم "إبراهيم".. فبيدرسوا اسوار عكا بدقة واهتمام. وبعدين بيعلنوا لـ"إبراهيم باشا".. إن ثمة جزء من السور الشرقي أضعف من بقية أسوار الحصن.. ولو الجزء دا سقط.. حتبدأ الأحجار تتفكك وتريّح.. وبمتوالية هندسية بسيطة.. حيضعف الجزء البحري من الحصن كذلك.
وكان سلاح المهندسين على حق، لأن "إبراهيم" بمجرد ما بيركز نيران مدفعيته على الجزء دا بالذات من الأسوار.. بتتفتح فيه ثغرة، للمرة الأولى في تاريخ أسوار عكا المنيعة.. فبيأمر "إبراهيم" الأسطول بأنه يقصف الحصن من البحر كذلك.. وبينما كان "عبد الله باشا" والي عكا بيحاول يتصدى لنيران الأسطول المصري، بيقتحم "إبراهيم باشا" عكا من الجانب الشرقي برًا.. وبيهزم حاميتها هزيمة نكراء.. وبيبر بوعده.. ويقبض على الفلاحين الهاربين.. ويأسر معاهم والي عكا نفسه، "عبد الله باشا".. ويشحنه إلى القاهرة.. بعدما دانت له المدينة بالقوة.
ماوقفش "إبراهيم" عند فتح عكا.. زحف إلى لبنان.. وهناك دخلها زي ما حضرتك بتدخل بيتكم بالضبط وقعد استريح مع جنوده وشحنوا طاقتهم واستردوا قواهم.. السر في دخول لبنان بالبساطة دي دون قتال.. إن اللبنانيين كانوا حلفاء للمصريين.. و"بشير الشهابي" الكبير.. أمير لبنان كان صديق شخصي لـ"محمد علي باشا".. وكانوا في انتظار الجيش المصري واستقباله.. والأسوأ بالنسبة للدولة العثمانية.. أن اللبنانيين بينضموا للمصريين.. تحت قيادة "إبراهيم باشا" والأمير "بشير" وبيتحركوا سوا صوب دمشق لقتال الدولة العثمانية.
بيصاب "محمود الثاني" بالهلع مع سقوط "عكا" وخروج لبنان عن طوعه بالشكل الصريح دا.. فبيصدر فرمان باعتبار "محمد علي" و"ابراهيم باشا" خونة.. خارجين على الدولة.. فلما المنشور دا مابيعملش حاجة، بيتبعه بفرمان تكميلي أنهما كافرين.. خرجا على خليفة المسلمين.. وأن دمهم حلال وقتالهم جهاد في سبيل الله.. وبيصدر أوامره على الفور، فبيتحرك جيش هائل من تركيا.. تحت بقيادة "السرعسكر حسين باشا"، مدعوم بوحدات الفرسان وبطاريات المدفعية، وكتائب القناصة، ببنادق القنص الإنجليزية المتطورة.. وقوات تبلغ 4 أضعاف القوات المصرية.. مع عتاد وذخيرة هائلين.. يكفوهم لشهور متواصلة من القتال.
وكانت أوامر "محمود الثاني" للسرعسكر "حسين باشا" قاطعة.. هزيمة الجيش المصري، وأسر "إبراهيم باشا".. وبعدين الزحف إلى القاهرة.. وهزيمة حاميتها.. وأسر "محمد علي باشا" نفسه.. وإرساله حيًا للآستانة.. كي يتم إعدامه علنا على رؤوس الأشهاد.. عشان يشوفوا جزاء من يحارب العثمانيين.
وبيوصل الجيش العثماني ويعسكر في حمص، وبيقترب منه الجيش المصري.. ويتوقف ويعسكر بدوره.. وبيرسل "إبراهيم باشا" إلى "السرعسكر حسين باشا" يطلب منه التراجع والانسحاب، حقنًا للدماء.. فـ"حسين باشا" بيرد عليه ساخرًا:
"إن جوادي لم يشرب الماء منذ زمن.. ولا أستطيع إرغامه على شرب الماء.. فقد صمم على أن يرتوي من ماء النيل".
بيبلغ الرسول رسالة "السرعسكر حسين باشا" إلى "إبراهيم باشا".. فمبيردش أصلًا على "السرعسكر حسين".. تقريبًا استخسر يبعت له مبعوث خاص لمجرد أنه يقول له "معلش".. ففض معسكره.. وفض الأتراك معسكرهم بدورهم.. و في 29 يونيو سنة 1832 ميلادية، الموافق 10 صفر سنة 1248 هـجرية، بيصطدم الجيشان في معركة حمص.. وبيكتشف "السرعسكر حسين باشا" إنه لا هو ولا جواده حيشربوا من النيل، وأنه مفيش مكان متاح للشرب حاليًا إلا البكابورت.. وبينهزم على يد "إبراهيم باشا" هزيمة ساحقة، وبينسحب إلى الشمال الشرقي.. إلى بيلين.
و"ممر بيلين Belen Pass" دا مضيق بيصل بين سهل أنطاكية وخليج اسكندرونة على حدود "جبال طوروس Taurus Mountains".
باختصار.. دا الحد الفاصل بين بلاد الشام وحدود تركيا نفسها.
وللمرة الأولى بتفغر دول أوروبا أفواهها في دهشة، وبتتابع الموقف عن كثب في اهتمام بالغ.. على الرغم من أنهم التقوا بـ"محمد علي" و"إبراهيم" في حرب اليونان من قبل، لكن لحد اللحظة دي، كانوا متصورين أن اللي بيعمله "محمد علي"، لا يعدو كونه مجرد تمرد محدود، لن يلبث أن تقمعه الدولة العثمانية بجيشها القوي.. وأسلحتها الحديثة المتطورة.. ولم يمنعها من التدخل في الأمر لمساندة الدولة العثمانية، إلا قضية كبرى في أوروبا وقتها، كانت بتشغلها في شدة، وبتنذر بحرب أوروبية.
القصة دي حنحكيها في سياق الاحداث.. التاريخ حفظها لنا باسم "المسألة البلجيكية".
المهم أنه كان فاضل مع "حسين باشا" 45000 ألف جندي عثماني.. من المقاتلين من جميع الوحدات والأسلحة.. مع 160 مدفع.. رصها في مواقع مرتفعة من جبال "بيلين".. وبذلك، أصبح في موضع مرتفع منيع.. يقدر يقصف منه القوات المصرية لدى عبورها ممرات بيلين، وإبادتها عن بكرة أبيها. الخطة دي كانت خطة بديلة، وضعها السرعسكر "حسين باشا" في حالة احتمال بالغ الضآلة في اعتقادهم، أنهم ينهزموا، فكر فيه مع مستشاره العسكري "ثيفينين Thevenin".. وميعرفهاش غيرهم هم الاتنين فقط.
وفي هذه الأثناء كان "إبراهيم باشا" حط إيده على حماة وحلب، ودخل دمشق في سهولة ويسر، وبيكتشف العثمانيين أن الجنود السوريين في دمشق.. متراخين متخاذلين في قتال "إبراهيم" ورجاله.. السر في دا أنهم كانوا بيعتبروا المصريين ذوي قربى، وكمان كانوا قرفانين من الحكم العثماني القاسي.. وبينشدوا الخلاص على يد "محمد علي".
المؤرخ التركي "قادر مصر أوغلي" من أشد المناصرين للدولة العثمانية والمغرمين بها.. وبيبرر كل أخطائها وجرائمها.. رغم ذلك ماقدرش إلا إنه يكتب في كتابه "قصة أولاد عثمان":
"لم يكن جندنا ببسالة جند إبراهيم، ولا السرعسكر حسين باشا بحنكة وذكاء إبراهيم، الذي تقدم على رأس شجعانه من أهل مصر، والحق به هزيمة مؤلمة لم ير مثلها من قبل".
وأثناء ما "إبراهيم" معسكر مع الجيش في دمشق، بيوصله من السلطان العثماني مبعوث خاص، برسالة بالغة الأهمية والخطورة.
وكان مضمون الرسالة إن "محمود الثاني" بيدعوه للتوبة والتراجع.. والخروج عن طاعة أبيه والدخول في طاعة السلطان العثماني.. والانسحاب إلى القاهرة بدون قيد أو شرط، لأنه أعتبرهما كافرين، خارجين عن الدين، ومارقين على السلطة الشرعية للسطان العثماني.. فبيلتقط "إبراهيم" ريشته ومحبرته، وبيرد على ظهر الرسالة نفسها، برسالة مخيفة من سطر واحد:
"إنني قادم مع رجالي الشجعان لأرد عليك في الآستانة"... وأردفها بأن مس سطح قبضته بخاتمه في الحبر.. وختم الرسالة بخاتمه الخاص، وارسلها مع نفس المبعوث إلى راسلها.
وفي صباح 29 يوليو الحار، سنة 1832، بيتوجه الجيش المصري بقيادة "إبراهيم باشا" إلى "بيلين".. حيث الفخ المحكم القاتل، اللي أعده "السرعسكر حسين باشا".
 
صباح 29 يوليو من العام 1832 ميلادية، والجيش المصري بقيادة "إبراهيم باشا" بيتجه إلى كمين محكم، أعده الجيش العثماني؛ في ممرات بيلين الجبلية، على الحدود التركية السورية.

الخطة الرهيبة اللي وضعها السرعسكر "حسين باشا" مع مستشاره العسكري الفرنسي "ثيفينين Thevenin".. كخطة بديلة في حالة حدوث احتمال بالغ الضآلة إن "إبراهيم" يهزمهم في الشام.. وهو ما حدث بالفعل.

بتتبدى لـ"إبراهيم" في الأفق القوات العثمانية، متمركزة في ممرات بيلين.. بينما المدفعية على قمم الجبال مختفية مموهة.. بانتظار تقدم المصريين.. وكان يفترض أنه بمجرد تقدمهم.. تنسحب القوات العثمانية.. وتخلي المجال لرجال المدفعية.. يأدوا عملهم.

وبالفعل بيتقدم "إبراهيم باشا" بفرسان القلب نحو قلب القوات العثمانية.. و"حسن المانسترلي" نحو الميمنة، و"سليمان باشا الفرنساوي"، نحو الميسرة.

وبتشرع المدفعية العثمانية في التصويب.. وبتحاول اقتناص "إبراهيم" اللي بيلتحم بالجيش العثماني بالفعل.. وبيتراجع الأخير لكيلومتر أو يزيد، في انتظار انطلاق المدفعية العثمانية.. اللي مابتنطلقش أبدًا.

وبيفاجأ السرعسكر العثماني "حسين باشا".. أن بطاريات المدفعية قد سقطت في أيدي المصريين.. وبيدرك متأخرًا جدًا.. أن "إبراهيم" كان عارف خطته السرية منذ البداية.. السر إن مستشاره "ثيفينين" كان اتحسب في عداد المفقودين في معركة حلب.. واتصور "حسين باشا" إنه قتل في المعركة.. والحقيقة هو مكانش اتقتل.. كانت أسرته القوات المصرية.. وأثناء انسحاب "حسين باشا" إلي بيلين.. كان جنود الجيش المصري، بيستجوبوا "ثيفينين"، وكان قائد عسكري فرنسي صلب شديد المراس بالفعل.. بيرفض يديهم معلومة واحدة.. فبيقدموا له تحية رقيقة.. بكل فردة جزمة طالتها أيديهم.. لحد ما بيعترف بالخطة الأصلية والبديلة وتاريخ ميلاد خالته.

ولأن "إبراهيم باشا" عرف بالخطة، أطلق الجنود المصريين، وخصوصًا من أهالي الصعيد المعتادين على الطبيعة الجبلية.. فتسللوا خلسة كرجال الكوماندوز وتسلقوا جبال بيلين بالمئات.. وقتلوا حماة المدفعية بالأسلحة البيضاء في صمت وهدوء، ثم قتلوا رجال المدفعية أنفسهم.. وسيطروا على بطاريات المدفعية العثمانية بالكامل.

ولأن "إبراهيم" و"المانسترلي" كانوا مشتبكين مع المشاة العثمانية بالفعل.. بقى من المستحيل أن المدفعية العثمانية تجد قوات بديلة لحمايتها.

وأمام ضربات الثلاثي "إبراهيم" و"سليمان" و"المانسترلي".. بينسحب الجيش العثماني.. والمرة دي.. بتقصفه بطاريات مدفعيته هو نفسه، التي سيطر عليها الجيش المصري، من أعلى مرتفعات بيلين.

وبينهزم الجيش العثماني للمرة الثانية، وبينسحب إلى داخل الأراضي التركية، وللمرة الأولى منذ زمن.. بيبسط الجيش المصري سيطرته على كامل بلاد الشام، بما فيها الاسكندرونة وبيحتل ميناء إياس، شمالي الإسكندرونة، ولأول مرة منذ ثلاثة قرون.. بيعسكر الجيش المصري، على الحدود التركية السورية، في يوليو من العام نفسه، 1832.

بيضطر "إبراهيم" يترك حامية مصرية على الحدود، ويرجع بمعظم الجيش إلى "حلب".. وبيراسل أبوه "محمد علي" بالتطورات.. فبيقول له "كفاية لحد هنا".. ماتتقدمش أكتر.

ولكن بيحصل فجأة موقف غريب، بيغير مسار الأحداث.. هو أن الوالي العثماني لـ "ديار بكر" بياخد معاه زميله والي "أوروفا" ، وبيتحركوا من الحدود التركية، ويعبروا إلى الشام ومنها إلى حلب.. وبيدخلوا على "إبراهيم" بغتة، شايلين كفنهم علي إيديهم.. وبيركعوا أمامه، معلنين خضوع "ديار بكر" و"أوروفا" للدولة المصرية.

ودي كانت أول مدن عثمانية تستلم بلا هجوم أو قتال.. فبناء علي التطور الخطير ده، "إبراهيم باشا" بيرسل لأبيه، أنه عازم على التقدم.. وطرق الحديد وهو ساخن.. وبيمني أبيه بنصر عظيم، يتحاكى به الناس عبر العصور.. وبيبشره إنه من الآن فصاعدًا حينادي به الأئمة على المنابر والشيوخ في ساحات الدرس والرهبان في الكنائس والمعابد، بلقب "محمد علي باشا، سلطان المسلمين"، وبيرجو أبوه بالفعل أنه يصدر قرار بذلك في مصر والسودان والشام والحجاز.

لكن "محمد علي" كان رجل بسيط.. بالمناسبة العبقرية.. كل العبقرية.. بتكمن في البساطة.. مش في التعقيد والتآمر العبيط والمظاهر الفارغة.. لو تلاحظ كان كل سلطان عثماني جاء سمى نفسه لقب من عشر كلمات على الأقل.. بتبدأ بـ "شجاع الدنيا".. "غياث الدنيا والدين".. "صاعقة الإسلام".. "بكابورت الفتح".. "ماسورة مرحاض المسلمين".. إلخ.. لكن "محمد علي" لا.. فضل بسيط طيلة عمره.. وعشان كده رد على "إبراهيم" برسالة محفوظة تاريخيًا، وافقه فيها على التقدم إلى داخل الأراضي العثمانية.. لكنه اختتمها قائلًا:

"تقول لي في كتابك أنك تريد أن تسكّ المعدن وهو حام.. وهذا أقرك عليه.. وإنك تريد أن يخطب باسمي في جميع المساجد والمعابد، وهو ما لا أقرك عليه...

فاعلم يا ولدي أنا لم نصل إلى مركزنا الذي نشغله الآن، إلا بقوة الوداعة وخفض الجانب.. فإنه يكفيني أن أحمل اسم (محمد علي) خالصًا من كل رتبة وزينة.. فهو أكبر لي من جميع ألقاب السلطنة والملك.. لأن هذا الاسم وحده هو الذي خولني الشرف الذي يجلّلني الآن.. فكيف أستطيع يا ولدي أن أتركه إلى سواه؟ لا ياولدي.. إنني أحفظ اسمي (محمد علي).. وأنت يا بني تحفظ اسمك (إبراهيم)؛ وفيك وعليك رحمة الله وبركاته".

وبيفض الجيش المصري معسكره، وينظم صفوفه، ويتجاوز الحدود السورية نحو الأراضي التركية.

والمرة دي بيبلل السلطان العثماني "محمود الثاني" سراويله من الرعب.. فبيهرع إلى أوروبا تنقذه.. بس محدش كان فاضي له إطلاقًا.. لأنه من أغسطس 1830 ميلادية، كانت بدأت "المسألة البلجيكية" وحتستمر بمشاكلها لحد 1835، ودي كانت ثورة عارمة.. قادتها المقاطعات الجنوبية للمملكة الهولندية المتحدة، ضد الملك الهولندي "ويليام الأول Willem I"، ودي بسببها حتستقل المقاطعات دي وتتوحد في مملكة.. كصرخة ميلاد أولى لدولة جديدة مكانتش على الخريطة.. بلجيكا.

ميلاد المملكة البلجيكية.. إللي حتتمخض عنها دولة بلجيكا القائمة الآن.. وثورات بقى ونزاع على الكرسي ومفاوضات ومؤتمرات.. فمحدش من أوروبا كان فاضي لـ"محمود الثاني".. خد بالك دايمًا يقول لك:

"محمد علي" دعمته أوروبا الكافرة لتفكيك الدولة العثمانية المسلمة"... الحقيقة في حرب "محمد علي" مع العثمانيين.. محدش لجأ لأوروبا وساندته ودعمته إلا العثمانيين.

المهم بيلاقي "محمود الثاني" إن محدش فاضي له من الدول الأوروبية.. فبيحشد كل جندي من جنود الجيش العثماني، وبيطلق المنادين والرسل، في أرجاء السلطنة، داعيًا إلى "الجهاد المقدس".. لحماية السلطنة العثمانية.. وبيتدفق إليه الجنود العثمانيين كالنمل، من كل حدب وصوب من كل أنحاء الدولة، للدفاع عن قلب السلطنة.

وبيدخل الجيش المصري إلى ولاية أضنة وطرسوس.. وبيعسكر هناك لفترة، لحد ما قوات الاستطلاع المصرية بتبلغ "إبراهيم" باشا.. أن الجيش العثماني الهائل، بيتقدم نحوهم تحت قيادة الصدر الأعظم "رشيد محمد خوجة باشا".

ولأن "إبراهيم" قائد ذكي.. فمابينتظرش الهجوم.. بيسيب كتائب من الجيش في المواجهة.. وبيزحف هو نفسه بباقي الجيش إلى الشمال.

وبيحاصر أنقرة.

بيعسكر الجيش المصري على حدود أنقرة، في أعنف شتاء ممكن تتخيله، يمر على الدولة العثمانية.. انحدرت فيه درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر وتساقطت الثلوج طيلة الوقت، على جنود مصريين مش معتادين ولا متوقعين للمناخ ده.

وبتتصدى حامية أنقرة وكتائب الجيش العثماني فيها للجيش المصري، وبتفتح عليه نيران مدفعيتها وقذائفها.. لكن "إبراهيم" كان على مدى آمن من نيران المدفعية.. فبيرقب الحامية في برود.. لحد ما تخلص ذخيرتها أو تكاد.. وفي مساء منتصف أكتوبر، من العام 1832، بيتوقف التاريخ عشان يدون لنا الأحداث الرهيبة اللي هزت العالم في تلك الليلة.

ليلة سقوط أنقرة.

بينقض الجيش المصري على أنقرة في مساء منتصف أكتوبر من العام 1832 وبيدحر قوات الجيش العثماني فيها.. ويحتلها.. في مفاجأة مدهشة، أذهلت العالم.. إحتلال "أنقرة" في الوقت دا.. كان كأنك مثلا النهاردة أحتليت نيويورك في أمريكا مثلًا.. أو عسكرت بقواتك على مشارف برلين.

وفي 18 ديسمبر من العام 1832، بيبدو في الأفق غبار خيول الجيش العثماني الهائل، بقيادة "رؤوف باشا" مبعوث الصدر الأعظم " رشيد محمد خوجة باشا "نفسه.. وكان "إبراهيم" اتقدم إلى شمال "قونية".. وهناك، بيعسكر "إبراهيم باشا" وجهًا لوجه أمام "رؤوف".. وبينتظر لحد ما بتضم عليه قوات الصدر الأعظم " رشيد محمد خوجة باشا" بعد يومين.

وفي 21 ديسمبر ، مع تنظيم صفوف جيش العثماني بقيادة "رشيد باشا".. بيهبط فجأة على المنطقة ضباب كثيف، سميك.. لدرجة أن محدش من الجيشين بيبقى شايف التاني.. فبينتهز "رشيد" الفرصة.. وبيأمر بطاريات المدفعية بالتقدم.. وبالحدس وحاسة المكان.. بيطلق قذائفه على معسكر الجيش المصري.

وبتنهال القذائف على موقع الجيش المصري، وبتحيله إلى شعلة من اللهب.. دون أن ينطلق من المعسكر المصري رصاصة واحدة، وبدا لـ"رشيد" أن القائد "إبراهيم"، اتفاجيء بالضربة، وتلقي النيران.. وهلك وسط رجاله.

والحقيقة هو إن "رشيد باشا" كان بيقصف أرض خاوية.. لأن مع هبوط الضباب.. "إبراهيم" فض معسكره.. وحرك الجيش لليسار لمسافة كيلومترين.

وبيبدأ "رشيد" يتقدم.. بينما "إبراهيم" قابع وسط الضباب مع جيشه في صمت.. لحد ما بيمر الجيش العثماني على مسافة 500 متر منهم فحسب.. فبينقض عليهم رجال الجيش المصري من الجانب فجأة وسط الضباب كالأشباح.. ومن مدى قريب للغاية، فقدت معه المدفعية العثمانية فاعليتها، ومع الهجوم المباغت العنيف، بتسقط ميمنة الجيش العثماني وينكشف القلب.. وبعدين بتسقط الميسرة، وبينما كان "إبراهيم باشا" بيطوق الجيش العثماني، كانت المدفعية المصرية بدأت تطلق قذائفها.. وساد ارتباك هائل.. وبدأ الجنود العثمانيين يحاولوا الهرب.. لكن كانوا متطوقين بالفعل.. واللي بيحاول يهرب بيفقد حياته فورًا.. فبيقرر "رشيد باشا" ينطلق بنفسه، ويعيد تنظيم الصفوف.

لكن "رشيد" بيفقد اتجاهه وسط الضباب.. ومبيعرفش هو فين وللا رايح فين.. ولما بيستدير محاولًا العودة.. بيلاقي نفسه فجاة محاط بجنود مصريين.. بيهجموا عليه ويجردوه من سلاحه.. ويقبضوا عليه ويقتادوه أسيرًا إلى "إبراهيم باشا".

بيتأسر الصدر الأعظم، وبيكمل الجيش المصري على العثمانيين، اللي بيحاولوا الفرار شمالًا عبر المستنقعات، لكن سلاح الفرسان طارد معظمهم وقتلهم.. ومنجاش منهم إلا اللي خلع زيه العسكري (الموضوع وراثي الظاهر) وفر عاريًا إلى البلدات القريبة وقبائل البدو، وأخذ منهم ما يستر به جسده.

التاريخ دون لنا المعركة دي باسم "معركة قونية".. وفيها بتخسر الدولة العثمانية معظم جيشها.. وبيأسر "إبراهيم باشا" رئيس الوزراء.. الصدر الأعظم "رشيد باشا".. وبيشحنه إلى القاهرة.

وبيهرع "محمود الثاني" إلى بروسيا والنمسا.. وكانوا بعيد شوية عن المسألة البلجيكية.. لكن الاتنين بيرفضوا معاونته.. وبيقولوا له أنهم مش مستعدين يلتحموا مع الجيش المصري على الإطلاق.. وإن دا قد يسبب لهم خسائر جسيمة.. وربما هزيمة.. تهدد ملكهم وتقوض عروشهم.

وفي الآن نفسه، بيعيد الجنود العثمانيين الباقين تنظيم صفوفهم.. وبيعسكروا في "كوتاهية".. وبيزحف إليهم ويلتقي بيهم "إبراهيم" مرة أخرى وأخيرة، بيقضي عليهم فيها تمامًا.

بعد "كوتاهية" بيدخل الجيش المصري إلى "مجنيسيا" على حدود إزمير.. وهناك بيلتقوا على أبوابها بحاكم إزمير وقواته.. اللي بيضعوا أسلحتهم بلا مواجهة.. وبيركعوا أمام القائد المصري وجنوده.. وبيعلنوا الخضوع للدولة المصرية والولاء لـ"محمد علي".

وبيتسلم "إبراهيم باشا" المدينة وبيعزل حاكمها المهزوم المستسلم.. وبيعين عليها أحد أعيانها، وهو "منصور أفندي زده".

وبيزحف الجيش المصري إلى بورصا ويدخلها.. ويعسكر فيها.. وهناك بيهزم آخر حامية عثمانية موجودة.. مما يعني أن الجيش العثماني قد دُمر بالكامل تقريبًا.. وأصبح الطريق مفتوح إلى عاصمة الخلافة.

وبيتحرك "إبراهيم".. وبيعسكر على بعد 200 كيلومتر، من قصر السلطان العثماني في قلب الآستانة.

المدينة اللي نعرفها اليوم كلنا باسمها الشائع الشهير.

"أسطنبول"...
 
على بعد مائتي كيلومتر فحسب من عرش السلطان العثماني - أقل من المسافة بين الإسكندرية والقاهرة - بيعسكر الجيش المصري بقيادة "إبراهيم باشا".. ويرتب صفوفه وجنوده، استعدادًا لدخول الآستانة.. قلب الدولة العثمانية وعاصمة الخلافة.
وارتجف السلطان العثماني في رعب، وارتعدت فرائصه، وهرع يتسول النجدة من دول أوروبا، لكن كانت مشغولة بالمسألة البلجيكية زي ما قلنا، فلم تنجده إلا روسيا.. ووافق إمبراطورها "ألكسندر الأول".. على حماية الدولة العثمانية من الجيش المصري، لكن بشروط.. بيوافق عليها السلطان العثماني "محمود الثاني" بلا لحظة تردد.. وبيوقعوا بموجب دا معاهدة.. حفظها لنا التاريخ باسم "معاهدة يونكار سكليسي Treaty of Hünkâr İskelesi".
المعاهدة دي بتنص على تبادل المساعدة بين الطرفين.. إذا ما هوجم احداهم من أي طرف آخر.. وبيعفي "ألكسندر"، السلطان العثماني في المعاهدة من إرسال قوات، بما أنهم معندهمش جيش دلوقتي وعايزين اللي ينجدهم أصلًا.. بس بيشترط أن تركيا وقت أي حرب ضد روسيا.. تقفل مضيق الدردنيل أمام أي سفن أخرى بخلاف السفن الروسية.
بيوقعوا المعاهدة، وبعدين "ألكسندر" بيطلب من السلطان العثماني مبلغ هائل من المال، مقابل عتاد وتجهيز القوات اللي حتتحرك دي.. فبيوافق "محمود" على سداد المبلغ بعملة الدولة العثمانية.. لكن الإمبراطور الروسي بيقول له ساخرًا.. إن لو حصان "إبراهيم باشا" ابتعد أكتر من اللازم وهو يرعى وسط العشب، مش حيبقى في دولة عثمانية من أساسه.. وعملاتها مش حتبقى أكثر قيمة من قطع الدومينو الخشبية.. فبيوقع له "محمود الثاني" علي صك بمبلغ فادح بمقاييس ذلك الوقت بالعملة الذهبية.
وبعد ساعات قليلة، بتمخر سفن الأسطول الروسية عباب البحر، وترسو في البسفور، وتعمل إنزال بري ناجح للآلاف من جنود الإمبراطورية الروسية، لتأمين الآستانة وحماية السلطان.
بمجرد ما دول أوروبا شافت الأسطول الروسي في البسفور.. عصف بهم القلق، وخشوا أن روسيا تستغل الموقف، وتبرم اتفاق ما مع "محمد علي" لاحقًا، يتيح لها حرية الحركة في الممرات البحرية هناك.. فأرسلوا قناصلهم فورًا.. يعرضوا على السلطان العثماني الدفاع عنه ضد الجيش المصري.. بشرط أنه يبتعد عن الروس.. وبرضه وافق السلطان العثماني بدون تردد.. والمرة دي، نزل الجيش الإنجليزي في الآستانة إلى جانب الجيش الروسي.. لحماية السلطنة العثمانية.
ومع تدخل أوروبا والإنزال الإنجليزي، بيطلب "محمود الثاني" من روسيا الانسحاب.. لكن "ألكسندر الأول" رفض الانسحاب، ولوّح للسلطان العثماني بالمعاهدة اللي وقعها.. وقال إنه مش حينسحب إلا لو الجيش المصري، إنسحب من الأناضول.
وأرسلتا انجلترا وفرنسا إلى "إبراهيم" باشا تطلبان منه الانسحاب، ولوحت أوروبا بالقتال.. لكن "إبراهيم" رفض، وأبدى استعداده التام لقتال الدول الأربعة.
الدولة العثمانية وإنجلترا وفرنسا وروسيا.
ولما كان "إبراهيم" ليس من نوع الرجال الذين يهوون للمزاح، فقد قام بإثبات موقفه، بتجربة عملية.. ففض معسكره، وتحرك ثلاثين كيلومترًا أخرى، باتجاه الآستانة.
وهنا.. وفي نشاط بالغ، راح قناصل الدول الاوربية، يسعون لتهدئة "محمد علي".. ومحاولة التوصل إلى تسوية بينه وبين السلطان العثماني.. وإقناع "محمد علي باشا" بتسوية الخلاف.. وكان بيننا وبين فرنسا وقتها علاقات دبلوماسية كويسة، فطلبت فرنسا من "محمد علي"، إنه يكتفي بـ" صيدا" و"طرابلس" و"القدس" و"نابلس" وينسحب من باقي الأراضي.. لكن "محمد علي" رفض الاقتراح الفرنسي، فهددته بقطع العلاقات مع مصر، فوافق بدوره على قطع العلاقات، وأمر "إبراهيم باشا" بالتقدم نحو الآستانة.
وفي 24 إبريل، عام 1833، وعلى مسافة 70 كيلومتر فحسب، من قوائم عرش السلطان العثماني، بيتوقف الجيش المصري بقيادة "إبراهيم باشا" للمرة الثانية، ويعسكر لراحة الجياد، قبل قتال عنيف مرتقب.
وهنا، بيدرك الجميع مدى جدية وخطورة الأمر، وبتوافق أوروبا الدولة العثمانية على شروط "محمد علي".. وبيوقع السلطان العثماني مع مصر في 4 مايو سنة 1833 ميلادية، الموافق فيه 14 ذي الحجة سنة 1248 هجرية، اتفاقية مهينة للدولة العثمانية، اسمها "اتفاقية كوتاهية".. وبموجبها، تنازلت الدولة العثمانية عن كامل بلاد الشام، وأقر السلطان العثماني لـ"محمد علي" بولاية مصر وكريت وكامل سوريا الطبيعية بما فيها لبنان وفلسطين وأضنة، وبولاية "إبراهيم باشا" على جدة، وإلغاء فرمان العصيان والتكفير، وإقرار "إبراهيم" على لقبه السابق "أمير جدة".
ورغم إن "محمد علي باشا" كان عايز حكم المناطق دي وراثي له ولأسرته للأبد، لكن مع تنازل الدولة العثمانية، بيتنازل بدوره عن شرط التوريث.. وبيرسل إلى "إبراهيم" آمرًا بالانسحاب، ففض "إبراهيم باشا" معسكره للمرة الأخيرة، وانسحب عن الأناضول.
السلطان العثماني كان بيغلي من الإذلال المروع اللي تعرض له، والموقف العصيب، والاتفاقية المهينة اللي أجبرته مصر على توقيعها.. فبمجرد جلاء "إبراهيم".. بيبدأ في تكوين جيش جديد.. والمرة دي.. بتقف جنبه أوروبا بكل ما أوتت من قوة.. لأنه بات من الواضح إن في قوة عظمى جديدة، بتبرز على الساحة، وأنها قدرت تحقق انتصارات كبيرة، عجزت عنها أوروبا نفسها، رغم كون القوة العظمى دي لازالت وليدة، وكان واضح كذلك، أن "محمد علي" لو حل محل الدولة العثمانية في أوروبا، مش حيكون شخشيخة ولا ضعيف زي آل عثمان.. ودا يتهدد أوروبا بشكل كامل، ويعصف بمصالحها في الشرق.. وخطوط تجارتها بشكل خطر.
وبناء عليه بتدفع أوروبا بخيرة ضباطها وقادتها، لتدريب وتكوين جيش جديد للدولة العثمانية.. والمرة دي، بتخلص القوات الأوروبية "محمود" من الإنكشارية تمامًا.. وتشرع في تدريب جنود جدد.. على قدر عالي من الكفاءة واللياقة، مسلحين بأفضل تسليح ممكن تخيله.. حتى أنها بتمده بقوات من قواتها، تكون تحت إمرته، وتحارب في صفوفه.
وعلى مدار 6 سنوات كاملة.. راحت الدولة العثمانية تكوّن جيش هائل مخيف، بقدرات عسكرية رهيبة، ومناورات تدريبية أوروبية مكثفة.. وأقلق الجيش العثماني الجديد النمسا نفسها، فأرسلت إلى إنجلترا تحذرها من تبعات امتلاك العثمانيين لذلك الجيش، لكن إنجلترا طمأنتها بأن "محمود الثاني" حليف لأوروبا من الآن فصاعدًا.. وقد أدرك أن الخطر يأتيه من مصر.
وفي الوقت نفسه، أرسل السلطان العثماني كتّابه وخطبائه يحرضوا أهل الشام ضد حكم "محمد علي".. ويثيروا الناس ضده، وبتقوم بالفعل ثورة عدة مرات في فلسطين، بيخمدها "إبراهيم باشا"، لحد ما بتحين اللحظة وبتأتي ساعة الحقيقة.
العام 1839.
العام اللي قرر فيه العسكريين الأوروبيين والدولة العثمانية، أن الجيش العثماني أصبح جاهز مستعد للحرب.
وفي أول مارس من العام 1839، بينتهز السلطان العثماني "محمود الثاني"، قيام ثورة جديدة من أهل فلسطين، ضد نظام التجنيد الإجباري المصري، وبيتحرك ما يقارب الربع مليون جندي بكامل عدتهم وعتادهم ومدفعيتهم وفرسانهم، وبنادقهم الأوربية الحديثة المتطورة.. جيش لم تمتلك الدولة العثمانية قط مثله، لدرجة أن بعض المؤرخين قالوا عنه:
"لم تحظ السلطنة العثمانية قط، منذ أن أطلت أوروبا برأسها في الشرق، بجيش أقوى ولا أفضل ولا خير تدريبًا ولا تجهيزًا من ذلك الجيش".
وبيزحف الجيش الرهيب عبر الأناضول، تحت قيادة السرعسكر "حافظ باشا"، بعدما مات "رشيد باشا" في القاهرة في الأسر.. وكان لديه تعليمات محددة صارمة.. استرداد الشام، واقتحام القاهرة والسيطرة على مصر، والتخلص من "محمد علي" وابنه "إبراهيم"، مهما كان الثمن.
وبيبلغ الأمر لـ"إبراهيم باشا" فبيطلب من "محمد علي" الإذن بعبور الحدود، وايقاف الجيش العثماني، لكن "محمد علي" بيطلب منه الإنتظار، عشان ما تبانش مصر بأي شكل كان، بمظهر المعتدي.
وفي "غازي عنتاب" على الحدود السورية، بيعسكر الجيش العثماني، ويرص مدفعيته ويحفر خنادق مضادة للخيول.. وفي العشر الأواخر من يونيو من العام نفسه، بيعلن السلطان العثماني الحرب على الدولة المصرية، وهنا فقط، بيصدر أمر "محمد علي" إلى ابنه "إبراهيم" باشا، بمهاجمة القوات العثمانية.
بيتحرك "إبراهيم" بدوره، ويصل بجنوده إلى خط المواجهة.. بعد رحلة طويلة، تحت أشعة شمس يونيو الحارقة، اللي أرهقت جنوده، بينما كان العثمانيين في "غازي عنتاب" في راحة لمدة تزيد عن الشهر.
وبيحتشد الجمعان، ويقف السرعسكر "حافظ باشا" وجهًا لوجه، على رأس ربع مليون جندي، بينهم أربعين ألف عثماني، والباقين من أصقاع أوروبا.. ضد 40 ألف جندي مصري، تحت قيادة واحد من أبرع القادة العسكريين الذين عرفهم العالم عبر تاريخه، منذ القرن التاسع عشر.
وفي ليلة 21 يونيو، من العام 1839، بتبدأ المعركة.. وكان تاريخنا مع العثمانيين، باستثناء معركة الريدانية اللي انتصروا فيها بالخيانة، كاستثناء وحيد يؤكد القاعدة، هو إنهم يهاجموا مصر، وينهزموا وينسحبوا.. ونتقدم وينهزموا وينسحبوا، لكن المرة دي، الوضع بيختلف تمامًا.. مكانش الانسحاب في حسبان القوات العثمانية، مع تدريبها الفذ وعتادها المخيف.. ونافست قذائف المدفعية العثمانية المتطورة المتوهجة، ضوء القمر الفضي الشاحب.. وهوت قذائف المدفعية العثمانية الثقيلة، على ألوية الفرسان المصرية، وقتلت كثيرًا من الجنود.. وأصيب "إبراهيم باشا" نفسه، بعشرات الشظايا، وسال الدم من جبهته ليحيل لحيته الشائبة إلى اللون الأحمر، وسقط من فوق فرسه.. فأمر "سليمان باشا الفرنساوي" فرقته بتغطيته، وتقدم في جسارة، وترجل عن حصانه، وأنقذ "إبراهيم"، ثم اصدر الأمر بالانسحاب.
وانسحب الجيش المصري لأول مرة في التاريخ، في مواجهة مع العثمانيين، إلى حافة مدينة نزيب.
بيأمر السرعسكر "حافظ باشا" بمطاردة "إبراهيم".. لكن القادة الألمان اللي برفقته بيحذروه من مغبة دا، لأنهم درسوا تاريخ "إبراهيم" كويس، وكان إبراهيم كتير جدًأ بيمثل الانسحاب عشان يستدرج خصمه إلى كمين.. وبيقتنع "حافظ باشا".. ويهدأ إلى صباح اليوم التالي.. وبعدين بيتقدم الجيش العثماني ببطء وحذر بالغ، على مدار ثلاثة ليال.. بيتيقنوا فيها أن مفيش اية أكمنة من أي نوع.. وبيستعدوا في ليلة 23.. للمعركة الأخيرة.
وفي صباح 24 يونيو، من العام نفسه، بيقف الجيشين مرة ثانية وجهًا لوجه.. وبتتحرك قوائم جواد "إبراهيم باشا" الجريح، رافعًا سيفه، معطيًا إشارة الهجوم.. وبتنطلق من خلفه الفرسان المصرية، عشان تلتقي العقيدة العسكرية الوطنية، بالتقنيات والعتاد الأوربي الحديث، ويصطدم التحضر بالهمجية، والرقي بالتخلف، والفروسية بالحقارة، والنبل بالوضاعة، والنور بالظلام.. وبتحتبس أنفاس التاريخ، وهو يرقب حوافر الخيول المصرية، تضرب الأرض وتقدح بحدواتها الشرر، في مدينة "نزيب" التركية، بمحافظة عنتاب.
وبيلتحم الجيشان في معركة هائلة مروعة، وتسيل الدماء على الرمال، والمرة دي أيضًا ما بينسحبش الجيش العثماني.
دا بينسحق سحقًا على يد "إبراهيم باشا"، وبيمنى بهزيمة فادحة مروعة، وكارثة حقيقية، إذ كاد الجيش المصري أنه يبيد الجيش العثماني عن بكرة أبيه حتى آخر جندي، وبيفضل 20 الف جندي عثماني فقط، على قيد الحياة، وبياسر "إبراهيم" 12 الف ضابط وجندي.. مع سلاح وعتاد عثماني هائل.. لم يغنم مثله من قبل.
وبيسقط الجيش العثماني، وينهار تمامًا.. وبتصبح الدولة العثمانية فعليًا بلا أية قوات، أو جيوش تحميها.. وللمرة الثانية، في أقل من ست سنوات، بينفتح الطريق أمام الجيش المصري إلى قلب الخلافة وعاصمة السلطنة.. إلى الآستانة.
وكان السلطان العثماني "محمود الثاني" في الآستانة؛ بيذرع مجلسه جيئة وذهابًا طيلة الوقت منذ رحيل الجيش.. وكان قد أمر بإبلاغه بنتائج المعركة وتطوراتها طيلة الوقت، من ساعة إلى ساعة.. وكان خلال ذلك الوقت قد أشعل ودخن غليونه مئات المرات.. فمع التدخين المتسلسل، والقلق والتوتر والضغط العصبي، مناعته تدهورت، وأصيب بالتهاب رئوي حاد.. فلما بيبلغه خبر إبادة كامل جيشه.. بيحتقن وجهه.. وتتلاحق أنفاسه، ويعجز عن التقاطها، وبيخر أمام عرشه جثة هامدة، خالية من الروح.
وبينطلق الأسطول العثماني، يمزق صفحة البحر المتوسط الهادئة، إلى مدينة الإسكندرية المصرية، فتنصب له قلعة الأشرف "قايتباي" مدفعيتها وبتتحرك له سفن الأسطول المصرية.. لكن قائد الأسطول العثماني بيرفع الراية البيضاء وبيرسل مبعوث في قارب.. يطلب لقاء "محمد علي باشا".. ولما بتصطحبه قوات البحرية المصرية إلى "محمد علي".. بينحني أمامه، ويقدم له الولاء باعتباره السلطان الجديد.. وبيضع أسطول الدولة العثمانية تحت إمرته.
 
المؤرخ التركي "قادر مصر أوغلي" من أشد المناصرين للدولة العثمانية والمغرمين بها.. وبيبرر كل أخطائها وجرائمها.. رغم ذلك ماقدرش إلا إنه يكتب في كتابه "قصة أولاد عثمان":
"لم يكن جندنا ببسالة جند إبراهيم، ولا السرعسكر حسين باشا بحنكة وذكاء إبراهيم، الذي تقدم على رأس شجعانه من أهل مصر، والحق به هزيمة مؤلمة لم ير مثلها من قبل".
 
نفس الملاحظات كل مره
العامية
عدم وجود مصادر مباشرة بروابط
النشر في القسم الأخباري وهو غير ذلك
 
عودة
أعلى