مجموعة من الفلاحين المصريين، حوالي 6000 فرد.. مع إقرار التجنيد الإجباري.. قرروا أنهم يهربوا من الجندية، ومايسلموش نفسهم للجيش.. فـ"إبراهيم باشا" حاول معاهم باللين تارة، فقرر إن الفلاحين اللي مش عايزة أو مش قادرة أو خايفة تقاتل.. حيستعين بيها في زراعة المحاصيل اللازمة للجيش ومؤنه.. فرفضوا برضه.. فحاول بالشدة تارة أخرى.. وهددهم بالحبس.. فمرضوش يسلموا نفسهم إلى أقرب وحدة عسكرية، فأمر بإحضارهم بالقوة.
لما عرف الفلاحين دول بقرار "إبراهيم" باشا.. هربوا من مصر كلها.. وتوجهوا للشام.. وهناك بيتوجهوا إلى دمشق وبيرحب بهم واليها.. وبيرسل معظمهم إلى عكا.. للعمل في وظائف وضيعة بلا أجر، لقاء إقامتهم وطعامهم وحمايتهم من "إبراهيم" اللي عايز يضمهم للجيش.
التاريخ حفظ لنا القصة دي باسم "مسألة الفلاحين".. وبسببها.. بتسنح لـ"محمد علي" الفرصة الذهبية.. فبيراسل والي دمشق يطلب منه في لطف مفاجيء.. إنه يرجع الفلاحين الفارين من التجنيد.. وإلا "حدث ما لا تحمد عقباه".. رسالة تحمل في طياتها اللطف لكنها مستفزة.. دفعت والي الشام العثماني إلى إنه يرفض قطعًا طلب "محمد علي"...
وعلى إثر ذلك، بيصدر "محمد علي" أوامره لابنه على الفور، وفي فجر يوم 14 أكتوبر سنة 1831 ميلادية، الموافق 7 جمادى الأولى سنة 1247 هـجرية، بيتحرك الجيش المصري تحت قيادة "إبراهيم باشا" متجاوزًا الحدود المصرية؛ في حملة مكتملة القوى والأركان.. بلا أي نية في التراجع.. بدون إذن الدولة العثمانية ولا علمها.. لأول مرة منذ استشهاد البطل السلطان الأشرف "طومان باي".. منذ 314 سنة.. صوب فلسطين...
وكان زحف الجيش المصري على فلسطين أقرب للنزهة.. لأن البلدات مكانش فيها حاميات عسكرية عثمانية كافية.. وكانت الدولة العثمانية بتعتمد في حراسة فلسطين على لبنان و"عكا".. عكا القوية ذات الاسوار الحصينة الرهيبة والأبراج العالية، والمدفعية بعيدة المدى، عكا اللي تحدت القائد الفرنسي القوي "نابوليون بونابرت" نفسه، وفشل في اقتحامها، وردته بخفي حنين يجر أذيال الخيبة، منذ 33 عامًا.
لما بيوصل "إبراهيم باشا" لأسوار عكا.. حاكمها بيبعت له رسالة جادة.. لكنها تحمل الكثير من التهكم.. بيقول له فيها إن عكا عصية على الاختراق.. مش حيعرف يدخلها أبدًا.. وحقنًا للدماء؛ فالست آلاف فلاح الجبناء اللي هربوا من التجنيد رعايا السلطان العثماني.. ووجودهم في عكا كوجودهم في القاهرة.. فلو يحب.. ممكن ياخدهم ويرحل إلى القاهرة.
بس الرصاصة كانت انطلقت خلاص والعجلة دارت ومفيش رجوع للخلف.. فـ"إبراهيم باشا" بيرد عليه: "جئت لأصطحب الستة آلاف إلى القاهرة وفوقهم واحد".
وكان يقصد بالواحد الزيادة اللي حايتشحن على القاهرة دا.. "عبد الله باشا" نفسه.. والي عكا.
من مميزات "محمد علي باشا" إنه كان مغرم بالتاريخ.. وبيتعلم من أخطاء من سبقوه طيلة الوقت.. وكان عارف تحديدًا ليه "بونابرت" فشل في فتح عكا.. فبيصدر أوامره، وبتتحرك بالتوازي مع زحف "إبراهيم" قطع من الأسطول المصري، من فرقاطات وسفن وزوارق هجومية، وناقلات جنود.. وبتحاصر عكا من البحر، عشان ميجيلهاش أي مدد بحري من الدولة العثمانية.. بينما بيفرض عليها "إبراهيم" في الآن نفسه، حصار بري محكم.. جعل من المستحيل أن تدخلها أو تخرج منها ذبابة، دون ان يرصدها الجيش المصري.
وفي الآستانة اشتعل الموقف بغتة، وسادت الفوضى بلاط السلطان العثماني "محمود الثاني"، مع الإضطراب البالغ اللي أصاب الدولة العثمانية من زحف "إبراهيم" نحو الشام.. فبيصدر "محمود" أوامره، وبيحرك فورًا وحدات من الجيش العثماني، عشان تضم على العثماني "عثمان باشا" والي حلب.. وبالفعل بتنضم قوات الجيش العثماني على حامية حلب.. فبيترك "إبراهيم" بعض وحدات الجيش المصري، تواصل حصار عكا.. وبيتوجه للقاء "عثمان باشا".. وبالفعل بيلتقي الجيش المصري بقيادة "إبراهيم".. بالجيش العثماني تحت قيادة "عثمان باشا" في حتة اسمها "الزرّاعة" جنوب حمص.. وهناك بيتهزم الجيش العثماني أمام الجيش المصري.. ويتراجع.. ولكن "إبراهيم" مبيطاردوش.. بينسحب بدوره.. عشان يرجع إلى عكا ويواصل حصارها.
وكان "محمد علي" دخل للجيش المصري، سلاح جديد.. لأول مرة يكون في زيه في الجيش المصري.. الجد الأول في العصر الحديث للـ"كلية الفنية العسكرية" اللي نعرفها النهاردة.. سلاح المهندسين.. ومهندسين الجيش دول بيستعين بيهم "إبراهيم".. فبيدرسوا اسوار عكا بدقة واهتمام. وبعدين بيعلنوا لـ"إبراهيم باشا".. إن ثمة جزء من السور الشرقي أضعف من بقية أسوار الحصن.. ولو الجزء دا سقط.. حتبدأ الأحجار تتفكك وتريّح.. وبمتوالية هندسية بسيطة.. حيضعف الجزء البحري من الحصن كذلك.
وكان سلاح المهندسين على حق، لأن "إبراهيم" بمجرد ما بيركز نيران مدفعيته على الجزء دا بالذات من الأسوار.. بتتفتح فيه ثغرة، للمرة الأولى في تاريخ أسوار عكا المنيعة.. فبيأمر "إبراهيم" الأسطول بأنه يقصف الحصن من البحر كذلك.. وبينما كان "عبد الله باشا" والي عكا بيحاول يتصدى لنيران الأسطول المصري، بيقتحم "إبراهيم باشا" عكا من الجانب الشرقي برًا.. وبيهزم حاميتها هزيمة نكراء.. وبيبر بوعده.. ويقبض على الفلاحين الهاربين.. ويأسر معاهم والي عكا نفسه، "عبد الله باشا".. ويشحنه إلى القاهرة.. بعدما دانت له المدينة بالقوة.
ماوقفش "إبراهيم" عند فتح عكا.. زحف إلى لبنان.. وهناك دخلها زي ما حضرتك بتدخل بيتكم بالضبط وقعد استريح مع جنوده وشحنوا طاقتهم واستردوا قواهم.. السر في دخول لبنان بالبساطة دي دون قتال.. إن اللبنانيين كانوا حلفاء للمصريين.. و"بشير الشهابي" الكبير.. أمير لبنان كان صديق شخصي لـ"محمد علي باشا".. وكانوا في انتظار الجيش المصري واستقباله.. والأسوأ بالنسبة للدولة العثمانية.. أن اللبنانيين بينضموا للمصريين.. تحت قيادة "إبراهيم باشا" والأمير "بشير" وبيتحركوا سوا صوب دمشق لقتال الدولة العثمانية.
بيصاب "محمود الثاني" بالهلع مع سقوط "عكا" وخروج لبنان عن طوعه بالشكل الصريح دا.. فبيصدر فرمان باعتبار "محمد علي" و"ابراهيم باشا" خونة.. خارجين على الدولة.. فلما المنشور دا مابيعملش حاجة، بيتبعه بفرمان تكميلي أنهما كافرين.. خرجا على خليفة المسلمين.. وأن دمهم حلال وقتالهم جهاد في سبيل الله.. وبيصدر أوامره على الفور، فبيتحرك جيش هائل من تركيا.. تحت بقيادة "السرعسكر حسين باشا"، مدعوم بوحدات الفرسان وبطاريات المدفعية، وكتائب القناصة، ببنادق القنص الإنجليزية المتطورة.. وقوات تبلغ 4 أضعاف القوات المصرية.. مع عتاد وذخيرة هائلين.. يكفوهم لشهور متواصلة من القتال.
وكانت أوامر "محمود الثاني" للسرعسكر "حسين باشا" قاطعة.. هزيمة الجيش المصري، وأسر "إبراهيم باشا".. وبعدين الزحف إلى القاهرة.. وهزيمة حاميتها.. وأسر "محمد علي باشا" نفسه.. وإرساله حيًا للآستانة.. كي يتم إعدامه علنا على رؤوس الأشهاد.. عشان يشوفوا جزاء من يحارب العثمانيين.
وبيوصل الجيش العثماني ويعسكر في حمص، وبيقترب منه الجيش المصري.. ويتوقف ويعسكر بدوره.. وبيرسل "إبراهيم باشا" إلى "السرعسكر حسين باشا" يطلب منه التراجع والانسحاب، حقنًا للدماء.. فـ"حسين باشا" بيرد عليه ساخرًا:
"إن جوادي لم يشرب الماء منذ زمن.. ولا أستطيع إرغامه على شرب الماء.. فقد صمم على أن يرتوي من ماء النيل".
بيبلغ الرسول رسالة "السرعسكر حسين باشا" إلى "إبراهيم باشا".. فمبيردش أصلًا على "السرعسكر حسين".. تقريبًا استخسر يبعت له مبعوث خاص لمجرد أنه يقول له "معلش".. ففض معسكره.. وفض الأتراك معسكرهم بدورهم.. و في 29 يونيو سنة 1832 ميلادية، الموافق 10 صفر سنة 1248 هـجرية، بيصطدم الجيشان في معركة حمص.. وبيكتشف "السرعسكر حسين باشا" إنه لا هو ولا جواده حيشربوا من النيل، وأنه مفيش مكان متاح للشرب حاليًا إلا البكابورت.. وبينهزم على يد "إبراهيم باشا" هزيمة ساحقة، وبينسحب إلى الشمال الشرقي.. إلى بيلين.
و"ممر بيلين Belen Pass" دا مضيق بيصل بين سهل أنطاكية وخليج اسكندرونة على حدود "جبال طوروس Taurus Mountains".
باختصار.. دا الحد الفاصل بين بلاد الشام وحدود تركيا نفسها.
وللمرة الأولى بتفغر دول أوروبا أفواهها في دهشة، وبتتابع الموقف عن كثب في اهتمام بالغ.. على الرغم من أنهم التقوا بـ"محمد علي" و"إبراهيم" في حرب اليونان من قبل، لكن لحد اللحظة دي، كانوا متصورين أن اللي بيعمله "محمد علي"، لا يعدو كونه مجرد تمرد محدود، لن يلبث أن تقمعه الدولة العثمانية بجيشها القوي.. وأسلحتها الحديثة المتطورة.. ولم يمنعها من التدخل في الأمر لمساندة الدولة العثمانية، إلا قضية كبرى في أوروبا وقتها، كانت بتشغلها في شدة، وبتنذر بحرب أوروبية.
القصة دي حنحكيها في سياق الاحداث.. التاريخ حفظها لنا باسم "المسألة البلجيكية".
المهم أنه كان فاضل مع "حسين باشا" 45000 ألف جندي عثماني.. من المقاتلين من جميع الوحدات والأسلحة.. مع 160 مدفع.. رصها في مواقع مرتفعة من جبال "بيلين".. وبذلك، أصبح في موضع مرتفع منيع.. يقدر يقصف منه القوات المصرية لدى عبورها ممرات بيلين، وإبادتها عن بكرة أبيها. الخطة دي كانت خطة بديلة، وضعها السرعسكر "حسين باشا" في حالة احتمال بالغ الضآلة في اعتقادهم، أنهم ينهزموا، فكر فيه مع مستشاره العسكري "ثيفينين Thevenin".. وميعرفهاش غيرهم هم الاتنين فقط.
وفي هذه الأثناء كان "إبراهيم باشا" حط إيده على حماة وحلب، ودخل دمشق في سهولة ويسر، وبيكتشف العثمانيين أن الجنود السوريين في دمشق.. متراخين متخاذلين في قتال "إبراهيم" ورجاله.. السر في دا أنهم كانوا بيعتبروا المصريين ذوي قربى، وكمان كانوا قرفانين من الحكم العثماني القاسي.. وبينشدوا الخلاص على يد "محمد علي".
المؤرخ التركي "قادر مصر أوغلي" من أشد المناصرين للدولة العثمانية والمغرمين بها.. وبيبرر كل أخطائها وجرائمها.. رغم ذلك ماقدرش إلا إنه يكتب في كتابه "قصة أولاد عثمان":
"لم يكن جندنا ببسالة جند إبراهيم، ولا السرعسكر حسين باشا بحنكة وذكاء إبراهيم، الذي تقدم على رأس شجعانه من أهل مصر، والحق به هزيمة مؤلمة لم ير مثلها من قبل".
وأثناء ما "إبراهيم" معسكر مع الجيش في دمشق، بيوصله من السلطان العثماني مبعوث خاص، برسالة بالغة الأهمية والخطورة.
وكان مضمون الرسالة إن "محمود الثاني" بيدعوه للتوبة والتراجع.. والخروج عن طاعة أبيه والدخول في طاعة السلطان العثماني.. والانسحاب إلى القاهرة بدون قيد أو شرط، لأنه أعتبرهما كافرين، خارجين عن الدين، ومارقين على السلطة الشرعية للسطان العثماني.. فبيلتقط "إبراهيم" ريشته ومحبرته، وبيرد على ظهر الرسالة نفسها، برسالة مخيفة من سطر واحد:
"إنني قادم مع رجالي الشجعان لأرد عليك في الآستانة"... وأردفها بأن مس سطح قبضته بخاتمه في الحبر.. وختم الرسالة بخاتمه الخاص، وارسلها مع نفس المبعوث إلى راسلها.
وفي صباح 29 يوليو الحار، سنة 1832، بيتوجه الجيش المصري بقيادة "إبراهيم باشا" إلى "بيلين".. حيث الفخ المحكم القاتل، اللي أعده "السرعسكر حسين باشا".
لما عرف الفلاحين دول بقرار "إبراهيم" باشا.. هربوا من مصر كلها.. وتوجهوا للشام.. وهناك بيتوجهوا إلى دمشق وبيرحب بهم واليها.. وبيرسل معظمهم إلى عكا.. للعمل في وظائف وضيعة بلا أجر، لقاء إقامتهم وطعامهم وحمايتهم من "إبراهيم" اللي عايز يضمهم للجيش.
التاريخ حفظ لنا القصة دي باسم "مسألة الفلاحين".. وبسببها.. بتسنح لـ"محمد علي" الفرصة الذهبية.. فبيراسل والي دمشق يطلب منه في لطف مفاجيء.. إنه يرجع الفلاحين الفارين من التجنيد.. وإلا "حدث ما لا تحمد عقباه".. رسالة تحمل في طياتها اللطف لكنها مستفزة.. دفعت والي الشام العثماني إلى إنه يرفض قطعًا طلب "محمد علي"...
وعلى إثر ذلك، بيصدر "محمد علي" أوامره لابنه على الفور، وفي فجر يوم 14 أكتوبر سنة 1831 ميلادية، الموافق 7 جمادى الأولى سنة 1247 هـجرية، بيتحرك الجيش المصري تحت قيادة "إبراهيم باشا" متجاوزًا الحدود المصرية؛ في حملة مكتملة القوى والأركان.. بلا أي نية في التراجع.. بدون إذن الدولة العثمانية ولا علمها.. لأول مرة منذ استشهاد البطل السلطان الأشرف "طومان باي".. منذ 314 سنة.. صوب فلسطين...
وكان زحف الجيش المصري على فلسطين أقرب للنزهة.. لأن البلدات مكانش فيها حاميات عسكرية عثمانية كافية.. وكانت الدولة العثمانية بتعتمد في حراسة فلسطين على لبنان و"عكا".. عكا القوية ذات الاسوار الحصينة الرهيبة والأبراج العالية، والمدفعية بعيدة المدى، عكا اللي تحدت القائد الفرنسي القوي "نابوليون بونابرت" نفسه، وفشل في اقتحامها، وردته بخفي حنين يجر أذيال الخيبة، منذ 33 عامًا.
لما بيوصل "إبراهيم باشا" لأسوار عكا.. حاكمها بيبعت له رسالة جادة.. لكنها تحمل الكثير من التهكم.. بيقول له فيها إن عكا عصية على الاختراق.. مش حيعرف يدخلها أبدًا.. وحقنًا للدماء؛ فالست آلاف فلاح الجبناء اللي هربوا من التجنيد رعايا السلطان العثماني.. ووجودهم في عكا كوجودهم في القاهرة.. فلو يحب.. ممكن ياخدهم ويرحل إلى القاهرة.
بس الرصاصة كانت انطلقت خلاص والعجلة دارت ومفيش رجوع للخلف.. فـ"إبراهيم باشا" بيرد عليه: "جئت لأصطحب الستة آلاف إلى القاهرة وفوقهم واحد".
وكان يقصد بالواحد الزيادة اللي حايتشحن على القاهرة دا.. "عبد الله باشا" نفسه.. والي عكا.
من مميزات "محمد علي باشا" إنه كان مغرم بالتاريخ.. وبيتعلم من أخطاء من سبقوه طيلة الوقت.. وكان عارف تحديدًا ليه "بونابرت" فشل في فتح عكا.. فبيصدر أوامره، وبتتحرك بالتوازي مع زحف "إبراهيم" قطع من الأسطول المصري، من فرقاطات وسفن وزوارق هجومية، وناقلات جنود.. وبتحاصر عكا من البحر، عشان ميجيلهاش أي مدد بحري من الدولة العثمانية.. بينما بيفرض عليها "إبراهيم" في الآن نفسه، حصار بري محكم.. جعل من المستحيل أن تدخلها أو تخرج منها ذبابة، دون ان يرصدها الجيش المصري.
وفي الآستانة اشتعل الموقف بغتة، وسادت الفوضى بلاط السلطان العثماني "محمود الثاني"، مع الإضطراب البالغ اللي أصاب الدولة العثمانية من زحف "إبراهيم" نحو الشام.. فبيصدر "محمود" أوامره، وبيحرك فورًا وحدات من الجيش العثماني، عشان تضم على العثماني "عثمان باشا" والي حلب.. وبالفعل بتنضم قوات الجيش العثماني على حامية حلب.. فبيترك "إبراهيم" بعض وحدات الجيش المصري، تواصل حصار عكا.. وبيتوجه للقاء "عثمان باشا".. وبالفعل بيلتقي الجيش المصري بقيادة "إبراهيم".. بالجيش العثماني تحت قيادة "عثمان باشا" في حتة اسمها "الزرّاعة" جنوب حمص.. وهناك بيتهزم الجيش العثماني أمام الجيش المصري.. ويتراجع.. ولكن "إبراهيم" مبيطاردوش.. بينسحب بدوره.. عشان يرجع إلى عكا ويواصل حصارها.
وكان "محمد علي" دخل للجيش المصري، سلاح جديد.. لأول مرة يكون في زيه في الجيش المصري.. الجد الأول في العصر الحديث للـ"كلية الفنية العسكرية" اللي نعرفها النهاردة.. سلاح المهندسين.. ومهندسين الجيش دول بيستعين بيهم "إبراهيم".. فبيدرسوا اسوار عكا بدقة واهتمام. وبعدين بيعلنوا لـ"إبراهيم باشا".. إن ثمة جزء من السور الشرقي أضعف من بقية أسوار الحصن.. ولو الجزء دا سقط.. حتبدأ الأحجار تتفكك وتريّح.. وبمتوالية هندسية بسيطة.. حيضعف الجزء البحري من الحصن كذلك.
وكان سلاح المهندسين على حق، لأن "إبراهيم" بمجرد ما بيركز نيران مدفعيته على الجزء دا بالذات من الأسوار.. بتتفتح فيه ثغرة، للمرة الأولى في تاريخ أسوار عكا المنيعة.. فبيأمر "إبراهيم" الأسطول بأنه يقصف الحصن من البحر كذلك.. وبينما كان "عبد الله باشا" والي عكا بيحاول يتصدى لنيران الأسطول المصري، بيقتحم "إبراهيم باشا" عكا من الجانب الشرقي برًا.. وبيهزم حاميتها هزيمة نكراء.. وبيبر بوعده.. ويقبض على الفلاحين الهاربين.. ويأسر معاهم والي عكا نفسه، "عبد الله باشا".. ويشحنه إلى القاهرة.. بعدما دانت له المدينة بالقوة.
ماوقفش "إبراهيم" عند فتح عكا.. زحف إلى لبنان.. وهناك دخلها زي ما حضرتك بتدخل بيتكم بالضبط وقعد استريح مع جنوده وشحنوا طاقتهم واستردوا قواهم.. السر في دخول لبنان بالبساطة دي دون قتال.. إن اللبنانيين كانوا حلفاء للمصريين.. و"بشير الشهابي" الكبير.. أمير لبنان كان صديق شخصي لـ"محمد علي باشا".. وكانوا في انتظار الجيش المصري واستقباله.. والأسوأ بالنسبة للدولة العثمانية.. أن اللبنانيين بينضموا للمصريين.. تحت قيادة "إبراهيم باشا" والأمير "بشير" وبيتحركوا سوا صوب دمشق لقتال الدولة العثمانية.
بيصاب "محمود الثاني" بالهلع مع سقوط "عكا" وخروج لبنان عن طوعه بالشكل الصريح دا.. فبيصدر فرمان باعتبار "محمد علي" و"ابراهيم باشا" خونة.. خارجين على الدولة.. فلما المنشور دا مابيعملش حاجة، بيتبعه بفرمان تكميلي أنهما كافرين.. خرجا على خليفة المسلمين.. وأن دمهم حلال وقتالهم جهاد في سبيل الله.. وبيصدر أوامره على الفور، فبيتحرك جيش هائل من تركيا.. تحت بقيادة "السرعسكر حسين باشا"، مدعوم بوحدات الفرسان وبطاريات المدفعية، وكتائب القناصة، ببنادق القنص الإنجليزية المتطورة.. وقوات تبلغ 4 أضعاف القوات المصرية.. مع عتاد وذخيرة هائلين.. يكفوهم لشهور متواصلة من القتال.
وكانت أوامر "محمود الثاني" للسرعسكر "حسين باشا" قاطعة.. هزيمة الجيش المصري، وأسر "إبراهيم باشا".. وبعدين الزحف إلى القاهرة.. وهزيمة حاميتها.. وأسر "محمد علي باشا" نفسه.. وإرساله حيًا للآستانة.. كي يتم إعدامه علنا على رؤوس الأشهاد.. عشان يشوفوا جزاء من يحارب العثمانيين.
وبيوصل الجيش العثماني ويعسكر في حمص، وبيقترب منه الجيش المصري.. ويتوقف ويعسكر بدوره.. وبيرسل "إبراهيم باشا" إلى "السرعسكر حسين باشا" يطلب منه التراجع والانسحاب، حقنًا للدماء.. فـ"حسين باشا" بيرد عليه ساخرًا:
"إن جوادي لم يشرب الماء منذ زمن.. ولا أستطيع إرغامه على شرب الماء.. فقد صمم على أن يرتوي من ماء النيل".
بيبلغ الرسول رسالة "السرعسكر حسين باشا" إلى "إبراهيم باشا".. فمبيردش أصلًا على "السرعسكر حسين".. تقريبًا استخسر يبعت له مبعوث خاص لمجرد أنه يقول له "معلش".. ففض معسكره.. وفض الأتراك معسكرهم بدورهم.. و في 29 يونيو سنة 1832 ميلادية، الموافق 10 صفر سنة 1248 هـجرية، بيصطدم الجيشان في معركة حمص.. وبيكتشف "السرعسكر حسين باشا" إنه لا هو ولا جواده حيشربوا من النيل، وأنه مفيش مكان متاح للشرب حاليًا إلا البكابورت.. وبينهزم على يد "إبراهيم باشا" هزيمة ساحقة، وبينسحب إلى الشمال الشرقي.. إلى بيلين.
و"ممر بيلين Belen Pass" دا مضيق بيصل بين سهل أنطاكية وخليج اسكندرونة على حدود "جبال طوروس Taurus Mountains".
باختصار.. دا الحد الفاصل بين بلاد الشام وحدود تركيا نفسها.
وللمرة الأولى بتفغر دول أوروبا أفواهها في دهشة، وبتتابع الموقف عن كثب في اهتمام بالغ.. على الرغم من أنهم التقوا بـ"محمد علي" و"إبراهيم" في حرب اليونان من قبل، لكن لحد اللحظة دي، كانوا متصورين أن اللي بيعمله "محمد علي"، لا يعدو كونه مجرد تمرد محدود، لن يلبث أن تقمعه الدولة العثمانية بجيشها القوي.. وأسلحتها الحديثة المتطورة.. ولم يمنعها من التدخل في الأمر لمساندة الدولة العثمانية، إلا قضية كبرى في أوروبا وقتها، كانت بتشغلها في شدة، وبتنذر بحرب أوروبية.
القصة دي حنحكيها في سياق الاحداث.. التاريخ حفظها لنا باسم "المسألة البلجيكية".
المهم أنه كان فاضل مع "حسين باشا" 45000 ألف جندي عثماني.. من المقاتلين من جميع الوحدات والأسلحة.. مع 160 مدفع.. رصها في مواقع مرتفعة من جبال "بيلين".. وبذلك، أصبح في موضع مرتفع منيع.. يقدر يقصف منه القوات المصرية لدى عبورها ممرات بيلين، وإبادتها عن بكرة أبيها. الخطة دي كانت خطة بديلة، وضعها السرعسكر "حسين باشا" في حالة احتمال بالغ الضآلة في اعتقادهم، أنهم ينهزموا، فكر فيه مع مستشاره العسكري "ثيفينين Thevenin".. وميعرفهاش غيرهم هم الاتنين فقط.
وفي هذه الأثناء كان "إبراهيم باشا" حط إيده على حماة وحلب، ودخل دمشق في سهولة ويسر، وبيكتشف العثمانيين أن الجنود السوريين في دمشق.. متراخين متخاذلين في قتال "إبراهيم" ورجاله.. السر في دا أنهم كانوا بيعتبروا المصريين ذوي قربى، وكمان كانوا قرفانين من الحكم العثماني القاسي.. وبينشدوا الخلاص على يد "محمد علي".
المؤرخ التركي "قادر مصر أوغلي" من أشد المناصرين للدولة العثمانية والمغرمين بها.. وبيبرر كل أخطائها وجرائمها.. رغم ذلك ماقدرش إلا إنه يكتب في كتابه "قصة أولاد عثمان":
"لم يكن جندنا ببسالة جند إبراهيم، ولا السرعسكر حسين باشا بحنكة وذكاء إبراهيم، الذي تقدم على رأس شجعانه من أهل مصر، والحق به هزيمة مؤلمة لم ير مثلها من قبل".
وأثناء ما "إبراهيم" معسكر مع الجيش في دمشق، بيوصله من السلطان العثماني مبعوث خاص، برسالة بالغة الأهمية والخطورة.
وكان مضمون الرسالة إن "محمود الثاني" بيدعوه للتوبة والتراجع.. والخروج عن طاعة أبيه والدخول في طاعة السلطان العثماني.. والانسحاب إلى القاهرة بدون قيد أو شرط، لأنه أعتبرهما كافرين، خارجين عن الدين، ومارقين على السلطة الشرعية للسطان العثماني.. فبيلتقط "إبراهيم" ريشته ومحبرته، وبيرد على ظهر الرسالة نفسها، برسالة مخيفة من سطر واحد:
"إنني قادم مع رجالي الشجعان لأرد عليك في الآستانة"... وأردفها بأن مس سطح قبضته بخاتمه في الحبر.. وختم الرسالة بخاتمه الخاص، وارسلها مع نفس المبعوث إلى راسلها.
وفي صباح 29 يوليو الحار، سنة 1832، بيتوجه الجيش المصري بقيادة "إبراهيم باشا" إلى "بيلين".. حيث الفخ المحكم القاتل، اللي أعده "السرعسكر حسين باشا".