في 10 أغسطس (آب) قرر الحسين إعادة زيد إلى القوات المسلحة، بموقع مساعد رئيس هيئة الأركان مدير العمليات. عندما عاد زيد إلى الجيش، تفاجأ بأنه لا توجد أي خطة مدروسة للدفاع عن عمان، كما ذكر لي حينها؛ فقام على الفور بإعدادها. لكن جزءاً كبيراً من جهوده خلاله تلك الفترة كانت بمرافقة الحسين لتهدئة الفرق والجنود والضباط الغاضبين، فكانا يقومان مع قادة الفرق، بزيارات دورية للوحدات المختلفة، من أجل التهدئة وامتصاص الغضب، ومحاولة منع الانفلات داخل القوات المسلحة ومع تكرر الاستفزازات خلال تلك الفترة، انفتحت شهية المنظمات للسيطرة على السلطة، ولم يستقبلوا ما قام به الحسين من خطوات لتجنب إراقة الدماء والمواجهات المسلحة إلا في الاتجاه الخاطئ.
ويكفي القول إن عدد حوادث الاعتداء على العسكريين والأمن ومؤسسات الدولة والاستعراض العسكري في الشوارع، بلغ وفق إحصاءات رسمية، في الفترة بين 26 أغسطس إلى 8 سبتمبر (أيلول) (أي في أقل من أسبوعين)، 547 حادثاً
أحداث وتطورات
اندلعت الاشتباكات في أحياء عمان يومي 1 و2 سبتمبر، في الوقت الذي كانت تجري اللجنة المشتركة الأردنية - الفلسطينية اجتماعات لاحتواء النزاع. وفي الأثناء، وجه الحسين خطاباً شديد اللهجة عبر إذاعة عمان، مؤكداً فيه أنه لن يقبل المس بسيادة الأردن، ولن يتحمل بعد اليوم الشتائم والافتراءات.
مع عودة زيد إلى موقع قيادي جديد في القوات المسلحة، رجعت الآلة السياسية والإعلامية نفسها إلى مهاجمته واتهامه، وتحميله مسؤولية الأحداث. في الأثناء، وقعت المخابرات على وثيقة خطرة تخص «الجبهة الديمقراطية»، هي بمثابة خطة واسعة لإثارة الاضطرابات في العاصمة على نطاق واسع خلال الفترة المقبلة.
التسارع في خط الانهيار بدأ يسير بخطى واضحة وخاطفة، ليضع الحسين أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الحسم وإنقاذ الأردن من العصابات المسلحة والدولة الموازية والانفلات والتمرد على القانون، أو تمرد القوات المسلحة وانفراط قدرة الدولة على ضبط الأمور، يضاف إلى هذا وذاك ما خلقه موضوع خطف الطائرات وإنزالها في الأردن، وتغيير اسم المطار إلى مطار الثورة، وبدء التفاوض بين «الجبهة الشعبية» والدول الأخرى، من انطباعات وصورة عن الأردن بوصفه دولة بلا سيادة ولا قانون، أي دولة فاشلة بامتياز وبكل ما تحمله الكلمة من !معنى
في 9 سبتمبر، قام الحسين بمنح صلاحيات مطلقة للفريق مشهور حديثة، رئيس أركان القوات المسلحة، لتأمين النظام والهدوء وتنفيذ التزامات الحكومة، لكن الغريب كان أن الفريق مشهور حديثة قام بتوجيه نداء للقوات (بعد أن أعطي هذه الصلاحيات) يتضمن أمراً بأن «تتوقف جميع القوات المسلحة وحدات وأفراداً عن إطلاق النار فوراً، وكل من يخالف هذا الأمر سأتخذ بحقه أشد الإجراءات العسكرية».
في تلك الأيام، أصبحت المدن الرئيسية في قبضة المنظمات، فيما رجال الأمن محصورون داخل المخافر وقوات الجيش في مواقعها البعيدة، والحكومة بأجهزتها في حالة ركود وشلل تأمين، والمبادأة في أيدي رجال المنظمات الذين رفعوا في 10 سبتمبر شعاراً جديداً «لن نقبل إلا بسلطة وطنية»، مما يعني تخويناً كاملاً للنظام والحكم في الأردن.
ووصلت الأمور - كما ذكرنا مراراً - إلى نذر أزمة بين الحسين نفسه وضباط الجيش وأفراده. إذ يذكر فاضل فهيد، وكان مديراً لمكتب زيد، أنه تلقى اتصالاً هاتفياً من قائد الفرقة الأولى، قاسم المعايطة، يسأل فيها عن زيد، ليخبره فيها بخروج أفراد الفرقة بآلياتهم، وصعودهم من الأغوار إلى عمان من أجل حمايتها، ووصولهم إلى مرج الحمام، لكن زيد كان في الوقت نفسه مشغولاً مع كتيبة أخرى من الحرس الملكي، بلغت مرحلة التمرد، ووصلت إلى مقربة من منزلنا، فكان يعمل على احتواء أفرادها وإعادتها إلى الانضباط. فما كان من فاضل فهيد إلا الاتصال مباشرة بالملك، الذي ذهب إلى مرج الحمام، وهو المكان الذي وصل إليه أفراد الفرقة المتمردون، ومعه حابس باشا المجالي، ثم لحق بهم زيد بعد أن أنهى موضوع الكتيبة الأخرى. يتذكر حاكم طافور، الذي حضر اجتماع الملك بالفرقة الأولى، النقاش العاصف، فقد اتهموا الحسين وزيد بعدم اتخاذ موقف في مواجهة الفصائل الفلسطينية، ووصل غضبهم إلى القول بأنهم ما عادوا يأمنون على عائلاتهم، إضافة إلى عدم وصول الإمدادات إليهم، والتوتر من حوادث قتل الجنود في طريقهم إلى بيوتهم أثناء إجازاتهم. لكن أخطر ما قاله أفراد الكتيبة هو: لم نعد نحتمل هذا الوضع، وسندافع عن أنفسنا إن لم يتم اتخاذ قرار من الملك بالدفاع عن الجيش.
وعندما بدأ الحسين بالحديث عن المصالحة، خرج أحد الجنود الصغار، بدرجة عريف، وقال كلاماً قاسياً يمس كرامة زوجات ونساء الجيش العربي. فطلب الحسين من المشير حابس المجالي، الذي كان برفقته رغم عدم عودته رسمياً بعد إلى الجيش العربي، أن يخطب بالحضور، فقال حابس: «أيها الجنود لقد كتب الله علينا أن نخوضها، وسنخوضها بإذن لله». فنزل وهم يهتفون باسمه: «أبو سطام بدنا نطلع على عمان». حينها أدرك الحسين تماماً أن التأخير أكثر يعني انهيار انضباط القوات المسلحة ومؤسسات الدولة الوطنية، فاجتمع مع الضباط وأبلغهم بأن هناك أمراً إيجابياً سيسمعونه قريباً. بدت الدولة على مرمى حجر من أن تسمى بصورة كاملة «دولة فاشلة»، وإن كانت قد دخلت عملياً في هذا الطور بجدارة، بخاصة مع عملية اختطاف الطائرات، وهي القشة التي أفاضت الكأس، كما وصفها زيد. ثم جاء ما يرش الملح على الجرح الملتهب، بالدعوة إلى إضراب عام في البلاد، الأمر الذي اعتبره مدير المخابرات العامة، نذير رشيد، دعوة صريحة واضحة إلى إسقاط الحكم الأردني وتعطيل البلد.
قدم مدير المخابرات العامة تقدير الموقف هذا إلى الحسين في قصره بالحمر، ودعاه بإلحاح - بحضور زيد - إلى ضرورة الحسم. مما دعا الحسين إلى استدعاء زيد الرفاعي ووصفي التل ومضر بدران، وكانوا من المستشارين المقربين الموجودين إلى جانبه خلال الأزمة. وتم في الاجتماع اتخاذ قرار بتشكيل حكومة عسكرية وإعلان الأحكام العرفية، واختير الزعيم محمد داود رئيساً لها، بتزكية من وصفي التل؛ وهو من أصول فلسطينية، لبعث رسالة واضحة ضد «بروباغاندا» التنظيمات المسلحة التي تريد الترويج لموضوع الحرب الأهلية. واتفق على أن يكون الحاكم العسكري هو حابس المجالي، لما يملكه من كاريزما وسمعة عسكرية وسياسية كبيرة لدى القوات المسلحة والشعب الأردني.
مهمة إنقاذ الدولة
كانت المباحثات تجري في رئاسة الوزراء بين الرئيس عبد المنعم الرفاعي ووزير الدفاع عاكف الفايز من جهة، وياسر عرفات وقيادات المنظمة من جهة أخرى، لإيجاد طريق للخروج من الأزمة. ومن الواضح أن الخلافات كانت كبيرة، واستفزازات الميليشيات متزايدة.
وصلت الأخبار لعبد المنعم الرفاعي عن نية الحسين تشكيل حكومة عسكرية وحسم الأمور عسكرياً. فما كان منه إلا أن اتصل مع صلاح خلف (أبو إياد) قائلاً له: «وقعوا الاتفاق بالغاً ما بلغت التكلفة». وفهم أبو إياد الرسالة؛ إن الملك اتخذ قرار المواجهة التي كان يتجنبها، وتبشر بها الميليشيات، بوصفها حتمية، مع قوى الرجعية. وهي أيضاً محسومة لأسباب إقليمية ودولية وداخلية، كما سنشرح لاحقاً.
في وقت لاحق، انضم وزير الدفاع السوري حينها، حافظ الأسد، إلى العراق في تحذير الأردن من أي عمل يمس التنظيمات المسلحة، متعهداً بحمايتها! فيما وافق عبد الناصر على طلب عرفات عقد اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية. وهي معطيات اعتبرها قادة فصائل المنظمة انتصاراً أخيراً، وانعكست على خطاب عرفات الذي وقف في افتتاح المؤتمر الدولي لدعم المقاومة الفلسطينية، في عمان، ليقول: «إن الثورة أقوى من جميع المؤامرات».
جوهر كلمة السر
فور تشكل الحكومة العسكرية، تم رفضها من قبل منظمة التحرير. واجتمعت القيادات الفلسطينية وجرى الإعلان عن أن ياسر عرفات هو القائد العام لقوات المقاومة الفلسطينية، ومنح الصلاحيات كافة. فيما عين عبد الرزاق اليحيى قائداً عاماً لجيش التحرير الفلسطيني، رئيساً لهيئة أركان قوات الثورة الفلسطينية المكونة من جيش التحرير وقوات الميليشيات. واعتبرت اللجنة العسكرية العليا بمثابة هيئة أركان عامة لقوات الثورة. كما أعيدت عضوية «الجبهة الشعبية» بعدما كانت قد جمدت منذ اختطاف الطائرات.
وجه عرفات نداء إلى الحكام العرب يدعوهم إلى التدخل لحماية الفصائل. وأصدرت اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية ولجنة متابعة المؤتمر الوطني، بياناً أكدتا فيه على المضي في الدعوة إلى إضراب عام في البلاد.
وبالفعل، بدت عمان في صباح يوم الخميس 17 سبتمبر، ساحة مواجهة، كأنها في حرب داخلية حقيقية بين الجيش والميليشيات، وتمكن الجيش من السيطرة على العديد من المواقع الاستراتيجية، وانطلقت عملية استعادة الأمن والاستقرار في عمان وإزالة القواعد والحواجز والمناطق العسكرية غير القانونية التي أقامتها الميليشيات. كانت عملية عمان معقدة تماماً، وواجهت معضلات كبيرة.
في مساء الخميس 17 سبتمبر أعلنت القيادة الموحدة للفصائل الفلسطينية منطقة «اللواء الشمالي» منطقة محررة، من البقعة حتى الحدود السورية، بما يشمل محافظات عجلون وجرش وإربد ومدينة الرمثا، وعينت الحكام الإداريين الموجودين أنفسهم ليكونوا تابعين لها، فرفضوا ذلك، وأصروا على التزامهم الولاء للدولة. وبدأت عملية تصفية للدولة ومؤسساتها في مدينة إربد من قبل الميليشيات. في المقابل، وكما روى لي زيد، بادر المدنيون من أهالي قرى الشمال إلى إعداد الطعام للجيش العربي ومساندته.
الوضع كان يتحسن، بالتزامن والتوازي مع ذلك، في عمان وباقي المناطق، منذ يوم الأحد 20 سبتمبر. إذ بدأت قيادات المنظمة تتهاوى وتسقط بيد الجيش؛ فاعتقل كل من أبو إياد وبهجت أبو غربية وأبو اللطف (فاروق القدومي) وإبراهيم بكر، وسيطر الجيش على العديد من المناطق في عمان، وفي الزرقاء والسلط وباقي المحافظات، وبدأت عملية معاكسة في محافظات الشمال في منتصف الأسبوع، أي منذ يوم الثلاثاء 22 سبتمبر، وكان هذا الأسبوع 20 - 27 سبتمبر .حاسماً في مسار الصراع العسكري.
انقلبت الظروف، واستفاد الجيش من تحطم معنويات الميليشيات في عمان وباقي المناطق. لكننا تفاجأنا باستقالة رئيس الحكومة محمد داود، بينما كان يقود - ممثلاً للملك - الوفد الحكومي الأردني الموجود في القاهرة لحضور مؤتمر قمة هناك. وهو ما حدث فعلا يوم الخميس 24 سبتمبر، وبعث برسالة الاستقالة من هناك. فقام الحسين بتشكيل حكومة جديدة برئاسة أحمد طوقان بعد يومين من ذلك.
بدا يوم الأربعاء 23 سبتمبر حاسماً على الصعيد الميداني؛ إذ تمكنت قوات الجيش من إكمال استعادة السيطرة وإعادة الأمن والاستقرار للجزء الأكبر من عمان، ولم يبقَ إلا بعض أحياء في عمان، يتحصن فيها قادة المنظمة، بعدما خسروا مواقعهم ومكاتبهم في جبل الحسين. كذلك، بدأت الدولة تعود إلى إربد مع انسحاب المسلحين، وأتمت القوات السورية تقهقرها إلى الحدود، وعادت الأمور إلى نصابها في أغلب محافظات المملكة تقريباً.
غادر الحسين يوم الأحد إلى القاهرة لحضور اجتماع القمة العربية الذي حضره أيضاً ياسر عرفات، وتم التوافق بين الرؤساء والملوك العرب على بنود اتفاق يتضمن خروج الجيش من المدن ووقف الأعمال العسكرية للميليشيات، وتطبيق الأمن والنظام، وعودة إربد إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال السوري لها. وكلفت لجان عربية بمتابعة تنفيذ بنود الاتفاق في المرحلة التالية. وفيما كان قد تم في الأثناء إطلاق سراح عدد من الرهائن المتبقين في صفقة أدت إلى إطلاق سراح ليلى خالد المعتقلة في بريطانيا، و3 من أعضاء الجبهة الشعبية المعتقلين في سويسرا، تمكن الجيش العربي من تحرير آخر الرهائن.
زيد ووصفي... ثمن الولاء للوطن
تشكلت حكومة جديدة في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1970، برئاسة وصفي التل وضمت منيب المصري ومصطفى دودين وتشكلت البارزة من الشخصيات الأردنية من أصول فلسطينية، للتأكيد على مفهوم وصفي التل للوحدة الوطنية وصونه من أي مس بعد الأحداث الأخيرة. كما كان ضمن الوزارة إسحاق الفرحان؛ أحد أبرز قادة جماعة الإخوان المسلمين.
حاول وصفي ترتيب الأوضاع مع قادة المنظمة، للخروج من «شبح» الأيام السابقة، عبر تنظيم الوجود الفدائي، بما يضعه تحت مظلة القانون والدولة والسيادة. مما جعل وصفي مصراً على تطبيق إلزام المسلحين احترام هيبة الدولة وسلطتها، وعلى تطبيق الاتفاقات بصورة جدية.
وصل الطرفان إلى تفاهمات على انتقال المسلحين إلى جبال جرش وعجلون، مع إخراج أسلحتهم من المدن، والتخلي عن الأسلحة الثقيلة. لكن الجيش كان يعلم تماماً أنهم لم يلتزموا بهذا الاتفاق، فتم تفتيش البيوت والأحياء وكشف المخازن التي تم إخفاء السلاح فيها، مما كان مؤشراً على أن هناك من ما يزال يفكر بالفعل في السعي إلى فتح معارك جديدة في عمان والمدن الأخرى.
في تلك الفترة، كان أنور السادات الرئيس المصري الذي خلف عبد الناصر، مسكوناً بفكرة إقامة تسوية مع إسرائيل، لذلك لجأ إلى تحسين علاقته مع المنظمة على حساب الأردن. والحال كذلك كانت بشأن حافظ الأسد بعد أن أتم السيطرة على مقاليد الأمور في سوريا، ويريد أن يحظى بشرعية ثورية على مختلف المستويات. ومن ثم، أعلنت كل من مصر وسوريا قطع العلاقات الدبلوماسية مع الأردن، رداً على محاولة إنشاء «المملكة العربية المتحدة» التي كانت تعارضها مصر وسوريا بشدة، إضافة إلى طلب المنظمات الفلسطينية من الدولتين مساعدتها في إجهاض المقترح الأردني. ففي 21 أغسطس 1971، قرر الأسد قطع العلاقات الدبلوماسية مع الأردن وإغلاق الحدود بين البلدين. تلا القرار السوري قرار مماثل لأنور السادات في 6 يونيو (حزيران) 1972، بعد إلقائه خطاباً معادياً للأردن لم يبالِ زيد ووصفي ورجال الدولة في تلك الفترة بما كانوا يلاقونه من اتهامات وشتائم من الإذاعات العربية ولا من الخطابات «الثورجية»؛ إذ كانت المهمة أولاً وأخيراً حماية الدولة وسيادتها وتطبيق القانون وصيانة السلم الأهلي من التلاعب الذي حدث مسبقاً.
أما وصفي، فقد دفع ثمن وطنيته وشجاعته، عندما قررت اغتياله منظمة «أيلول الأسود»، التي أسسها أبو إياد فور خروج الميليشيات من الأردن. فقد علم أبو إياد بنية وصفي الذهاب إلى مؤتمر لوزراء الدفاع العرب، في جامعة الدول العربية في القاهرة، لتمثيل الأردن، وبدأ يعد خطة الاغتيال عبر مجندين في منظمته السرية. غادر وصفي إلى القاهرة لحضور اجتماع وزراء الدفاع العرب (يوم الأحد 28 نوفمبر (تشرين الثاني)، وبعد أن عرض المشروع الأردني في الجلسة الصباحية، تم اغتياله - على عتبة الفندق - من قبل شباب فلسطينيين تابعين لمنظمة «أيلول الأسود»، وافتخر أبو إياد لاحقاً بأن منظمته هي التي خططت لقتل وصفي ونفذت ذلك.
في يوم السبت 19 سبتمبر، تدخلت القوات السورية مباشرة، تحت يافطة جيش التحرير الفلسطيني، وهي في الحقيقة مدرعات ودبابات الجيش السوري، كما اعترف قادة المنظمة لاحقاً. فاشتبكت مع القوات الأردنية وسيطرت على جزء كبير من المناطق الشمالية، من بينها مدينتا إربد والرمثا، وقاربت على احتلال محافظات الشمال بالكامل، لانشغال القوات المسلحة الأردنية بالقتال في عمان والزرقاء والمدن الأخرى، مع وجود وحدات منها مرابطة لحماية الحدود مع إسرائيل.
في الوقت نفسه ظهرت بوادر لوضع القوات العراقية الموجودة في الأردن تحت تصرف منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت تقدر بآلاف الجنود ومئات المدرعات. فبدت علامات حقيقية على انهيار شديد في معنويات القوات المسلحة. وكان الحسين قد خاطب جامعة الدول العربية والزعماء العرب بسبب الاحتلال السوري لمناطق في الشمال
في الحقيقة، ومنذ البداية، كان رهان ياسر عرفات ومنظمة التحرير الحقيقي هو على الوعود السورية والعراقية بدعم عسكري حقيقي لإسقاط النظام السياسي الأردني. وهو ما انكشف مع التدخل البري الكبير للقوات السورية، كما اعترف صلاح خلف (أبو إياد) بحدوث اجتماع حضره مع ياسر عرفات بقيادات بارزة في حزب البعث والنظام العراقيين، هم عبد الخالق السامرائي، وزيد حيدر، ومهدي عماش وكان حينها وزيراً للداخلية العراقية، وذلك في مايو (أيار)، أي قبل قرابة أربعة أشهر من أحداث «أيلول»، في قاعدة الحبانية. في ذلك الاجتماع، قال لهم الوفد العراقي: نظموا محاولة انقلاب عسكري في الأردن، وستدعمكم الوحدات العراقية لقلب النظام وإقامة سلطة شعبية. وهو العرض الذي لم يرفضه عرفات، لكنه طلب منهم منحه وقتاً لطرحه على السوريين، لإيجاد قدر من التنسيق الكامل بين الأطراف الإقليمية الراعية للفدائيين.
الرهان على العراقيين فشل. وقد تمثلت الخطوة الأهم في إحباط أي تدخل عراقي في الدور الكبير الذي قام به الحسين على الصعيد الدبلوماسي من خلال مراسلاته مع الأميركيين والبريطانيين والدول العربية. كما نفذ الجيش العربي، عقب بدء العمليات العسكرية، خديعة محكمة حيدت القوات العراقية الموجودة في الأردن. ولم يمضِ سوى وقت قصير حتى طلب الجانب العراقي السماح بإخلاء قواته الموجودة في جرش، حرصاً على تجنيبها القتال.
وكان القادة العسكريون العراقيون في الأردن قد انقسموا بشأن مساندة الميليشيات خلال اجتماع عقدوه في سينما المفرق؛ وعندما أخذ الحسين ضمانات أميركية بعدم وجود نوايا إسرائيلية لاستثمار انسحاب الجيش العربي من الحدود لمواجهة السوريين والتحديات الخطيرة في الداخل، قام بالضربة الحاسمة باستخدام سلاح الجو، مراهناً على أن السوريين لن يستطيعوا استخدام سلاحهم الجوي كي لا يظهر أن القوات هي سورية، وليست تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. في الوقت نفسه، كانت لدى الحسين معلومات عن وجود خلافات بين وزير الدفاع، حينها، حافظ الأسد، والجناح السياسي القائد في حزب البعث، فامتنع عن استخدام سلاح الجو في المعركة خشية الإدانة السياسية عالمياً، على الأغلب، نتيجة الاعتداء على دولة أخرى، وكسب الحسين الرهان. فأخذت القوات الأردنية زمام المبادرة، وانقلبت المعادلة فأصبحت تلاحق القوات السورية التي عبرت الحدود الأردنية - بالعكس، مما انعكس بصورة سلبية تماماً على معنويات الميليشيات.
المصدر : صحيفة الشرق الاوسط