مقدمة
تكشف السيدة نوزاد الساطي، أرملة الأمير الأردني الشريف زيد بن شاكر، في كتاب تروي فيه مذكرات زوجها، معلومات بالغة الأهمية عن مراحل مفصلية من الحياة السياسية في الأردن والعالم العربي في فترة تاريخية تمتد من حرب 1967 وصولاً إلى غزو الكويت وحرب الخليج، والاتصالات التي قامت في تلك الفترة بين العاهل الأردني الراحل الملك حسين والرئيس العراقي آنذاك صدام حسين. ويتضمن الكتاب الذي وضعت له عنوان: «زيد بن شاكر... من السلاح إلى الانفتاح» مواقف تروى للمرة الأولى عن تفاصيل اجتماعات أركان القرار الأردني في مفاصل مهمة عاشتها البلاد خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي. روايات السيدة نوزاد الساطي جاءت في سياق معلومات وذكريات زوجها لمعلومات تركها عندها في محاولة منه لكتابة مذكراته، قبل وفاته عام 2002. وتأتي أهمية الكتاب من أن زيد بن شاكر كان من أكثر المقربين من الملك حسين ورافقه على مدى عقود، وتدرج في الرتب العسكرية من قائد لواء للدروع، إلى قائد للجيش، ووزير للدفاع ورئيس للديوان الملكي ورئيس للوزراء، في ظروف دقيقة. كما منحه الملك حسين رتبة مشير التي لم يحظَ بها حتى ذلك العهد سوى الملك الأردني الراحل وأيضاً القائد العام للقوات المسلحة حابس المجالي، فكان هو ثالثهم. وفي سنة 1996 منحه الملك حسين لقب أمير. واعتباراً من اليوم تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات من الكتاب، وذلك قبل الرابع من سبتمبر (أيلول) موعد صدوره، في حفل جرى التحضير له منذ الأشهر الماضية. وستنشر «الشرق الأوسط» أبرز المعلومات التي تناولت أحداثاً كبرى كحرب عام 1967. ومعركة الكرامة عام 1968. و«أحداث أيلول» وما شهدته الأعوام من 1970 - 1973 من اضطرابات شهدتها المملكة الأردنية، وسط أحداث دراماتيكية في العلاقة بين الراحل الملك الحسين والرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وفي الكتاب أيضاً تفاصيل عن موقف الأردن خلال حرب الخليج الثانية، وتطورات العلاقة بين الراحل الملك الحسين والرئيس الراحل صدام حسين، وصولاً إلى أزمة استضافة عمّان لمسؤول التصنيع العسكري في الجيش العراقي صهر صدام حسين، حسين كامل، قبل عودته إلى العراق وقتله. ويتوقع أن تثير هذه المذكرات جدلاً واسعاً بشأن محطات تاريخية تتعلق بمفاصل مهمة من تاريخ الأردن والمنطقة على مدى أربعة عقود. وفيما يلي نص الحلقة الأولى:
كانت أحداث السموع «نقطة تحول» في مسار المناوشات العسكرية بين إسرائيل والعرب. وشعر الحسين بأنها «إنذار مباشر» بنوايا إسرائيل لاحتلال الضفة الغربية. ورغم التطمينات الأميركية المباشرة التي صدرت عن الرئيس ليندون جونسون للحسين، فإن «الشكوك العميقة» سكنت في عقله بأن عين إسرائيل على الضفة الغربية، وبأن أجواء الحرب بدأت تهيمن على المنطقة، عبر الرسائل العسكرية المتبادلة.
بالفعل، أخذت الأمور منحى تصاعدياً منذ مايو (أيار) 1967، وذلك باندلاع مواجهات عسكرية على الجبهة السورية - الإسرائيلية، وصولاً إلى تصريح إسحق رابين (وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك) بأنه سيحتل دمشق.
ورغم أن عبد الناصر كان متورطاً في الصراع العسكري باليمن، وكان لا يريد الحرب مع إسرائيل، ومتردداً بشأن قدرة العرب على كسب المواجهة العسكرية، فإنه اتخذ على إثر هذه التطورات على الجبهة السورية قرارات حاسمة دفعت بالمشهد الإقليمي إلى حافة الهاوية؛ إذ طلب من قوات الطوارئ الدولية الموجودة في سيناء على الحدود مع إسرائيل المغادرة، وقام بإغلاق مضائق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية، وحشد قوات كبيرة من الجيش المصري في سيناء على الحدود مع إسرائيل.
لم يكن عبد الناصر متحمساً للحرب، لكنه قام بهذه الخطوات - التي اعتبرتها إسرائيل بمثابة «إعلان حرب» - تحت ضغط الخطاب الشعبي الذي كان يهيمن على مواقفه السياسية وتصرفاته، فهو من خلق مناخ «حانحارب» (سنحارب). كما فعل ذلك لمواجهة الدعاية السياسية الأخرى التي كانت تروّج بأن وجود قوات الطوارئ بمثابة عازل دولي بين مصر وإسرائيل، ما يلقي بثقل الحرب على الجانب السوري.
في ذروة هذا التوتر الذي سبق الحرب، وصلت معلومات استخبارية من موسكو تفيد بنية إسرائيل الهجوم على الجبهة السورية. وهي المعلومات التي أثارت لاحقاً أسئلة وشكوكاً كبيرة، بعدما ظهر تالياً ما ينفيها، لكنها كانت في حينه مؤثرة تماماً على موقف عبد الناصر وقراراته بوضع قواته في حالة تأهب، لتوجيه رسالة واضحة لإسرائيل بأن موقف مصر حاسم إلى جانب سوريا.
هكذا وصل الحسين إلى قناعة بأن مناخ الحرب يهيمن على المنطقة. ورغم أنه كان متقدماً من الناحية الاستخباراتية على العرب الآخرين، ولديه مصادر معلومات أكثر دقة وعمقاً، فإن رسائله المتعددة لم تكن موضع ثقة لدى عبد الناصر للأسف الشديد.
ولعل الرسالة المهمة الأولى التي بعث بها الحسين لعبد الناصر، كما يعترف مؤرخ عبد الناصر والكاتب المقرب جداً منه، محمد حسنين هيكل، هي تحذيره عبد الناصر مبكراً، في بداية مايو (أيار)؛ إذ طلب اللقاء مع القائد العسكري المصري عبد المنعم رياض، والذي أخبره (الحسين) بالمعلومات المهمة التي بحوزته عن «الفخ» الذي يأتي عبر التصعيد على الجبهة السورية، لجر مصر إلى حرب خاسرة. لكن المصريين لم يفهموا تلك الرسالة ولم يقدروها، فكانوا متأثرين بالمعلومات السوفياتية وبالأخبار الواردة من الجبهة السورية.
في 30 مايو (أيار)، أي قبل الحرب بأيام قليلة، اتخذ الحسين قراره الحاسم بالسفر إلى مصر للقاء عبد الناصر، مع وفد رسمي رفيع المستوى يتشكل من رئيس الوزراء سعد جمعة، ووزير الخارجية أحمد طوقان، ورئيس هيئة الأركان عامر خماش، وقائد سلاح الجو الملكي صالح الكردي. فالتقوا بعبد الناصر، حيث مازح الحسين بقوله: «بما أن الزيارة سرية يمكنني أن أعتقلك؟ فأجاب الحسين: لم أفكر في هذا الأمر».
خلال اللقاء سأل الحسين عبد الناصر إن كان مستعداً للمواجهة وجاداً في قرار الحرب إذا وقعت، وأعرب الحسين عن خشيته على مصير القدس، فكان جواب عبد الناصر، كما نقله عامر خماش لاحقاً لزيد: «ح ادكاها لك» (سوف أدك القدس) من القاهرة. ولإظهار وقوفه المفصلي إلى جانب العرب في المواجهة، فاجأ الحسين عبد الناصر بطلبه توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين، شبيهة بالمعاهدة المصرية - السورية، والتي تم فعلاً استبدال كلمة الأردن بدلًا من سوريا، ووقع عليها الحسين وعبد الناصر.
كذلك، طلب الحسين من عبد الناصر إرسال عبد المنعم رياض معه إلى الأردن ليقود الجبهة الأردنية، وليكون مسؤولاً عن القوات الأردنية والقوات العربية المتوقع قدومها من العراق والسعودية، ولأن العلاقات كانت متوترة بين الأردن ومصر على خلفية طرد الأردن لأحمد الشقيري (رئيس منظمة التحرير الفلسطينية) بعد شعور الحكومة بالضيق من تصرفات قادة المنظمة خلال وجودهم في الأردن، فقد طلب عبد الناصر من الشقيري القدوم إلى الاجتماع ولقاء الحسين لإزالة الاحتقان بينهما، بل وتوسط لدى الحسين لاصطحاب الشقيري معه بالطائرة في رحلة العودة إلى عمّان، بالإضافة إلى عبد المنعم رياض.
بقي سؤال المليون الذي ما زال جدلياً في الأوساط الأكاديمية، والسياسية والعسكرية، يتمثل بالأسباب التي دفعت الحسين إلى الدخول بالحرب، والإقدام على تلك الخطوة الحاسمة؛ زيارة عبد الناصر وتوقيع المعاهدة، ثم دخوله الحرب لاحقاً إلى جانب القوات العربية الأخرى، رغم خشيته من غلبة الجانب العسكري الإسرائيلي، ومن عدم جدية استعداد العرب وغياب التخطيط الاستراتيجي عنهم.
يعزز هذا السؤال المهم أن هناك فريقاً معتبراً من السياسيين الأردنيين، حينها، في مقدمهم وصفي التل، وقفوا بآرائهم ضد هذه الخطوات، لإدراكهم أن الهدف الإسرائيلي أو الهدية التي تنتظرها إسرائيل من الحرب هي الضفة الغربية، واستكمال «حلم صهيون»، على حد تعبير حسنين هيكل نفسه.
لكن من الصعوبة بمكان الاقتراب من الجواب عن هذا السؤال بمعزل عن سياق الظروف الإقليمية والداخلية التي أثرت على قرار الحسين ومواقفه، وهي ظروف مستمرة غير منقطعة منذ انقلاب عام 1958 في العراق، وقتل العائلة المالكة هناك. فقد شاعت حالة من «الارتياب» (بارانويا) بين الشعب الأردني؛ اجتماعياً وسياسياً، فمسلسل الأحداث التي وقعت منذ عام 1958 وحتى عام 1967، دفع الحسين إلى المبالغة في إظهار وقوفه إلى جانب عبد الناصر عندما بدأت إرهاصات حرب 1967 بالظهور. كان الحسين يتخوف من نتائج مثل هذه الحرب في حال وقوعها، ولا سيما إن لم يشارك فيها، فبادر إلى زيارة عبد الناصر وتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك معه، رغم ظنه أنها ستكون حرباً خاسرة. كما أن الاتهامات للأردن وإفقاد الثقة به عربياً (من قبل أحمد سعيد في «صوت العرب» وغيرها من وسائل الإعلام المصرية)، هي ما دفعت الحسين إلى الطلب من عبد الناصر إرسال قائد عسكري مصري (عبد المنعم رياض) ليتولى قيادة العمليات من الأردن. وقد عبّر الحسين عن ذلك صراحة في لقائه مع عبد الناصر، بقوله له إن القيادة المصرية تتهم الأردن وقيادته، وهو لذلك يريد قائداً مصرياً ليرى كيف نخوض المعركة.
ورغم أن الوقت أظهر نجاح سياسات الحسين في مقابل فشل سياسات عبد الناصر، والزمن هو أكبر حكم، فإنه يظل أكثر ما يحز في النفس - لدى زيد وأنا - ما واجهه الحسين من صعوبات ومعاناة لإثبات مصداقيته. فعقب الانقلاب في العراق، بلغ الحد بعبد الناصر أن يشتم والدة الحسين، جلالة الملكة زين الشرف، في أحد خطاباته، بالتزامن مع الحملات الإعلامية غير المنقطعة، التي كانت تصف الحسين بأنه «من أذناب الاستعمار».
أمام ذلك، لم يكن أمام الحسين إلا الوقوف مع العرب في تلك الحرب، لأن الظروف الداخلية والحالة الشعبية أيضاً كانت في حالة غليان، وجاء الاعتداء الإسرائيلي على قرية «السموع» ليصب الزيت على النار، مع توتر العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية والدعاية التي تملأ الأجواء العربية ضد الأردن، وعدم تمييز العرب والفلسطينيين تحديداً بين الشعارات الشعبوية التعبوية من جهة، ومتطلبات الحرب الحقيقية من جهة أخرى.
ومع خشية القيادة الأردنية من أننا مقبلون على حرب خاسرة قد نفقد فيها الضفة الغربية، فإن قرار الحسين بالوقوف مع العرب جاء أيضاً لعدم ثقته بالضمانات الأميركية وبالنوايا الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية، عاجلاً أم آجلاً. وهو الأمر الذي كان يدركه زيد بعمق.
قبل يومين من الحرب، زار الحسين قوات أردنية في الضفة الغربية، وبدأ باللواء 60 الذي يقوده زيد، وقال للضباط والجنود: «إن وقعت الحرب، الله لا يمتحننا، لأننا غير قادرين وغير مستعدين لمواجهة إسرائيل في الظرف الذي نحن فيه الآن (نحن ليس الأردن فقط، وإنما الدول العربية كلها). ولأن النتائج ستكون عكس ما نأمل وعكس ما يتطلع إليه المواطن العربي في كل مكان. لكن إذا حدثت الحرب أنتم أمام طريق واحدة، هي أن ترفعوا رأس بلدكم وتحافظوا على تقاليد جيشكم وتحاربوا بقدر ما تستطيعون. وإن شاء الله سيأخذ بيدنا».
قدّم الملك الحسين تحذيره الأخير لعبد الناصر - عقب تحذيرين مماثلين سابقين في 30 مايو (أيار) و3 يونيو (حزيران) - كان يوم الرابع من يونيو (أي قبل اندلاع الحرب بساعات)، بناء على معلومات من السفير التركي في عمّان، تم تأكيدها أيضاً بشكل منفصل من السفير العراقي، بأن «إسرائيل ستبدأ هجومها يوم الخامس أو السادس من يونيو -حزيران بغارات جوية تستهدف المطارات المصرية»، وهو التحذير الذي رد عليه المصريون بأنهم «يتوقعون مثل هذا الهجوم وهم مستعدون له».
ساعة الصفر
في صباح اليوم التالي 6 يونيو (حزيران) كانت ساعة الصفر، وانجلى الغبار سريعاً عن حقائق مروعة مبكرة لنتيجة المعركة التي كان الكل ينتظرها ويترقبها ويستعد لها منذ أشهر. فقد قامت الطائرات الإسرائيلية بالإغارة على المطارات المصرية ودمّرت الطائرات الحربية في مرابضها، عبر موجات خاطفة. وعملياً، كانت هذه الغارات بمثابة الضربة القاضية للقوات العربية كلها، إذ كانت تعوّل على الغطاء الجوي المصري في مواجهة إسرائيل!
ساد ارتباك شديد القيادة العسكرية المصرية، نتيجة هذه الضربة الجوية الحاسمة. لكن لم يرِد قائد الجيش المصري عبد الحكيم عامر الاعتراف بهذه الهزيمة، وروّج رواية - أتت بنتائج كارثية - نقلها الإعلام المصري بأن المضادات الجوية المصرية تصدت للطائرات الإسرائيلية وقضت على 75 في المائة منها. وهي الكذبة التي أرسل بها عامر إلى عبد المنعم رياض والجبهة الأردنية، طالباً من الجيش العربي بدء القتال والالتحام بالقوات الإسرائيلية.
بالفعل، بدأت القوات المسلحة الأردنية بقصف المواقع الإسرائيلية المجاورة في القدس، وتقدمت للأمام وسيطرت على بعض المواقع المتقدمة في القدس، في حين أغارت الطائرات الأردنية في الساعة 11 صباحاً على مطارات إسرائيلية. لكنها لم تجد طائرات حربية إسرائيلية، إذ كانت في عمليات جوية ضد الطيران المصري.
تالياً، أغارت الطائرات الإسرائيلية مباشرة على الطائرات الأردنية وهي تستعد لغارة ثانية وتتزود بالوقود، فقامت بتدميرها. واستشهد الضابط الطيار الأردني فراس العجلوني، وهو يستعد للإقلاع بطائرته. وكذلك كان مصير الطائرات السورية والعراقية. هكذا، ومع ساعات الظهيرة، كانت إسرائيل قد قضت على سلاح الجو العربي كاملاً، وانفردت بقصف الجيوش العربية في الجبهتين المصرية والأردنية، حيث واجه الطرف العربي القوات الإسرائيلية من دون أي غطاء جوي يذكر!
تلقى الحسين رسالة مهمة في بداية الحرب، بعد القضاء على القوات الجوية المصرية، من رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول، عبر وسطاء أوروبيين (وآخرين أميركيين)، يتعهد فيها أشكول بأن إسرائيل لن تهاجم الأردن إذا لم يبدأ جيشنا بالقتال. لكن الحسين رفض ذلك قائلاً: «أنا عربي ومن واجبي المشاركة في القتال».
لم يكن الحسين يعرف أن القوات الجوية المصرية قد تم تدميرها بالكامل، وذلك بناء على الرواية المصرية الزائفة. وقد اعترف لاحقاً أنه لو كان يعلم بالأمر لما دخل حرباً خاسرة حكماً.
أتاح تدمير القوات الجوية العربية خلال الساعات الأولى امتلاك إسرائيل الجو كاملاً؛ فكان الجيش المصري يتلقى الضربات في صحراء سيناء المكشوفة، مما دفع بالقيادة العسكرية إلى اتخاذ قرار الانسحاب في صباح اليوم التالي من سيناء. لكن بسبب حالة الفوضى وغياب التخطيط الاستراتيجي والارتجال في إدارة المعركة العسكرية، جاءت تكلفة الانسحاب باهظة جداً على الجيش المصري، كما يعترف هيكل؛ إذ كان عدد الشهداء من الجيش المصري في اليوم الأول 642 جندياً، لكن في مساء 8 يونيو (إلى حين التوقف الرسمي للقتال) بلغ العدد 6811 شهيداً، مما يعني أن الجيش لم يكن ينسحب، بل كان في حالة فوضى أدت إلى تلك الكارثة.
الأردنيون يقاتلون ببسالة
على الجبهة الأردنية، وخلال الساعات الأولى لليوم الأول، قاتل الجنود الأردنيون ببسالة، وسيطروا على مواقع إسرائيلية في القدس. لكن الأمور اختلفت بالكلية في مساء اليوم نفسه، عندما بدأت تتضح نتائج مغالطات وأخطاء وادعاءات القيادة العسكرية المصرية؛ إذ بدأت الضربات الجوية الإسرائيلية تغيّر ميزان القوة على الأرض بالكامل. وذاق الجنود الأردنيون الأمرّين من هذا الاختلال الكبير، فكانوا يهربون من قصف جوي إلى آخر، بلا أي سند جوي.
قبل 48 ساعة من الحرب صدرت الأوامر من القيادة للواء زيد بالتحرك نحو الخليل من منطقة خان الأحمر غرب أريحا حيث كان يوجد. وكان زيد يشرف بنفسه على الخطط وسير الأمور في أرض الميدان.
مع إخفاء حقيقة تدمير سلاح الجو المصري تماماً، قضت الأوامر بأن يلتقي لواء زيد مع الجيش المصري الذي كان يفترض أن يكون قادماً من جهة النقب باتجاه مدينة الخليل. من أجل ذلك، أمر زيد بفتح طريق صحراوية ترابية نحو الخليل، بعيداً عن الطريق التقليدية، لاختصار الوقت والمسافات لتحقيق تلك المهمة، كما يذكر مساعد قائد سلاح الهندسة حينها عبد الهادي المجالي، الذي كان ينسّق مع زيد.
ويروي لنا عيد الروضان، الذي كان بجوار زيد خلال فترة الحرب، تفاصيل مهمة عن تلك اللحظات التراجيدية الحزينة، فيقول: «في بداية الحرب كنت مع زيد في السيارة، وبقيت معه خلال مرحلة الحرب كاملة. وصلنا إلى منطقة الظاهرية بعد الخليل، حيث كان هناك مخفر للشرطة الأردنية. فصعدنا إلى أعلى المبنى لنستكشف الطريق التي من المفترض أن نسير عليها من أجل الوصول إلى نقطة الالتقاء مع الجيش المصري. لكن في الأثناء تسلم مأمور المخفر برقية جاء فيها أن مقرات اللواء قُصفت من قبل الطيران الإسرائيلي، فعدنا إلى هناك ووجدناها محترقة بالكامل. ووجدنا أنفسنا بعد ساعات قليلة من بدء الحرب أمام واقع مؤلم؛ فكل ما كانت تتحدث عنه إذاعة «صوت العرب» من القاهرة لم يكن صحيحاً؛ أي البطولات الوهمية وتدمير 75 في المائة من الطائرات الإسرائيلية! العكس هو الصحيح؛ إذ تم تدمير طائرات المصريين بالكامل، ولم يكن الجيش المصري يتقدم، بل ينسحب من سيناء تحت القصف الإسرائيلي، فتغيرت الأمور وتحولت مهمة اللواء 60 إلى وحدات احتياط للوحدات التي تدافع عن القدس بعد أن انتقل الضغط الإسرائيلي بالتدريج إلى الجبهة الأردنية.
خلال تلك الفترة ونتيجة القصف الجوي الإسرائيلي المكثف وغياب الغطاء الجوي لجيشنا، صدرت أوامر لقادة الجبهة الغربية بالانسحاب. كان المحور الوحيد لذلك هو أريحا - القدس، فذهبنا إلى هناك مع زيد. في اليوم الثاني للحرب، جاءت أوامر الانسحاب للجيش العربي من الضفة الغربية، من قبل قائد القوات العربية على هذه الجبهة، عبد المنعم رياض. وقد طلب منه الأردن أن يوقع رسمياً على هذا القرار، كي لا يقال في التاريخ إن الجيش العربي انسحب وترك سكان الضفة (نصف مواطني المملكة) وتخلى عنهم، فالكل كان يعلم تماماً أن الخيار الآخر البديل للانسحاب من الضفة الغربية، بعد انسحاب الجيش المصري في صباح اليوم نفسه، هو إبادة القوات الأردنية بالكامل بسبب الطيران الإسرائيلي والتفاوت الكبير بينهما في التسليح، بعد أن بدأت قطاعات الجيش الإسرائيلي تركز خلال تلك الفترة على الجبهة الأردنية تحديداً.
ويذكر زيد عبد المنعم رياض بالخير. ويرى أنه ظُلم بقرار تسلمه للقوات الأردنية في الجبهة؛ إذ لم تكن لديه معرفة بطبيعة المنطقة ولا بالقوات الأردنية وبالجبهة التي يقاتل فيها، فقد جاء قبل أيام معدودة من بدء القتال. رغم ذلك، كان قراره بالانسحاب من الناحية العسكرية والمنطقية حكيماً وصائباً، ووصفه زيد بالشهم والشجاع.
في تلك الأثناء، دعا عبد الناصر نفسه (يؤكد ذلك ما ورد في رواية هيكل عن الحرب) الحسين إلى طلب وقف إطلاق النار وعودة إسرائيل إلى حدود الهدنة، وإنقاذ الضفة من الاحتلال. لكن الإسرائيليين الذين جاءتهم هذه الفرصة على طبق من ذهب رفضوا. وفي النهاية، وافق الأردن على طلب وقف إطلاق النار مجرداً من أي شروط، بعدما أصبحت الخشية كبيرة من فقدان الجيش العربي بكامله، وبما كان سيؤدي إلى مشكلات سياسية وأمنية، وربما حالة فوضى في الضفة الشرقية أيضاً، وليس في الضفة الغربية فقط. يضيف عيد الروضان في روايته لتلك الأحداث: «خلال الأيام الثلاثة الأولى بدأت تسقط مدن وقرى الضفة الغربية الواحدة تلو الأخرى بيد جيش الاحتلال الإسرائيلي، بما فيها القدس».
بعد قرار الانسحاب بدأت تصل القوات العراقية إلى المنطقة المطلوبة لبدء العمليات العسكرية. لكن كان ذلك بعد فوات الأوان، فضلاً عن أن القوات العراقية وصلت منهكة تماماً؛ إذ تعرضت خلال مسيرها من القاعدة العسكرية إلى الكرامة، لقصف إسرائيلي جوي شديد. وعقد معهم أبو شاكر وقادة الجيش العربي اجتماعاً مشتركاً بعد وصولهم مباشرة.
في تلك الأيام جاءنا قائد الجبهة الشرقية اللواء مشهور حديثة بعد انهيار الجبهة الغربية، ونقل قيادته من الزرقاء إلى السلط. وكان الأمر الأساسي الذي يشكو منه أبو شاكر مع مشهور (وكنت أستمع إليه وأنا في معيته) هو تضارب الأوامر الصادرة لوحدات الجيش وغياب الوعي الحقيقي بالميدان من قبل القيادة العربية المشتركة برئاسة عبد المنعم رياض. الشخصية القيادية لزيد ظهرت أيضاً عبر إمساكه بزمام المبادرة العسكرية في القوات المسلحة، والحفاظ على أدائها العسكري والاحترافي والفني خلال أيام الحرب. وقد برز ذلك بوضوح عندما تراجعنا من الضفة الغربية إلى الشرقية بعد أوامر الانسحاب؛ فقد قام بسرعة شديدة بتنظيم بقايا الجيش لإغلاق المحاور الثلاثة التي يمكن أن تعبر منها القوات الإسرائيلية إلى الضفة الشرقية: محور القدس، ومحور وادي شعيب، والمحور الشمالي، من خلال ما تبقى من جنود ومعدات، ضمن خطة سريعة. ثم جاءت معلومات لاحقة تؤكد قصف إسرائيل للجسور، مما خلق قناعة راسخة لديه بأنهم لا ينوون التقدم شرق النهر.
ويقول فاضل فهيد وكان قائد سرّية دبابات في اللواء الذي يقوده زيد: «أُصبنا بإحباط شديد. وكان أبو شاكر يصل إلى الوحدات يتجول ويمر على الدبابات لرفع معنويات الأفراد، ولم يشعرنا بانهيار مصر. الساعة 9 مساء من اليوم الثامن من يونيو، تم إبلاغنا من قبل قائد كتيبتنا أن القدس سقطت، وطلب إخفاء الأمر عن الأفراد حماية للمعنويات. وعندما تجمعنا شرق النهر، كانت هناك كتيبة مدفعية يقودها أحد الضباط، سأله الشريف: هل سحبت مدافعك؟ فقال له: بقيت هناك غرب النهر، فقال له الشريف: الآن تذهب لإحضارها. وفعلاً هذا ما حصل».
المصدر : صحيفة الشرق الاوسط
تكشف السيدة نوزاد الساطي، أرملة الأمير الأردني الشريف زيد بن شاكر، في كتاب تروي فيه مذكرات زوجها، معلومات بالغة الأهمية عن مراحل مفصلية من الحياة السياسية في الأردن والعالم العربي في فترة تاريخية تمتد من حرب 1967 وصولاً إلى غزو الكويت وحرب الخليج، والاتصالات التي قامت في تلك الفترة بين العاهل الأردني الراحل الملك حسين والرئيس العراقي آنذاك صدام حسين. ويتضمن الكتاب الذي وضعت له عنوان: «زيد بن شاكر... من السلاح إلى الانفتاح» مواقف تروى للمرة الأولى عن تفاصيل اجتماعات أركان القرار الأردني في مفاصل مهمة عاشتها البلاد خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي. روايات السيدة نوزاد الساطي جاءت في سياق معلومات وذكريات زوجها لمعلومات تركها عندها في محاولة منه لكتابة مذكراته، قبل وفاته عام 2002. وتأتي أهمية الكتاب من أن زيد بن شاكر كان من أكثر المقربين من الملك حسين ورافقه على مدى عقود، وتدرج في الرتب العسكرية من قائد لواء للدروع، إلى قائد للجيش، ووزير للدفاع ورئيس للديوان الملكي ورئيس للوزراء، في ظروف دقيقة. كما منحه الملك حسين رتبة مشير التي لم يحظَ بها حتى ذلك العهد سوى الملك الأردني الراحل وأيضاً القائد العام للقوات المسلحة حابس المجالي، فكان هو ثالثهم. وفي سنة 1996 منحه الملك حسين لقب أمير. واعتباراً من اليوم تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات من الكتاب، وذلك قبل الرابع من سبتمبر (أيلول) موعد صدوره، في حفل جرى التحضير له منذ الأشهر الماضية. وستنشر «الشرق الأوسط» أبرز المعلومات التي تناولت أحداثاً كبرى كحرب عام 1967. ومعركة الكرامة عام 1968. و«أحداث أيلول» وما شهدته الأعوام من 1970 - 1973 من اضطرابات شهدتها المملكة الأردنية، وسط أحداث دراماتيكية في العلاقة بين الراحل الملك الحسين والرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وفي الكتاب أيضاً تفاصيل عن موقف الأردن خلال حرب الخليج الثانية، وتطورات العلاقة بين الراحل الملك الحسين والرئيس الراحل صدام حسين، وصولاً إلى أزمة استضافة عمّان لمسؤول التصنيع العسكري في الجيش العراقي صهر صدام حسين، حسين كامل، قبل عودته إلى العراق وقتله. ويتوقع أن تثير هذه المذكرات جدلاً واسعاً بشأن محطات تاريخية تتعلق بمفاصل مهمة من تاريخ الأردن والمنطقة على مدى أربعة عقود. وفيما يلي نص الحلقة الأولى:
كانت أحداث السموع «نقطة تحول» في مسار المناوشات العسكرية بين إسرائيل والعرب. وشعر الحسين بأنها «إنذار مباشر» بنوايا إسرائيل لاحتلال الضفة الغربية. ورغم التطمينات الأميركية المباشرة التي صدرت عن الرئيس ليندون جونسون للحسين، فإن «الشكوك العميقة» سكنت في عقله بأن عين إسرائيل على الضفة الغربية، وبأن أجواء الحرب بدأت تهيمن على المنطقة، عبر الرسائل العسكرية المتبادلة.
بالفعل، أخذت الأمور منحى تصاعدياً منذ مايو (أيار) 1967، وذلك باندلاع مواجهات عسكرية على الجبهة السورية - الإسرائيلية، وصولاً إلى تصريح إسحق رابين (وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك) بأنه سيحتل دمشق.
ورغم أن عبد الناصر كان متورطاً في الصراع العسكري باليمن، وكان لا يريد الحرب مع إسرائيل، ومتردداً بشأن قدرة العرب على كسب المواجهة العسكرية، فإنه اتخذ على إثر هذه التطورات على الجبهة السورية قرارات حاسمة دفعت بالمشهد الإقليمي إلى حافة الهاوية؛ إذ طلب من قوات الطوارئ الدولية الموجودة في سيناء على الحدود مع إسرائيل المغادرة، وقام بإغلاق مضائق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية، وحشد قوات كبيرة من الجيش المصري في سيناء على الحدود مع إسرائيل.
لم يكن عبد الناصر متحمساً للحرب، لكنه قام بهذه الخطوات - التي اعتبرتها إسرائيل بمثابة «إعلان حرب» - تحت ضغط الخطاب الشعبي الذي كان يهيمن على مواقفه السياسية وتصرفاته، فهو من خلق مناخ «حانحارب» (سنحارب). كما فعل ذلك لمواجهة الدعاية السياسية الأخرى التي كانت تروّج بأن وجود قوات الطوارئ بمثابة عازل دولي بين مصر وإسرائيل، ما يلقي بثقل الحرب على الجانب السوري.
في ذروة هذا التوتر الذي سبق الحرب، وصلت معلومات استخبارية من موسكو تفيد بنية إسرائيل الهجوم على الجبهة السورية. وهي المعلومات التي أثارت لاحقاً أسئلة وشكوكاً كبيرة، بعدما ظهر تالياً ما ينفيها، لكنها كانت في حينه مؤثرة تماماً على موقف عبد الناصر وقراراته بوضع قواته في حالة تأهب، لتوجيه رسالة واضحة لإسرائيل بأن موقف مصر حاسم إلى جانب سوريا.
هكذا وصل الحسين إلى قناعة بأن مناخ الحرب يهيمن على المنطقة. ورغم أنه كان متقدماً من الناحية الاستخباراتية على العرب الآخرين، ولديه مصادر معلومات أكثر دقة وعمقاً، فإن رسائله المتعددة لم تكن موضع ثقة لدى عبد الناصر للأسف الشديد.
ولعل الرسالة المهمة الأولى التي بعث بها الحسين لعبد الناصر، كما يعترف مؤرخ عبد الناصر والكاتب المقرب جداً منه، محمد حسنين هيكل، هي تحذيره عبد الناصر مبكراً، في بداية مايو (أيار)؛ إذ طلب اللقاء مع القائد العسكري المصري عبد المنعم رياض، والذي أخبره (الحسين) بالمعلومات المهمة التي بحوزته عن «الفخ» الذي يأتي عبر التصعيد على الجبهة السورية، لجر مصر إلى حرب خاسرة. لكن المصريين لم يفهموا تلك الرسالة ولم يقدروها، فكانوا متأثرين بالمعلومات السوفياتية وبالأخبار الواردة من الجبهة السورية.
في 30 مايو (أيار)، أي قبل الحرب بأيام قليلة، اتخذ الحسين قراره الحاسم بالسفر إلى مصر للقاء عبد الناصر، مع وفد رسمي رفيع المستوى يتشكل من رئيس الوزراء سعد جمعة، ووزير الخارجية أحمد طوقان، ورئيس هيئة الأركان عامر خماش، وقائد سلاح الجو الملكي صالح الكردي. فالتقوا بعبد الناصر، حيث مازح الحسين بقوله: «بما أن الزيارة سرية يمكنني أن أعتقلك؟ فأجاب الحسين: لم أفكر في هذا الأمر».
خلال اللقاء سأل الحسين عبد الناصر إن كان مستعداً للمواجهة وجاداً في قرار الحرب إذا وقعت، وأعرب الحسين عن خشيته على مصير القدس، فكان جواب عبد الناصر، كما نقله عامر خماش لاحقاً لزيد: «ح ادكاها لك» (سوف أدك القدس) من القاهرة. ولإظهار وقوفه المفصلي إلى جانب العرب في المواجهة، فاجأ الحسين عبد الناصر بطلبه توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين، شبيهة بالمعاهدة المصرية - السورية، والتي تم فعلاً استبدال كلمة الأردن بدلًا من سوريا، ووقع عليها الحسين وعبد الناصر.
كذلك، طلب الحسين من عبد الناصر إرسال عبد المنعم رياض معه إلى الأردن ليقود الجبهة الأردنية، وليكون مسؤولاً عن القوات الأردنية والقوات العربية المتوقع قدومها من العراق والسعودية، ولأن العلاقات كانت متوترة بين الأردن ومصر على خلفية طرد الأردن لأحمد الشقيري (رئيس منظمة التحرير الفلسطينية) بعد شعور الحكومة بالضيق من تصرفات قادة المنظمة خلال وجودهم في الأردن، فقد طلب عبد الناصر من الشقيري القدوم إلى الاجتماع ولقاء الحسين لإزالة الاحتقان بينهما، بل وتوسط لدى الحسين لاصطحاب الشقيري معه بالطائرة في رحلة العودة إلى عمّان، بالإضافة إلى عبد المنعم رياض.
بقي سؤال المليون الذي ما زال جدلياً في الأوساط الأكاديمية، والسياسية والعسكرية، يتمثل بالأسباب التي دفعت الحسين إلى الدخول بالحرب، والإقدام على تلك الخطوة الحاسمة؛ زيارة عبد الناصر وتوقيع المعاهدة، ثم دخوله الحرب لاحقاً إلى جانب القوات العربية الأخرى، رغم خشيته من غلبة الجانب العسكري الإسرائيلي، ومن عدم جدية استعداد العرب وغياب التخطيط الاستراتيجي عنهم.
يعزز هذا السؤال المهم أن هناك فريقاً معتبراً من السياسيين الأردنيين، حينها، في مقدمهم وصفي التل، وقفوا بآرائهم ضد هذه الخطوات، لإدراكهم أن الهدف الإسرائيلي أو الهدية التي تنتظرها إسرائيل من الحرب هي الضفة الغربية، واستكمال «حلم صهيون»، على حد تعبير حسنين هيكل نفسه.
لكن من الصعوبة بمكان الاقتراب من الجواب عن هذا السؤال بمعزل عن سياق الظروف الإقليمية والداخلية التي أثرت على قرار الحسين ومواقفه، وهي ظروف مستمرة غير منقطعة منذ انقلاب عام 1958 في العراق، وقتل العائلة المالكة هناك. فقد شاعت حالة من «الارتياب» (بارانويا) بين الشعب الأردني؛ اجتماعياً وسياسياً، فمسلسل الأحداث التي وقعت منذ عام 1958 وحتى عام 1967، دفع الحسين إلى المبالغة في إظهار وقوفه إلى جانب عبد الناصر عندما بدأت إرهاصات حرب 1967 بالظهور. كان الحسين يتخوف من نتائج مثل هذه الحرب في حال وقوعها، ولا سيما إن لم يشارك فيها، فبادر إلى زيارة عبد الناصر وتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك معه، رغم ظنه أنها ستكون حرباً خاسرة. كما أن الاتهامات للأردن وإفقاد الثقة به عربياً (من قبل أحمد سعيد في «صوت العرب» وغيرها من وسائل الإعلام المصرية)، هي ما دفعت الحسين إلى الطلب من عبد الناصر إرسال قائد عسكري مصري (عبد المنعم رياض) ليتولى قيادة العمليات من الأردن. وقد عبّر الحسين عن ذلك صراحة في لقائه مع عبد الناصر، بقوله له إن القيادة المصرية تتهم الأردن وقيادته، وهو لذلك يريد قائداً مصرياً ليرى كيف نخوض المعركة.
ورغم أن الوقت أظهر نجاح سياسات الحسين في مقابل فشل سياسات عبد الناصر، والزمن هو أكبر حكم، فإنه يظل أكثر ما يحز في النفس - لدى زيد وأنا - ما واجهه الحسين من صعوبات ومعاناة لإثبات مصداقيته. فعقب الانقلاب في العراق، بلغ الحد بعبد الناصر أن يشتم والدة الحسين، جلالة الملكة زين الشرف، في أحد خطاباته، بالتزامن مع الحملات الإعلامية غير المنقطعة، التي كانت تصف الحسين بأنه «من أذناب الاستعمار».
أمام ذلك، لم يكن أمام الحسين إلا الوقوف مع العرب في تلك الحرب، لأن الظروف الداخلية والحالة الشعبية أيضاً كانت في حالة غليان، وجاء الاعتداء الإسرائيلي على قرية «السموع» ليصب الزيت على النار، مع توتر العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية والدعاية التي تملأ الأجواء العربية ضد الأردن، وعدم تمييز العرب والفلسطينيين تحديداً بين الشعارات الشعبوية التعبوية من جهة، ومتطلبات الحرب الحقيقية من جهة أخرى.
ومع خشية القيادة الأردنية من أننا مقبلون على حرب خاسرة قد نفقد فيها الضفة الغربية، فإن قرار الحسين بالوقوف مع العرب جاء أيضاً لعدم ثقته بالضمانات الأميركية وبالنوايا الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية، عاجلاً أم آجلاً. وهو الأمر الذي كان يدركه زيد بعمق.
قبل يومين من الحرب، زار الحسين قوات أردنية في الضفة الغربية، وبدأ باللواء 60 الذي يقوده زيد، وقال للضباط والجنود: «إن وقعت الحرب، الله لا يمتحننا، لأننا غير قادرين وغير مستعدين لمواجهة إسرائيل في الظرف الذي نحن فيه الآن (نحن ليس الأردن فقط، وإنما الدول العربية كلها). ولأن النتائج ستكون عكس ما نأمل وعكس ما يتطلع إليه المواطن العربي في كل مكان. لكن إذا حدثت الحرب أنتم أمام طريق واحدة، هي أن ترفعوا رأس بلدكم وتحافظوا على تقاليد جيشكم وتحاربوا بقدر ما تستطيعون. وإن شاء الله سيأخذ بيدنا».
قدّم الملك الحسين تحذيره الأخير لعبد الناصر - عقب تحذيرين مماثلين سابقين في 30 مايو (أيار) و3 يونيو (حزيران) - كان يوم الرابع من يونيو (أي قبل اندلاع الحرب بساعات)، بناء على معلومات من السفير التركي في عمّان، تم تأكيدها أيضاً بشكل منفصل من السفير العراقي، بأن «إسرائيل ستبدأ هجومها يوم الخامس أو السادس من يونيو -حزيران بغارات جوية تستهدف المطارات المصرية»، وهو التحذير الذي رد عليه المصريون بأنهم «يتوقعون مثل هذا الهجوم وهم مستعدون له».
ساعة الصفر
في صباح اليوم التالي 6 يونيو (حزيران) كانت ساعة الصفر، وانجلى الغبار سريعاً عن حقائق مروعة مبكرة لنتيجة المعركة التي كان الكل ينتظرها ويترقبها ويستعد لها منذ أشهر. فقد قامت الطائرات الإسرائيلية بالإغارة على المطارات المصرية ودمّرت الطائرات الحربية في مرابضها، عبر موجات خاطفة. وعملياً، كانت هذه الغارات بمثابة الضربة القاضية للقوات العربية كلها، إذ كانت تعوّل على الغطاء الجوي المصري في مواجهة إسرائيل!
ساد ارتباك شديد القيادة العسكرية المصرية، نتيجة هذه الضربة الجوية الحاسمة. لكن لم يرِد قائد الجيش المصري عبد الحكيم عامر الاعتراف بهذه الهزيمة، وروّج رواية - أتت بنتائج كارثية - نقلها الإعلام المصري بأن المضادات الجوية المصرية تصدت للطائرات الإسرائيلية وقضت على 75 في المائة منها. وهي الكذبة التي أرسل بها عامر إلى عبد المنعم رياض والجبهة الأردنية، طالباً من الجيش العربي بدء القتال والالتحام بالقوات الإسرائيلية.
بالفعل، بدأت القوات المسلحة الأردنية بقصف المواقع الإسرائيلية المجاورة في القدس، وتقدمت للأمام وسيطرت على بعض المواقع المتقدمة في القدس، في حين أغارت الطائرات الأردنية في الساعة 11 صباحاً على مطارات إسرائيلية. لكنها لم تجد طائرات حربية إسرائيلية، إذ كانت في عمليات جوية ضد الطيران المصري.
تالياً، أغارت الطائرات الإسرائيلية مباشرة على الطائرات الأردنية وهي تستعد لغارة ثانية وتتزود بالوقود، فقامت بتدميرها. واستشهد الضابط الطيار الأردني فراس العجلوني، وهو يستعد للإقلاع بطائرته. وكذلك كان مصير الطائرات السورية والعراقية. هكذا، ومع ساعات الظهيرة، كانت إسرائيل قد قضت على سلاح الجو العربي كاملاً، وانفردت بقصف الجيوش العربية في الجبهتين المصرية والأردنية، حيث واجه الطرف العربي القوات الإسرائيلية من دون أي غطاء جوي يذكر!
تلقى الحسين رسالة مهمة في بداية الحرب، بعد القضاء على القوات الجوية المصرية، من رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول، عبر وسطاء أوروبيين (وآخرين أميركيين)، يتعهد فيها أشكول بأن إسرائيل لن تهاجم الأردن إذا لم يبدأ جيشنا بالقتال. لكن الحسين رفض ذلك قائلاً: «أنا عربي ومن واجبي المشاركة في القتال».
لم يكن الحسين يعرف أن القوات الجوية المصرية قد تم تدميرها بالكامل، وذلك بناء على الرواية المصرية الزائفة. وقد اعترف لاحقاً أنه لو كان يعلم بالأمر لما دخل حرباً خاسرة حكماً.
أتاح تدمير القوات الجوية العربية خلال الساعات الأولى امتلاك إسرائيل الجو كاملاً؛ فكان الجيش المصري يتلقى الضربات في صحراء سيناء المكشوفة، مما دفع بالقيادة العسكرية إلى اتخاذ قرار الانسحاب في صباح اليوم التالي من سيناء. لكن بسبب حالة الفوضى وغياب التخطيط الاستراتيجي والارتجال في إدارة المعركة العسكرية، جاءت تكلفة الانسحاب باهظة جداً على الجيش المصري، كما يعترف هيكل؛ إذ كان عدد الشهداء من الجيش المصري في اليوم الأول 642 جندياً، لكن في مساء 8 يونيو (إلى حين التوقف الرسمي للقتال) بلغ العدد 6811 شهيداً، مما يعني أن الجيش لم يكن ينسحب، بل كان في حالة فوضى أدت إلى تلك الكارثة.
الأردنيون يقاتلون ببسالة
على الجبهة الأردنية، وخلال الساعات الأولى لليوم الأول، قاتل الجنود الأردنيون ببسالة، وسيطروا على مواقع إسرائيلية في القدس. لكن الأمور اختلفت بالكلية في مساء اليوم نفسه، عندما بدأت تتضح نتائج مغالطات وأخطاء وادعاءات القيادة العسكرية المصرية؛ إذ بدأت الضربات الجوية الإسرائيلية تغيّر ميزان القوة على الأرض بالكامل. وذاق الجنود الأردنيون الأمرّين من هذا الاختلال الكبير، فكانوا يهربون من قصف جوي إلى آخر، بلا أي سند جوي.
قبل 48 ساعة من الحرب صدرت الأوامر من القيادة للواء زيد بالتحرك نحو الخليل من منطقة خان الأحمر غرب أريحا حيث كان يوجد. وكان زيد يشرف بنفسه على الخطط وسير الأمور في أرض الميدان.
مع إخفاء حقيقة تدمير سلاح الجو المصري تماماً، قضت الأوامر بأن يلتقي لواء زيد مع الجيش المصري الذي كان يفترض أن يكون قادماً من جهة النقب باتجاه مدينة الخليل. من أجل ذلك، أمر زيد بفتح طريق صحراوية ترابية نحو الخليل، بعيداً عن الطريق التقليدية، لاختصار الوقت والمسافات لتحقيق تلك المهمة، كما يذكر مساعد قائد سلاح الهندسة حينها عبد الهادي المجالي، الذي كان ينسّق مع زيد.
ويروي لنا عيد الروضان، الذي كان بجوار زيد خلال فترة الحرب، تفاصيل مهمة عن تلك اللحظات التراجيدية الحزينة، فيقول: «في بداية الحرب كنت مع زيد في السيارة، وبقيت معه خلال مرحلة الحرب كاملة. وصلنا إلى منطقة الظاهرية بعد الخليل، حيث كان هناك مخفر للشرطة الأردنية. فصعدنا إلى أعلى المبنى لنستكشف الطريق التي من المفترض أن نسير عليها من أجل الوصول إلى نقطة الالتقاء مع الجيش المصري. لكن في الأثناء تسلم مأمور المخفر برقية جاء فيها أن مقرات اللواء قُصفت من قبل الطيران الإسرائيلي، فعدنا إلى هناك ووجدناها محترقة بالكامل. ووجدنا أنفسنا بعد ساعات قليلة من بدء الحرب أمام واقع مؤلم؛ فكل ما كانت تتحدث عنه إذاعة «صوت العرب» من القاهرة لم يكن صحيحاً؛ أي البطولات الوهمية وتدمير 75 في المائة من الطائرات الإسرائيلية! العكس هو الصحيح؛ إذ تم تدمير طائرات المصريين بالكامل، ولم يكن الجيش المصري يتقدم، بل ينسحب من سيناء تحت القصف الإسرائيلي، فتغيرت الأمور وتحولت مهمة اللواء 60 إلى وحدات احتياط للوحدات التي تدافع عن القدس بعد أن انتقل الضغط الإسرائيلي بالتدريج إلى الجبهة الأردنية.
خلال تلك الفترة ونتيجة القصف الجوي الإسرائيلي المكثف وغياب الغطاء الجوي لجيشنا، صدرت أوامر لقادة الجبهة الغربية بالانسحاب. كان المحور الوحيد لذلك هو أريحا - القدس، فذهبنا إلى هناك مع زيد. في اليوم الثاني للحرب، جاءت أوامر الانسحاب للجيش العربي من الضفة الغربية، من قبل قائد القوات العربية على هذه الجبهة، عبد المنعم رياض. وقد طلب منه الأردن أن يوقع رسمياً على هذا القرار، كي لا يقال في التاريخ إن الجيش العربي انسحب وترك سكان الضفة (نصف مواطني المملكة) وتخلى عنهم، فالكل كان يعلم تماماً أن الخيار الآخر البديل للانسحاب من الضفة الغربية، بعد انسحاب الجيش المصري في صباح اليوم نفسه، هو إبادة القوات الأردنية بالكامل بسبب الطيران الإسرائيلي والتفاوت الكبير بينهما في التسليح، بعد أن بدأت قطاعات الجيش الإسرائيلي تركز خلال تلك الفترة على الجبهة الأردنية تحديداً.
ويذكر زيد عبد المنعم رياض بالخير. ويرى أنه ظُلم بقرار تسلمه للقوات الأردنية في الجبهة؛ إذ لم تكن لديه معرفة بطبيعة المنطقة ولا بالقوات الأردنية وبالجبهة التي يقاتل فيها، فقد جاء قبل أيام معدودة من بدء القتال. رغم ذلك، كان قراره بالانسحاب من الناحية العسكرية والمنطقية حكيماً وصائباً، ووصفه زيد بالشهم والشجاع.
في تلك الأثناء، دعا عبد الناصر نفسه (يؤكد ذلك ما ورد في رواية هيكل عن الحرب) الحسين إلى طلب وقف إطلاق النار وعودة إسرائيل إلى حدود الهدنة، وإنقاذ الضفة من الاحتلال. لكن الإسرائيليين الذين جاءتهم هذه الفرصة على طبق من ذهب رفضوا. وفي النهاية، وافق الأردن على طلب وقف إطلاق النار مجرداً من أي شروط، بعدما أصبحت الخشية كبيرة من فقدان الجيش العربي بكامله، وبما كان سيؤدي إلى مشكلات سياسية وأمنية، وربما حالة فوضى في الضفة الشرقية أيضاً، وليس في الضفة الغربية فقط. يضيف عيد الروضان في روايته لتلك الأحداث: «خلال الأيام الثلاثة الأولى بدأت تسقط مدن وقرى الضفة الغربية الواحدة تلو الأخرى بيد جيش الاحتلال الإسرائيلي، بما فيها القدس».
بعد قرار الانسحاب بدأت تصل القوات العراقية إلى المنطقة المطلوبة لبدء العمليات العسكرية. لكن كان ذلك بعد فوات الأوان، فضلاً عن أن القوات العراقية وصلت منهكة تماماً؛ إذ تعرضت خلال مسيرها من القاعدة العسكرية إلى الكرامة، لقصف إسرائيلي جوي شديد. وعقد معهم أبو شاكر وقادة الجيش العربي اجتماعاً مشتركاً بعد وصولهم مباشرة.
في تلك الأيام جاءنا قائد الجبهة الشرقية اللواء مشهور حديثة بعد انهيار الجبهة الغربية، ونقل قيادته من الزرقاء إلى السلط. وكان الأمر الأساسي الذي يشكو منه أبو شاكر مع مشهور (وكنت أستمع إليه وأنا في معيته) هو تضارب الأوامر الصادرة لوحدات الجيش وغياب الوعي الحقيقي بالميدان من قبل القيادة العربية المشتركة برئاسة عبد المنعم رياض. الشخصية القيادية لزيد ظهرت أيضاً عبر إمساكه بزمام المبادرة العسكرية في القوات المسلحة، والحفاظ على أدائها العسكري والاحترافي والفني خلال أيام الحرب. وقد برز ذلك بوضوح عندما تراجعنا من الضفة الغربية إلى الشرقية بعد أوامر الانسحاب؛ فقد قام بسرعة شديدة بتنظيم بقايا الجيش لإغلاق المحاور الثلاثة التي يمكن أن تعبر منها القوات الإسرائيلية إلى الضفة الشرقية: محور القدس، ومحور وادي شعيب، والمحور الشمالي، من خلال ما تبقى من جنود ومعدات، ضمن خطة سريعة. ثم جاءت معلومات لاحقة تؤكد قصف إسرائيل للجسور، مما خلق قناعة راسخة لديه بأنهم لا ينوون التقدم شرق النهر.
ويقول فاضل فهيد وكان قائد سرّية دبابات في اللواء الذي يقوده زيد: «أُصبنا بإحباط شديد. وكان أبو شاكر يصل إلى الوحدات يتجول ويمر على الدبابات لرفع معنويات الأفراد، ولم يشعرنا بانهيار مصر. الساعة 9 مساء من اليوم الثامن من يونيو، تم إبلاغنا من قبل قائد كتيبتنا أن القدس سقطت، وطلب إخفاء الأمر عن الأفراد حماية للمعنويات. وعندما تجمعنا شرق النهر، كانت هناك كتيبة مدفعية يقودها أحد الضباط، سأله الشريف: هل سحبت مدافعك؟ فقال له: بقيت هناك غرب النهر، فقال له الشريف: الآن تذهب لإحضارها. وفعلاً هذا ما حصل».
المصدر : صحيفة الشرق الاوسط
التعديل الأخير: