أزمة القوقاز: ما الذي أيقظ المارد الروسي من سباته؟

معمر القذافى

عضو مميز
إنضم
8 أكتوبر 2008
المشاركات
2,471
التفاعل
81 0 0
16233.jpg

أزمة القوقاز: ما الذي أيقظ المارد الروسي من سباته؟
السبب الحقيقي الذي دفع الدب الروسي إلى التكشير عن أنيابه في وجه جورجيا يكمن في تصادم مصالحه مع الغرب في جبهات مختلفة، ما حدا بروسيا أن تجعل من غزوها العسكري رسالة إنذار شديدة اللهجة لمن بات يتعدى حماها دونما خوف أو توجس.
18.12.2008 07:38

بدت الأزمة الأخيرة التي اندلعت في القوقاز بين روسيا والجمهوريتين الساعيتين إلى الانفصال والاستقلال عن جورجيا (أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية) من جهة، وبين جورجيا وحلفائها الغربيين من جهة أخرى، وكأنها حلقة جديدة من مسلسل قديم ومكرور لطالما عرفته المنطقة الغنية بالثروات الباطنية على مدى تاريخ الطويلة من الحروب والنزاعات الإقليمية والعرقية والإثنية. والحال أن الصراع الذي انفجر واندلع فجأة ومن دون سابق إنذار، ما هو إلا ستار واه لمخزون كبير من الاحتقان السياسي الذي كان الدب الروسي قد تحمله في الفترة السابقة، وهو يراقب الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها الغربيين يتمددون في الفناء الخلفي لواحدة من كبرى الدول وأهمها في منطقة القوقاز ووسط آسيا والعالم بأسره.
وعليه، فإن سبب اندلاع الأزمة الأخيرة في منطقة القوقاز أعمق بكثير من مجرد اهتمام روسيا بسلامة سكان أوسيتيا الجنوبية، وهم أقلية عرقية غير روسية. فالسبب الحقيقي الذي دفع الدب الروسي إلى التكشير عن أنيابه في وجه جورجيا يكمن في تصادم مصالحه مع الغرب في جبهات مختلفة، ما حدا بروسيا أن تجعل من غزوها العسكري رسالة إنذار شديدة اللهجة لمن بات يتعدى حماها دونما خوف أو توجس.
تشكل أزمة «كوسوفو» مثالاً صارخاً على تصادم المصالح الحاصل بين الغرب وروسيا في هذه المنطقة من العالم (البلقان). فقد عارضت روسيا، حليفة صربيا التاريخية، على الدوام مطالب سكان كوسوفو الألبان بالاستقلال، خشية أن يفضي الاعتراف الدولي باستقلال هذا الإقليم الإثني إلى تشكيل سابقة تاريخية سياسية بالنسبة إلى الأقاليم الانفصالية داخل حدود روسيا ذاتها، مثل الشيشان. إلا أن الدول الغربية تجاهلت المصالح الروسية واعترفت باستقلال إقليم كوسوفو فور إعلانه في فبراير/ شباط .2008 وهو ما اعتبرته روسيا على لسان دبلوماسييها «سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار والأمن في أوروبا، وأنه سيحرق أوروبا بأكملها».
ويبدو أنه أتيحت لروسيا الفرصة لإثبات وجهة نظرها وجباية ثمن تجاهل مصالحها من الغرب والولايات المتحدة. فأيدت روسيا في البداية إعطاء حكم ذاتي لأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، لكنها بعد الغزو اعترفت باستقلال هذين الإقليمين، متجاهلة بشكل تام مواقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، رداً على إدارة ظهر الغرب للمصالح الروسية في قضية إقليم كوسوفو. ويشكل الملف النووي الإيراني إحدى جبهات الصراع بين روسيا والغرب، ففيما تساعد روسيا إيران في حيازة التكنولوجيا النووية وتبني لها مفاعلاتها، تشعر الولايات المتحدة ودول أوروبا بالقلق من تقدم برنامجها النووي. وهو ما حدا بالولايات المتحدة لبحث موضوع نصب منظومة صاروخية مع كل حليفتيها الاستراتيجيتين في وسط أوروبا (بولندا وتشيكيا)، لمواجهة أي تهديد إيراني محتمل. وهو ما أثار حفيظة روسيا وشكوكها حيال الغاية الحقيقية للولايات المتحدة وحلفائها لنصب منظومة الصواريخ في الحديقة الخلفية لروسيا ومع حلفائها السابقين. ويميل الروس إلى الاعتقاد بأن إصرار الولايات المتحدة على نصبها منظومة الصواريخ المزعومة يمهد الطريق أمام عودة الولايات المتحدة إلى عصر سباق التسلح بين الشرق والغرب. وهو ما دفع وزير الخارجية الروسي إلى التصريح بأن نصب المنظومات الدفاعية في بولندا وتشيكيا من دون تقديم ضمانات كافية لروسيا سيدفع بلاده إلى الرد بوسائل «عسكرية تكنولوجية». وهو ما جسده هجوم روسيا على جورجيا والاستخدام العسكري الكبير لقواتها للرد على الاستفزازات الجورجية، في رسالة واضحة للغرب على قدرة روسيا على إعادة ممارسة دورها العسكري كواحدة من الدول الكبرى عسكرياً على مستوى العالم. ومن الجبهات التي تشكل إحدى محطات استفزاز الدب الروسي، نشاط الولايات المتحدة في الشراكة مع دول في أوروبا الشرقية ووسط آسيا، من خلال دعم جيوشها واقتصاداتها وتعزيزها. فروسيا غير معنية بقيام أنظمة غربية مناوئة لها في محيطها المباشر وفي المناطق التي كانت تخضع تاريخياً لنفوذها. فضلاً عن أن روسيا تنظر بعين الريبة إلى تمدد حلف الناتو العسكري شرقاً وانتشاره على حدودها. إذ ينظر إليه الروس على أنه تهديد مباشر لأمن كيانهم، فبعد نجاح الناتو بضم كل من بولندا والمجر وتشيكيا من دول وسط أوروبا، وأستونيا ولاتفيا من دول شرق أوروبا المجاورة لها، جاء الدور على كل من جورجيا وأوكرانيا الملاصقتين لها، ما يعد خطاً أحمر لا يمكن السكوت على تجاوزه. وقد صرح نائب وزير الخارجية الروسي بأن انضمام هاتين الدولتين إلى حلف الناتو سيشكل «خطأ استراتيجياً شنيعاً له انعكاسات خطيرة على أمن القارة الأوروبية بأكملها». وسيؤدي إلى تدهور في علاقات روسيا مع الدولتين. وهو ما يبرهن على أن الهجوم الأخير على جورجيا جاء بمثابة تهديد صريح للغرب المتمدد شرقاً باتجاه الحدود الروسية الاستراتيجية مع أوروبا.
ويمكن اعتبار العامل الاقتصادي واحداً من الجبهات التي أهمل الغرب فيها مصالح الدب الروسي واستفز مشاعره ومصالحه من جراء ذلك على حد سواء. إذ تعتبر روسيا إحدى أكبر الدول المصدرة للنفط والغاز الطبيعي في العالم. وفي الوقت الذي لا تملك فيه دول آسيا الوسطى الغنية بالموارد اتصالاً مباشراً بالبحر الأسود وأوروبا، فإنها تبيع إنتاجها من الغاز الطبيعي لروسيا بنصف الثمن، والتي تقوم بدورها ببيعه بثمن كامل لأوروبا، ما حدا بأوروبا إلى البحث عن وسائل وطرق أخرى لتقليص تبعيتها لروسيا، وإيجاد طرق بديلة لاستيراد الغاز والنفط من آسيا الوسطى، وهو ما وجدته في جورجيا وهي الدولة الوحيدة عدا روسيا، التي تمتلك اتصالاً برياً مع آسيا الوسطى (عن طريق أذربيجان وبحر قزوين)، ومع دول الاتحاد الأوروبي (عبر البحر الأسود). ودشنت جورجيا أخيراً أنبوبين لتصدير النفط إلى أوروبا عن طريق مينائها في البحر الأسود، والذي يمر بالقرب من المدينتين اللتين احتلتهما روسيا أخيراً (غوري وبوتي)، وعن طريق ميناء تركيا في البحر المتوسط.
فما يقلق الروس هو سعي الغرب وجورجيا إلى كسر الاحتكار الروسي في تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا، بواسطة إنشاء أنبوب بحر قزوين الذي يربط مستودعات الغاز في آسيا الوسطى بأذربيجان ثم عبر جورجيا إلى أوروبا. فجاء الغزو الروسي لجورجيا لزعزعة استقرار النظام الجورجي وخلق تأثير روسي حاسم على أوسيتيا الجنوبية، القريبة من مسار الأنابيب المقترحة، وعلى أبخازيا مع مينائها الاستراتيجي على البحر الأسود، ما يعزز احتكار الدب الروسي لتصدير موارد الطاقة إلى أوروبا.
لم تكن أزمة القوقاز الأخيرة، وغزو الجيش الروسي لجورجيا، واعتراف روسيا باستقلال كل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية سوى حلقات صغيرة في مسلسل التجاذب في المصالح بين الغرب وروسيا، عكس حالة عدم تفهم الغرب والولايات المتحدة بالذات للمصالح الاستراتيجية الروسية في منطقة تعتبرها روسيا حديقة خلفية لحدودها مترامية الأطراف. فهل تعي أوروبا والولايات المتحدة مخاطر اللعب بالنار مع الدب الروسي الذي تجاوز أزمات انهيار الاتحاد السوفيتي وتراجع مكانته على الساحة الدولية، وبات مستعداً لإثبات حضوره وقوته وتعافيه ولو بالقوة حتى مع أقرب أصدقائه وحلفائه السابقين؟




 
عودة
أعلى