نشرت صحيفة ذَا إنڤيستيجيتيڤ چورنال (تي أي چيه) الاستقصائية البريطانية؛ تقريراً مطولاً من تسع عشرة صفحة عن الدور التركي في تسهيل دخول الإرهابيين من حول العالم إلى داخل سورية عبر الحدود البرية بين الدولتين، راجع التقرير -الذي تلقت "الرياض" نسخة منه ويتم نشره على حلقتين متتاليتين- المئات من التسجيلات السرية للاتصالات التي تم الحصول عليها من خلال مصادر خاصة في العاصمة التركية أنقرة، فضحت هذه التسجيلات الدور الذي تلعبه الحكومة التركية في تمكين بل وتسهيل حركة المسلحين الأتراك والأجانب عبر الحدود التركية إلى سورية ليحاربوا إلى جانب المتطرفين التابعين لـ (داعش).
التسجيلات، والتي خرج بعضها للعلن في قضية خاصة بداعش تم إغلاقها سريعاً في أغسطس 2018، تظهر وجود اتفاق ضمني بين داعش والمسؤولين الأمنيين الأتراك سمح للمهربين بالعمل بحرية على جانبي الحدود بين البلدين والتي تمتد لـ 822 كلم من دون أي تبعات على الحكومة الإردوغانية، الاتفاق أيضاً سمح لداعش بإدارة خطوط لوجستية عبر الحدود لنقل المقاتلين الجرحى من الجبهة إلى تركيا لتلقي العلاج.الدعم والرعاية الطبية للدواعش بإشراف الاستخبارات التركية
المناقشات المسجلة بين الفاعلين في داعش تكشف قصة مختلفة عمّا تردده حكومة إردوغان في العلن؛ ما يظهر هو تقديم الحكومة لغطاء سياسي لا غنى عنه لداعش حتى تستطيع العمل وتتفادى طائلة القضاء من جهة أخرى. التسجيلات التي تم الحصول عليها تمت بإذن قضائي كجزء من تحقيق قانوني عن داعش تم إطلاقه في 2014 من قبل مكتب المدعي العام في أنقرة.
على الرغم من ذلك، وباستثناء بعض المعلومات المتعلقة بقضية أخرى لتنظيم داعش تجري في أنقرة، لم تخرج تلك التسجيلات للعلن أبداً، الواقع هو أن التنصت على عناصر داعش الرئيسين تم إيقافه في 27 إبريل 2015، بل وتم تدمير بعض التسجيلات طبقاً لتعليمات محققي الشرطة الأتراك تحت ادعاء أنه لم تكن ثمة جريمة مرتكبة.طائرات قطرية تنقل الأسلحة للمقاتلين عن طريق مطار ايزنبوجا
بدأ تقرير تي أي چيه بتقديم شخصية الوسيط، وهو مواطن تركي ذو لحية كثيفة مع شارب وشعر قصيرين؛ في السادسة والثلاثين من عمره ويحمل اسم إلهامي بالي. أصبح الشخص الذي ينادونه بكنيته (أبو بكر) قائداً ذَا نفوذ على المنطقة الحدودية يقوم بتسهيل وإدارة مرور أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب والأتراك والسوريين ذهاباً وإياباً عبر الحدود التركية السورية.
السجلات الرسمية أوضحت أن إلهامي بالي مسجل كمقيم في بلدة ريهانلي التركية الحدودية في مقاطعة هاتاي الواقعة في جنوب شرق البلاد، ويعتقد أنه حالياً موجود في شمالي سورية. بالي ظل تحت مراقبة السلطات التركية لفترة طويلة، وظل هاتفه تحت المراقبة بأمر من محكمة الجنايات. المحاكم التركية كانت قد أدانته سابقاً في تحقيق قبل الأزمة السورية في 2011 في تهم تتعلق بانتمائه لتنظيم القاعدة وحكم عليه بالسجن لثلاث سنوات، ومن المرجح أن بالي انتقل للحياة في سورية في 2012.
التسريبات المسجلة توضح دور بالي المحوري في إدارة عمليات التهريب عبر الحدود، متضمناً استقبال المقاتلين في المطارات ومحطات الحافلات في المحافظات التركية الجنوب شرقية وترتيب لقاءات لهم مع المهربين لتمرير المتطلعين للانضمام إلى داعش عبر الحدود إلى سورية، تكشف التسريبات أيضاً أن بالي قام بنقل البضائع عبر الحدود لصالح داعش والتي اشتملت على الأحذية والملابس وصولاً إلى الأغلال الحديدية وأجزاء الطائرات من دون طيار، النظارات المعظمة، الخيم، كشافات ذات قوة عالية وأيضاً قارب بحري!
بالإضافة إلى ذلك تكشف التسريبات عن أن الحكومة التركية كانت تعلم أسماء وأماكن 33 مواطناً تركياً تعهدوا بالعمل كسائقين لصالح شبكة التهريب التابعة لداعش، تم احتجاز بالي مؤقتاً قبل محاكمته بين الثاني من أبريل والتاسع عشر من سبتمبر 2012، بتهم تتعلق بانتمائه لتنظيم القاعدة ولكن السلطات التركية أطلقت سراحه.
عندما تمت إدانة بالي في 2015 والحكم عليه بست سنوات وثلاثة أشهر من السجن، كان بالي قد اختفى من تركيا وانتقل إلى سورية. في نفس القضية التي اتهم فيها بالي أدانت المحكمة المتهم الثاني، حسن أيدن، الذي تم القبض عليه في نفس اليوم مع بالي، وحصل على نفس الحكم بست سنوات وثلاثة أشهر ولكنه أطلق سراحه في الثالث من ديسمبر 2012 لينتقل بعدها للإقامة في سورية.
أصدرت المحاكم التركية أوامر بالقبض على بالي في الأعوام 2014 و2015 بعد القبض على عدد من الأشخاص أثناء عبورهم الحدود في طريقهم إلى الانضمام إلى داعش، طبقاً للاتهامات التي أطلقها المدعون الأتراك، فإن أصابع الاتهام تشير إلى بالي بصفته العقل المدبر خلف تفجيرات أنقرة الإرهابية في 2015 والتي أودت بحياة 142 شخصاً، وأيضاً التفجير الانتحاري الذي تم من قبل داعش مستهدفاً منظمات المجتمع المدني المؤيدة لليسار الكردي في تظاهراتهم السلمية خارج محطة قطار أنقرة قبل انتخابات نوفمبر 2015 ومؤدياً لمصرع 105 أشخاص منهم.
على الرغم من وجود عدة أوامر للقبض على بالي، وكما أوضحت التسجيلات الهاتفية فإن السلطات التركية كانت تعلم موقعه بالتحديد، فإن أياً منها لم يطبق؛ ونجح هذا الإرهابي الداعشي الخطير في مراوغة المنظومة الجنائية التركية ومتابعة الحركة بحرية من وإلى سورية.
أظهرت التسجيلات الهاتفية كيف أدارت داعش مركزاً للتطرف من خلال تركيا يتضمن خطوطا ساخنة للاتصال ومركزاً للاتصالات يتواصل ويوجه ويستقبل الإرهابيين الراغبين في الانخراط في الحرب السورية، أدارت قيادة داعش خطاً هاتفيا من مدينة تل البياض الحدودية، وأظهرت التسجيلات قيام بالي بتحويل المكالمات الواردة إلى مركز اتصالات داعش للحصول على موافقتهم والحصول على الضوء الأخضر لإدخالهم إلى سورية.
أوضحت التسجيلات أيضاً أنماط داعش في العمل كطريقتهم في ترتيب اللقاءات بين المتطرفين والمهربين والمتعاملين، تلقى بالي في أحد التسجيلات اتصالاً من أرقام مسجلة بأسماء جورجية وروسية لمناقشة توزيع هواتف محمولة على الارهابيين الأجانب، كما أوضحت الاتصالات قيامه بالترتيبات لمجموعات من المتطرفين كانوا في انتظار التقاطهم في أحد المولات التجارية وفي أحد الفنادق في مدينة جازيانتپ التركية الحدودية. نصحهم بالي بالركوب لنقطة لقاء متفق عليها حيث سيقوم بالتقاطهم لبدء رحلة العبور الحدودية.
أظهرت التقارير قيام داعش باستخدام محطات الوقود والمساجد وحتى ملاعب كرة القدم كنقاط للقاء، كما وقع اختيارهم على فنادق معينة لا يهتم موظفوها بطلب بطاقات هوية أو جوازات سفر رسمية للحجز وذلك بالمخالفة للقوانين التركية التي تطالب الفنادق ببث تسجيل دخول جميع النزلاء إلى الفنادق للشرطة لتعقب المطلوبين والقبض عليهم أثناء إقامتهم. أظهرت التسجيلات أن السلطات التركية على علم كامل بعدد المتطرفين الذين يقوم بالي ومن هم على شاكلته بتهريبها عبر الحدود.
في أحد الاستجوابات القضائية في 2016، اعترف المتهم الداعشي يعقوب شاهين والذي كان يخضع للمحاكمة لقيامه بشراء نترات الأمونيا المستخدمة في صناعة القنابل بأنه يعلم جيداً من ذهبوا إلى سورية، وفي تسجيلات أخرى يسمع بالي وهو يناقش الأعداد التي تعبر الحدود ويقدم بها تقارير شهرية لقادة داعش من أجل الحصول على مستحقاته بمتوسطات من 50 إلى 100 شخص في اليوم الواحد مما يصل بالأعداد إلى قرابة الـ 150،000 متطرف سنوياً!
وتحت عنوان "الدعم والرعاية الطبية لداعش في تركيا" يناقش التقرير التهريب عبر الحدود في اتجاه عكس التيار السائد من تركيا إلى سورية، حيث يتغير الاتجاه أحياناً للعبور العكسي إلى تركيا خاصة للمصابين الذين يبحثون عن الرعاية الطبية.
يبدو أن داعش قد تعاقدت مع مستشفى دانيسمانليك التخصصي بأنقرة لمعالجة المصابين من مسلحي داعش حيث توضح التسجيلات مناقشات بين بالي وصاحب المستشفى لترتيب دفع مبلغ 62،000 دولار كنفقات علاج لـ 16 مصاباً من مسلحي داعش في المستشفيات التركية والذين زارهم بالي بعلم السلطات التركية من دون أن يتم إلقاء القبض عليه، كما يشتكي صاحب المستشفى من تأخر سداد 150،000 دولار حساب للعمليات التي أجريت للإرهابيين مع ترتيب حجزهم في غرف خاصة بعيدة عن الأعين لشهور والتي وصلت تكاليف الفندقة فيها لأكثر من 40،000 دولار مع التنبيه عليهم بحلاقة لحاهم لإبعادهم عن الشبهات.
وفي تفريغ لتسجيلات لـ 997 مكالمة هاتفية بين المشتبه في تبعيتهم لداعش، تبين أن داعش لا تدعم المتطرفين فقط ولكن تقدم الدعم لأسرهم التي تركوها خلفهم في تركيا، وذلك بتحويل آلاف الدولارات لتغطية تكاليف الطعام والسكن بالإضافة إلى مرتبات وتكاليف شبكة التهريب، عندما كانت تشكو الأسر من قلة الموارد المالية المتاحة كان بالي يرد بأن المتطرفين يحاربون في سورية في سبيل الله وليس في سبيل توفير مكتسبات لأسرهم، وفي نفس السياق أقامت داعش محاكم شرعية للأسرة في سورية حيث توضح التسجيلات جهود زوجة تركية للحصول على الطلاق من زوجها المتطرف والعودة إلى تركيا.
وفي ضربة قوية، كشف التقرير عن أن الاستخبارات التركية (MIT) والمختصة بجمع المعلومات عن مصادر الخطر الخارجية والداخلية، قد تكون قد تورطت أيضاً في دعم سياسة إردوغان في دعم المتطرفين داخل تركيا وخارجها، بل وتوفير معلومات لهم من شأنها مساعدتهم على تفادي الوقوع في قبضة الشرطة التركية ذات نفسها، أي أن الانحراف قد وصل إلى درجة أن تعمل الاستخبارات ضد أجهزة بلادها الأمنية ذات نفسها!
التورط القطري
يقول مصدر كان يعمل لصالح المؤسسة الأمنية في تركيا، وكان يعمل في مهمة في مطار ايزنبوجا في ذلك الوقت. "تم تنظيم شحنتين أو ثلاث شحنات على أساس أسبوعي يتم تسليمها بواسطة الشاحنات في المطار تحت غطاء الليل. دون المرور بالجمارك ودون وجود سجل للشحن الجوي الوارد في سجلات المطار".
وأضاف المصدر أن "العملية التي شهدت هبوط الطائرات القطرية المحملة بالأسلحة المشحونة كانت تدار من قبل وكالة الاستخبارات التركية". ووفقًا للمصدر، فإن عميل المخابرات الذي تم تحديده فقط باسم "أوغر" أشرف على العمليات وكان يشغل منصب كبير ضباط البروتوكول المكلفين من قبل الحكومة لمطار ايزنبوجا. يذكر المصدر أن [العميل] كان معروفًا باللقب يالانشي الكذاب، "أوغر" لأننا كنا نعرف أنه لن يخبر الحقيقة متى سئل عن طبيعة العمل الذي شارك فيه.
حكومة ومخدرات!!
وقعت الحالة الثانية لاعتراض شحنة أسلحة في 19 يناير 2014 بعد بلاغ قدمه ضابط مخابرات الدرك التركي جولتيكين أفتشي، الذي كان يحقق في أنشطة تجار المخدرات وعصابة سرقة السيارات التي تعمل
خارج العاصمة التركية.
قامت وحدة الدرك باستغلال الاتصالات الهاتفية لـ 29 شخصًا من الذين ارتبطوا بالعصابة. في 18 يناير 2014، يُظهر التصنت على المكالمات الهاتفية أحد المشتبه بهم الذين قالوا على الهاتف إنهم يستقبلون ثلاثة ضيوف ليلا ويوافقون على الاجتماع في نفس المكان "في منتصف الليل كالعادة تقريبًا". بمساعدة تتبع إشارة الهاتف المحمول عبر الأبراج، قاموا بتحديد موقع المشتبه بهم في محيط مطار ايزنبوج وباستخدام السيارة لمطاردة الإشارة ومراقبة تحركات المشتبه بهم. اكتشفوا أن الإشارة كانت قادمة من قافلة من ثلاث شاحنات تتحرك من المدينة ومتجهة إلى محافظة أضنة، بالقرب من الحدود التركية السورية، اتضح أن ستة من المشتبه في انتمائهم لشبكة المخدرات هم عملاء المخابرات التركية، وأن زوجة أحد المشتبه بهم تعمل لصالح وكالة الاستخبارات التركية أيضا. لم يكن أفتشي وأعضاء فريقه على علم بأنهم وقعوا على عملية سرية تديرها الاستخبارات التركية، والتي تعد انتهاكًا واضحًا للقانون التركي، قبل عدة أشهر، شاركت وحدة الدرك نفسها في أنقرة في الكشف عن شبكة التهريب التي كانت تسرق الشاحنات، وكانت شاحنات يمكن تحميلها بمدفع رشاش وتحظى بشعبية لدى الجماعات المتطرفة في سورية. يقول أفتشي: إن ثلاثة من المشتبه بهم الـ 19 الذين تم احتجازهم في تلك العملية كانوا من متشددي القاعدة الذين شاركوا أيضًا في نقل المقاتلين الأجانب إلى سورية.
المصدر