جس النبض حول صواريخ "بيرشنغ"
يقول الأمير بندر بن سلطان، أن الهاجس الأول لدى الملك فهد بن عبدالعزيز، كان في كيفية تطوير سلاح الجو السعودي والدفاعات العسكرية، وتنامى التفكير بعد ما عرف بحرب المدن إبان الحرب العراقية- الإيرانية وتحديداً في عام 1984 م فقد كان العراقيون يستهدفون طهران بالصواريخ والإيرانيون يستهدفون بغداد كذلك. وبما أن لدى الطرفين قدرة على الوصول إلى العواصم، فإن ذلك يعني أن الرياض قد تكون هدفاً لأي اعتداء، ومعها بقية مدن المملكة.
انتهز الملك فهد فرصة لقائه واجتماعه بالرئيس الأميركي ريغان أثناء زيارته في فبراير (شباط) 1985 م والتي سبق الحديث عنها. يقول الأمير بندر إن الملك فهد قال لريغان : "يا فخامة الرئيس أريد أن أبحث معك موضوع تسليح المملكة، أنتم تعرفون الذي يحدث بين العراق وإيران ومنابع البترول قريبة من تلك المنطقة، ونرغب بأن يكون تسليحنا الاستراتيجي من عندكم وهو يعتمد على شيئين: صواريخ بيرشينغ وطائرات الـ اف 15 E ، أو أحدهما. قال ريغان أنا أؤيدك لكن يجب أن أكون صريحاً معك، الكونغرس لن يوافق. وتابع ريغان قائلاً: حاولت أن أستطلع الآراء ووجدت أنه لن يكون هناك تأييد، وإذا أردت سأجرب. قال الملك لا، لا نرضى أن تخسر أمام الكونغرس بسببنا".
حسب الأمير بندر، فإن الملك فهد كان يريد أن يحصل على كلمة ولو شفهية من الرئيس ريغان أن من حق الرياض التسلح بما تشاء مادام أن واشنطن لن توافق على الاحتياجات المحددة، وقال الملك فهد لريغان حتى يأخذ ما يريد : "هناك نقطة، في أحد خطاباتك فخامة الرئيس أنت قلت إن السلام يأتي عبر القوة، كلما أصبحت قوياً كلما كانت فرصة السلام أكبر، والعكس… ونحن نؤمن بالمبدأ نفسه، وهذا ليس مبدأ سياسياً عندنا بل عقائدي. وطلب الملك مني ترجمة أثر إسلامي عن رجل شاهده الرسول (اللهم صلي وبارك عليه) ولا يوجد معه سوى ناقته، ومر رجل آخر يحمل سيفاً وخنجراً ورمحاً فقال الرجل هذا يبحث عن السلم، والأول يبحث عن الحرب! فقالوا له كيف؟ أجاب بأن الأول سيسطو الناس عليه وعلى ناقته، أم الآخر المسلح المحاط بحرس فلن يقترب الناس منه".
ويواصل الأمير سرد القصة بين ريغان والملك فهد: "وقال الملك فهد: هذا الكلام من عقيدتنا، وأنا مرتاح لخطابك يا فخامة الرئيس، وشكر ريغان الملك، لأنه لا يريد وضعه في موقف محرج أمام الكونغرس".
وأضاف الأمير : "سأل الملك ريغان، لكن ألا تتفق معي أن من حق أي دولة أن تتخذ ما تراه مناسباً لحماية أمنها؟ رد ريغان بالإيجاب، ومن هنا انطلق الملك فهد".
لكن موضوع الرفض الأميركي على الموافقة لبيع صواريخ البيرشنغ أو الـ F15 E فتح باب التفكير في بدائل فورية. و كان الملك سيتجه من واشنطن إلى ماربيا لقضاء إجازة، كما كان الأمير بندر ينوي التوجه إلى مزرعته في أسبن لقضاء بعض الوقت، يروي بندر بن سلطان ما حدث في تلك الأثناء : "بعد انتهاء الزيارة وحين هممت بتقبيل يد الملك وتوديعه في المطار سألني: أين طائرتك؟ قلت في المطار؟ قال هل معك أحد من ضباطنا؟ أخبرهم بأن يأخذوا الطائرة ويذهبوا لمطار نيس في فرنسا، وقبل أن يتجهوا إلى هناك (دعهم)يخبروا هيفاء - زوجة الأمير - ويحضروا حقيبة ملابس ويأخذوها معهم. قلت سمعاً وطاعة، هل آتي مع الطائرة التي ستتجه إلى نيس؟ قال لا أنت تذهب معي الآن. وكان كل الوفد يسألني حينما شاهدوني في الطائرة فجأة، هل أنت ضائع؟ ما الذي أتى بك؟ وبعد قليل دخل الملك إلى غرفته ثم استدعاني وسألني: هل مازلنا في الأجواء الأميركية؟ قلت له لا خرجنا. قال لي : سمعت رد الرئيس على موضوع الطائرات والصواريخ، ثم سألني: ما رأيك بإجابتي؟ قلت له توفقتم سيدي، في كلتا الحالتين كسبت ريغان ولم تخسره".
كان الملك يريد حين طلب من الأمير بندر أن يرسل الطائرة إلى نيس، وأن تجهز له عائلته ملابس سفر، أن يرسله في مهمة جديدة. قرار سريع فور انتهاء الزيارة. يقول الأمير : "فجأة سألني الملك: ما هي الدول الأوروبية التي تملك صواريخ أرض - أرض تصل إلى طهران؟ قلت له لا يوجد، وها هي أميركا سترسل صواريخ البيرشنغ إلى دول الناتو وهذا دليل على أن أحداً لا يمتلك صواريخ أرض - أرض طويلة المدى! ثم رد الملك فهد: لكن فرنسا لديها؟! قلت نعم، لديها صواريخ اسمها "بلوتو" لكنه صاروخ برأس نووي وقصير المدى، لأن الاتحاد السوفيتي قرب حدودهم، وفلسفة شارل ديغول حين أصر على إنشاء قوة ذرية خارج إطار الناتو، هي أن يقول للاتحاد السوفيتي "لا تأتوني لأنني متأكد أنكم ستدمرون فرنسا كلها، لكن تأكدوا أن صواريخي ستصل إلى جميع مدنكم المحيطة".
ثم سألني الملك عن بريطانيا، وأجبته "بأن صواريخها بعيدة المدى وبرؤوس نووية … ثم قلت له: لا يوجد إلا الصين وروسيا... الصين لا علاقات دبلوماسية معها، والعلاقة مقطوعة مع روسيا منذ الثلاثينات".
بدء التفكير بالصين
توقف الأمير عن سرد قصة الحوار بينه وبين الملك فهد في غرفة الملك في الطائرة، ليقول إن هناك إشكالاً تنبهت له السعودية، وهو كيف تقيم علاقة مع تايوان دون الصين، فالمملكة كانت تعترف بتايوان ولا علاقات رسمية بينها وبين الصين… ويكمل: "صمت الملك قليلاً ثم قال: روسيا لا، لا يستطيع ريغان أن يتقبل هذا الموضوع، لكن الصين ممكن. قلت له كيف نتصرف في غياب العلاقات وعدم وجود تواصل رسمي؟ هل يذهب الأمير سعود الفيصل لبدء علاقات معهم؟ رد الملك بسرعة: لا، لا أحد يجب أن يعلم، حتى والدك - الأمير سلطان كان وزيراً للدفاع وقتها - ثم قال لي: اتصل بالسفير الصيني في واشنطن وادعه إلى منزلك، واخرجوا إلى الحديقة، لا تجلسوا في البيت، واطلب منه إيصال رسالة للقيادة الصينية بأن السعودية تريد شراء صواريخ أرض - أرض، وإذا كانت لديهم القدرة على ذلك، أنا مستعد لإرسالك إليهم للمقابلة والتفاهم. ثم قلت للملك: لكنهم سيسألونني-طال عمرك-عن تايوان، فكارتر حاول فتح علاقة مع الصين وفي الوقت نفسه الإبقاء على العلاقة مع تايوان، ورفضت الصين ذلك حتى آخر لحظة، حتى أقر الأميركيون بأن تتحول العلاقة مع تايوان عبر مكتب تجاري، وتفتتح الدولتان (أميركا والصين) سفارتين في عاصمة كل منهما . ثم سألني الملك عن الطائرات، فقلت له الـ F15E هي الأفضل. ودار حديث بيني وبينه عن الطائرات القاذفة وقلت له لا يوجد أفضل من الـ E، وأكد الملك حديثي وأخبرني عن شكوى لأنور السادات من طائرات الميج. وأتذكر أنه خلال الاستعداد لحرب 1973 م حين طرت بطائرة الميج لم أصدق أنني هبطت... بعدها فكر الملك، وقال: ما البديل؟ قلت له هناك التورنيدو البريطانية وهي الأقرب، وهنالك نوعان الدفاعية والهجومية. وأعطيته أوصافها!".
التفت الملك فهد إلى الأمير بندر، مستغرباً كل هذه التفاصيل عن الطائرات وأوصافها وأنواعها الحديثة رغم انقطاع الأخير عن الطيران والعمل العسكري منذ سنوات، فكانت إجابة الأمير أنه مشترك في مجلات ودوريات عن الطيران ولم ينقطع عن القراءة عنها.
التمويه قبل الوصول إلى الصين
كان الملك فهد يريد أن يزور الأمير بندر أكثر من دولة، وكلفه بمهام لكل بلد يزوره. يكمل بندر بن سلطان سارداً القصة : "وبالعودة لموضوع الصواريخ الصينية، كانت خطة الملك فهد أن أزور الأردن وأخبر الملك حسين بنتائج لقائه مع ريغان ومحادثاتنا بشأن القضية الفلسطينية، ثم أذهب إلى مصر ثم العراق وأخبر صدام حسين بتلك النتائج، ثم بريطانيا والتقي برئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، وأسألها إن كان لديها استعداد لبيع التورنيدو القاذفة - قلت له سيدي من الأسهل أن أذهب من نيس إلى لندن مباشرة. قال لي لا، أريد أن يكون الانطباع أن نخبر الأشقاء العرب بما حدث من مباحثات".
يجب الاعتراف أن تفريغ المقابلة مع الأمير بندر لم يكن بالسهل، واستغرق أياماً، لأن الاستطراد والعودة للموضوع والنقطة الرئيسية تحتاج إلى جهد ذهني كبير، ففي الاستطراد معلومات لا تقل أهمية عن النقاط الرئيسية، وكلاهما يرتبطان ببعضهما البعض.
ويشرح الأمير، الفرق بين المباحثات فيما يتعلق بصفقات الأسلحة ما بين الولايات المتحدة وبريطانيا بقوله: "في بريطانيا الوضع يختلف عن أميركا، إذا وافقت الحكومة على موضوع صفقة الطائرات، فالبرلمان يأتي في المرحلة الثانية للبحث. أما في واشنطن فالعكس هو الصحيح، الكونغرس صاحب القرار. وحين تحدثت مع تاتشر وافقت مباشرة، وسألتني كم العدد؟ قلت إننا نحتاج 48 طائرة. فوافقت فورا، وقالت لكن نحتاج كذا وكذا، وكانت تشير لبعض الإجراءات، فوافقت بدوري، قلت لها: أريد أن أخبرك بشيء لكنني خجل منك. قالت تفضل: قلت للأمانة لا يوجد لدي ما أقوله، ففي واشنطن اعتدت أن أخوض معارك طويلة، وهنا جاءت الموافقة سريعاً. وأضفت لكن كيف سنتعامل مع واشنطن؟ وأخبرتها برد فعل ريغان، فقالت لي: أخبر الملك فهد أنني موافقة، لكن لا تعلنوا شيئاً، وأنا سأذهب إلى واشنطن الأسبوع المقبل وأقول لريغان أنه يجب عليهم بيع الـ F15E للسعودية، وسيخبرني بكل تأكيد ما قاله للملك فهد، وبعدها سأزور الكونغرس ولجنة الشؤون الخارجية والدفاع وسأخبرهم أنه يجب بيع الـ F15E للسعودية، وإلا فسيذهب السعوديون لروسيا أو الصين أو أي مكان آخر، ومتأكدة أنهم سيقولون ما قالوه لريغان".
وقع الأمير بندر في حيرة، لم يكن يريد من تاتشر أن تخبر أحداً بزيارته، وفي الوقت ذاته فكر بكلامها وأنه قد يكون من صالح السعودية. يقول: "كنت أفكر أنني أتيتها سراً، وستذهب هي بنفسها وتعلن ذلك من واشنطن! قالت لي هي… : وفي هذه الحالة إذا رفضوا سأقول لهم أنا عندي الحل وسأبيع لهم (السعوديون) التورنيدو القاذفة. وهنا أحل الإشكالية".
اللقاء بالسفير الصيني في حديقة بيت السفير السعودي
عاد الأمير بعد الجولة على الدول العربية، ثم زيارة لندن إلى واشنطن، لينفذ أمر الملك فهد بلقاء السفير الصيني. التقى به كما أمره الملك، في حديقة منزل السفير السعودي، وأخبره ما تنوي السعودية فعله ورغبتها. يقول بندر بن سلطان: "لم يعطني إجابة سلبا أو إيجاباً ... مر أكثر من أسبوع ، ولم يأتِ رد. وبعد 3 أسابيع اتصل بي وقال أود دعوتك للعشاء. وأتذكر أن الملك قال لي لا تتحدث معي أو معه على الهاتف، وإذا جاءك الرد تعال إلي ونتحدث وجهاً لوجه. التقيت بالسفير في حديقة السفارة، وقال: بكين مهتمة بموضوع الصواريخ، لكن لا علاقات بين بلدينا، وهم يقترحون اجتماعاً بينك وبين مسؤول كبير عندهم، لتحديد المواقف بين البلدين وبعدها يتم البحث بموضوع الصواريخ، وقال نرحب بكم في بكين! قلت له، سعادة السفير ونحن نرحب بكم في الرياض. قال لا، لا نذهب للرياض. فسألته: جنيف محايدة؟ قال لا، هناك تنشط الاستخبارات! ثم فكرت وتذكرت حديثاً دار بيني وبين الباكستانيين، ثم قلت له: باكستان؟ قال فكرة جيدة".
وجد الطرفان الصيني والسعودي حلاً مناسباً، في الباكستان، وكانت العلاقة بين باكستان والصين جيدة وبين السعودية و الباكستان ممتازة. يقول الأمير: "جاءني فضول، سألت السفير الصيني لماذا أخذ أكثر من 3 أسابيع ليرد علي...فأجابني أنه نقل ما حدث شخصيا للقيادة في بيكين وهذا سبب التأخير."
ويكمل الأمير: "عدت إلى الرياض وأخبرت الملك بما حدث، وأطلعته على نتيجة اللقاءات مع تاتشر ومع السفير الصيني. ثم قال الملك عن تاتشر: "شيطانة هذه السيدة"، في إشارة إلى دهائها وذكائها. وطلب أن ننتظر النتيجة. فقلت يجب أن نبدأ الترتيب وأن نستأذن الباكستانيين ببدء عقد اجتماعات مع الصينيين على أراضيهم. ثم سألني عما سأقول لهم؟ قلت أستأذنكم في أخذ وفد من شركة سابك، وسأقول للباكستانيين أننا نريد أن نلتقي بالصينيين عندكم، لعدم وجود علاقات معهم، ونريد مناقشة تطوير أسواق للبتروكيماويات رحب الجانب الباكستاني بطلبنا، وحين ذهبت ومعي الوفد عرضوا وضع قصر الضيافة تحت تصرفنا. فأبلغتهم بعد الشكر، أن الصينيين طلبوا أن يكون الاجتماع في سفارتنا ثم في سفارتهم. وحين عدت إلى واشنطن أخبرت السفير الصيني بما سيحدث، وحددنا التاريخ وذهبنا إلى باكستان."
وحين جلس الوفدان لم يكن الوفد السعودي يعرف السبب الحقيقي للزيارة، ومن الجانب الصيني مسؤول واحد لديه علم بالموضوع، وهو الذي سيبحث كيف يمكن بدء العلاقات وكذلك موضوع الصواريخ. ويكمل الأمير : "خرجنا أنا والمسؤول الصيني للنقاش، والذي عبّر عن استعدادهم لبحث الموضوع لكن دون تقديم ضمانات ! فقلت بدوري ونحن أيضا على استعداد للبحث، حتى لو أردتم أن آتيكم إلى بكين، لكن بدون التزام، قال إذا اتفقنا".
يقول الأمير بندر، إن المسؤول الصيني سأله كيف سيقوم بزيارة بكين دون وجود علاقات فأجاب : " قلت له نكمل الرواية، قصة البرتوكيماويات، وسنذهب إلى هونغ كونغ ثم بكين، وأطلب زيارة مصانعكم. وكان في ذلك الوقت تشاو بينغ الرئيس، وتشاو تشيان نائبا لرئيس الوزراء وفي حديث معه قال لي تشاو تشيان البعض يعتقد أن صداقتنا معهم قائمة على طريقة لبسهم أو تقليدهم لـ "ماو" ( ماو تسي تونغ مؤسس جمهورية الصين الحديثة وأحد زعماء الشيوعية عالميا) في اللبس والفكر، وأعطيك مثلاً رئيس أثيوبيا - الذي تم الانقلاب عليه لاحقا - جاء مرتدياً ما يعرف بقميص ماو، وحين وصل للصين كان المسؤولون في استقباله، مرتدين البدل وربطات العنق، وفي السيارة قال لي: أنا من مؤيدي الأفكار الماوية وإن لاحظت أن جميع وفدي يرتدي الملابس الماوية. عندها رد الرئيس تشيان: ماو عبارة عن أفكار وليس لبساً ورداء".
أخبر الأميركان ولا تكذب عليهم !
هناك قصة شهيرة، سبق أن ذكرها الأمير بندر بن سلطان، وهي أن الملك فهد قال له بأن يخبر الأميركان بالنية لشراء صواريخ أرض - أرض من الصين، ولا يكذب عليهم. ويروي الأمير تفاصيلها: "قال لي: هذه هي آخر سلسلة تعليمات لك، أولاً، يجب عليك أن تخبر الأميركيين، ثانياً لا تخبرهم أنك ذاهب لشراء الصواريخ، ثالثاً لا تكذب عليهم. فقلت للملك: كيف يمكن فعل ذلك؟ هل تسمح لي أن أفكر؟ قال لا لا تفكر و لكن نفذ ولا أنسى هذه اللحظة وأنا في جدة، خرجت من قصره وقدت سيارتي بنفسي، من قصر الملك إلى قرب استراحة الرحيلي ذهاباً وإياباً وأنا أفكر... عدت إلى واشنطن بعد أن أخبرت الديوان الملكي بالترتيب للمجموعة - البتروكيماوية - التي سترافقني، أن تستعد للذهاب إلى هونغ كونغ. وقبل أن أغادر أتيت بالفكرة التالية، الحرب بين العراق وإيران مستمرة، وإيران مصدر سلاحها الرئيسي من الصين، والحاجة أم الاختراع وعند عودتي لواشنطن ذهبت لرؤية وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز، وقلت بأنني أحمل رسالة سرية للغاية من الملك لريغان، والرسالة للرئيس ونائب الرئيس ولك فقط، ومفادها بأن الملك قرر أن أزور الصين، وتعرف أن المنطقة لا يمكن أن تتحمل هذه الحرب بين العراق وإيران للأبد، وسنذهب للصينيين ونعرض عليهم أمراً لا يمكن رفضه. قال شولتز ماهو؟ فأجبته سنقول لهم بأننا سنشتري كل السلاح الذي تريد إيران شراءه منكم. فقال: ماذا ستفعلون به؟ أنتم لا تستخدمون سلاحاً شرقياً ؟! قلت له، صحيح، سنعطيه لصدام للقتال به. قال فكرة هائلة. هنا قلت له: أنا أخبركم بذلك، كي تقولوا في حال تسرب الخبر بأننا ذهبنا لصفقة بتروكيماويات وغيرها. قال شولتز، لا عليك سأتدبر الأمر وأتصرف وأتحمل المسؤولية".
وضع الأمير الكرة في ملعب وزير الخارجية الأميركي، فقد أخبره بنية الذهاب للصين وبشراء أسلحة. ويكمل : "ذهبنا إلى الصين، وكانت الرحلة غريبة، حين وصلنا أخذونا من المطار وانتقلنا إلى السكن بسيارات ستائرها مقفلة، وفي فلل الضيافة الصغيرة، في المجمع الكبير، طلب منا الصينيون عدم فتح الستائر. المشهد يشبه الأفلام. وقتها كان عبدالعزيز ناظر مدير مكتبي، وجاءني بعدما وصلنا إلى الفلل وقال لي: يا سمو الأمير أنا تطفلت، وتلصصت عبر الستائر وفتحت الستارة، وتعال أريد أن أطلعك على شيء. فتحنا الستارة وإذ بوفد إيراني موجود في الفلل المجاورة لنا، للتفاوض على شراء أسلحة. هذه مشيئة القدر فعلاً.
ومن مصنع إلى آخر، تعب وإرهاق. في اليوم الثالث جاؤوا وأخذوني بمفردي إلى نائب رئيس الوزراء، وبعد المجاملات طرحت عليه ما قلته للسفير حرفياً. قال هل هناك شيء آخر؟ قلت له نعم نحن على استعداد لشراء أي سلاح تشتريه إيران، ونقداً، ومقدماً".
شعر الأمير أن نائب رئيس الوزراء سيفتح موضوع العلاقات مع تايوان، وكيف يمكن القيام بصفقة الصواريخ دون وجود علاقات رسمية. يقول: "قال لي نائب رئيس الوزراء هذا شيء جيد لكنه ليس المهم... المهم كيف تريدوننا أن نتعامل معكم بدون وجود علاقات بيننا؟ قلت له الشعب الصيني عظيم ومبادئه عظيمه، ومبادئكم الخمسة المعروفة عظيمة، فأعجب بمعرفتي البسيطة وخلفيتي عن ما يحدث عندهم، ثم تحدثت عن إصلاحات تشاو بينغ، وقلت له الرئيس بينغ. قال بينغ ليس الرئيس، وإنما رئيس اللجنة العسكرية، وتبين لاحقاً أن رئيس اللجنة العسكرية هو كل شيء ثم قال لي: يجب أن أعود للقيادة في هذا الموضوع، لكن كيف سنتعامل؟ وصواريخنا التي تريدونها ليست صواريخ مسافات بسيطة بل تتعدى الـ 1000كم ، ثانياً كيف تعتبرون تايوان الصين ونحن لسنا الصين؟ قلت له، نحن الآن للتو بدأنا، وهناك رغبة لدى القيادة بخلق علاقات استراتيجية مع الصين، ويجب بناؤها على الثقة، إذا قطعنا علاقتنا مع تايوان الممتدة منذ 25 سنة وحولناها لمكتب تجاري لأننا بحاجة إليكم في مسألة معينة، كيف تضمنون أن لا نتخلى عن علاقتنا معكم بعد أن نأخذ ما نحتاجه؟ فأجاب الثقة؟ قلت إذاً هذا هو المطلوب، وأنتم دولة عظمى. قال لسنا دولة عظمى، بل دولة من العالم الثالث لكن رائدة. قلت بل أنتم دولة عظمى ونحن لسنا كذلك، وأعدك أن ندرس الموضوع بجدية خلال سنة من الآن، وقلت له عندي تفويض من الملك بأن نوقع اتفاقية مع سفيركم في واشنطن بفتح مكاتب تجارية بين البلدين".
عاد الأمير بندر إلى مقر إقامته وقد اعتاد أن لا إجابة من الصين مباشرة حتى يتم بحثها بشكل جدي، ولم يكن يتوقع أن الموافقة قد جاءت. يقول: "عدت إلى الفيلا، وسألني مدير مكتبي عن النتيجة، فقلت يبدو أنه لا أمل. ثم جاؤوني وقالوا سنأخذكم في جولة على المعالم، وقلت في داخلي لسنا بحاجة للمعالم، نحن بحاجة لما أتينا من أجله".
سبق أن زار وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر الصين سراً، ودعوه للعشاء في مطعم ما، قاموا بأخذ الأمير بندر للمطعم ذاته، وقال له نائب رئيس الوزراء دعوتك لهذا المطعم لأن زيارتك سرية وقد دعوت كسينجر للمطعم ذاته حين جاءنا سراً.
يكمل الأمير: "قال لي نائب رئيس الوزراء : القيادة يا بندر لم توافق، لم أرد على كلامه. ثم أتبعها… ولكن السيد تشاو بينغ صوّت بمعادلة جيدة لأنها في مصلحة الطرفين. اضمنوا توقيع اتفاقية تبادل مكاتب تجارية بأسرع وقت، وأرسلوا لنا وفداً عسكرياً بملابس مدنية، ليرى المواصفات والتفاصيل. وبعد سنة نأمل أن لا تخيبوا أملنا ثم أكمل: غداً نأخذكم إلى العاصمة السابقة شيان التي فيها المقبرة الملكية وغيرها. قلت شكرا أريد أن أعود غداً. قال لا أفضل أن تزور شيان".
زيارة المصنع والمفاجأة !
يقول الأمير إن بقاءه كان مهماً، لكنه لم يكن يعرف ذلك. يكمل : " وصلنا في اليوم الثاني بعد المساء، وبسيارات بستائر أيضاً، ثم عبرنا بهواً وخرجنا منه إلى السكن، وبعد الفجر أيقظونا وقطعنا مسافة بعيدة ثم دخلنا قاعدة عسكرية، وإذا بمستودع كبير، كبير جداً فتحوا بابه، وحين دخلنا صافح الضباط وشاهدت الصاروخ وذهلت. وقلت أين يمكن أن نضع هذا الصاروخ؟ ثم التفت وقلت له: أمتأكد أن مدى هذا الصاورخ 1000كم فقط؟ قال إسأل العسكريين …".
الصدف تنقذ السعودية والصين، يقول الشخص الذي تفاوض معه الأمير في باكستان في أول لقاء قال: "رجال الأمن وجدوا صحافياً كندياً بالقرب من القاعدة العسكرية، وتحفظوا عليه. دعنا نكتب مسودة خبر مشترك، وفي حال تسرّب أي خبر يكون لديكم نسخة ولدينا نسخة ويكون حديثنا متطابقا. سألتهم ماذا تقترحون؟ قالوا إن تكون الإجابة أننا دبلوماسيون لا علاقة لنا بالشأن العسكري. تمت الموافقة على الفكرة وطبعنا نسخاً بأكثر من لغة".
عاد الأمير إلى المملكة، وأخبر الملك فهد، وسُر الملك بالتفاصيل، لكن الأمير قال: "سيدي، الصاروخ أطول من مجلسكم هذا 6-7 مرات، ويحتاج مخابئ وبناء وليس بالشيء السهل...ثم أمرني أن أتصرف".
حيرة جديدة للأمير بندر، فالأقمار الصناعية ستلتقط الصاروخ، ويحتاج لمخابئ ومخازن ببناء مسلح. يحكي هذه القصة أيضاً ويقول: "عدت لواشنطن وأخبرت الوزير شولتز وقلت له الصينيون وافقوا ولن يبيعوا أسلحة لإيران، لكن عندنا مشكلة وجلالة الملك يريد أخذ رأي الأصدقاء في واشنطن. كنت أفكر في التمهيد لبناء المخابئ، فقلت لشولتز: مخازن ذخائر القوات المسلحة جميعها في الخرج - قرب الرياض، تبعد عنها 100 كلم- وقد يحاول شخص مجنون التعرض لهذه الذخيرة، الملك يفكر بنقلها كلها بعيداً عن العاصمة، قال شولتز هذه فكرة جيدة. وقلت له سأقترح على جلالة الملك أن نعطي عقد المقاولات للصين، حتى نضمن عدم تسليحهم لإيران أيضاً. وحين أيد شولتز الفكرة قلت له: إذا سأبدأ بالتنفيذ، ولكن هناك إشكالية، وهي أن المنفذين الصينيين سيأتون للسعودية عبر باكستان. وكنت بحديثي، أمهد لكل شيء. وكان شولتز يؤيد كل ما أقول".
نقل الصواريخ الصينية للسعودية
لا يمكن نقل الصواريخ بالطائرات، والميناء الذي يمكن من خلاله استقبالها يقع قرب مدينة رابغ غرب السعودية، يكمل الأمير: "هذا الميناء بني خصيصاً للحرب العراقية الإيرانية وتم فتح خط بري سريع منه للعراق، وكان كل ما يحتاجه العراق يأتيه مباشرة عبر هذا الميناء. وانتهت الحاجة إليه حيث كان يتم تزويد العراق بالسلاح لاحقاً عن طريق العقبة".
ويكمل الأمير بندر عن إيصال الصواريخ: "إذا كان الميناء جاهزاً، تصل الصواريخ إليه، لكن كيف ننقلها لمخابئها؟ اتفقت أنا والمسؤولون العسكريون على أن نلصق إعلانات لقوارير مياه باردة ومشروبات باردة أو ما شابه على شاحنات، كنوع من التمويه، فتبدو وكأنها شاحنات لنقل بضائع. وحين تصل السفينة ننقل ما بداخلها إلى الشاحنات، وتتحرك في المساء، وحين تريد التوقف، تتوقف تحت أقرب جسر".
يقول الأمير، أن نصيحة الملك فهد الأولى أنقذته، وجعلت موضوع الصواريخ الصينية يمر بسلاسة عند المسؤولين الأميركيين يقول : "حين وصلت بكين أول مرة، أرسل مندوب المخابرات الأميركية خبراً لواشنطن بأن السفير السعودي لدى واشنطن وصل الصين وأبلغوا مجلس الأمن الوطني، وقال لهم شولتز: لا داعي للقلق، لدينا خبر ! وموضوع المخابئ كذلك وصل لمجلس الأمن الوطني وقال لهم شولتز لدينا خبر".
كان المسؤولون العسكريون السعوديون يريدون معرفة سؤال مهم، وهو الدورة الزمنية للقمر الصناعي فوق الأراضي السعودية، حتى يتمكنوا من رسم خطة لتمرير الصواريخ ونقلها في أوقات مناسبة وإدخالها للمخابئ. يقول الأمير عن كيف استطاعوا الحصول على الإجابة : "ذهبت لرئيس الاستخبارات الأميركية وقتها، وقلت له: لدينا مشكلة كبيرة وردت معلومات، بأن الإيرانيين بدأوا بتحريك أسلحة وصواريخ تجاه المنطقة الشرقية السعودية. قال لي رئيس الاستخبارات هذه مسألة سهلة (هل هناك تحريك لأسلحة إيرانية أم لا)، سنستطلع ذلك بالأقمار الصناعية وقلت له متى أستطيع العلم بذلك. سأل وعاد لي وقال: خلال 12 ساعة. وطلبت منه تحديث المعلومة وإبلاغي حتى لا يشك".
بدأ السعوديون العمل بناء على هذه المعلومة، لكنهم لم يضعوا في الحسبان الأقمار الصناعية الإشعاعية كما يقول عنها الأمير، ويضيف: "تعطلت إحدى الشاحنات، ومر القمر الصناعي الأول، ثم القمر الثاني الذي التقط بالأشعة وجود جسم غريب على شكل صاروخ داخل شاحنة. الضابط المناوب في غرفة عمليات الاستخبارات الأميركية قام بمقارنة الصور حين وصلته، وفجأة ظهر له أقرب شكل للمجسم وهو "c3 رياح الشرق". فاتصل بمسوؤليه وقالوا سنتأكد، وفي كل مرة يتصلون بالقيادة السياسية لديهم يقولون لدينا علم. هذه المرة اختاروا التركيز على الشاحنة وتتبع مسارها حتى دخلت المخابئ، ولحسن الحظ كانت الشاحنة المعطّلة تحمل آخر صاروخ".
كان الجانب الأميركي يتوقع أن الأسلحة هي تلك التي اشترتها السعودية لمنع حصول إيران عليها، وكل ما اتصل بهم ضباط الاستخبارات لإخبارهم قالوا أن لديهم علماً، لكن التغير حدث بشكل دراماتيكي. يقول الأمير : "فجأة اتصل بي السفير الأميركي السابق لدى السعودية ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ريتشارد ميرفي وكان يوم جمعة، وقال لي هل أستطيع أن أمر لمقابلتك لمدة 5 دقائق. قلت له تفضل على العشاء، فأجاب بأن وقته ضيق، وهو مدعو للعشاء مع زوجته ولكنه سيمر لحديث سريع. دخل هو وزوجته وكان يحمل مظرفاً، وكانت زوجتي موجودة. قال لي أريد أن أختلي بك في المكتب وذهبنا ومعه المظرف، وقال نحن أصدقاء منذ وقت طويل أرجوك لا تحرج نفسك. تفضل هذا المظرف افتحه، واشرح لنا، كيف حصل؟ ولماذا لم نعرف إلا عن طريق الصدفة؟ قلت له دعني أرى ما في المظرف، وإذ بها الصور الملتقطة وصور أخرى للصاروخ نفسه. قلت له: نعم هذا صحيح، نحن أصدقاء منذ زمن، ونعرف بعضنا منذ فترة طويلة منذ كنت سفيراً، أما عن هذا الموضوع بالذات فأنا كنت في القوات المسلحة، أما الآن فلا، وهذا سؤال عسكري، أستغرب أنك أتيت تسألني عنه، كنت أتوقع في حدث مثل هذا أن يأتي شخص من البنتاغون، لكن لا تعليق لدي. سآخذ هذا المظرف وأرسله لحكومتي ويجيبون هم عليه".
اكتشفت واشنطن أن بندر بن سلطان قد حصل على ما يريد، وأنه خدعهم في الوقت ذاته. قال المسؤول للأمير : " هناك رسالة من شولتز، قل لبندر إنه كذب علي وكذب على الولايات المتحدة وهذا عمل خطير، وأنا كوزير خارجية أميركي أحظر عليه الذهاب لأي جهة حكومية إلا بعد أخذ الإذن مني ولن أعطيه". لم يستسلم الأمير حسب قوله ورد : " قلت له أنقل له التحيات، وقل له إنني أتحداه عليه أن يعود إلى المحاضر أن يعود للمحاضر، ويجد أنني قلت له سنشتري سلاحاً من الصين للعراقيين. وإذا كان ما يقوله صحيح، قد يكون هذا صحيحاً، لأن السعودية لديها رد فعل من منع الولايات المتحدة بيع صواريخ بيرشنغ لنا، ويستطيع شولتز العودة لمحاضر الاجتماعات وسيجد أنني قلت له أننا سنستعين بالصينيين لبناء مخابئ للذخيرة، ولم أكذب عليه، ثم قال لي: أنت ثعلب فعلاً، لكن الوزير غاضب. قلت له أشكر الوزير وأنا غداً سأذهب لمزرعتي في أسبن، وسأبقى هناك لأسبوعين أو ثلاثة، وإذا لم يتصل بي أحد ويخبرني أنه رفع عني هذا القرار سأذهب لإنجلترا أو جنوب فرنسا".
منعت الخارجية الأميركية فعلاً الأمير بندر من حضور الفعاليات الرسمية ودخول الدوائر الحكومية، لكن هذا المنع تم من قبل الوزير شولتزا كرد فعل غاضب، دون أن يأخذ الإذن من الرئيس أو نائبه.
يقول الأمير : "ذهبت لأسبن ثم إلى السعودية لأكثر من 3 أشهر، وبعد فترة، اتصل بي بوش الأب وكان نائب رئيس حينها، وقال إن زوجته سألته عني، وقالت إنها لم ترني منذ فترة، وعن سبب انقطاعي عن الزيارة وأنها التقت بالأميرة هيفاء وأخبرتها أنني خارج البلاد. ويبدو أنه سأل وعرف السبب وأبلغ الرئيس ريغان، الذي وبخ الوزير شولتز:كيف يقوم بهذه التصرف دون إذن؟ وريغان قام بتوبيخ الوزير، لأن للسعودية جميلاً عليه... في الفترة ما قبل بدء مباحثات الصواريخ الصينية وحتى اكتشاف القصة، بدأت عملية إيران كونترا، والتي تحدثت عنها لك سابقاً وفيها طلب ريغان المساعدة من الملك فهد لحين القدرة على الحصول على تصويت الكونغرس".
المرفقات
التعديل الأخير: