عالم المخابرات
عالم المخابرات ..
هذا العالم المجهول مهما بلغ ثراء المعلومات عنه , وهو العالم المفترى عليه أيضا ..
والعالم الأكثر تفردا فى نواحى الغرابة التى تحكم نظمه ورجاله ..
ومن المؤسف حقيقة أن هذا العالم بكل ثرائه لا يثير خلف الباحثين ما يستحق من الإهتمام لتصحيح المفاهيم الخاطئة المأخوذة عنه أو تلك المفاهيم الشديدة السطحية التى يعتنقها العامة وتسببت فيها السينما بالتحديد ..
وعبر هذه الإطلالة نحاول أن نعبر بعضا من أسوار النظم المضروبة حول هذا المجال الفريد لنعرف ما هو الأصل وما هو السطحى ,,
نشأة المخابرات الحديثة ..
نظم التخابر على العدو هى نظم معروفة من قديم الزمن يعزوها بعض المؤرخين إلى حقب الفراعنة فى مصر وامتدت على مدار العهود الماضية المغرقة فى القدم خاصة فقط بزمن الحرب
بمعنى أن نشاط التخابر كان قاصرا على المجال الحربي بين مختلف الإمبراطوريات ..
وفى عصر النهضة العربية بالحقبة العباسية عرفت الخلافة الإسلامية نظام ديوان البريد التابع للخليفة وكان نظام هذا الديوان أشبه بدور أجهزة المخابرات بشكل مبسط وكان عمله جمع أخبار الناس وتوجهاتهم ومتابعة نشاط الخلافة داخليا وخارجيا ..
وكذلك عرفه الرومان والفرس بنفس الأسلوب المبسط القائم على أداء وظائف تدعو لها الحاجة ..
هذا بالطبع خلافا لنشاط التجسس الحربي أو الاستطلاع ,,
ففرق الاستطلاع التى تعتبر هى أساس المخابرات الحربية الحالية تختلف عن المخابرات العامة التى تقتضي ممارسة التجسس فى السلم والحرب
ويعد المغول أو التتار أصحاب سبق فى استمالة العملاء وتجنيدهم بالرغم من أنهم كانوا أقواما همجية لا ترتكز إلى تكوين إمبراطورية بل كانت جحافل تهاجم للسبي والنهب فقط
وهم الذين نجحوا عن طريق عملائهم المزروعين بمنتهى البراعة فى قلب دولة الخلافة العباسية أن يجندوا وزير الخليفة العباسي نفسه والذى خان مولاه وعروبته وإسلامه وفتح الباب أمام سقوط بغداد فى قبضة المغول ..
أما المخابرات بأسلوبها الحديث فلم تعرف إلا مع نهاية القرن الثامن عشر وفيه تأسست القواعد الأولية لعلم التخابر القائم على حفظ أمن الدولة الخارجى عن طريق استقصاء المعلومات التى تهدد خطرا على الأمن القومى قبل حدوثها
وفى نفس الوقت حماية الدولة من المخابرات المعادية أو ما يعرف باسم الجاسوسية المضادة ,,
وأقدم وأعرق أجهزة المخابرات فى العالم هى جهاز المخابرات البريطانى " المكتب السادس " وجهاز المخابرات السوفيتى " كى جى بي " والذى تحول مع انهيار الشيوعية والاتحاد السوفياتى السابق إلى جهاز " الإس في آر " أو المخابرات الروسية وكان أول رئيس للجهاز الجديد الجنرال يفجينى بريماكوف الذى تولى فيما بعد رياسة الوزارة فى روسيا الإتحادية
ومع السوفيات والإنجليز يقبع جهاز المخابرات الألمانى ويشاركهم العراقة والقدم فى هذا المجال
ومسألة القدم أو العراقة تختلف عن مقياس البراعة والنجاح لأن التفوق مرهون بزمنه فقط .. ولذلك ضاعت سمعة الأجهزة الثلاثة فى عصرنا الحالى إلا من قليل بعد ظهور المخابرات الأمريكية والصينية
نظم المخابرات ..
عمل أجهزة المخابرات ليس كما هو مشهور عنها أنها تبادل إطلاق نار ومغامرات ومطاردات على النحو الذى كرست له السينما العالمية
فهو عمل عقول من الدرجة الأولى
ووظيفة أجهزة المخابرات أنها تحمى الأمن الخارجى للدولة فقط بمعنى أنه فى سائر دول العالم لا يحق للمخابرات العامة أن تعمل داخل البلاد إلا إذا كانت القضية أصلا تمت فى الخارج وامتدت إلى الداخل .. أما إن كانت القضية قضية تجسس فى داخل البلاد فيتصدى لها أجهزة الأمن الداخلية متمثلة فى أجهزة الشرطة التى تكون غالبا تضم قسما خاصا ومتميزا من ضباطها لحماية الأمن الداخلى من التجسس وهى الأجهزة التى تعرف باسم مباحث أمن الدولة فى مصر والمباحث الفيدرالية فى الولايات المتحدة والشين بيت فى إسرائيل وسكوتلانديارد فى بريطانيا
وبالتالى لا صحة مطلقا لما يشاع بين العامة أن المخابرات تراقب المواطنين مثلا أو تتجسس على المعارضين حتى لو كانت الحكومة حكومة استبداد فهذا الأمر لا تختص به أجهزة المخابرات لكونها تضطلع بمهام أكثر جسامة بكثير ..
وحدوث هذا الأمر وتكليف أجهزة المخابرات لمتابعة الشئون الداخلية لصالح نظام الحكم يهدم نظم المخابرات من أساسها وينال من براعة الجهاز وكفاءته وتتمتع المخابرات فى أى دولة نظامية بولاية مطلقة على أعمالها بمعنى أنها فى حدود عملها تمتلك صلاحيات وسلطات تعد هى الأعلى بين سائر الأجهزة الأمنية دون استثناء
ولا يخرج عن هذه القاعدة إلا جهاز أمنى واحد فقط هو جهاز مخابرات الرياسة وهو نظام نادر نوعا ما وموجود فى الدول الكبري فقط ويتمثل فى أن يتخذ رئيس الدولة جهاز خاصا يتبعه للمعلومات ويخرج من نطاق المخابرات العامة
ومعنى الصلاحية أو الولاية المطلقة للمخابرات فى عملها أنها تمتلك السلطة لمخاطبة أى مسئول وتعطيل أى اجراء حتى لو كان قرارا سياديا أو حكما قضائيا ما دام تغيير القرار يخدم عمل المخابرات فى حمايتها لأمن البلاد
فمثلا تدخلت المخابرات المصرية عدة مرات ومنعت تنفيذ حكم الإعدام فى عدد من الجواسيس وجندتهم لحسابها فى مقابل ذلك كما أنها طلبت من وزير الداخلية التجاوز عن ضبط عملية تهريب مخدرات كبري كانت الشرطة تعد لضبطها نظرا لأن الشبكة التى تقوم على تهريب المخدرات تضم نظاما تجسسيا وذلك فى الفترة التى كانت فيها إسرائيل تتبنى مهربي المخدرات وتورد لهم السموم لتدمير الشعب المصري من الداخل وهو الأمر الذى تسبب فى انتشار المخدرات بشكل يفوق المعتاد والطبيعى على نحو لفت نظر جهاز المخابرات العامة فتوصلوا لمصدره من أن المخابرات الحربية الإسرائيلية وجيش الدفاع الإسرائيلي متورط فى أعمال التهريب
ومن أوجه الولاية أيضا أنها يمكنها التدخل لدى أجهزة الشرطة بشأن عملية تتابعها تلك الأجهزة ولها تواصل مع قضية تتابعها المخابرات فالولاية الأعم هنا لجهاز المخابرات ..
وتضم المخابرات العامة أقساما عديدة تختلف باختلاف نظم الأجهزة من الداخل ..
وتتفق جميعها فى أنها تتابع إلى جوار الأمن العام الأمن العلمى فيما يخص المكتشفات الحديثة لا سيما البحوث النووية كما أنها تهتم بالأمن الإقتصادى لحماية اقتصاد الدولة من مؤامرات خارجية تستهدفه كما أنها تختص بمتابعة الرأى العام ودرجته وما يؤثر فيه من إشاعات وما شابهها
فضلا على أنها تختص بنوع من الحماية لرئيس الدولة جنبا إلى جنب مع الحرس الخاص به والذى يمثل فرعا مستقلا من القوات المسلحة بالإضافة لمتابعة الشأن السياسي فيما يكلفها به رئيس الدولة
أى أن نشاطها عاما فيما يخص دواعى الأمن القومى ..
وهى هنا تختلف عن المخابرات الحربية التى تعتبر جزء من منظومة القوات المسلحة وخاصة بالأمن الحربي فقط وكل أفرادها من أفراد القوات المسلحة ..
التشكيل والتبعية الإدارية ..
تتكون أجهزة المخابرات فى أغلب دول العالم من خبراء فى جميع المجالات دون استثناء .. فليست أجهزة المخابرات أجهزة قتال وسلاح بل هى أجهزة تقارير ونتائج ومن ثم فهى تضم خبراء فى الأمن " مختارون من ضباط الشرطة أو الجيش " وكذلك تضم خبراء علميين فى شتى المجالات العلمية فضلا على خبراء فى القانون والتجارة والإقتصاد
وهذا أمر طبيعى نتيجة لأنها تعالج الأمن القومى فى كل صغيرة وكبيرة ومن ثم فهى لابد أن تكون مؤهلة لمواجهة سائر التخصصات وهذا لا يمنع من لجوء أجهزة المخابرات للاستشارة من خبراء خارج الجهاز فى شأن أمور تتعلق بعملياتها غير أن الاستعانة تكون فى مقتضي الإستشارة وحدودها فلا يعرف الخبير الذى تلجأ إليه الأجهزة أى نوع من المعلومات حول هدف الإستشارة
كما حدث مثلا مع المخابرات المصرية أيضا عندما لجأت إلى الدكتور عادل صادق الطبيب النفسي الشهير بالقاهرة واستشارته فى شأن يخص عمله وأعطوه الملف النفسي لشخص مجهول وطلبوا منه دراسته بدقة بحيث يكون متقمصا لنفس طباع هذا الشخص
فدرس الدكتور عادل صادق الملف كاملا لعدة ساعات حتى تمكن من تقمص الشخصية تماما فطلبوا منه معرفة أى الهدايا التى يمكن اختيارها وتناسب ذوقه تماما بحيث لا يستطيع رفضها
فأجاب على السؤال وفقط ..
وإلى هذا الحد انتهت مهمته وهو الأمر الذى أثار دهشة الطبيب الشهير وهو يتساءل فى أعماقه عن مبرر هذا الجهد الرهيب الذى بذله للإجابة على سؤال واحد دون أن يدرى أن إجابته تلك كانت نواة اختيار هدية ملغمة بجهاز تنصت دقيق تم وضعه فى قلب مكتب السفير بسفارة دولة معادية
أما عن أغلب المهن التى تدخل فى نطاق المخابرات فهى مهن وخبراء القانون على خلاف ما هو مشهور من أن المخابرات تضم الضباط فقط
فكلمة ضابط مخابرات هى مفهوم غير موجود من الأساس فى أجهزة المخابرات العامة وهذا المفهوم قاصر فقط على المخابرات الحربية أما المخابرات العامة فيكون الفرد العامل فيها رجل مخابرات
وينقسم العاملون بجهاز المخابرات فى أى دولة إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهى
الطاقم الأساسي ـ الطاقم المعاون ـ الطاقم الإدارى والفنى
أما الطاقم الأساسي فهم أصحاب مصطلح رجال المخابرات وهم الذين يشكلون النواة الرئيسية لنشاط التخابر ويكون لهم متابعة العمل التخابري بعد تدريب جاد وغير عادى فى أنظمة مدارس المخابرات ويتم اختيارهم بعد الخضوع لاختبارات شاقة ومعايير صارمة ليس بها أى تعاون
ورجل المخابرات يتمتع بناء على تدريبه بخبرات ومهارات بالغة الإجادة أولها كيفية الحفاظ على أسرار عمله بحياته فضلا على أنه يكون خاضعا لتأمين بالغ الصرامة لأن وقوع رجل مخابرات فى يد جهاز عدو يمثل كارثة للجهاز المنافس
لأن رجل المخابرات المدرب والعارف لأسلوب ونظام العمل بجهازه يمثل كنزا من الأسرار لا يمكن للجهاز العدو الحصول عليها من ألف جاسوس ويقدر خبراء هذا العلم قيمة ومقدار المعلومات التى يمكن الحصول عليها من رجل المخابرات لو تم الإيقاع به بعمل خمس سنوات كاملة ..
لأن وقوع الجاسوس أمر عادى مهما كانت مكانة هذا الجاسوس فهو لا يعرف عن جهاز المخابرات الذى يعمل لحسابه أى شيئ يخص تنظيمه وأسلوب عمله فى التجنيد ومتابعة عملائه كما أنه لا يعرف أحدا من ذات الجهاز إلا رجل المخابرات الذى يشرف عليه فقط وكقاعدة أساسية يتم تبديل رجل المخابرات المتعامل مع الجواسيس كل فترة درء لأى خطر
ولذلك وقبيل الحرب العالمية الثانية استقال رئيس الوزراء البريطانى نيفل تشمبرلين عقب عملية ناجحة ومدوية للمخابرات الألمانية نجحت بها فى أسر اثنين من كبار رجال المخابرات البريطانية على النحو الذى أدى إلى اصابة رئيس المخابرات البريطانية بالسكتة واضطر جهاز المخابرات البريطانى لتغيير سائر قواعد عمله والبدء فى نظام جديد وهذا بالطبع لم يمنع أن المعلومات التى اغتنمها الألمان من رجلى المخابرات البريطانية كانت سببا فى فشل تلك الأخيرة بسائر عملياتها الجارية
وكما حدث أيضا عندما أوقعت مصر بشبكة جاسوسية أشرف عليها رجل المخابرات الإسرائيلي عزام عزام ومثلت ضربة كارثية للمخابرات الإسرائيلية
هذا خلافا لما يمثله وقوع رجل المخابرات فى يد جهاز عدو وخسارة جهازه لجهوده لأن اعداد رجل المخابرات ليست بالعملية السهلة
أما الطاقم المعاون فهو الذى يضم الجواسيس والعيون والعملاء .. وكل هذه المفاهيم لها وظيفة واحدة إلا أنها تختلف فيما بينها فى طبيعة أشخاص القائمين بالتخابر
فالجاسوس هو الشخص الذى يتم تجنيده مقابل مال أو اغراءات مادية من نفس جنسية البلد العدو
أما العين فهو الشخص الذى يقوم بنشاط التجسس لصالح بلاده ومكافأته فى هذه الحالة لا تقتصر على المال بل تشمل الرعاية الكاملة لأنها عملية فدائية كبري كما حدث مع رفعت الجمال وأحمد الهوان فى مصر
أما العميل فهو الشخص ذو الجنسية الثالثة التى تختلف عن جنسية جهاز المخابرات الذى قام بتجنيده وجهاز المخابرات الذى يعمل ضده ويتبقي الطاقم الإدارى والفنى وهم طاقم العاملين لمساعدة أفراد الجهاز وهؤلاء لا علاقة لهم بنشاط الجهاز نهائيا بل يقتصر عملهم على المتابعة فى الشئون الفنية أو الإدارية
وتتبقي التبعية الإدارية والمسئولية لأجهزة المخابرات وهى بالطبع مسئولية بالغة الحساسية ولذا فكل دساتير العالم تقريبا تجعل وظيفة رئيس جهاز المخابرات تابعة لرئيس الجمهورية مباشرة فى الدول ذات النظام الجمهورى كالولايات المتحدة
وتابعة لرئيس الحكومة فى حال النظم الملكية كبريطانيا