إن إنجاز مفهوم الأمن الثقافي وإفشال عمليات التخريب الفكري، لا يتم عن طريق إغلاق النوافذ، ومنع التفاعل مع الثقافات الإنسانية، وإنما يتم عن طريق العلاقة الواعية مع ثقافتنا، والعمل على إيصالها بالطرق السليمة والعلمية إلى جميع أبناء المجتمع..
لم يعد الأمن الثقافي في حياتنا المعاصرة، مجرد هدف ثقافي - فكري، وإنما أصبح هدفاً حضارياً شاملاً، ينطوي على جوانب سياسية ووطنية لا تقل أهمية عن جوانبه الثقافية.
فالأمن الثقافي يعد عنصراً لا غنى عنه من عناصر النهضة الاجتماعية، ومظهرا من مظاهر القدرة على التحرر والمؤثرات الخارجية الوافدة، فهو أعلى مظاهر استرداد الهوية التي سعت قوى الشر والبغي عبر التاريخ إلى إنهاء خطوط الدفاع الفكرية والعقدية كخطوة أولى لعملية الاستيعاب والسيطرة.. ويخطئ من يعتقد بأن الأمن الثقافي، هو عبارة عن غلق الأبواب والانطواء على النفس وتكثير لائحة الممنوعات، والابتعاد عن وسائل الاتصال والإعلام الحديثة.. فالأمن الثقافي لا يشكل حالة سلبية تتجسد في صد الناس عن المخاطر المحتملة.
إن الأمن الثقافي يعني توفير الثقافة الصالحة للناس حتى يتمكنوا من خلالها أن يعيشوا حياتهم المعاصرة بشكل سليم وإيجابي.
وهو يعني بناء قوة الوجود الثقافي الذاتية، التي تقوى لا على المقاومة والصمود فحسب، وإنما على الاندفاع والملاحقة والفعل المؤثر.. ولكي تتحقق هذه المقولة نعتقد أن مفهوم الأمن الثقافي يعتمد على عنصرين أساسيين:
1- الاعتزاز بالذات الثقافية الحضارية:
لأن الذات الثقافية بمثابة الإطار أو الوعاء الذي يستوعب منتوج المثقف، لذلك فإن منتوج المثقف ينبغي أن ينطلق من الخطوط العريضة وروح الثقافة الذاتية، بما تمثله هذه الثقافة الذاتية من رموز وأفكار وقيم.
والاعتزاز بالثقافة الذاتية لا يعني بالنسبة لنا أن نغلق أبوابنا على ما هو ليس في أيدينا وتتحكم به قوى أخرى خارجة عنا.. وإنما يعني أننا في البدء ينبغي أن نحقق ذاتنا الثقافية والحضارية، ونجعلها حاضرة في حركتنا الاجتماعية والثقافية. وننطلق من هذا الحضور الثقافي والحضاري للتفاعل مع الثقافات الأخرى.. ومشكلتنا المعاصرة ليس في الثقافات الأخرى وقدرتها على الوصول إلى مخادع نومنا وتطرق منازلنا في كل وقت وفي كل ساعة، بل في الممارسات التي نمارسها جميعا أفرادا ومؤسسات في خنق الذات الثقافية والتضييق عليها.. لهذا فإن تجاوز الآثار السيئة والخطيرة للثقافات الغازية لمجتمعاتنا وشعوبنا، هو في أن نطلق الحرية لثقافتنا الذاتية بأن تعبر عن نفسها بأي طريقة شاءت.. إن إعطاء المجال للثقافة الذاتية رموزا وأفكارا هو الخيار الاستراتيجي الذي نتمكن من خلاله تحقيق مقولة (الأمن الثقافي).
وبهذا نعطي للثقافة الذاتية الأفق الطبيعي للدفاع عن كينونتها الاجتماعية والتاريخية.
2-الانفتاح والحوار مع الثقافات المعاصرة:
لأن الثقافة هي عبارة عن عملية مستمرة لا تتوقف عند حد أدنى تكتفي بتوفيره للناس، وإنما هي تهيئ الأرضية لعملية انطلاق ثقافي، تأخذ من الموروث الثقافي والانفتاح على الثقافة المعاصرة نقطتي انطلاق وارتكاز في جهدها الثقافي الراهن. فالأمن الثقافي لا يعني بأي شكل من الأشكال الاحتماء تحت متاريس الماضي عن الثقافة المعاصرة.. بل يعني الاعتزاز بالذات الحضارية مع هضم معطيات الآخر الحضاري. لأن الانطواء والانغلاق عن العصر وثقافته ومنجزاته هو إفقار للوجود الذاتي بحيث نضحى وكأننا نعيش في القرون الوسطى السالفة، بعيدون كل البعد عن إنجازات الإنسان المعاصر وآثار العلم وحسناته.
وبالتالي فإن أي مجتمع لا يتمكن من صيانة أمنه الثقافي واستمرارية فعله الجماعي إلا بالاعتزاز بالذات الموصول بالانفتاح على منجزات العصر.
وكل هذه الأمور تحفزنا للبحث عن الذات الثقافية وإبراز مضامينها وتطلعاتها، وتربية المواطن على ضوئها وهداها. وعن هذا الطريق يمكننا الحصول على الحد الأدنى من الأمن الثقافي المطلوب في عصر تكنولوجيا الاتصالات والأقمار الصناعية.
وتأسيسا على ما ذكر أعلاه نقول: إن هناك بونا شاسعا بين الأمن الثقافي والثقافة الأمنية، فالأخيرة: هي مجموعة من الأنشطة التي تستهدف خلق الوعي الأمني، أما الأمن الثقافي: فالمقصود به هو بيان الأسس والقواعد المتوفرة في ثقافة ما، التي تمنع حالات الاختراق الثقافي والغزو الفكري.. لهذا فإن الهدف من هذه المقالة، ليس التأكيد على ضرورة الأمن للوقاية من الجرائم على مختلف مستوياتها وأشكالها، وإنما هدف المقال هو محاولة استنطاق ثقافتنا الذاتية، وتأكيدها في نفوس أبنائنا، والعمل على تمثل وتجسيد قيمها في سلوكنا ومواقفنا، حتى يتسنى لنا تحقيق المقاومة الذاتية، التي تمنع وتطرد كل عمليات التخريب الثقافي.
والذي نريد تأكيده في هذا المجال: أن إنجاز مفهوم الأمن الثقافي وإفشال عمليات التخريب الفكري، لا يتم عن طريق إغلاق النوافذ، ومنع التفاعل مع الثقافات الإنسانية، وإنما يتم عن طريق العلاقة الواعية مع ثقافتنا، والعمل على إيصالها بالطرق السليمة والعلمية، إلى جميع أبناء المجتمع، حينذاك نتمكن من إفشال كل عمليات التأثير السيئة للثقافات الوافدة، إن خلق الوعي الذاتي، وغرس مفاهيم الثقافة الذاتية في نفوس أبنائنا، عن طريق التربية الأسرية ونظم التعليم والإعلام، هو الكفيل بتحقيق الأمن الثقافي لمجتمعاتنا.
كما أن إطلاق الحرية للقوى الذاتية المتوفرة في المجتمع، لكي تمارس دورها الثقافي في زيادة الوعي، وتعميم المعرفة، ومقاومة مظاهر الاختراق الثقافي والفكري، يعد من الوسائل الضرورية لتحقيق الأمن الثقافي بمعنى أنه من الضروري، أن تتضافر جهود الدولة والمجتمع عبر المؤسسات الرسمية والأهلية، والمبادرات الفردية، التي تتجه لتنشيط الحياة الثقافية في الوسط الاجتماعي، لأن وجود وتفعيل عناصر الحياة لثقافتنا في المجتمع، هو من الوسائل الفعالة التي تقاوم الاختراقات، وتمنع عمليات التخريب الثقافي.. فالأمن الثقافي ذو جانبين: جانب سلبي يتجه إلى خلق حالة الممانعة والرفض الثقافي لكل عمليات الاختراق الإعلامي والثقافي، وجانب إيجابي: يتجه إلى صنع الحياة الثقافية الذاتية، التي تعمل على تقوية البنيان النفسي والفكري للمجتمع، بحيث يصل المجتمع إلى درجة من الوعي والإدراك، يفشل من خلالها كل عمليات الاختراق في حقل الثقافة والإعلام.
فمقولة الأمن الثقافي لا تعني زيادة وتيرة الرقابة على الثقافة بكل آلياتها ومناشطها ووسائلها، ولا تعني الخضوع إلى مقتضيات السائد وغياب حالات الإبداع والمبادرة، وإنما تعني ضرورة الانطلاق من رؤية ثقافية - حضارية في التعاطي والتواصل مع كل شؤون وقضايا الثقافة الإنسانية.
فالثقافات الإنسانية جميعها، تنطلق من إطار مرجعي، ولا توجد ثقافة إنسانية بلا إطار مرجعي وحضاري.
ومقولة الأمن الثقافي، تعني ضرورة التفاعل الخلاق مع الإطار المرجعي والحضاري للثقافة العربية والإسلامية، وذلك من أجل أن تتمكن هذه الثقافة من الاستفادة من هذه الثروة الهائلة التي يختزنها الإطار المرجعي والحضاري للمسلمين. كما أن التفاعل الخلاق والمبدع من الثقافات الإنسانية والمنجزات الحضارية، لا يمكن أن تتم على أكمل وجه، بدون الاعتزاز الواعي بالإطار المرجعي والفكري للعرب والمسلمين.
وهذه ليست دعوة إلى الانغلاق والانطواء، وإنما هي دعوة إلى ممارسة الانفتاح والتواصل الحقيقي مع الثقافات الإنسانية الأخرى.
فالانفتاح الثقافي الحقيقي، لا يمكن إنجازه وتحقيقه، بدون إطار مرجعي، يحدد معايير الاختيار الثقافي.
ولم يسجل لنا التاريخ أن هناك انفتاحا وتواصلا بين الثقافات الإنسانية، قد تم وتحقق بعيدا عن ضرورة وجود المرتكزات الفكرية والمعرفية التي ينطلق منها خيار الانفتاح والتواصل.
فالانفتاح لا يعني التفلت من الضوابط القيمية، كما أنه لا يعني الانخراط في سجالات أيدلوجية مع الثقافات الإنسانية الأخرى، وإنما يعني فهم حركة الثقافات الإنسانية الأخرى بكل مراحلها ومحطاتها، واستيعاب ميكانيزماتها، والعمل على هضم عناصر القوة فيها.
فمقولة الأمن الثقافي والخصوصية الثقافية والاجتماعية، لا تشرع للانزواء والانطواء، ورفض منجزات الحضارة الحديثة، وإنما هي تحدد نقطة الانطلاق في عملية التواصل والانفتاح. هذه النقطة التي ينبغي أن تكون وعيا عميقا بعناصر الذات الثقافية، واعتزازا واعيا بقيمها الحضارية