الأبعاد الواقعية للنماذج القرآنية / عبد العزيز كحيل

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,782
التفاعل
17,900 114 0
الأبعاد الواقعية للنماذج القرآنية

عبد العزيز كحيل

من صور التعبد الفعلي بالقرآن الكريم تنزيل مفاهيمه على الحياة العملية وتتبع أبعاده في الواقع المعاش بكيفية إيجابية تجمع بين التماثل النموذجي والمعالجة الذكية المفعمة بالفقه العميق للمفاهيم والمصطلحات في حديها القرآني والواقعي، فليس من التعبد بكتاب الله الوقوف على قصصه وأشخاصه ووقائعه وتعبيراته وكأنها تجسد تاريخاً معيناً فحسب، فهذه الرؤية الماضوية لا تتناسب مع خلود القرآن وكونه دستوراً لكل الأزمنة وإنما يجب استحضار تلك القصص وأولئك الأشخاص وتلك الوقائع والتعبيرات باعتبارها نماذج وحقائق تستوعب الزمان والمكان قد يحجبها عن النظرة السطحية تغير الأسماء أو الأشكال بيد أن جوهرها باق على حاله لا يخفى على الناقد البصير …وإدراك هذه "المعاصرة"القرآنية لا يحتاج إلى التكلف والتأويل البعيد ولا الوقوف عند ظواهرها ورسومها وإنما يحتاج إلى التدبر المنهجي ولعل هذا هو المعنى الذي يشير إليه قول الله تعالى
{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}(العنكبوت)،
فكل الناس يقرؤون المثال أو يرونه لكن أصحاب العلم هم وحدهم الذين يتعاملون معه التعامل الإيجابي المثمر.
ولبيان ما سبق نعمد إلى انتقاء بعض الأمثلة على مستوى الأشخاص والمفاهيم والرموز الواردة في كتاب الله:

على مستوى الأشخاص:

1 _ ذو القرنين:
سجل القرآن لهذا الرجل ثلاث رحلات: إلى المغرب والمشرق والوسط يجمع بينها مقصد نبيل هو دعم الخير ومواجهة الشر:-
{ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)} (الكهف)

{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)} (الكهف)

فذو القرنين وهو من غير شك شخص عاش في زمن معين ومكان معين ومات في أجل معين رمز لصاحب القوة والتمكين الذي سخر قوته وتمكينه في الإصلاح وخدمة الدين والبشر، إنه-خلافاً لأكثر الحكام الأقوياء-لم يغتر بأسباب القدرة الكثيرة التي توفرت لديه من جيوش وعلماء وخبرة ذاتية، فلم تمل به إلى الطغيان بل بقي مصلحاً وعلى صلة دائمة بالعبودية لله تعالى:
{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)} (الكهف)
{ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)} (الكهف)

هذا الفاتح المؤمن قدوة لأصحاب المنهج الصالح الذين يستخدمون قدرتهم السياسية والعسكرية والإقتصادية والإعلامية في مقاومة الفساد ونصرة الضعفاء وهم غير طامعين في أموال الشعوب الضعيفة، وعلى البشرية-والأمة الإسلامية ابتداء-أن تُوجد بالتربية والتوجيه والاصطفاء مثل هذا النموذج الصالح لنشر العدل ومساعدة المتخلفين ورد العدوان وتعمير البلاد على المنهج الأخلاقي الرفيع.

2 _ فرعون:
هذا الذي تكرر ذكره في القرآن هل هو فقط ذلك الملك الجبار الذي كانت له مع نبي الله موسى مجادلات ومنازلات؟
هل تكرر ذكره في القرآن لأنه شخص كان له دور معين في قصة معينة؟
هذه السطحية تتنافى مع منهجية الوحي، وفرعون إذاً-وهو بالفعل إنسان له دور في أحداث تاريخية- يرمز إلى الإستبداد السياسي ومنطقه هو منطق المستبدين جميعاً:
{ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)} (غافر)
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ (موسى الداعية المصلح) دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)} (غافر)
{ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)} (الشعراء).
فاستحضار النموذج الفرعوني بغطرسته ومنطقه أمر ضروري لفهم الإستبداد وحسن التعامل معه بالكيفية التي تحجم فساده.

3_ قارون: تبين سورة القصص بوضوح كيف أن الرجل كان فتنة لمجتمعه بسبب تصرفه الظالم في المال
{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)} (القصص)،
هذا البغي بالثروة قابله عقلاء المجتمع بالنصح
{ ... وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)}(القصص)،
لقد طالبوه بالعدالة الإجتماعية وإدالة المال بين الأيدي باعتبار الإستئثار به فساداً أي ظلماً اجتماعياً، لكنه تمسك بالأنانية والشح والاستكبار
{ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ...(78)} (القصص)
ولم يكتف بالقول بل فتنهم بالفعل
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا (وهم الجماهير) يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) ا .

على مستوى المفاهيم:

1 ــ التطفيف الاجتماعي:
{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} (المطففين)
هل من المنطق قصر هذا التطفيف على ما يفعله بعض التجار الجشعين في الكيل والميزان؟
إن نبي الله شعيباً بُعث لمحاربة التطفيف فهل يعقل أن رسالته اقتصرت على تقويم هذا السلوك التجاري وحده؟ ألم يقل لقومه : { وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ }…إن أبشع أنواع التطفيف اشتراط مثاليات حالمة في الغير والسماح بتفريط شديد في الذات، والله تعالى عندما قال:
{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} (الرحمن)
إنما يريد أن نتجنب التطفيف مهما كانت صوره، وأن نعدل في الحكم على الذات وعلى الغير والوقائع والأفعال.

2 _ شياطين الإنس: في تقديم الله تعالى ذكر شياطين الإنس على شياطين الجن في آية الأنعام إيحاء بخطورتهم
{... شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ...(112)} (الأنعام) وحصر كثير من المفسرين الأمر في المجال الأخلاقي وسعي بعض الناس في إفساد علاقات المحبة والتآلف، لكننا نرى في العصر الحديث أن تجار الأسلحة طبقة جديدة من شياطين الإنس تسعى حثيثاً في زرع الفتائل وإيقاد النيران وتأجيجها والحيلولة دون إخمادها حفاظاً على مصالحهم المادية، فهل ننتبه إلى خطورة هؤلاء الشياطين ونتبع في القرآن صفاتهم وخصائصهم ليكون لنا وعي بإفسادهم وخطط مدروسة لإبطال كيدهم؟ ومثلهم أصحاب الفضائيات الماجنة والصحف الخليعة وكل : { الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا (19)} (النور).

على مستوى الرموز:

1 _ المحراب: هو المكان البعيد عن الضوضاء الذي يتخذ للعكوف على عبادة الله سواءً كان مسجداً أو غرفة أو نحو ذلك، فهو يرمز إلى العكوف الجدي الذي يؤتي ثماره
{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ...(37)} (آل عمران)، فعكوف مريم الجدي جلب لها الرزق بطريقة إعجازية،
{ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)}(آل عمران)،
هنا اقترن التبشير بالولد "المعجزة" بعكوف زكريا الجاد، وإذاً فالعكوف المستحضر للقوى العقلية والقلبية والجارحية يأتي بالمعجزات بإذن الله، والأمر لا يختلف إذا نقلناه من محراب الصلاة إلى محراب البحث العلمي، فالصلاة ارتباط القلب بالملأ الأعلى وحقائقه وأسراره والبحث العلمي ارتباط العقل بكون الله الفسيح وحقائقه وأسراره، والمحراب مقدس هنا هناك لأنه تجاوب مع الآيات المتلوة والآيات المجلوة، وعندما يفهم المسلم هذا الرمز فإنه يسعى إلى الاعتكاف في المحرابين معاً في تناغم يتناسب مع توحيد الله وأداء واجبات الخلافة.

2 ـ { {المَغضُوبِ عَلَيهِمْ } و { الضَّآلُّونَ } : تقول التفاسير القديمة هم اليهود والنصارى، ولا اعتراض لنا على ذلك لكن نسأل: لماذا اليهود والنصارى؟ هل لذواتهم أم لخصائص فيهم؟ هذا هو بيت القصيد.

إن عبارة { المَغضُوبِ عَلَيهِمْ } ترمز إلى كل من عرف الحق ورفضه، وترمز عبارة { الضَّآلُّونَ } إلى كل من طلب الحق لكنه لم يسلك طريقه، والعبارتان تنسحبان إذاً على كل من تتوفر فيهم هذه الصفات قديماً وإلى قيام الساعة، والاستقامة التي ينشدها المسلم
{ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } لا تنال بمجرد التبرؤ من اليهود والنصارى وإنما بالمراقبة الدائمة والحذر من الاتصاف بأوصافهم "الغضب الإلهي والضلال"، وكم في المسلمين من يلعن اليهود وهو متنكب لطريق الحق بعد أن عرفه مثل ما حدث لبني إسرائيل تماماً، فيهم من يدين المسيحيين واجتهاده لا يقوده إلا إلى نوع من أنواع الضلال الذي وقعوا فيه، فهم عبدوا المسيح ولعل هذا المسلم خرم التوحيد وابتدع في العبادة وزيف الأخلاق فاستحق مثلهم وصف بالضلال.

عبرة

هذه طريقة مقترحة للتعامل مع كتاب الله تساعد على إبقائه حياً غضاً طرياً كما تساعد على فهم المشكلات المطروحة على مستوى الأشخاص والمفاهيم والرموز، والفهم هو الخطوة الأولى الحاسمة في طريق الحل والتوفيق والبناء.

http://quran-m.com/quran/article/2526/الأبعاد-الواقعية-للنماذج-القرآنية
 
عودة
أعلى