محمد شعبان أيوب
محرر تاريخ
في ظل قرار ترمب بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، يبدو النظر للتاريخ لأخذ العبرة منه أمرا ضروريا، إذ إن الصراع حول القدس له امتداداته التاريخية، هذا النظر للتاريخ يحيلنا للتبصر بأثر التمزق السياسي على تمهيد دخول المحتل، كما يحيلنا لأثر التفاعل الشعبي، وإعادة تشكيل الرأي العام، في تهيئة مناخ عام قادر على تغيير معادلة هيمنة المحتل. حينئذ، تبدو المشاهد التاريخية مألوفة بإسقاطها على واقعنا المعاش. نستعرض في هذا التقرير أسباب سقوط القدس بأيدي الصليبيين، والعوامل التي أدت لتهيئة المناخ نحو تحرير القدس.
يُحكى أنه حين سقط بيت المقدس في يد الصليبيين في شهر شعبان سنة 492 هـ، جاءت الأخبار إلى بغداد عاصمة الخلافة التي كانت تترنح ضعفا تحت وطأة الحكم السلجوقي، هذا الحكم الذي كان أصحابه هم الآخرين في شُغل وصراع؛ فهو صراع الإخوة "الأعداء" أبناء السلطان ملكشاه على عرش أبيهم، ورغم ذلك لم يجد الخليفة العباسي وقتها من حل سوى إرسال رسالة إلى السلطان السلجوقي في إيران يطلب منه غوث القدس وإنقاذها، لكن ذلك السلطان واسمه بركياروق بن ملكشاه لم يأبه لهذه الرسائل، فقد كان العرش والبقاء عليه أهم عنده من ألف قدس!
وفي العام التالي أعاد الخليفة العباسي المستظهر رسالته؛ وأيضا لم يهتم بركياروق ولم يرد على رسائل الخليفة، أما الخليفة نفسه فقد رأى أنه فعل ما يجب عليه فعله، وفي هذا يقول ابن العمراني مؤرخ العباسيين: "كان (المستظهر) مشغولًا بشأنه، محبًا للترفّه والتنعّم، آخذًا من لذات الدنيا بأوفر الأنصباء.. وكانت العراق في أيامه هادئة والعين نائمة وأمور دولته مستقيمة"(1).
اتحاد الصليبيين
كان السبب المباشر لانطلاق الحملة الصليبية الأولى، ذلك المجمع الديني الذي عقده البابا أوربان الثاني (Urban II) في بياتشنزا (Piacenza) في إيطاليا في مارس 1095م/488هـ ودعا إليه الأساقفة من إيطاليا وبورغونية وفرنسا وغيرها. ومَثُلَت سفارة من القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية أمام هذا المجمع، ومعهم طلب من الامبراطور البيزنطي إلى البابا؛ حاثّا المحاربين الغربيين على مساعدة الامبراطورية الشرقية وإنقاذها من السلاجقة المسلمين الذين كانوا قد سيطروا على أقسام واسعة من آسيا الصغرى والأناضول واسترجعوا أنطاكية من البيزنطيين. ووجدت البابوية في السفارة البيزنطية وطلب النجدة تحقيقًا للسمو البابوي على الملوك والإقطاع معًا والسيادة على العالم المسيحي، وفرصة لصرف خطر النورمانديين عن صقلية وجنوبي إيطاليا، وتوجيه نشاطهم للقتال في حرب مقدسة ضد العرب والإسلام (2).
وفي نوفمبر 1095م/489هـ، ألقى البابا أوربان الثاني خطبة في الحشود التي اجتمعت في حقل فسيح بعد انتهاء مجمع كليرمونت الديني في جنوب فرنسا أكثر الأماكن تعصبا للكاثوليكية وقتها، دعا فيها إلى شن حملة مقدسة مسلحة باسم الرب بوصفه نائبًا عنه في الأرض، وحث ملوك الغرب على نبذ خلافاتهم والانصياع إلى أوامره، ليتفرغ مسيحيو الغرب لما أسماه البابا حرب الله Guerre de Dieu أي الحرب المقدسة ضد العرب والمسلمين، وأشار البابا إلى منح الغفران لكل من سيشارك في هذه الحملة، سواء من مات في الطريق إلى الأرض المقدسة، أو قتل في الحرب ضد المسلمين(3).
انقسمت الحملة الصليبية الأولى إلى مرحلتين: الحملة الشعبية أو حملة الغوغاء والعامة، وحملة الأمراء، قاد الحملة الشعبية (489-490هـ/1095-1096) الراهب بطرس الناسك، وقد ضمت تشكيلة متنوعة من المشردين وقطاع الطرق والفلاحين وغيرهم من معدمي أوروبا، وانضمت إلى مجموعة أخرى بقيادة الأمير والتر المفلس (Walter der Arme) ومارسوا السلب والنهب، وحتى الكنائس لم تنج من إجرامهم، لكن سلاجقة الروم (فرع من الدولة السلجوقية في الأناضول) هاجموا تلك الحملة وأبادوها عن بكرة أبيها، وقتل والتر المفلس وهرب الناسك إلى أوروبا ثم التحق بالحملة التالية التي عرفت باسم الأمراء(4).
في حملة الأمراء تغيرت أوضاع الصليبيين من الضعف إلى النشاط والقوة، وبرزت التكتيكات العسكرية المتفوقة، في ظل الحشود الغفيرة من الفرسان والرجالة والآلات العسكرية القوية التي صاحبت حملة الأمراء (490-493هـ/ 1096-1099م) فقد كانت حملة منظمة قادها كثير من أمراء أوروبا، منهم الدوق جود فري دي بويون (Godfrey d'Bouillon) وأخوه بلدوين من فرسان اللورين، وريموند أمير تولوز (طلوشة) وبصحبته المندوب البابوي، والكونت بوهمند من سادة ترنتو، وكان يحلم بإقطاع مملكة له ولجنوده النورمان من الأملاك البيزنطية في الشرق الأدنى، وكان معه ابن أخيه تانكريد الهوتفيلي(5) (Tancred of Hauteville). تمكنت هذه الحملة من الدخول في الأراضي الإسلامية والانتصار على السلاجقة والقادة العسكريين المشرذمين في جنوب الأناضول وبلاد الشام، وترتب على ذلك، الاستيلاء على القدس، وشعر الصليبيون أنهم حققوا واجبهم الديني باستعادة المدينة المقدسة.
وما بين عامي 492 - 503هـ تمكن الصليبيون من ضم مناطق واسعة في بلاد الشام شمالها وجنوبها، وقسموها بينهم إلى أربعة أقاليم أو إمارات، هي:
- إمارة الرُّها 492هـ، وتشمل أعالي منطقة نهري دجلة والفرات، وتقرب حدودها الجنوبية الغربية من حلب، وكانت عاصمتها مدينة الرها (جنوب تركيا حاليا) التي توجد في بعض الخرائط باسم إدريسّا.
- مارة أنطاكية (في جنوب تركيا والساحل السوري حاليا) في السنة ذاتها 492هـ، وتقع في الإقليم الشمالي جنوب غرب إمارة الرها.
- إمارة طرابلس (في شمال لبنان) وهي تقع في شريط ضيق على الساحل وهي أصغر هذه الإمارات وسقطت في أيديهم سنة 503هـ(6).
- مملكة بيت القدس (كامل فلسطين الحالية وأكثر من نصف لبنان) في شعبان سنة 493هـ، وتمتد حدودها الشرقية من قرب بيروت الحالية عاصمة لبنان، ثم تتبع نهر الأردن حيث تتسع قليلا، وتتجه جنوبًا إلى خليج العقبة، وكانت عاصمتها القدس نفسها(7).
الصراع.. أساس الهزيمة
أما الذي مهد الطريق لهذا الاجتياح الصليبي، فهو التمزق السياسي الذي كانت تعاني منه بلاد الشام، ففي ظل الاجتياح الصليبي رأينا "ملوك الشام مشتغلون بقتال بعضهم بعضًا"(8) كما يذكر المؤرخ ابن الوردي. وتُؤكد رواية ابن كثير سبب دخول الصليبيين إلى الشام في أنطاكية ومعرة النعمان بالضعف والتناحر، وتزيد على ذلك بانعدام وجود قوة إسلامية منظمة تدافع عن هذه البلدان، بل ووجود خيانة من داخل المسلمين سهلت دخول الصليبيين إلى هذه المدن، قال: "في جمادى الأولى منها (أي سنة 491هـ) مَلك الإفرنج مدينة إنطاكية بعد حصار شديد، بمواطأة (خيانة) بعض المستحفظين (حُماة الأبراج والسور)، وهرب صاحبها في نفر يسير، وترك بها أهله وماله، ثم إنه ندم في أثناء الطريق ندما شديدا على ما فعل، بحيث إنه غشي عليه وسقط عن فرسه، فذهب أصحابه وتركوه، فجاء راعي غنم فقطع رأسه وذهب به إلى ملك الفرنج"(9).
كان لسقوط أنطاكية كما يرى المؤرخ الراحل سعيد عاشور أثره الفادح في نفوس المسلمين؛ فقد "أثار موجة من الذعر في البلدان الإسلامية القريبة، فهرب من كان بها من المسلمين وتسلمها الأرمن، ولا شك أن سقوط أنطاكية كان له دوي هائل في العالم المسيحي، لا يفوقه إلا أثر سقوط بيت المقدس نفسها في أيدي الصليبيين فيما بعد؛ فأنطاكية مدينة قديمة لها تاريخها وأهميتها الكبرى في نظر المسيحيين، ويكفي أنها كانت ثالث مدن العالم في عصر الإمبراطورية الرومانية، فضلاً عن أنها المدينة التي أطلق فيها القديس بطرس أول أسقفية له"(10).
حاول أقوى وأقرب أمراء السلاجقة أمير الموصل كربوقا وأمير دمشق دقاق، وأمير حمص جناح الدولة التوحد في صد هذا العدوان الصليبي، وبالفعل "التقوا معهم (أي الصليبيين) بأرض إنطاكية، فهزمهم الفرنج وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأخذوا منهم أموالا جزيلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان فأخذوها بعد حصار فلا حول ولا قوة إلا بالله"(11).
وفي بغداد ظل الخليفة -رمز المسلمين الأول- عاجزا عن القيام بدور فعّال في حركة الجهاد والمقاومة أمام المد الصليبي، فجلّ ما فعله المستظهر أنه في عام 492هـ وبعد سقوط بيت المقدس أرسل وفدا من كبار علماء بغداد إلى الأقاليم ليستحثوا الأمراء وجماهير الناس للمشاركة في جهاد الصليبيين؛ ولم يفعل ذلك للحق إلا بسبب ضغط وفد أهل الشام الذي كان يستصرخ بغداد وأهلها وجيوشها على ما لحقهم من دمار وذلة على يد الصليبيين، فقد جاء هذا الوفد "فأوردوا في الديوان (ديوان الوزارة العباسية) كلاما أبكى وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع (الكبير) يوم الجمعة فاستغاثوا وبكوا وأبكوا وذكروا ما دهم المسلمين من قتل الرجال، وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا"(12). ولم يجد الخليفة أمامه إلا أن يرسل وفدا من كبار قضاة وفقهاء بغداد إلى السلاجقة في عاصمتهم همذان بإيران، خاصة وزيرهم مجد الملك البلاساني، لكن هذا الوفد عاد من الطريق حين علم اشتداد الصراع على العرش السلجوقي، ومقتل وزيرهم مجد الملك، "فعادوا من غير بلوغ أرب ولا قضاء حاجة"(13).
وهكذا أدى الاقتتال الداخلي في المعسكر السلجوقي إلى جمود المساعي لمساعدة بلاد الشام وبيت المقدس في حربها ضد الصليبيين حتى تمكن الصليبيون من الاستيلاء على مدن الساحل الشامي وفلسطين واحدة بعد أخرى.
الرأي العام في مواجهة الخيانة
اللافت أن الرأي العام في العراق وعلى رأسه ممثليه الحقيقيين من الفقهاء والعلماء لم يكونوا راضين عن هذه القيادات السياسية والعسكرية المنبطحة والمتشرذمة أمام المد الصليبي في ديار الإسلام، ومن هنا حاول بعض الفقهاء والعلماء بمجهود ذاتي متواضع أن يجاهدوا هؤلاء الغزاة، ففي سنة 504هـ "تجهّز جماعة من أهل بغداد من الفقهاء وغيرهم، للخروج إلى الشام لأجل الجهاد، وقتال الفرنج، وذلك حين بلغهم أنهم فتحوا مدائن عديدة، من ذلك مدينة صيدا في ربيع الأول، وكذا غيرها من المدائن، ثم رجع كثير منهم حين بلغهم كثرة الفرنج»(14).
وإن بعض المؤرخين يذكرون أن ثورة في بغداد قامت بها جماهير الناس نُصرة لأهل الشام وبيت المقدس المنكوبين على يد الصليبيين؛ كانت السبب في تعكير صفو مزاج الخليفة الذي كان يتجهز للزواج السياسي من أخت سلطان السلاجقة، للدرجة التي جعلته يطلب من السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه صراحة أن يؤدب الجماهير على هذا الاعتراض المتزايد في ظل استعداده الباذخ لحفل زواجه الميمون!
يقول المؤرخ ابن القلانسي (ت555هـ): "حضر رجل من الأشراف الهاشميين من أهل حلب وجماعة من الصوفية والتجار والفقهاء إلى جامع السلطان ببغداد فاستغاثوا وأنزلوا الخطيب عن المنبر وكسروه وصاحوا وبكوا لما لحق الإسلام من الإفرنج وقتل الرجال وسبي النساء والأطفال ومنعوا الناس من الصلاة، والخدم والمقدمون يعدونهم عن السلطان بما يسكنهم من إنفاذ العساكر والانتصار للإسلام من الإفرنج والكفار، وعاودوا في الجمعة الثانية المسير إلى جامع الخليفة وفعلوا مثل ذلك من كثرة البكاء والضجيج والاستغاثة والنحيب، ووصلت عقيب ذلك الخاتون السيدة أخت السلطان زوجة الخليفة إلى بغداد من أصفهان.. واتفقت هذه الاستغاثة فتكدر ما كان صافيًا من الحال والسرور بمقدمها. وأنكر الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين ما جرى وعزم على طلب من كان الأصل والسبب ليوقع به المكروه، فمنعه السلطان (السلجوقي) من ذلك وعذر الناس فيما فعلوه، وأوعز إلى الأمراء والمقدمين بالعود إلى أعمالهم والتأهب للمسير إلى جهاد أعداء الله الكفار"(15).
ولم يجد السلطان السلجوقي بدا سوى تسيير حملة عسكرية تهدئ من مشاعر الجماهير، قاد هذه الحملة كبار أمرائه العسكريين الذين سيبزغ نجم بعضهم في مجاهدة الصليبيين فيما بعد، "وساروا إلى بلدة سنجار فتحوا عدة حصون للفرنج، وقتل من بها منهم وحصروا مدينة الرها مدة ثم رحلوا عنها من غير أن يملكوها(16). ورغم العدة والعتاد فإن أمراء حلب ودمشق لم يأمنوا لهؤلاء القادة السلاجقة، وسرعان ما دب الخلاف بينهم، ولم تنجح هذه الحملة ورجعت على أعقابها في العام التالي من خروجها سنة 505هـ(17)!
في الجانب الآخر، كان الخلفية وسلطان السلاجقة وكبار الحاشية من الجانبين يحتفلون بالزفاف الملكي الذي هز بغداد، وقلبها رأسًا من كثرة الترف الذي رآه الناس؛ فقد "قدمت خاتون بنت ملكشاه زوجة الخليفة إلى بغداد فنزلت في دار أخيها السلطان محمد، ثم حُمل جهازها على مائة واثنين وستين جملا، وسبعة وعشرين بغلا، وزُينت بغداد لقدومها، وكان دخولها على الخليفة في الليلة العاشرة من رمضان، وكانت ليلة مشهودة»(18).
لم يرض الفقهاء وعلماء المسلمين آنذاك بهذا التقاعس والخذلان من الساسة والعسكر في مواجهة الاحتلال الصليبي لبيت المقدس ولديار المسلمين، وكانت لهم تحركات مستقلة نشطة في بث الحماس في نفوس القادة العسكريين من السلاجقة ممن توسّموا فيهم خيرا خاصة أمراء الشام وشمال العراق، فقد اتحدوا أخيرا في مواجهة الصليبيين بل كان لهم النصر في معركة مهمة سنة 507هـ بالقرب من بحيرة طبرية بفلسطين، يقول ابن كثير: "كانت وقعة عظيمة بين المسلمين والفرنج في أرض طبرية، كان فيها ملك دمشق الأتابك طغتكين، ومعه صاحب سنجار وصاحب ماردين، وصاحب الموصل، فهزموا الفرنج هزيمة فاضحة، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وغنموا منهم أموالا جزيلة، وملكوا تلك النواحي كلها"(19).
والعام 507هـ هو العام الذي بدأ فيه نجم القائد العسكري عماد الدين زنكي في الصعود كأحد أبطال مقاومة المد الصليبي والاسترداد، وكان الأمير زنكي مقربًا من أمير الموصل آق سنقر البرسقي الذي كان نائبًا للسلاجقة على المدينة فقد "ولّى السلطان محمد بن ملكشاه للأمير آقسنقر البرسقي الموصل وأعمالها، وأمره بمقاتلة الفرنج، فقاتلهم في أواخر هذه السنة فأخذ منهم الرها وحريمها وبروج وسميساط(20).
وبهذا نرى أن غضب الجماهير وردود فعل علماء المسلمين كان لها الأثر القوي في إعادة توحيد الصفوف، وبث الحماس، ونشر الوعي، في مواجهة القوى الصليبية التي ظلت جاثمة على صدر الأمة لمدة قرنين على الأقل، أثمرت هذه الجهود في صعود نجم آق سنقر البرسقي، وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود ثم صلاح الدين الأيوبي ومن بعده المماليك العظام، وهي جهود لم تكن وليدة لحظة أو عامل واحد، لكن جمعها في أصلها روح المواجهة في الدفاع مقدسات الإسلام وعن القدس وديار المسلمين عامة.