منى
منى، حيث ترمى الجمرات، وتهمل العبرات، ذوات الليالي المقمرات، بطحاء بين جـبلين، مهدمة الجوانب، فيها مجتمع الحجيج، والمحصب منها موضع الجمرات، على مدرجة السوق الأعظم، حيث ينصب كل سنة أيام الموسم، يجـتمـع فيـه الخليطان من شـام ويمن، وينزل الركـوب به في منازلهم من شرف الوادي، إلى حـيث تنحر البدنات تحت العقبة الأولى، حيث تنصب سقايات الحـاج، وكـانت في قـديم الإسـلام موسم لـقـاء الأحباب ومكان موعد كل مفارق. وثلاث ليال منى معروفة موصوفة، قد أكثر منها الشعراء، وترنم بها المـتيمـون، ولمنى بيوت هي كـالقرية، منهـا ما هو مسكون ومنها ما هو يرنم بضائـع الحارم أيام الموسم، تكرى بأجرة طائلة وبها آبار متخـذة لخزن ماء الأسنيـة، تباع على الحجـيج، وهو ماء ثقيل وبئ لما يحـمل من أوساخ الذبائح وبقايا الأضاحي ودماء القرابين.
الحرم المكي
يكفي المسجد الحرام شرفا أن كان هالة تحوط ببيت الله، ودائرة مجد تقع فيها كعبة الشرف، وأن يكون فلكا تدور فيه الكمالات، وأن يكون مهبطا لنزول الرحمات والبركات. ومما يزيده شرف قدر، وسمو مكانة أن تكون الصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون أعظم المساجد الثلاثة وأجلها، وأن يقول فيه الله: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم فقد أظهرت هذه الآية القرآنية الكريمة قدسيته، وسجلت حرمته، وجعلته مأمنا للخائفين، وبيتا مشاعا للمسلمين والمؤمنين.
الحرم المدني
على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وهو موضع منبره، وجـوار مقبره، ومقـام مصلاه، ودار إخوته وأولاده، وبجـانبه حـجرته المعظمـة التي ضمت أعظمه، قال أنس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل في علو المدينة، في حي يقـال لهم: بنو عمرو بن عوف، فـأقام فـيهم أربعـة عشـر ليلة، ثم إنه أرسل إلى ملأ بني النجـار، فجاءوا متقلدين سيوفهم، فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بـكر ردفه، وملأ بني النجـار حوله، حـتى ألفى بفناء أبي أيوب. قـال: وكان يصلي حـيث أدركتـه ويصلي في مرابض الغنم، ثم أنه أمر بالمسـجد، وروى عن الشـفـاء بنت عبـد الرحـمن الأنصـارية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى المسجد يؤمه جبريل إلى الكعبة ويقيم له القبلة، وقـال السهـيلي: بني مسـجد رسـول الله صلى الله عليه وسلم، وسقف بالجريد، وجـعلت قبلته من اللبن، ويقال: بل مـن حجارة منضودة بعضهـا على بعض، وحيطانه من اللبن، وجعلت عمده من جذوع النخل، فنخرت في خلافة عمر فجددوها قال أبو سعيد الخدري رضي اللـه عنه: كان سقف مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من جريد النخل، وأمـر عمر ببناء المسجـد، وقال: أكف الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. قال الحـافظ أبو عبد الله الذهبي: كـانت هذه القبلة في شمالي المسـجد وكان صلى الله عليه وسلم صلى ستة عشر شهرا أو سبعة عـشر شهرا إلى بيت المقدس، فلمـا تحولت القبلة بقي حائط القبلة الأولى مكان أهل الصفة.
بئر زمزم
ومما يشتمل عليه المسجد الحرام بئر زمزم، وهي سقيا إسماعـيل، وهمزة روح القدس جبـريل، طعام طعم، وشفـاء سقم، لا تنزف ولا تذم، ولا يتوجه إليـها ذم، لقية عبد المطلب ودليل سؤدده ولا كذب، وفي الحديث ماء زمزم لما شرب له . قال السهيلي: كانت زمزم سقيا إسماعيل بن إبراهيم عليهـما السلام، فجـرها له روح القدس بعقـبه، وفي ذلك إشـارة إلى أنهـا لعـقـب إسـمـاعـيل ورائه وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، والقصة في ذلك معـروفة، وتلخيصها أن إبراهيم عليه السلام لما احتمل إسـماعيل وأمه هاجر إلى مكة احتمل معه لها قـربة ماء ومزود تمر، وتركهما بمكة وعاد!، فلما فرغ التمر والماء عطش إسماعيل وهو صغـير وجـعل ينشع الموت، جـعلت هاجر تسـعى من الصفا إلى المروة، ومن المروة إلى الصفا لترى أحدا حتى سمعت صوتا عند الصبي، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غوث. ثم جاءت الصـبي فإذا الماء ينبع من تحت خده، فجعلت تغرف بيـدها وتجعل في القربة، وسيأتي بعد ذلك له خبر. قال صلى الله عليه وسلم: لو تركته لكان عينا أو قال نهرا معينا . قال الحربي: سميت زمزم بزمزمة الماء، وهي صوته.
وقال المسعودي: سميت زمزم لأن الفرس كانت تحج إليها في الـزمن الأول فتزمزم عندها، والزمزمة صوت تخرجه الـفرس من خياشيـمها عند شرب المـاء، وذكر البرقي عن ابن عـباس أنها سمـيت زمزم لأنها زمت بالتراب لئلا تسـيح الماء يمينا وشمالا، ولو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شيء. وقد ذكـرنا طم الحارث بن مـضاض إياها، ولم تزل دارسـة حتى أري عـبد المطلب أن احـفر طيـبة، لأنهـا للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم وإسماعيل، وقيل له: احفر برة. وقيل: احـفر المضنونة ضننت بها على الناس إلا عليك، ودل عليهـا بعلامات ثلاث: بنقـرة الغراب الأعصم، وأنها بين الفرث والدم، وعند قرية النمل. وروي أنه لما قـام ليحفـرها رأي ما رسم له مـن قرية النمل ونقـرة الغـراب، ولم ير الفرث والـدم، فبـينا هو كـذلك ندت بقـرة لجازرها، فلـم يدركها حـتى دخلت المسجد الحرام، فنحـرها في الموضع الذي رسم له، فسال هناك الفرث والدم، فحفرها عبد المطلب حيث رسم له.
وقيل لـعبد المطـلب في صفتـها أنها لا تنزف أبدا، وهذا برهان عظـيم لأنها لم تنزف من ذلك الحين إلى اليوم قط وقد وقع فيها حبشي فنزحت من أجله، فوجدوا مـاءها يثور من ثلاث أعـين أقواها وأكـثرها ماء عين من ناحية الحجر الأسود، رواه الدارقطني. وروى الدارقطني أيضا مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم: من شرب من ماء زمزم فليتضلع، فإنه فرق ما بيننا وبين المنافقين لا يستطيعون أن يتضلعوا منها أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ماء زمزم لما شرب له . وروي أن أبا ذر تقوت من مـائها ثلاثين بين يوم وليلة فسمعن حتى تكسرت عكنه.
وذكر الزهري في سـيره أن عبد المطلب اتخـذ حوضا لزمزم يسـقي منه، وكان يخرب بالليل حسـدا له، فلما غمه ذلك قيل له في النوم قـل: لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل وقـد كفيتم. فلما أصبح قال: نعم، فكان بعـد من أرادها بمكروه رمي بداء في جسـده حتى انتهوا عنه.