من عجائب الأوقاف الإسلامية!

YOOBA

عضو مميز
إنضم
3 أغسطس 2016
المشاركات
1,703
التفاعل
6,056 0 0
reality;ord=4307168792722.811;dc_seg=456318144

*















424

250

محمد شعبان أيوب
محرر تاريخ





"وينتصبُ كل معيد ممن عُيّن في جهته لأهل مذهبه لاستعراض طلبته، ويشرح لمن احتاج الشرح درسه ويصحح له مستقبله، ويرغّب الطلبة في الاشتغال، ولا يمنع فقيهًا أو مستفيدًا ما يطلبُ من زيادة تكرار وتفهّم معنى، ولا يقدم أحدا من الطلبة فى غير نوبته إلّا لمصلحة ظاهرة، ويشتغل كل واحد من الطلبة بما يختاره من أنواع العلوم الشرعية، ويراه المدرس له على مذهبه، ويبحث فى كل ما أشكل عليه من ذلك، ويراجع فيه، وأن ينظر المدرس فى طلبته ويحثهم كل وقت على الاشتغال، ويجعل من يختاره نقيبا عليهم، ويقرر له ما شاء".

(السلطان المنصور قلاوون في وقفيته على مدرسته وبيمارستانه "مستشفاه" بالقاهرة)



الوقف هو الصدقة الجارية، وفي الاصطلاح الفقهي: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة أو الثمرة. وهو نظام ارتبط، منذ فجر الإسلام، بمجموعة من المؤسسات الاجتماعية والخيرية التي كانت رافداً هاماً في الحياة، سواء على مستوى الأسرة أو الجماعة أو الأمة. والمتتبع لمسيرة المجتمعات الإسلامية في التاريخ المعاصر، يلاحظ أن تحولاً جذريا أصاب مؤسسة الوقف؛ فبعد أن كانت مؤسسة أهلية ذات درجة عالية من الاستقلال الإداري والمالي والوظيفي -ارتبطت بها مهام اجتماعية واقتصادية متعددة كالتعليم والصحة والمساجد وغير ذلك- أصبحت مؤسسة الوقف مؤسسة حكومية تحكمها أنظمة وسياسات الحكومات وخططها؛ وبالتالي فقدت هذه المؤسسة توهجها ودورها والتفاف الناس حولها[1].
00000000-0000-0000-0000-000000000000


من غرائب الأوقاف في حضارتنا!
لقد تشعّبت وتنوعت مصارف الأوقاف الإسلامية في عصورها المختلفة؛ لكننا نجد أن هذه المصارف والمؤسسات الوقفية كانت انعكاسًا لافتًا لمدى ذوق وسموّ الحضارة الإسلامية، ولدينا عشرات -إن لم يكن مئات- النماذج التي تُدلل على ذلك الرقي والإبداع والإنسانية، ولقد وقف الرحالة الأشهر ابن بطوطة منبهرًا بما رآه في أوقاف دمشق في القرن الثامن الهجري في ظل حكم المماليك البحرية قائلاً: "والأوقاف بدمشق لا تُحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها؛ فمنها أوقاف على العاجزين عن الحجِّ، يُعطى لمن يحجّ عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهنَّ، وهنَّ اللواتي لا قدرة لأهلهنَّ على تجهيزهنَّ، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل؛ يُعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزوَّدُون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها؛ لأن أزقَّة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمرُّ عليهما المترجِّلُون، ويمرُّ الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير"[2].



وأبدع المسلمون في وقف المستشفيات؛ حتى إننا وجدنا في ذلك العصر شروطًا تدلُّ على مدى التقدم والرحمة التي بلغتها هذه الحضارة آنذاك؛ فلقد كان يُذكر في نصِّ الوقفيَّة وجوب تقديم طعام كلِّ مريض في إناء مستقلٍّ خاصٍّ به من غير أن يستعملها مريض آخر، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشكل، وقد خُصِّص في البيمارستانات "المستشفيات" قاعات مستقلة للمؤرَّقين من المرضى؛ إذ كانوا يُعزلون فيها، فيُشَنِّفون آذانهم بسماع الأناشيد، والاستماع إلى القصص التي يرويها عليهم القُصّاص حتى يغلبهم النوم؛ وقد ظَلَّتْ هذه العادة حتى دخول الحملة الفرنسيَّة إلى مصر عام (1798م)، فشاهدها العلماء الفرنسيون بأنفسهم وكتبوا عنها[4].


ومن الأوقاف الغريبة والنافعة في عهد العثمانيين ما ذكره الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله أنه حُكي له عن وقف غريب في مدينة طرابلس الشام؛ كان ريعه مخصَّصًا لتوظيف اثنين يمرَّان في المستشفيات يوميًّا؛ فيتحدَّثان بجانب المرضى حديثًا خافتًا؛ ليَسْمَعَه المريض بما يوحي له بتحسُّنِ حالته، واحمرار وجهه، وبريق عينيه![5]

00000000-0000-0000-0000-000000000000

أسبقية وتفنن!
اهتمَّ العثمانيون بوقف المدارس والمكتبات العامَّة، فقلما خلت مدينة تابعة للدولة العثمانيَّة من إنشاء مدرسة موقوفة لكافة طلابها من أبناء الفقراء والأغنياء؛ فمن أشهر هذه المدارس: مدرسة السلطان مراد ببلدة مغنيسا، ومدرسة السلطان سليم الأول بقسطنطينية، ومدرسة السلطان أحمد، فهذه المدارس وغيرها كانت في العاصمة وحواليها؛ ووُجدت مدارس أخرى؛ مثل: المدرسة السلطانيَّة المراديَّة بمكة، ومدرسة السلطان عبد الحميد[7].


ومن المدارس المتخصِّصة الموقوفة في ذلك العصر وُجدت المدارس الحربيَّة، وهو نظام جديد لم يكن يعرفه العالم الإسلامي من قبل؛ ولقد كان السلطان مصطفى الثالث (ت 1187هـ=1774م) من أكثر سلاطين العثمانيين اهتمامًا بإنشاء هذه المدارس؛ إذ اهتمَّ بإنشاء مدارس الطُبجية[8]و"إنشاء مدرسة حربيَّة لتخريج الضباط على مثال مدرسة سانسير الفرنساويَّة، التي أسسها نابليون الأول بفرنسا"[9].


وتنوَّعت الأوقاف العلميَّة في ذلك العصر؛ حيث إن هناك مَنْ أَوْقَفَ أوقافًا عجيبة للجامع الأزهر -كان بمثابة جامعة كبرى - لتضمن حُسْنَ سَيْرِ العمليَّة التعليميَّة، وتوفُّر أكبر قسط من الراحة للمدرِّسين؛ ومن هذه الأوقاف وقف البغلة! وهو وقف خُصِّصَ للإنفاق على البغال التي يركبها المدرسون بالجامع الأزهر لضمان الراحة لهم[10].



ومن الأوقاف الغريبة واللافتة في ظل الدولة العثمانية، وجدنا أوقافًا لإعارة الحليِّ والزينة في الأعراس والأفراح؛ فيستفيد من هذا الوقف الفقراء والعامَّة بما يلزمهم من الحليِّ لأجل التزيُّن بها في الأعراس والحفلات، حتى إذا انتهت تلك المناسبات أعادوها إلى موضعها، فيتيسَّر للفقير أن يكون يوم عرسه بحلَّة لائقة، ولعروسه أن تُحَلَّى بحلية جميلة لا تكلفها شيئا؛ مما يدخل عليهما السرور والسعادة، وينسيهما ألم الفقر والفقد.



وفي المغرب العربي أوقاف الأندلسيين؛ وهي من النماذج الراقية والجميلة التي تكشف لنا البعد الإنساني التكافلي بين أبناء هذا الإقليم المفقود، فقد قامت تلك الأوقاف بعد محنة الأندلسيين (الذين نزحوا إلى المغرب العربي، واستقروا في المدن الساحليَّة المغاربية، وساهموا في الحرب ضد الإسبان منذ القرن السادس عشر الميلادي) قامت بإعانة الأندلسيين اللاجئين الفارِّين من جحيم الاضطهاد الإسباني الكاثوليكي؛ وذلك تخفيفًا لمعاناتهم، وجبرًا لخواطرهم من ألم الفقد والطرد والحرمان.

00000000-0000-0000-0000-000000000000

أندرو كارنيجي أوَّل مؤسس للأوقاف الغربيَّة ذات النفع العامِّ (مواقع التواصل )


وبالرغم من التقدُّم السريع الذي وصل إليه الغربيون في مجال الأوقاف، إلاَّ أن الوقف الغربي قد اختلف عن الأوقاف الإسلاميَّة اختلافًا جذريًّا؛ فالمؤسَّسات الاجتماعيَّة الغربيَّة كثيرًا ما يقتصر الانتفاع بها على أبناء بلادها أو مقاطعاتها، بينما كانت مؤسَّساتُنَا الاجتماعيَّة الوقفيَّة تفتح أبوابها لكل إنسان على الإطلاق، بغض النظر عن جنسه أو لغته أو بلده أو مذهبه[12]، وهذا ما لا يزال مسطورًا في كُتب رحّالاتنا وجغرافيينا الذين وصفوا أوقاف العالم الإسلامي، ومصارفها، وخدماتها التي كانت تقدمها لعموم الناس دون تمييز.
 
عودة
أعلى