التلاعب بالديمقراطية.. كيف غير ترمب قواعد السياسة الأميركية لصالحه؟

YOOBA

عضو مميز
إنضم
3 أغسطس 2016
المشاركات
1,703
التفاعل
6,056 0 0
reality;ord=3956179858755.8794;dc_seg=456318144

*




آخر تحديث: 2017/12/20 الساعة 15:26 (مكة المكرمة) الموافق1439/4/2 هـ


424

250

فريق الترجمة
مجموعة من المترجمين



مقدمة المترجم

يعرض المقال الضرر الذي أحدثه ترمب في أجهزة الدولة الأميركية ومؤسساتها، وهدفه من وراء ذلك، والحال الذي انتهى إليه الحزب الجمهوري والدولة الأميركية التي تسير في طريقها لتصبح دولة مافيا على غرار روسيا.



نص المقال
برغم انتكاستها التشريعية العام الماضي، كانت إدارة ترمب فعالة بشكل مذهل في تحقيق مهمتها الرئيسة: تفكيك الحكومة الأميركية الحديثة التي نشأت منذ عصر بداية القرن العشرين التقدمي. ورغم أن بوادر الحرب الأهلية تحوم فوق الحزب الجمهوري، فإن زعيم الأغلبية ميتش مكونيل، والمتحدث باسم الكونغرس باول ريان، وحتى شخص كثير الانتقاد للرئيس مثل بوب كروكر، دعموا أغلب أجزاء برنامج ترمب. لا يجب أن يكون هذا الأمر مفاجئا، إذ إن أجندة الإدارة تتوافق في العديد من جوانبها مع الخط الرئيس للمحافظين الجمهوريين الذي وضعه رونالد ريغان قبل ثلاثين عاما. الضغط من أجل خفض كبير في الضرائب على الأغنياء وإلغاء الضوابط التشريعية على التمويل والتجارة.



إيمان ترمب بمقولة ريغان الحاسمة "الحكومة ليست الحل لمشكلاتنا. الحكومة هي المشكلة" هو ما يجعل ماكونيل والآخرين يدعمونه باعتباره مركبة معطلة ولكن مفيدة يحملون عليها سياساتهم الخاصة. ولكن بطريقة لا يمكن اختزالها، فإن ترمب المعادي للحكومة هو أيضا مناهض لريغان. في الوقت الذي يعزز فيه ترمب شعبيته الراسخة بين صفوف الجمهوريين وقياداتهم، لم يعد من الممكن إنكار أن رؤيته السياسية المظلمة قد زحزحت رؤية ريغان المحافظة ذات الابتسامة التي تزين الوجه باعتبارها المرشد الأعلى للقوى داخل الحزب الجمهوري.



يؤمن الرئيس ريغان بقوة أن مهمة الولايات المتحدة المتجردة والإلهية هي أن تكون منارة للديمقراطية والفرص في العالم، فقد تحدث عن الولايات المتحدة مرات عديدة باعتبارها "المدينة المضيئة أعلى التل"، إذ تضاعف ارتفاع هذا التل بفضل أجيال المهاجرين الذين وصلوا إليها حجيجا. اعتنق ريغان الفضائل التقليدية للالتزام وضبط النفس والعمل الجاد والعفو الكريم باعتبارها الدعائم الروحية الجوهرية للأمة. ورغم أنه شدد مرارا أن أيام أميركا الأفضل لم تأت بعد، لم يشكك يوما في عظمة أميركا في الحاضر أو في الماضي.




الرئيس الأميركي رونالد ريغان (1911-2004م) (مواقع التواصل)


ترمب على العكس من ذلك لا يرى لأميركا مهمة في العالم، بل مجرد منافسة وحشية لبسط السيطرة يجب أن تنتصر فيها الولايات المتحدة عبره هو وحده. يصف أميركا ليس باعتبارها مدينة مضيئة بل غابة مليئة بالأشلاء، موبوءة بالجريمة والمخدرات ومغمورة في المهاجرين غير الشرعيين المتوحشين. على الرغم من أن ريغان لا يمكنه تذكر أنه خرق الدستور في قضية إيران-كونترا، لم يظهر أبدا ازدراء لدور القانون كما فعل ترمب بعفوه عن مأمور أريزونا العنصري جو أربايو المدان بارتكاب جناية عبر رفضه الانصياع للقانون.



يدين ترمب واشنطن دائما باعتبارها مستنقعا من الفساد حتى وهو يتربح من تحويل البيت الأبيض إلى صنبور أموال لعملياته التجارية البعيدة مخالفا البند الدستوري المتعلق بالتربح من المنصب. جعل نفسه قائد حركة عظيمة تسمى "الأشخاص الذين لم ير العالم مثلهم يوما"، ثم حرَّض هذه الحركة على مهاجمة جمهوريٍّ ريغانيٍّ محافظ متفاخر مثل جون مكين، بينما يمتدح أمثال روي مور الذي طُرد مرتين من محكمة ألاباما التي حضر فيها لرفضه الامتثال للقانون بعدم قول شيء عن اتهامات الاعتداءات الجنسية الموجهة ضده. ليس لدى ترمب إيمان بلوم الذات، ناهيك عن ذكر الفضيلة أو ضبط النفس، وبدلا من ذلك يدير الشؤون الرسمية وحتى الدبلوماسية الخارجية بسيل من الإهانات المندفعة المتفلتة. قدم إلى الرئاسة ما وصفه السيناتور الراحل دانيال باتريك يوما بـ "الانحراف إلى الأسفل".



"ترمب هو البطل الذي انتظره هؤلاء اليمينيون زمنا طويلا، والذي سيمزق إمبراطورية الشر الأخرى "دولة الرفاه والضبط الأميركية الحديثة" التي تركها ريغان والرئيسين بوش واقفة على قدميها"
ومن بين السياسات التي انتهجها ريغان اتخذت معاداته الصارمة للشيوعية، التي تركزت على "إمبراطورية الشر" الاتحاد السوفيتي، موقع القلب من هذه السياسات. كان تقزز ريغان مما اعتبره تقاربا ليبراليا مع الشيوعية في الداخل والخارج بالإضافة "إلى عائدات الضرائب المرتفعة" هي التي دفعته لقطع علاقاته القديمة مع برنامج "الاتفاق الجديد" لروزفلت. ريغان الذي انساق تجاه اليمين باعتباره متحدثا رسميا لجنرال إلكتريك المعادية لاتحادات العمال، اعتبر أن دولة الرفاه هي حصان طروادة لسيطرة شبه سوفيتية للدولة على المجتمع. أشاد بخفض الضرائب وتقليل الضوابط باعتبارها نوعا من تعزيز الحرية الفردية ضد استبداد الدولة وكذلك باعتبارها منصات وثب لاقتصاد مزدهر يستطيع تعزيز جيش لا يقهر وإخضاع السوفييت.



تبنى ترمب بالفعل الأجندة الريغانية المعادية للحكومة وأعاد شحنها، ولكن دون أيديولوجيا معينة بل عبر مجرد رغبة في تدمير السياسات والبرامج القائمة، وقبل كل شيء تدمير أي شيء يرتبط بباراك أوباما. يدين ترمب بنجاحه السياسي إلى درجة ما لمؤامرات ضابط الكي جي بي السابق فلاديمير بوتين الداعمة، والذي سبّب نظامه السلطوي خسائر سياسية فادحة في كل الجبهة الغربية. بوتين هو الزعيم العالمي الأبرز الذي دافع عنه ترمب بطريقة مريبة وأبدى إعجابه به، واصفا بوتين خلال حملة 2016 الانتخابية بأنه زعيم قوي "أقوى بكثير من رئيسنا". القومية الشعبوية الكارهة للأجانب التي يهيج بها ترمب أنصاره ليست أيديولوجيا بقدر ما هي كتلة مركّزة من الكراهية والتي تشبه الميول الانعزالية ليمينيين متشددين أصدقاء لروسيا أيضا من بينهم نايجل فاراج في بريطانيا ومارين لوبان في فرنسا (كان فاراج تحديدا مناصرا قويا لترمب، ونظرا لعلاقاته الشخصية بجوليان أسانج وويكيليكس فإنه يُعدّ شخصا مثيرا للاهتمام في تحقيقات الـ FBI بشأن الاتصالات بين حملة ترمب والاستخبارات الروسية). تحت حكم ترمب وصلت المحافظة ما بعد الريغانية إلى هذه الصيغة: مهاجمة الحكومة الفيدرالية ليس لأجل الخشية من طغيان شبيه بروسيا، بل من أجل محاكاته.



هجوم ترمب المعادي للحكومة يحقق من ناحية الحلم الذي رعاه اليمين المتشدد لعقود. لم يتحقق هذا الحلم، من وجهة نظر اليمين، لأن مؤامرات الأعداء أجهضته: وهم الديمقراطيون بالطبع، والإعلام الذي يصفه ترمب بأنه "عدو الشعب"، ومؤسسة الحزب الجمهوري الخائنة، والتي يصفها اليمين بأنها "جمهورية بالاسم فقط". ترمب هو البطل الذي انتظره هؤلاء اليمينيون زمنا طويلا، والذي سيمزق إمبراطورية الشر الأخرى "دولة الرفاه والضبط الأميركية الحديثة" التي تركها ريغان والرئيسين بوش واقفة على قدميها. تشمل خطواتهم الأيديولوجيا والمال، مجتمعة في أقطاب مثل روبرت وربيكا ميرسر والإخوة كوخ الذين يمثلون الطمع والدوغمائية المتطرفة بمعايير متقاربة. عندما تحدث ترمب عن إزالة الضوابط وتجفيف المستنقع، تلقت طبقة ممولي الحزب الجمهوري إشارته وشجعته مهما كان سلوكه مشينا. شجعوا أكثر مقترح الضرائب الذي قدمه الرئيس والكونغرس معا رغم فشل مقترح إلغاء أوباما كير، هذا المقترح يتجاوز المكاسب التي حققها ريغان وجورج دبليو بوش من خلال آليات مثل إلغاء كامل للضرائب الفيدرالية، وهو ما سيمهد الطريق لأوليغارشية (حكم الأقلية) وراثية أميركية جديدة.




لعل شخصيات اليمين المتطرف العقائدية داخل إدارة ترمب، المتمثلة في طاقمه الغريب المدمر، تتبع الأسلوب المحافظ التقليدي، حيث يفعلون ما بوسعهم لتخريب الحكومة وتحقيق المصالح الخاصة (رويترز)

حتى الآن تبدو المسألة برمتها جمهوريّة، لكن الترمبية في الحقيقة ليست دافعا كاذبا معتادا عن فاحشي الثراء. لا يهتم ترمب في الحقيقة سوى بقليل من السياسة والأفكار السياسية أو ربما لا يهتم بأية أفكار على الإطلاق، حتى لو كانت أفكارا زائفة أو وهمية. يهتم فقط بتلميع ذاته وبمجده الشخصي، إذ إن غروره الذي يبلغ عنان السماء هو مفهومه الوحيد. لكن جنون العظمة لديه يتجاوز نرجسيته الذاتية، كما تمتلك ثروته وثروة عائلته ومعاييره القيادة القوية روابط عميقة وقديمة مع الجريمة المنظمة.

دونالد ترمب مبتز لا يُكنّ ولاء لشخص أو مبدأ، لا لشركائه التجاريين ولا للرجال الذين ساعدوه ولا لزوجاته السابقات. يضم سجله الطويل، الذي أعده صحفيون استقصائيون من أمثال ديفيد كاي جونستون والراحل واين باريت، شبكة علاقات مع زعماء عصابات مشهورين مثل أنتوني "توني السمين"، وساليرينو، وباول كاستيلانو، وهو ما يظهر أن ترمب سيطعن أي شخص من الخلف وسيقطع علاقته بأي شخص لم يعد يغذي تفوقه ويخدم حقده. لكن شخصية ترمب المنحرفة لها نموذجها السياسي، وهي نسخته الخاصة من نظام بوتين السلطوي، وهو ما تسميه الصحفية ماشا جيسين دولة المافيا مع أوليغارشية راسخة تدين للزعيم وعشيرته، ووسائل إعلام تابعة تعيق كل معارضة سياسية وتخلط النقد بالتشتيت والكذب الصفيق، وهو ليس كذبا لتجنب الانكشاف أو لتحقيق مآربه، بل بحسب تعبير جيسين: "لتأكيد السلطة على أنقاض الحقيقة نفسها".



"بدأ ترمب عملية التخريب عندما اختار إدارته، حين نشرت اختياراته كان قد أحاط نفسه بمجموعة من الوزراء الطيعين الذين كانوا وفقا لفوربس "الأغنى في تاريخ الولايات المتحدة الحديث""
ولعل شخصيات اليمين المتطرف العقائدية داخل إدارة ترمب، المتمثلة في طاقمه الغريب المدمر، تتبع الأسلوب المحافظ التقليدي، حيث يفعلون ما بوسعهم لتخريب الحكومة وتحقيق المصالح الخاصة لصناعات النفط والأدوية. ولكن تحت حكم ترمب فإنهم يخدمون أهدافا أخرى كذلك. إنهم أولا يجعلون من بارونات الحزب الجمهوري المنتصرين مدينين أكثر بانتصارهم لترمب زعيم جميع الزعماء الذي نجح في تحقيق ما فشل فيه الرؤساء الجمهوريون العاديون. وثانيا يرضون ترمب نفسه، فعلى ما يبدو يؤدي تحطيم الأشياء التي بناها الآخرون، مثل "أوباما كير"، إلى إشباع رغباته السادية. وثالثا يرضون بوتين الذي يأمل في عرقلة وتمزيق المؤسسات الأميركية محولا ترمب وعصابته إلى "أغبياء مفيدين". لم يكن الخراب الذي أحدثوه ظاهرا دائما، خصوصا بالنسبة لصحافة سياسية ركزت على الصراعات التشريعية وعلى ثورات تويتر ومعارك الحرب الثقافية الجانبية. ولما كانت تُظهر هزيمة أوباما كير، فإن هذا يعني أن الرئيس ما زال مبتدئا في فن عقد الصفقات في واشنطن، وهو ما قد يخدع البعض للاعتقاد بأنه مجرد متنمر أحمق. ولكن داخل السلطة التنفيذية، حيث لا يوجد ما يقيد ترمب، تبدو الأضرار التي أحدثها بليغة للغاية.



بدأ ترمب عملية التخريب عندما اختار إدارته، حين نشرت اختياراته كان قد أحاط نفسه بمجموعة من الوزراء الطيعين الذين كانوا وفقا لفوربس "الأغنى في تاريخ الولايات المتحدة الحديث"، وهو طاقم الإدارة التي قدرت المجلة ثروتهم الكلية في (يوليو/تموز) الماضي بما يقارب الـ 4.3 مليار دولار. وكانت إدارته تضم بالتأكيد بعض أقدم أصدقاء ترمب وداعميه. تملقهم الجماعي اللافت للنظر الذي ظهر للعالم في اجتماع لمجلس الوزراء (يونيو/حزيران) الماضي كان عبارة عن رقصة مخجلة من تقبيل الأيادي لا تشبه شيئا أكثر من خدم ستالين الذين يغنون بمدحه، وهو ما يمثل حنينا لدى دولة المافيا التي أسسها ترمب.



لكن أكثر ما لفت الانتباه كانت مؤهلات الوزراء الجدد أو عدم وجودها. اختار ترمب لوزارة التعليم مليارديرا دعا لخصخصة التعليم واصفا المدارس الحكومية بأنها طريق مسدود. وزير خارجيته هو المدير التنفيذي لإيكسون موبيل، وتعد أبرز إنجازاته حصوله على "ميدالية الصداقة" من بوتين والتفاوض لأجل توقيع صفقة تنقيب عن البترول تبلغ مئات المليارات من الدولارات في القطب الشمالي في روسيا والتي توقفت بسبب العقوبات الأميركية. لإدارة وكالة حماية البيئة اختار ترمب أحد منكري التغير المناخي. واستمر على هذا النحو: حاكم تكساس السابق الذي اقترح إلغاء وزارة الطاقة اختاره ترمب وزيرا لها، جراح الأعصاب الذي اعتبر الفقر "حالة ذهنية" تولى مسؤولية وزارة الإسكان وتطوير التجمعات الحضرية.




تزيد الإدارة من ضعف وزاراتها بتجاهل وعزل الموظفين المهنيين وفشلها في ملء المناصب الحساسة (رويترز)


على مستوى واضح جدا تدفع اختيارات إدارة ترمب أجندة الجمهوريين اليمينيين قدما إلى الأمام في ملفات الضرائب والرعاية الصحية والبيئة والتعليم والحقوق المدنية وأكثر، بعضهم دعمه ترمب أثناء الحملة الانتخابية. لكن من ناحية أخرى تعبر إدارته عن ازدراء غير مسبوق للحكومة الأميركية نفسها، حيث سلم مسؤولية الوكالات الحكومية القوية والكبيرة الضرورية لتحقيق الرفاه العام في أيدي أشخاص يعارضون بشدة مهمة الوكالات التي سيقودونها. ليست اختيارات ترمب مسألة تغير درامي في المسار، بل تشير إلى الاعتقاد بأن هدف هذه المؤسسات التي تشكل السياسة القومية -المؤسسات التي بنيت بسواعد أجيال متتابعة- هو هدف فاسد. خرج ترمب من البداية بهدف نزع الشرعية عن أجزاء من الحكومة التي انتُخب لإدارتها.


اتخذت ميزانية الإدارة الأولية، التي أعلن عنها في (مايو/أيار) الماضي، مقاربة أكثر تدميرية. في حين زادت ميزانيات وزارة الدفاع ووكالات الأمن وشؤون المحاربين القدماء كما هو متوقع، خُفِّضت النفقات المقترحة لبقية الهيئات التنفيذية الفرعية، فيما يشبه الانتقام. إذا تمت الموافقة على بعضٍ من أكبر هذه الاستقطاعات في الميزانية سيلحق ضرر بالغ بوزارات مثل الزراعة والصحة والخدمات البشرية، والعمل والإسكان والتطوير الحضري. يبشر الخفض المقترح لميزانية وكالة حماية البيئة، الذي يبلغ 31.4%، بالقضاء التام على هذه الوكالة. كما أن انعزالية سياسة أميركا أولا التي يتبعها ترمب ستفرغ أجزاء كبيرة من وزارة الخارجية، إذ إن الخفض المقترح في ميزانيتها (يبلغ 29.1) يقارب الخفض الكبير في ميزانية وكالة حماية البيئة. من يحتاج الدبلوماسية في ظل وجود ترمب المغرد من موقع المسؤولية؟



تزيد الإدارة من ضعف وزاراتها بتجاهل وعزل الموظفين المهنيين وفشلها في ملء المناصب الحساسة. وبالفعل بعد خمسة أشهر من رئاسة ترمب، وافق مجلس الشيوخ -مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون- على 33 تعيينا فقط من الأسماء الـ 96 التي اقترحها ترمب لشغل المناصب العليا، وهو أبطأ معدل في التاريخ. ولكن ما زال هناك 1000 وظيفة مهمة لم يرشح لها أحد، وهو عدد خطير من الأماكن الشاغرة. يصف ماكس ستاير، المدير التنفيذي لشراكة الخدمات العامة، الأمر وصفا لطيفا بأنه "فشل في إدراك الحاجات التشغيلية للحكومة".



فوق كل هذا وبعيدا عن هذا العجز، لدينا هنا غرور الرئيس السلطوي وعدم احترامه للخبرات المهنية. عندما ضغطت عليه فوكس نيوز بشأن فشله في تعيين أشخاص في مناصب حيوية رد ترمب قائلا: "أنا الوحيد المهم". أضاف ستاير أن هناك ما يقرب من 4000 وظيفة سياسية في الحكومة الفيدرالية لا داعي لها، لكنه اتهم ترمب بتجاهل العديد من المناصب الحساسة "ومن بينها المناصب التي تؤثر مباشرة على أمننا القومي والاقتصادي والصحة العامة والسلامة الغذائية ودعم الهجرة"، على حد تعبيره.



بدا الوضع أكثر تفاقما في وزارة الخارجية المحاصرة. بعد وقت قصير من أداء ترمب لليمين الدستوري، كما أشارت جوليا لوفي في مجلة الأتلانتيك، واجهت الوزارة أزمة إدارية بسبب استقالة عدد من المسؤولين الكبار أو فصلهم. انخفضت معنويات العاملين لأن صناعة القرار انتقلت فجأة إلى جناح الغربي الفوضوي والأخرق. (هم يريدون حقا تفجير هذا المكان) قال أحد مديري الأقسام "لا أظن أن الإدارة تعتقد أن وزارة الخارجية يجب أن تبقى. يظنون أن جاريد كوشنر بإمكانه فعل كل شيء".




كانت تعييناتُ القضاء الفدرالي المساحةَ الوحيدةَ بين جميع المساحات الأخرى التي عملت فيها إدارة ترمب بحرص، لكن هذا لا يتطلب مجهودا شاقا، نظرا للمنظومة التي تزود المشرعين الجمهوريين بالقانونيين منذ عهد ريغان (رويترز)


بعد يوم من انتخاب ترمب، وفقا لمايكل لويس من مجلة فانيتي فير، انتظر موظفو وزارة الطاقة المهنيون وصول مبعوثين من الرئيس المنتخب لبدء عملية الانتقال. ولكن لم يظهر أحد. تقدم أخيرا توماس بيلي، رئيس الاتحاد الأميركي للطاقة والممول من الإخوة كوخ، ولكن بعد فترة قصيرة استبدلت به مجموعة من الشباب الأيديولوجيين اليمينيين الذين سموا أنفسهم "فريق بيتش هيد"، وتبين لاحقا أن القادمين الجدد لم يعلموا سوى القليل ولم يهتموا بعمل وزارة الطاقة في عدد من المساحات الحساسة والصعبة، ابتداء من تطوير شبكة الكهرباء الوطنية إلى التخلص من النفايات النووية. "كل ما فعلوه بالأساس هو الجري في أرجاء المبنى موجهين الإهانات للناس" حسبما قال مسؤول سابق في إدارة أوباما للويس عن فريق بيتش هيد. وقال مسؤول آخر "العقلية التي تقف خلف كل ما تفعله الحكومة غبية وسيئة، والأشخاص أغبياء وسيئون".



كانت تعييناتُ القضاء الفدرالي المساحةَ الوحيدةَ بين جميع المساحات الأخرى التي عملت فيها الإدارة بحرص، لكن هذا لا يتطلب مجهودا شاقا، ابتداء من سنوات ريغان بنى المحافظون شبكة توظيف وتدريب وفحص مذهلة تبدأ من كليات القانون مرورا بمراكز اليمين البحثية وصولا إلى البيت الأبيض، بغرض تزويد المشرعين الجمهوريين بإمداد ثابت من الفقهاء القانونيين. كان الهدف بسيطا، حسبما أشار إليه من قبل المدعي العام في عهد ريغان إدوين ميس: مأسسة هجوم اليمين على الدولة التقدمية "حتى لا يُستبعد مهما كانت نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة".



على مشارف نهاية العام الأول لترمب في الرئاسة، يبدو أن تعيين القاضي المتشدد أيديولوجيا نيل جورزوش في المحكمة العليا هو نجاحه الوحيد. بيد أن الأمر كان خادعا حين وافق مجلس الشيوخ الجمهوري ببساطة على أكثر من عشرات الأسماء التي رشحها ترمب لتعيينات مدى الحياة في المحاكم الفيدرالية الحساسة الأقل درجة، وعشرات غيرهم في أماكن أقل شأنا.



أربكت نوعية بعض مرشحي ترمب في محاكم الدرجات الأقل موقف الجمهوريين باتجاه أقصى اليمين، مثل السيناتور جون كورنين من تكساس (أحد الأشخاص الذين اختارهم ترمب وصف طفلا متحولا جنسيا علنا بأنه جزء من "خطة الشيطان"). وأيما يكن الأمر مع وجود 144 مكانا شاغرا في السلك القضائي الفيدرالي بإمكان ترمب تقليل الرقابة القضائية التي أعاقت حتى الآن تنفيذ أجندته ابتداء من حظر المسلمين إلى قوانين ميثان في التنقيب عن النفط والغاز. ومهما كانت نتيجة الانتخابات القادمة فإن الضرر الذي أحدثه تخريب ترمب المتعمد سيبقى لجيل على الأقل.



31f39c29-c230-4476-bdb7-5ff06f1f4618





في الوقت الذي يستمر فيه ترمب في تفكيك ما يسميها مستشاره السابق ستيف بانون بنوع من الغطرسة "الدولة الإدارية"، فإن أكبر انتصاراته خلال السنة الماضية كانت سياسية في الحقيقة: إنه تغيير الحزب الجمهوري. يعتبر ترمب مكروها بشكل فريد، وهو شخصية محتقرة في الداخل والخارج. في واقع الأمر، أدى شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجددا" إلى تقزيم أميركا في كل مكان في العالم، حتى أمام معظم حلفائها الغربيين. فوفقا لاستطلاع أجراه مركز بيو في 37 دولة في (يونيو/حزيران) الماضي، هبطت الثقة في الرئيس الأميركي والإعجاب بالولايات المتحدة الأميركية في الفترة ما بين نهاية إدارة أوباما وبداية إدارة ترمب. وبين الأميركيين انخفض مستوى قبول ترمب وفقا للاستطلاع الأسبوعي لمؤسسة غالوب، وهو الذي لم يزد يوما عن الـ 40% إلى 34% في (أغسطس/آب)، وتحسن بشكل طفيف من حينها، وهي أسوأ أرقام في التاريخ لرئيس لا يزال حتى الآن في فترته الرئاسية الأولى.



تعتبر القصة مختلفة كليا بين الجمهوريين الذين استقرت نسبة قبولهم لترمب عند أوائل الـ 80%. ولكن في نفس الفترة بين الجمهوريين باستثناء الكونغرس المنبوذ، انخفض مستوى قبوله بين الجمهوريين من 50% في وقت حلف اليمين إلى 16% بعد الفشل في إلغاء أوباما كير. من الواضح أن صفوف الحزب وكوادره يقفون مع ترمب، مهما كانت فضائحه -وعلى الأرجح بسببهم- وهم يلومون قادة الحزب في الكونغرس بشكل أساسي (إلى جانب الديمقراطيين ووسائل الإعلام) على إخفاقاته. على الأقل في الولايات الحمراء، يجب على أولئك الجمهوريين الذين يجرؤون على معارضة الرئيس أن يتوقعوا دفع ثمن باهظ: النائبان جيف فليك وبوب كوركر شهدا انخفاض شعبيتهما في ولاياتهما بين الجمهوريين بعد أن تحدثا بقوة عن شر ترمب. واحد من الرئيسين الجمهوريين السابقين وهو جورج بوش الأب كشف أنه صوّت لهيلاري كلينتون العام الماضي، بينما ألقى جورج بوش الابن خطابا هاجم فيه كل ما يمثله ترمب، لكن الأثر الكلي لهذا الأمر على قاعدة الجمهوريين لم يكن شيئا يذكر. أصاب عنوان الكتاب الذي صدر مؤخرا عن الرئيسين بوش عين الحقيقة: إنهما آخر الجمهوريين. أصبح حزبهما، رغم أنه يحمل اسمه القديم، حزبا لترمب واكتسب صفات أشبه بصفات الطائفة الدينية.



فيما عدا ترمب، بدا الحزب الجمهوري في 2016 كما لو كان على وشك التشقق بسبب التوترات الداخلية الناتجة عن عقود من زيادة التطرف داخله. وبدلا من ذلك، استغل ترمب هذه التوترات وفاقم منها واستحوذ على قلوب الأغلبية العظمى من الجمهوريين، مُظهرا عقيدة محافظة ما بعد ريغانية، وهي ليست محافظة على الإطلاق، بل شعبوية يمينية تخدم مصالح المبتزين. من الناحية التاريخية، يصعب تغيير اتجاه هذا النوع من تحولات الأحزاب، وأصبح الأمر أكثر صعوبة مع وجود قائد ذي جاذبية تزيد كل هبّة من هبّاته الغاضبة من قبوله داخل الحزب. وإذا نجح ترمب في بناء نسخته الخاصة من دولة المافيا فإن أميركا التي كانت يوما منارة للعالم، وهي مدينة ريغان اللامعة، ستصبح أكثر شبها بموسكو بوتين.

=================================================



هذا المقال مترجم عن (رولنغ ستون)
 
reality;ord=396829942056.37366;dc_seg=456318144

*




آخر تحديث: 2017/5/12 الساعة 11:29 (مكة المكرمة) الموافق1438/8/16 هـ











424

"المُخبر والجنرال".. الجيش والاستخبارات ولعبة السيطرة على البيت الأبيض
250

محمد السعيد
محرر سياسة






كانت الصدفة وحدها هي التي قادت ضابط البحرية الشاب في مساء ذلك اليوم إلى قاعة الانتظار الواقعة خارج غرفة العمليات في البيت الأبيض. كان الشاب مكلفًا بحمل بعض الأوراق الهامة لوزارة الدفاع، وفي انتظار مقابلة شخص من البيت الأبيض للتوقيع عليها. وأثناء جلوسه في قاعة الانتظار، دارت بينه وبين مجاوره الأكبر عمرًا محادثة قصيرة، بدا آنذاك أن دافعها لم يكن أكثر من كسر بعض الملل المصاحب لدقائق الانتظار الطويلة.




تحدث الملازم الشاب عن إتمامه لدراسته الجامعية في جامعة جورج واشنطن، وللمفارقة، فإنها كانت نفس الجامعة التي حضر فيها مرافقه الأكبر سنًا دروس الحقوق الليلية، قبل أن يعمل في مكتب التحقيقات الفيدرالي "FBI" تحت إمرة مدير المكتب آنذاك، ومؤسسه الفعلي، الأخطبوط "إدغار هوفر"، الرجل واسع النفوذ في دوائر السياسة الأميركية وقتها. وقد شجع رجل "الأف.بي.آي" الأربعيني مرافقه الشاب على مواصلة حياته في العمل الذي يحبه، ويجد فيه شغفه.




300

بوب وودورد.. صحفي التحقيقات الذي يلقب بـ"كاشف أسرار البيت الأبيض"

multi-mapicon.png
الجزيرة.نت

لم تكن تلك سوى نصيحة أبوية عابرة من بيروقراطي خبير لشاب لا يزال يستقبل حياته، أجبرتهما الظروف على الانخراط في ثرثرة عابرة، وبالتأكيد فإنه لا أحد يعلم إذا ما كانت تلك المحادثة القصيرة، وحدها أم لسبب آخر، هي التي دفعت شاب البحرية بعد ذلك ببضعة أشهر إلى ترك عمله القديم، والتقدم بطلب للعمل كمراسل لدى صحيفة واشنطن بوست، قبل أن يجدد اتصاله مع صديقه القديم العابر، كناصح مهني، وربما أيضا كمصدر محتمل للمعلومات لوظيفته الجديدة.



سرعان ما وثق رجل التحقيقات في المراسل الشاب، وتطورت علاقتهما سريعًا، وكانت تلك العلاقة علامة فارقة ليس في تاريخ كل منهما فحسب، ولكن في تاريخ الولايات المتحدة بأكملها. لم يكن ضابط البحرية السابق سوى "بوب وودورد"، الذي صار فيما بعد أشهر صحفيي عصره بلا منازع، بعد أن عمل مع زميله "كارل برنستين"، على التحقيق الصحفي ذائع الصيت حول فضيحة "ووترغيت"1، الفضيحة المتسببة في حدث فريد من نوعه في السياسة الأميركية وهو استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون من منصبه قبل نهاية ولايته. أما رجل "الأف.بي.آي"، فلم يكن سوى "مارك فيليت"، أحد قادة الصف الأول في الجهاز آنذاك، والمصدر الرئيس لـ "وودورد" في التحقيق نفسه، والذي ظل لسنوات يعرف فقط باسمه المستعار «الصوت العميق Deep Throat».



دونالد ترمب، الرئيس الأميركي الحالي، لم يكن حاضرًا بحدته الهجومية في المشهد السياسي في ذلك التوقيت. وغالبًا ما كان يتم التعامل مع مثل هذه التسريبات على أنها نوع من الشذوذ المتفهم عنالبيروقراطية الإدارية، يهدف إلى حماية النظام الديمقراطي عبر كشف أوجه قصوره، أو تسليط الضوء على محاولات الاستغلال غير الشرعية للسلطة، فضلًا عن أن يتم التعامل معها على أنها محاولة للانقلاب على النظام أو الإطاحة به، ولكن مع وجود ترمب، تتخذ الأمور في غالب الأحايين مسارات غير متوقعة.




لم يكد ترمب يتم أسابيع قليلة من حكمه قبل أن يتورط في تراشق علني مع مجتمع الاستخبارات الأميركي، تراشق وضع حكومته في مرمى جدل كبير، بعد أن تم تسريب تقارير حول قيام "مايك فلين"، مستشار ترمب المستقيل لشؤون الأمن القومي، بمناقشة موضوع العقوبات الأميركية مع السفير الروسي في واشنطن قبل تولي ترمب مهام الرئاسة.2 في حقيقة الأمر، فإن الجدل بين ترمب ومجتمع الاستخبارات الأميركي، وعلى وجه التحديد وكالة المخابرات المركزية "CIA"، بدأ قبل أن يتولى الرئيس الجديد مهام منصبه رسميًا، حين تم تسريب تقييم سري للوكالة يؤكد قيام روسيابمحاولة التدخل في نتائج الانتخابات الأميركيةلصالح ترمب.3

بالنسبة إلى ترمب ومستشاريه، فإن مثل هذه التسريبات لا تشير فقط إلى وجود خلل بيروقراطي، ولكنها تؤكد وجود "دولة عميقة"4 تقف اليوم ضد الرئيس الجديد وتمثل "تهديدًا حقيقيًا لرئاسته"، كما يرى "ستيف بانون" كبير الاستراتيجيين في الإدارة الجديدة.5 بل إن ترمب نفسه ذهب لمدى غير مسبوق باتهام سلفه، باراك أوباما، بأنه هو من "يدير خطوط هذه الدولة العميقة"، وأنه - أي أوباما- قام بالتنصت على هواتف مكتبه في برج ترمب خلال الأشهر الأخيرة من حملته الرئاسية، داعيًا إلى إجراء تحقيق في الكونغرس حول الأمر، وهو ما حدث بالفعل في جلسة مفتوحة للجنة الاستخبارات في 20 (مارس/آذار) الفائت لعامنا الحالي، بحضور مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق "جيمس كومي"، الذي أكد أن أيًا من مكتبه أو وزارة العدل لم يجدا أي مزاعم حول ادعاءات الرئيس الجديد.

ed3097f4-2c58-463e-adcf-07696d4a901b



لسبب أو لآخر، يريد ترمب من مؤيديه اليوم أن يؤمنوا بوجود قوى خفية تتحكم في السياسة الأميركية خلف المنظومة الدستورية، وهي تتمثل في بعض أفرع البيروقراطية الأميركية وخاصة في جناحها المعلوماتي الممثل في مجتمع الاستخبارات. وبشكل عام لم تكن هذه الفكرة، وإن كانت بصورة أقل حدة، غائبة عن التداول في الأوساط الأميركية في فترات الأزمات السياسية، وهي تعرف اليوم في أكاديميات السياسة الأميركية باعتبارها أحد نظريات المؤامرة الرائجة.

وربما يكون ترمب هو الرئيس الأول الذي يقدم على تبني مثل هذا الطرح، بهذا القدر من الصراحة، ليشعل صراعًا داخل إدارته الوليدة بينما لم يتم بضعة أسابيع في منصبه، لكن الصراع داخل البيروقراطية الأميركية له تاريخ طويل، ربما تدعم بعض فصوله تلك النظرية التي تروج لها اليوم الإدارة الأميركية الجديدة، أكثر مما تدعمه بعض تسريبات الأجهزة الأمنية إلى الصحافة، والتي تثير اليوم ترمب ورموز إدارته بشكل مبالغ فيه. ولعل أبرز من يخبرنا عن هذه الصراعات هو "جون كينيدي"، الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة، الذي تولى السلطة في ذروة الصراع بين بلاده وبين الاتحاد السوفيتي.



الشاب والجنرالات
"أول أمر سوف أخبر به خَلَفي أنَّ عليه أن يُبقِيَ عينَهُ على الجنرالات. يجب عليه أن يتجنب الشعور أنه وبسبب كونهم رجالًا عسكريين؛ فإن آراءهم في الشؤون العسكرية لا تقبل المناقشة"
(جون كينيدي في لقاء مع مستشاريه في البيت الأبيض بعد نهاية أزمة الصواريخ الكوبية)




يعرف عهد الرئيس الأميركي "دوايت آيزنهاور"، الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة، على أنه العصر الذهبي «للأنشطة القذرة» لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، التي قامت في عهده بتدبير عشرات المحاولات، الناجحة والفاشلة، للإطاحة بالحكام غير المرضي عنهم في واشنطن، بداية من محمد مصدق في إيران، إلى فيدل كاستروفي كوبا، مرورًا بغواتيمالا وجمهوريات الموز في أميركا الوسطى والجنوبية. وربما لا يكون ذلك مستغربًا بالنظر إلى عمل "آيزنهاور" في مصاف قيادات الجيش العليا خلال الحرب العالمية الثانية، ومسؤوليته عن العديد من العمليات «المشبوهة» خلال تلك الفترة.6

ولكن المفارقة أن "آيزنهاور" نفسه وقف في خطابه الأخير، قبل أن يترك السلطة، محذرًا الأميركيين من مغبّة زيادة نفوذ المجمع العسكري الصناعي في السياسة الأميركية. وكان من المستغرب أن يصدر مثل هذا التصريح من شخص أفنى جلّ عمره، سواءً في الخدمة العسكرية أو كرئيس، في زيادة السلطات الممنوحة للعسكريين لتشكيل السياسة الخارجية للبلاد.7


300

دوايت آيزنهاور، الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة، توفي في الثامن والعشرين من مارس لعام 1969

multi-mapicon.png
الجزيرة.نت


وبينما كان "جون كينيدي" يخطو خطواته الأولى إلى البيت الأبيض خلفًا لأيزنهاور، كان العالم في أشد لحظاته قربًا إلى نشوب حرب نووية شاملة، بينما لم يكن "كينيدي" يثق كثيرًا في عسكريي بلاده المولعين بالحرب. وفي المقابل فإن كبار الجنرالات وقتها، وفي مقدمتهم رئيس الأركان "ليان ليمنيتزر"، و"أرليه بورك" قائد القوات البحرية، و"كورتيس ليماي" قائد القوات الجوية، لم يثقوا كثيرًا في قدرة الرئيس البالغ من العمر 43 عامًا على مجاراة التحديات العسكرية الضخمة أسوة بسلفه واسع الخبرة في الشؤون العسكرية.


شعر كينيدي بقدر كبير من المفاجأة حول حجم السلطة التي يملكها القادة العسكريون لشن حرب نووية، وفي حوار مع مستشاره للأمن القومي "ماك جورج باندي"، أخبر "باندي" الرئيس أن أي قائد عسكري في البلاد يواجه عملًا عسكريًا روسيًا كبيرًا يمكنه أن يبدأ المحرقة النووية بإشارة منه.8 في الواقع، كانت خطة قصف موسكو بالقنابل النووية جاهزة بالفعل في أروقة البنتاغون، وتضمنت إسقاط 170 قنبلة هيدروجينية على موسكو وحدها، فضلًا عن الصين وأوروبا الشرقية. ولمواجهة رغبة الجيش في استخدام الأسلحة النووية ضد الشيوعيين، دفع "كينيدي" البنتاغون لاستبدال استراتيجية أيزنهاور المسماة بـ "الانتقام الضخم"، باستراتيجية "الاستجابة المرنة"، والتي وضعها المستشار العسكري للبيت الأبيض الجنرال "ماكسويل تايلور" في عام 1959.


ولكن الجنرالات واصلوا مقاومتهم في مواجهة ما وصفوه بأنه "تردد كينيدي في استخدام الميزة النووية للأمة"، وكانت كوبا هي ساحة النزال الفعلية بين كينيدي وجنرالاته، قبل أن تكون ساحة للصراع بين الولايات المتحدة وموسكو وهافانا. قبيل وصول كينيدي إلى السلطة، كان البنتاغون والسي آي إيه يضعان اللمسات الأخيرة لغزو كوبا بدعم من واشنطن، يقوم به 1500 شخص من المنفيين الكوبيين للإطاحة بكاسترو، وبينما عارض كينيدي الخطة، لأنها كانت تتعارض مع سياسته الرامية إلى كسب الجماهير في أميركا اللاتينية من خلال المزايا الاقتصادية. لم يكن معارضًا للإطاحة بكاسترو بالتأكيد، ولكنه لم يكن يريد أن تتورط الولايات المتحدة بشكل مباشر في الأمر، لذا فإنه أصر أن يتم الغزو دون غطاء أميركي وهو ما تم قبوله في البداية، قبل أن يضطر كينيدي لقبول تدخل محدود مع الإرهاصات الأولى لفشل العملية التي منيت في النهاية، رغم كل شيء، بفشل ذريع.


كانت نتائج العملية مأساوية على واشنطن: قتل أكثر من مائة وتم القبض على 1200 شخص من قوة قوامها 1400 شخص تقريبًا، وتم أسر أربعة طيارين أميركيين شاركوا في القتال، وتم إجبارهم على إخفاء هويتهم والقول بأنهم من المرتزقة، وتم الكشف عن هذه الحقيقة عام 2011 فقط بموجب قانون حرية المعلومات. ولكن ما أهم كينيدي فعلًا هو معرفته فيما بعد أن الاستخبارات الأميركية أخفت عن علمه تقريرًا استخباراتيًا يرجح فشل العملية ما لم تتدخل الولايات المتحدة بالدعم المباشر.9


00000000-0000-0000-0000-000000000000

جون كينيدي، الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة، اغتيل في الثاني والعشرين من نوفمبر لعام 1963 (مواقع التواصل)

لم يمض عام على عملية «خليج الخنازير» الفاشلة، قبل أن تصبح كوبا من جديد محطة للصراع بين كينيدي وجنرالاته. شرعت كوبا بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي في بناء قواعد سرية لعدد من الصواريخ النووية متوسطة المدى، والتي يمكن أن تضرب الولايات المتحدة. ومن جديد عادت أحلام الحرب النووية تداعب الجنرالات، ولكن كينيدي كان مصرًا على الاكتفاء بالحصار العسكري، وسلوك السبل الدبلوماسية محتجًا أن السوفييت سوف يردون أي هجوم على كوبا بهجوم مماثل على برلين. وجاء الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين كينيدي والرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشوف، بإنهاء وتفكيك الصواريخ الكوبية، ليعطي كينيدي انتصارًا صريحا في معركته ضد الجنرالات، سرعان ما استغله ليصب جام غضبه المكتوم على رأس مسؤولي "سي آي إيه" الذين اتهمهم بالمسؤولية عن فشل عملية «خليج الخنازير»، والأهم فشل التنبؤ بقيام السوفييت بزرع صواريخهم في كوبا.


وفي سابقة تاريخية قام كينيدي بإقالة ثلاثة من كبار مسؤولي جهاز الاستخبارات، وعلى رأسهم "ألن دالاس" مدير الجهاز، ونقل عنه آنذاك قوله الشهير "سأمزق سي آي إيه لألف قطعة ثم أبعثرهم في الهواء"، وربما يكون هذا التداعي الدرامي هو أكبر حجج القائلين بأن كينيدي قد دفع حياته ثمنًا للصراع مع مجتمع الجنرالات والاستخبارات في بلاده. وبدا أن خلف كينيدي، ليندون جونسون، لم يكن على استعداد لمواصلة الصراع ضد البيروقراطية الأمنية، وسرعان ما منح المخابرات التصريح الذي طلبته للقيام بالعملية "فينيكس" ضد الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام، وهي الحرب التي منيت فيها المخابرات المركزية بفشل ذريع آخر.



أخطبوط المباحث الفيدرالية
لم تكن حالة كينيدي فريدة من نوعها في الصراع التاريخي بين البيروقراطيين والسياسيين في الولايات المتحدة، رغم كونها الحالة الأبرز والأكثر وضوحًا، والأكثر قدرة على استدعاء السياقات التآمرية. ولكن أخطبوط المباحث الفيدرالية "إدغار هوفر" يعد أقرب النماذج في التاريخ الأميركي لما يمكن أن يطلق عليها «دولة عميقة» بالمفهوم الشائع.10


تولى هوفر منصبه لقرابة 40 عامًا نجح خلالها في استغلال قدرته على جمع المعلومات الاستخباراتية لتحويل نفسه إلى قوة سياسية، قوة غالبًا ما كانت تمارس سلطتها ضد المعارضين السياسيين الشرعيين مثل الشيوعيين والناشطين في مجال الحقوق المدنية، وعلى رأس هؤلاء "مارتن لوثر كينغ"، الذي تلقى تهديدات من مكتب التحقيقات الفيدرالي بالكشف عن خياناته الزوجية ما لم يتخل عن نضاله المدني في حقوق السود.


300

إدغار هوفر، مؤسس مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف.بي.آي" وأول رئيس له

multi-mapicon.png
مواقع التواصل

أدار هوفر برنامج تجسس مشبوه يدعى "سوينتيلبرو" (COINTELPRO)، والذي كان يعد أول برنامج تجسس داخلي بهذا الحجم في تاريخ الدولة الأميركية. وبلغ نفوذ هوفر ذروته في عهد الرئيس ليندون جونسون، لذا فإن نيكسون، خلف جونسون، كان عازمًا على الإطاحة به قبل أن يضطر إلى التراجع، وهو التراجع الذي كشف عن سره بعد استقالة نيكسون، الذي كان يخشى أن يقوم هوفر بإسقاط المعبد عليه وتسريب معلومات حول جهوده السرية في التجسس على خصومه السياسيين.



على كل حال، أثار النفوذ الكبير الذي حظي به مجتمع الاستخبارات، داخليًا في التجسس على المعارضين والسياسيين والنشطاء المدنيين، وخارجيًا في قيادة العمليات «القذرة» ضد الأنظمة المناوئة للولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطلع السبعينيات، الكثير من القلق داخل الولايات المتحدة، مما دفع الرئيس "جيرالد فورد" إلى تشكيل لجنة برئاسة سيناتور ولاية إيداهو، "فرانك تشارش"، من أجل التحقيق في أنشطة وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفيدرالي ودائرة الإيرادات الداخلية، وكانت النتائج التي توصلت إليها لجنة تشارش مثيرة لرعب الأميركيين قبل كل شيء.11



بخلاف برنامج "سوينتيلبرو" المدار من قبل المباحث الفيدرالية، كانت وكالة الأمن القومي (NSA) تدير بدورها برنامجها الخاص للمراقبة الذي يدعي "شامروك"12، والذي جمعت الوكالة بموجبه معلومات عن 75 ألف مواطن أميركي حينها، ووظفت خلاله شركات التلغراف الثلاث الكبرى في البلاد، فضلًا عن أن الاستخبارات الأميركية كانت هي الأخرى تدير برنامجها الخاص للمراقبة غير القانونية المعروف باسم "العملية تشاوس". ومع نهاية السبعينيات، أصدر الكونغرس قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية، الذي منع وكالات الاستخبارات من التجسس على أي شخص في الولايات المتحدة، ما لم يكن لديهم سبب محتمل للاعتقاد بأن الشخص يعمل لصالح قوة أجنبية. وقبلها بعامين تم تأسيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ للإشراف على عمل مجتمع الاستخبارات كاملًا.



الإخوة الأعداء
"داخل كل ديمقراطية هناك بيروقراطية كامنة لديها القدرة على تحدي عمل الإدارة المنتخبة بحكم الاستمرارية والخبرة"
(المنظِّر السياسي فهيم حسين)



يشير إرث هوفر، وتلك الحقبة بأكملها، إلى حقيقة أساسية: كلما كان هناك مجتمع أمني أو استخباراتي قوي، فهناك احتمال حقيقي لإساءة استخدام السلطة. لذا ظل الصراع محتدمًا داخل المجتمع الأميركي لتحجيم نفوذ مجتمع الاستخبارات. كانت آخر هذه الخطوات في عام 2004 حين تم استحداث منصب مدير الاستخبارات الوطنية، وهو شخص يتبع الرئيس الأميركي مباشرة ومهمته هي الإشراف على عمل 17 وكالة استخباراتية أميركية.

11e06704-4f41-4084-96d9-364cebdd3757


في عام 2009، كان أدميرال البحرية الأميركية المتقاعد "دينيس بلير" هو من يشغل منصب مدير الاستخبارات الوطنية، ومع السلطة المفترضة لبلير على جميع وكالات الاستخبارات في الولايات المتحدة، إلا أنه وجد نفسه عاجزًا عن تعيين كبير الجواسيس الأميركيين في أي دولة حول العالم13، وهي المهمة التي يستأثر بها مدير درة تاج مجتمع الاستخبارات الأميركي: وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، إلا أن بلير قرر آنذاك أن يشعل معركة مبكرة لإبراز سلطته، لم يكن يعرف حينها أنها ستكلفه منصبه في نهاية المطاف.



قام مدير الاستخبارات الوطنية الجديد بإرسال أمر مكتوب يخوله شخصيًا مسؤولية تعيين كبير الجواسيس، وهو ما لم يعجب مدير سي آي إيه آنذاك، "ليون بانيتا"، الذي أرسل برقية لجميع مكاتبه يطالبهم فيها بتجاهل أوامر دينيس بلير. لم تكن تلك هي المعركة الوحيدة التي خسرها بلير أمام سي آي إيه، فالوكالة الكبرى تمسكت برفضها إخضاع جميع برامجها للمناقشة من قبل مدير الاستخبارات الوطنية، وتمسكت بخطها المباشر التقليدي مع الرئيس، وهو ما حصلت عليه بالفعل.

ليس ذلك فحسب، فمع مقدم عام 2013 طلبت الوكالة تمويلًا بمقدار 14.7 مليار دولار، بعد أن كان تمويلها في عام 1994 لا يتجاوز الـ 4.8 مليارات دولار، مع مطالبات أخرى بتوسيع صلاحياتها في شن حروبها السرية، وتوسيع أسطول الطائرات بدون طيار الخاص بها، وهي المطالب التي حصلت عليها كاملة، مع إقرار الرئيس الأميركي باراك أوباما في نهاية المطاف بأن "وكالة المخابرات تحصل على ما تريد"، ما دفع بلير في إلى التنحي عن منصبه بعدما عرف أن المعركة خاسرة.



تهيمن سي آي إيه اليوم بشكل كبير على سائر وكالات مجتمع الاستخبارات، وعلى وجه التحديد منافسيهم التاريخيين في مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف.بي.آي". ولكن الأمور لم تكن كذلك في منتصف القرن الماضي، حين عهد الرئيس الأميركي "فرانكلين روزفلت" إلى رئيس المخابرات في زمن الحرب، الجنرال "ويليام دونوفان"، بوضع النواة الأولى لوكالة الاستخبارات الخارجية، وهو ما رآه إدغار هوفر آنذاك تهديدًا لسلطته، سرعان ما حشد كامل نفوذه لمواجهته، وأشاع هوفر حينها في معلومات سربها إلى صحيفة واشنطن بوست أن "دونوفان" يخطط لإنشاء وكالة تجسس فائقة تهيمن على مكتب التحقيقات الفيدرالي.


00000000-0000-0000-0000-000000000000

مدير الاستخبارات القومية الأميركية السابق دينيس بلير (رويترز)

يبدو إذن أن العلاقة بين أكبر رأسين في مجتمع الاستخبارات ولدت متوترة بالأساس، وقد ألقى هذا التوتر بظلاله في أكثر مناسبة لعل أبرزها التحقيق في مقتل جون كينيدي. فعندما أصدرت لجنة وارن، المكلفة بالتحقيق، استنتاجاتها بشأن جريمة القتل فإنها استبعدت وجود دلائل على دور شيوعي، بسبب صراع بين الوكالات على الأخذ بشهادة العميل السوفيتي، يوري نوسنكو، الذي أصر على أن موسكو ليس لديها دور في الجريمة. وبينما كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يعتقد أن نوسنكو كان يقول الحقيقة؛ فإن وكالة المخابرات كانت متأكدة أنه يكذب لحماية موسكو.14

لم يكن هذا هو الفصل الوحيد للصراع بين الوكالتين، فنجد أن مكتب التحقيقات لعب الدور الأبرز في الكشف عن إحدى فضائح وكالة المخابرات المركزية، وهي قضية تصدير الأسلحة الأميركية إلى إيران في عهد "رونالد ريغان"، والمعروفة باسم "إيران كونترا"، بعد قيامه بتفتيش مكتب نائب مدير عمليات سي آي إيه، حيث عثر على معظم الوثائق وهو ما أدى إلى توتر العلاقات بين إدارة ريغان ومدير مخابراته "وليام كيسي" من ناحية، وبين مكتب التحقيقات الفيدرالي من ناحية أخرى.



دولة عميقة؟
على الرغم من التاريخ المعقد للمنافسة بين مختلف أقطاب البيروقراطية الأميركية، وبين هذه الأقطاب وبين السياسيين المنتخبين وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي نفسه، فإن مفهوم الدولة العميقة، الذي يعني وجود نظام كامل خارج الإطار الدستوري يسعى إلى تقويض الحكومة المنتخبة لم يكن أبدًا قضية مطروحة لوصف دهاليز السياسة الأميركية. في واقع الأمر، فإن المسؤولين الأميركيين يعون جيدًا ماذا تكون الدولة العميقة بحق، منذ قامت المخابرات الأميركية بتدشين "عملية غلاديو" في محاولة لبناء مجموعات شبه عسكرية في جميع أنحاء أوروبا، يمكن أن تكون بمثابة قوة مقاومة في حال الغزو السوفيتي، لنجد أنها وفي تركيا على وجه التحديد، خرجت "غلاديو" عن السيطرة، وانتهى الأمر بإنشاء شبكة مسلحة، كانت أشبه بشبكة أمنية داخل الدولة الأمنية.


تسببت نتائج العملية "غلاديو" في تغيير بنية المؤسسات الأمنية التركية، الذي دخلت العديد من قياداتها في روابط مع شبكات الجريمة المنظمة من أجل الإيرادات، وكذلك صنعت روابط مع جماعة قومية متطرفة. وتوسعت الشبكة التي بدأت كجيوب صغيرة شبه عسكرية، في أوائل التسعينيات، لتصبح شبكة فاسدة هائلة تشمل السياسيين وعصابات الجريمة المنظمة ومسؤولي الاستخبارات والجيش، وحتى بعض الحلفاء في النظام القضائي.

ومارست الشبكة حق النقض غير المرئي في السياسة التركية، وكان المسؤولون الذين يعارضونها يخاطرون بوظائفهم وربما بحياتهم. وكان وجود هذه الدولة العميقة موضع جدل كبير في تركيا نفسها حتى عام 1996، حين وقعت حادثة الاصطدام الشهيرة لسيارة مرسيدس بنز كانت تقل مجموعة غريبة تضم نائب رئيس شرطة اسطنبول، وعضو في البرلمان، ورجل عصابات، وهي الحادثة المشتهرة باسم فضيحة "سوسورلوك"، والتي سلَّطت الضوء على هذه الروابط المشبوهة داخل الدولة العميقة.


6aebed58-58fc-4143-bac0-efae781167b9



تعد تركيا المثل السياسي الحي اليوم لوصف الدولة العميقة، حيث شهدت البلاد على مدار تاريخها السياسي القصير أربعة انقلابات عسكرية ضد حكومات منتخبة15، وهو اللقب الذي لم تنازعها فيه سوى مصر ما بعد الربيع العربي. ولكن الأمر في الولايات المتحدة نفسها يبدو مختلفًا كثيرا عن هذه الصورة، فما يحدث في الولايات المتحدة هو شكل من أشكال الانفصال بين ما يمكن أن نطلق عليه الدولة السياسية، والممثلة في الرئيس والكونغرس ومجلس الوزراء، والدولة الإدارية الممثلة في البيروقراطية والأجهزة الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية، وهي آلية وضعت بالأساس للحد من سلطات السياسيين على إحداث تغييرات راديكالية في البنية الأساسية للدولة الأميركية.

أي أن الدولة العميقة الأميركية هي في أدنى أحوالها شكل من أشكال المقاومة السلبية الذي تبديه البيروقراطية الأميركية لإدخال تغييرات راديكالية في طريقة في عملها، وربما تكون هذه المقاومة مرتفعة نسبيًا مع ترمب خاصة في المعاقل التقليدية لليسار مثل وزارة الخارجية، وفي أقصى أحوالها هي صراع بين مراكز القوى المختلفة داخل النظام الأميركي لمنع تغول بعض هذه المراكز على بعضها الآخر، أو في محاولة لتشبث بعض هذه المراكز بمكتسباتها التي حققتها على امتداد تاريخها السياسي.16




على مدار التاريخ كانت التسريبات دوما سلاحًا شائعًا في صراعات البيروقراطية الأميركية، ولكنها لم تكن يوما دليلًا على وجود دولة عميقة بالمفهوم التقليدي، ترغب في استبدال النخبة السياسية القائمة بطريقة غير دستورية أو ترغب في إفشال مسيرة الرئيس وحكومته. في الحقيقة فإن دونالد ترمب لم يكن مجرد ضحية للبيروقراطية الأميركية، أو لتلك الدولة العميقة التي يصورها، كما يصور، ولكنه استفاد منها أيضًا بل إنه ربما يدين لها بوجوده في منصبه.


300

جيمس كومي، الرئيس السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي "أف.بي.آي"

multi-mapicon.png
رويترز

كان جيمس كومي، الرئيس (السابق) لمكتب التحقيقات الفيدرالي، هو رجل الشاشة في الأسبوع الأخير قبيل إجراء اقتراع الرئاسة الأميركية الأخير، فبعد أكثر من خمسة أشهر من إعلانه في (يوليو/تموز) الماضي أن مكتب التحقيقات لم ير أي دليل على إدانة المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون في قضية استخدامها وفريقها خوادم خاصة في إرسال بعض رسائل البريد الإلكتروني المهنية بدلا من استخدام خوادم الوزارة17، عاد كومي ليعلن من جديد في 28 (أكتوبر/تشرين الأول) من العام الماضي؛ أي قبل 11 يوما فقط من الاقتراع، أنه بصدد إعادة فتح التحقيق في رسائل جديدة تخص القضية، قبل أن يعود ليعلن مرة أخرى بعد يومين أنه لم يجد شيئا يمكن أن يدين كلينتون.18 خسرت هيلاري انتخابات 8 (نوفمبر/تشرين الثاني) في مفاجأة غير متوقعة، وحمَّلت حملتها مكتب التحقيقات الفيدرالي مسؤولية خسارتها، بسبب تدخله «المشبوه» قبل الانتخابات بأيام.19



أما المفاجأة الحقيقية فهي ما أعلنه مكتب التحقيقات الفيدرالي الشهر الماضي من أن المكتب يجري تحقيقات منذ يوليو الماضي (قبل الانتخابات بـ5 أشهر) حول تدخل روسيا لدعم ترمب إلا أنه لم يقم، لسبب لا يزال مجهولا، بالإعلان عن هذه التحقيقات أسوة بما فعله مع كلينتون.20 بينما يخبرنا التأمل في وقائع التاريخ السياسي للولايات المتحدة بملاحظة لا تخلو من طرافة: حين تكون روسيا حاضرة في المشهد الأميركي فإن موقف الرئيس من روسيا هو من يحدد طبيعة علاقته مع مجتمع الاستخبارات وخاصة الوكالتين الأمنيتين الكبيرتين (سي.آي.أيه وأف.بي.آي).



ولا تزال (سي.آي.أيه) معقل الصقور المعادين للكرملين الذين لم يكونوا أبدا راضين عن سياسات ترمب بالتقارب مع روسيا وربما كانوا يفضلون فوز كلينتون، على العكس من المكتب الفيدرالي الذي يرى دوما أن المبالغة في تضخيم الخطر الخارجي يعني بالضرورة مزيدا من النفوذ لخصومه في (السي.آي.أيه). أما ترمب، فإنه يعرف، في قرارة نفسه، على الأقل أنه يدين بالكثير لجحافل القوميين البيض في الشرطة الأميركية، التي تعد أبرز المؤسسات التي دفعت صعود ترمب، بإجماع واضح، على ما يبدو.21
 
reality;ord=396829942056.37366;dc_seg=456318144

*




آخر تحديث: 2017/5/12 الساعة 11:29 (مكة المكرمة) الموافق1438/8/16 هـ











424

"المُخبر والجنرال".. الجيش والاستخبارات ولعبة السيطرة على البيت الأبيض
250

محمد السعيد
محرر سياسة






كانت الصدفة وحدها هي التي قادت ضابط البحرية الشاب في مساء ذلك اليوم إلى قاعة الانتظار الواقعة خارج غرفة العمليات في البيت الأبيض. كان الشاب مكلفًا بحمل بعض الأوراق الهامة لوزارة الدفاع، وفي انتظار مقابلة شخص من البيت الأبيض للتوقيع عليها. وأثناء جلوسه في قاعة الانتظار، دارت بينه وبين مجاوره الأكبر عمرًا محادثة قصيرة، بدا آنذاك أن دافعها لم يكن أكثر من كسر بعض الملل المصاحب لدقائق الانتظار الطويلة.




تحدث الملازم الشاب عن إتمامه لدراسته الجامعية في جامعة جورج واشنطن، وللمفارقة، فإنها كانت نفس الجامعة التي حضر فيها مرافقه الأكبر سنًا دروس الحقوق الليلية، قبل أن يعمل في مكتب التحقيقات الفيدرالي "FBI" تحت إمرة مدير المكتب آنذاك، ومؤسسه الفعلي، الأخطبوط "إدغار هوفر"، الرجل واسع النفوذ في دوائر السياسة الأميركية وقتها. وقد شجع رجل "الأف.بي.آي" الأربعيني مرافقه الشاب على مواصلة حياته في العمل الذي يحبه، ويجد فيه شغفه.




300

بوب وودورد.. صحفي التحقيقات الذي يلقب بـ"كاشف أسرار البيت الأبيض"

multi-mapicon.png
الجزيرة.نت

لم تكن تلك سوى نصيحة أبوية عابرة من بيروقراطي خبير لشاب لا يزال يستقبل حياته، أجبرتهما الظروف على الانخراط في ثرثرة عابرة، وبالتأكيد فإنه لا أحد يعلم إذا ما كانت تلك المحادثة القصيرة، وحدها أم لسبب آخر، هي التي دفعت شاب البحرية بعد ذلك ببضعة أشهر إلى ترك عمله القديم، والتقدم بطلب للعمل كمراسل لدى صحيفة واشنطن بوست، قبل أن يجدد اتصاله مع صديقه القديم العابر، كناصح مهني، وربما أيضا كمصدر محتمل للمعلومات لوظيفته الجديدة.



سرعان ما وثق رجل التحقيقات في المراسل الشاب، وتطورت علاقتهما سريعًا، وكانت تلك العلاقة علامة فارقة ليس في تاريخ كل منهما فحسب، ولكن في تاريخ الولايات المتحدة بأكملها. لم يكن ضابط البحرية السابق سوى "بوب وودورد"، الذي صار فيما بعد أشهر صحفيي عصره بلا منازع، بعد أن عمل مع زميله "كارل برنستين"، على التحقيق الصحفي ذائع الصيت حول فضيحة "ووترغيت"1، الفضيحة المتسببة في حدث فريد من نوعه في السياسة الأميركية وهو استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون من منصبه قبل نهاية ولايته. أما رجل "الأف.بي.آي"، فلم يكن سوى "مارك فيليت"، أحد قادة الصف الأول في الجهاز آنذاك، والمصدر الرئيس لـ "وودورد" في التحقيق نفسه، والذي ظل لسنوات يعرف فقط باسمه المستعار «الصوت العميق Deep Throat».



دونالد ترمب، الرئيس الأميركي الحالي، لم يكن حاضرًا بحدته الهجومية في المشهد السياسي في ذلك التوقيت. وغالبًا ما كان يتم التعامل مع مثل هذه التسريبات على أنها نوع من الشذوذ المتفهم عنالبيروقراطية الإدارية، يهدف إلى حماية النظام الديمقراطي عبر كشف أوجه قصوره، أو تسليط الضوء على محاولات الاستغلال غير الشرعية للسلطة، فضلًا عن أن يتم التعامل معها على أنها محاولة للانقلاب على النظام أو الإطاحة به، ولكن مع وجود ترمب، تتخذ الأمور في غالب الأحايين مسارات غير متوقعة.




لم يكد ترمب يتم أسابيع قليلة من حكمه قبل أن يتورط في تراشق علني مع مجتمع الاستخبارات الأميركي، تراشق وضع حكومته في مرمى جدل كبير، بعد أن تم تسريب تقارير حول قيام "مايك فلين"، مستشار ترمب المستقيل لشؤون الأمن القومي، بمناقشة موضوع العقوبات الأميركية مع السفير الروسي في واشنطن قبل تولي ترمب مهام الرئاسة.2 في حقيقة الأمر، فإن الجدل بين ترمب ومجتمع الاستخبارات الأميركي، وعلى وجه التحديد وكالة المخابرات المركزية "CIA"، بدأ قبل أن يتولى الرئيس الجديد مهام منصبه رسميًا، حين تم تسريب تقييم سري للوكالة يؤكد قيام روسيابمحاولة التدخل في نتائج الانتخابات الأميركيةلصالح ترمب.3

بالنسبة إلى ترمب ومستشاريه، فإن مثل هذه التسريبات لا تشير فقط إلى وجود خلل بيروقراطي، ولكنها تؤكد وجود "دولة عميقة"4 تقف اليوم ضد الرئيس الجديد وتمثل "تهديدًا حقيقيًا لرئاسته"، كما يرى "ستيف بانون" كبير الاستراتيجيين في الإدارة الجديدة.5 بل إن ترمب نفسه ذهب لمدى غير مسبوق باتهام سلفه، باراك أوباما، بأنه هو من "يدير خطوط هذه الدولة العميقة"، وأنه - أي أوباما- قام بالتنصت على هواتف مكتبه في برج ترمب خلال الأشهر الأخيرة من حملته الرئاسية، داعيًا إلى إجراء تحقيق في الكونغرس حول الأمر، وهو ما حدث بالفعل في جلسة مفتوحة للجنة الاستخبارات في 20 (مارس/آذار) الفائت لعامنا الحالي، بحضور مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق "جيمس كومي"، الذي أكد أن أيًا من مكتبه أو وزارة العدل لم يجدا أي مزاعم حول ادعاءات الرئيس الجديد.

ed3097f4-2c58-463e-adcf-07696d4a901b



لسبب أو لآخر، يريد ترمب من مؤيديه اليوم أن يؤمنوا بوجود قوى خفية تتحكم في السياسة الأميركية خلف المنظومة الدستورية، وهي تتمثل في بعض أفرع البيروقراطية الأميركية وخاصة في جناحها المعلوماتي الممثل في مجتمع الاستخبارات. وبشكل عام لم تكن هذه الفكرة، وإن كانت بصورة أقل حدة، غائبة عن التداول في الأوساط الأميركية في فترات الأزمات السياسية، وهي تعرف اليوم في أكاديميات السياسة الأميركية باعتبارها أحد نظريات المؤامرة الرائجة.

وربما يكون ترمب هو الرئيس الأول الذي يقدم على تبني مثل هذا الطرح، بهذا القدر من الصراحة، ليشعل صراعًا داخل إدارته الوليدة بينما لم يتم بضعة أسابيع في منصبه، لكن الصراع داخل البيروقراطية الأميركية له تاريخ طويل، ربما تدعم بعض فصوله تلك النظرية التي تروج لها اليوم الإدارة الأميركية الجديدة، أكثر مما تدعمه بعض تسريبات الأجهزة الأمنية إلى الصحافة، والتي تثير اليوم ترمب ورموز إدارته بشكل مبالغ فيه. ولعل أبرز من يخبرنا عن هذه الصراعات هو "جون كينيدي"، الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة، الذي تولى السلطة في ذروة الصراع بين بلاده وبين الاتحاد السوفيتي.



الشاب والجنرالات
"أول أمر سوف أخبر به خَلَفي أنَّ عليه أن يُبقِيَ عينَهُ على الجنرالات. يجب عليه أن يتجنب الشعور أنه وبسبب كونهم رجالًا عسكريين؛ فإن آراءهم في الشؤون العسكرية لا تقبل المناقشة"
(جون كينيدي في لقاء مع مستشاريه في البيت الأبيض بعد نهاية أزمة الصواريخ الكوبية)




يعرف عهد الرئيس الأميركي "دوايت آيزنهاور"، الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة، على أنه العصر الذهبي «للأنشطة القذرة» لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، التي قامت في عهده بتدبير عشرات المحاولات، الناجحة والفاشلة، للإطاحة بالحكام غير المرضي عنهم في واشنطن، بداية من محمد مصدق في إيران، إلى فيدل كاستروفي كوبا، مرورًا بغواتيمالا وجمهوريات الموز في أميركا الوسطى والجنوبية. وربما لا يكون ذلك مستغربًا بالنظر إلى عمل "آيزنهاور" في مصاف قيادات الجيش العليا خلال الحرب العالمية الثانية، ومسؤوليته عن العديد من العمليات «المشبوهة» خلال تلك الفترة.6

ولكن المفارقة أن "آيزنهاور" نفسه وقف في خطابه الأخير، قبل أن يترك السلطة، محذرًا الأميركيين من مغبّة زيادة نفوذ المجمع العسكري الصناعي في السياسة الأميركية. وكان من المستغرب أن يصدر مثل هذا التصريح من شخص أفنى جلّ عمره، سواءً في الخدمة العسكرية أو كرئيس، في زيادة السلطات الممنوحة للعسكريين لتشكيل السياسة الخارجية للبلاد.7


300

دوايت آيزنهاور، الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة، توفي في الثامن والعشرين من مارس لعام 1969

multi-mapicon.png
الجزيرة.نت


وبينما كان "جون كينيدي" يخطو خطواته الأولى إلى البيت الأبيض خلفًا لأيزنهاور، كان العالم في أشد لحظاته قربًا إلى نشوب حرب نووية شاملة، بينما لم يكن "كينيدي" يثق كثيرًا في عسكريي بلاده المولعين بالحرب. وفي المقابل فإن كبار الجنرالات وقتها، وفي مقدمتهم رئيس الأركان "ليان ليمنيتزر"، و"أرليه بورك" قائد القوات البحرية، و"كورتيس ليماي" قائد القوات الجوية، لم يثقوا كثيرًا في قدرة الرئيس البالغ من العمر 43 عامًا على مجاراة التحديات العسكرية الضخمة أسوة بسلفه واسع الخبرة في الشؤون العسكرية.


شعر كينيدي بقدر كبير من المفاجأة حول حجم السلطة التي يملكها القادة العسكريون لشن حرب نووية، وفي حوار مع مستشاره للأمن القومي "ماك جورج باندي"، أخبر "باندي" الرئيس أن أي قائد عسكري في البلاد يواجه عملًا عسكريًا روسيًا كبيرًا يمكنه أن يبدأ المحرقة النووية بإشارة منه.8 في الواقع، كانت خطة قصف موسكو بالقنابل النووية جاهزة بالفعل في أروقة البنتاغون، وتضمنت إسقاط 170 قنبلة هيدروجينية على موسكو وحدها، فضلًا عن الصين وأوروبا الشرقية. ولمواجهة رغبة الجيش في استخدام الأسلحة النووية ضد الشيوعيين، دفع "كينيدي" البنتاغون لاستبدال استراتيجية أيزنهاور المسماة بـ "الانتقام الضخم"، باستراتيجية "الاستجابة المرنة"، والتي وضعها المستشار العسكري للبيت الأبيض الجنرال "ماكسويل تايلور" في عام 1959.


ولكن الجنرالات واصلوا مقاومتهم في مواجهة ما وصفوه بأنه "تردد كينيدي في استخدام الميزة النووية للأمة"، وكانت كوبا هي ساحة النزال الفعلية بين كينيدي وجنرالاته، قبل أن تكون ساحة للصراع بين الولايات المتحدة وموسكو وهافانا. قبيل وصول كينيدي إلى السلطة، كان البنتاغون والسي آي إيه يضعان اللمسات الأخيرة لغزو كوبا بدعم من واشنطن، يقوم به 1500 شخص من المنفيين الكوبيين للإطاحة بكاسترو، وبينما عارض كينيدي الخطة، لأنها كانت تتعارض مع سياسته الرامية إلى كسب الجماهير في أميركا اللاتينية من خلال المزايا الاقتصادية. لم يكن معارضًا للإطاحة بكاسترو بالتأكيد، ولكنه لم يكن يريد أن تتورط الولايات المتحدة بشكل مباشر في الأمر، لذا فإنه أصر أن يتم الغزو دون غطاء أميركي وهو ما تم قبوله في البداية، قبل أن يضطر كينيدي لقبول تدخل محدود مع الإرهاصات الأولى لفشل العملية التي منيت في النهاية، رغم كل شيء، بفشل ذريع.


كانت نتائج العملية مأساوية على واشنطن: قتل أكثر من مائة وتم القبض على 1200 شخص من قوة قوامها 1400 شخص تقريبًا، وتم أسر أربعة طيارين أميركيين شاركوا في القتال، وتم إجبارهم على إخفاء هويتهم والقول بأنهم من المرتزقة، وتم الكشف عن هذه الحقيقة عام 2011 فقط بموجب قانون حرية المعلومات. ولكن ما أهم كينيدي فعلًا هو معرفته فيما بعد أن الاستخبارات الأميركية أخفت عن علمه تقريرًا استخباراتيًا يرجح فشل العملية ما لم تتدخل الولايات المتحدة بالدعم المباشر.9


00000000-0000-0000-0000-000000000000

جون كينيدي، الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة، اغتيل في الثاني والعشرين من نوفمبر لعام 1963 (مواقع التواصل)

لم يمض عام على عملية «خليج الخنازير» الفاشلة، قبل أن تصبح كوبا من جديد محطة للصراع بين كينيدي وجنرالاته. شرعت كوبا بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي في بناء قواعد سرية لعدد من الصواريخ النووية متوسطة المدى، والتي يمكن أن تضرب الولايات المتحدة. ومن جديد عادت أحلام الحرب النووية تداعب الجنرالات، ولكن كينيدي كان مصرًا على الاكتفاء بالحصار العسكري، وسلوك السبل الدبلوماسية محتجًا أن السوفييت سوف يردون أي هجوم على كوبا بهجوم مماثل على برلين. وجاء الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين كينيدي والرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشوف، بإنهاء وتفكيك الصواريخ الكوبية، ليعطي كينيدي انتصارًا صريحا في معركته ضد الجنرالات، سرعان ما استغله ليصب جام غضبه المكتوم على رأس مسؤولي "سي آي إيه" الذين اتهمهم بالمسؤولية عن فشل عملية «خليج الخنازير»، والأهم فشل التنبؤ بقيام السوفييت بزرع صواريخهم في كوبا.


وفي سابقة تاريخية قام كينيدي بإقالة ثلاثة من كبار مسؤولي جهاز الاستخبارات، وعلى رأسهم "ألن دالاس" مدير الجهاز، ونقل عنه آنذاك قوله الشهير "سأمزق سي آي إيه لألف قطعة ثم أبعثرهم في الهواء"، وربما يكون هذا التداعي الدرامي هو أكبر حجج القائلين بأن كينيدي قد دفع حياته ثمنًا للصراع مع مجتمع الجنرالات والاستخبارات في بلاده. وبدا أن خلف كينيدي، ليندون جونسون، لم يكن على استعداد لمواصلة الصراع ضد البيروقراطية الأمنية، وسرعان ما منح المخابرات التصريح الذي طلبته للقيام بالعملية "فينيكس" ضد الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام، وهي الحرب التي منيت فيها المخابرات المركزية بفشل ذريع آخر.



أخطبوط المباحث الفيدرالية
لم تكن حالة كينيدي فريدة من نوعها في الصراع التاريخي بين البيروقراطيين والسياسيين في الولايات المتحدة، رغم كونها الحالة الأبرز والأكثر وضوحًا، والأكثر قدرة على استدعاء السياقات التآمرية. ولكن أخطبوط المباحث الفيدرالية "إدغار هوفر" يعد أقرب النماذج في التاريخ الأميركي لما يمكن أن يطلق عليها «دولة عميقة» بالمفهوم الشائع.10


تولى هوفر منصبه لقرابة 40 عامًا نجح خلالها في استغلال قدرته على جمع المعلومات الاستخباراتية لتحويل نفسه إلى قوة سياسية، قوة غالبًا ما كانت تمارس سلطتها ضد المعارضين السياسيين الشرعيين مثل الشيوعيين والناشطين في مجال الحقوق المدنية، وعلى رأس هؤلاء "مارتن لوثر كينغ"، الذي تلقى تهديدات من مكتب التحقيقات الفيدرالي بالكشف عن خياناته الزوجية ما لم يتخل عن نضاله المدني في حقوق السود.


300

إدغار هوفر، مؤسس مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف.بي.آي" وأول رئيس له

multi-mapicon.png
مواقع التواصل

أدار هوفر برنامج تجسس مشبوه يدعى "سوينتيلبرو" (COINTELPRO)، والذي كان يعد أول برنامج تجسس داخلي بهذا الحجم في تاريخ الدولة الأميركية. وبلغ نفوذ هوفر ذروته في عهد الرئيس ليندون جونسون، لذا فإن نيكسون، خلف جونسون، كان عازمًا على الإطاحة به قبل أن يضطر إلى التراجع، وهو التراجع الذي كشف عن سره بعد استقالة نيكسون، الذي كان يخشى أن يقوم هوفر بإسقاط المعبد عليه وتسريب معلومات حول جهوده السرية في التجسس على خصومه السياسيين.



على كل حال، أثار النفوذ الكبير الذي حظي به مجتمع الاستخبارات، داخليًا في التجسس على المعارضين والسياسيين والنشطاء المدنيين، وخارجيًا في قيادة العمليات «القذرة» ضد الأنظمة المناوئة للولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطلع السبعينيات، الكثير من القلق داخل الولايات المتحدة، مما دفع الرئيس "جيرالد فورد" إلى تشكيل لجنة برئاسة سيناتور ولاية إيداهو، "فرانك تشارش"، من أجل التحقيق في أنشطة وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفيدرالي ودائرة الإيرادات الداخلية، وكانت النتائج التي توصلت إليها لجنة تشارش مثيرة لرعب الأميركيين قبل كل شيء.11



بخلاف برنامج "سوينتيلبرو" المدار من قبل المباحث الفيدرالية، كانت وكالة الأمن القومي (NSA) تدير بدورها برنامجها الخاص للمراقبة الذي يدعي "شامروك"12، والذي جمعت الوكالة بموجبه معلومات عن 75 ألف مواطن أميركي حينها، ووظفت خلاله شركات التلغراف الثلاث الكبرى في البلاد، فضلًا عن أن الاستخبارات الأميركية كانت هي الأخرى تدير برنامجها الخاص للمراقبة غير القانونية المعروف باسم "العملية تشاوس". ومع نهاية السبعينيات، أصدر الكونغرس قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية، الذي منع وكالات الاستخبارات من التجسس على أي شخص في الولايات المتحدة، ما لم يكن لديهم سبب محتمل للاعتقاد بأن الشخص يعمل لصالح قوة أجنبية. وقبلها بعامين تم تأسيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ للإشراف على عمل مجتمع الاستخبارات كاملًا.



الإخوة الأعداء
"داخل كل ديمقراطية هناك بيروقراطية كامنة لديها القدرة على تحدي عمل الإدارة المنتخبة بحكم الاستمرارية والخبرة"
(المنظِّر السياسي فهيم حسين)



يشير إرث هوفر، وتلك الحقبة بأكملها، إلى حقيقة أساسية: كلما كان هناك مجتمع أمني أو استخباراتي قوي، فهناك احتمال حقيقي لإساءة استخدام السلطة. لذا ظل الصراع محتدمًا داخل المجتمع الأميركي لتحجيم نفوذ مجتمع الاستخبارات. كانت آخر هذه الخطوات في عام 2004 حين تم استحداث منصب مدير الاستخبارات الوطنية، وهو شخص يتبع الرئيس الأميركي مباشرة ومهمته هي الإشراف على عمل 17 وكالة استخباراتية أميركية.

11e06704-4f41-4084-96d9-364cebdd3757


في عام 2009، كان أدميرال البحرية الأميركية المتقاعد "دينيس بلير" هو من يشغل منصب مدير الاستخبارات الوطنية، ومع السلطة المفترضة لبلير على جميع وكالات الاستخبارات في الولايات المتحدة، إلا أنه وجد نفسه عاجزًا عن تعيين كبير الجواسيس الأميركيين في أي دولة حول العالم13، وهي المهمة التي يستأثر بها مدير درة تاج مجتمع الاستخبارات الأميركي: وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، إلا أن بلير قرر آنذاك أن يشعل معركة مبكرة لإبراز سلطته، لم يكن يعرف حينها أنها ستكلفه منصبه في نهاية المطاف.



قام مدير الاستخبارات الوطنية الجديد بإرسال أمر مكتوب يخوله شخصيًا مسؤولية تعيين كبير الجواسيس، وهو ما لم يعجب مدير سي آي إيه آنذاك، "ليون بانيتا"، الذي أرسل برقية لجميع مكاتبه يطالبهم فيها بتجاهل أوامر دينيس بلير. لم تكن تلك هي المعركة الوحيدة التي خسرها بلير أمام سي آي إيه، فالوكالة الكبرى تمسكت برفضها إخضاع جميع برامجها للمناقشة من قبل مدير الاستخبارات الوطنية، وتمسكت بخطها المباشر التقليدي مع الرئيس، وهو ما حصلت عليه بالفعل.

ليس ذلك فحسب، فمع مقدم عام 2013 طلبت الوكالة تمويلًا بمقدار 14.7 مليار دولار، بعد أن كان تمويلها في عام 1994 لا يتجاوز الـ 4.8 مليارات دولار، مع مطالبات أخرى بتوسيع صلاحياتها في شن حروبها السرية، وتوسيع أسطول الطائرات بدون طيار الخاص بها، وهي المطالب التي حصلت عليها كاملة، مع إقرار الرئيس الأميركي باراك أوباما في نهاية المطاف بأن "وكالة المخابرات تحصل على ما تريد"، ما دفع بلير في إلى التنحي عن منصبه بعدما عرف أن المعركة خاسرة.



تهيمن سي آي إيه اليوم بشكل كبير على سائر وكالات مجتمع الاستخبارات، وعلى وجه التحديد منافسيهم التاريخيين في مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف.بي.آي". ولكن الأمور لم تكن كذلك في منتصف القرن الماضي، حين عهد الرئيس الأميركي "فرانكلين روزفلت" إلى رئيس المخابرات في زمن الحرب، الجنرال "ويليام دونوفان"، بوضع النواة الأولى لوكالة الاستخبارات الخارجية، وهو ما رآه إدغار هوفر آنذاك تهديدًا لسلطته، سرعان ما حشد كامل نفوذه لمواجهته، وأشاع هوفر حينها في معلومات سربها إلى صحيفة واشنطن بوست أن "دونوفان" يخطط لإنشاء وكالة تجسس فائقة تهيمن على مكتب التحقيقات الفيدرالي.


00000000-0000-0000-0000-000000000000

مدير الاستخبارات القومية الأميركية السابق دينيس بلير (رويترز)

يبدو إذن أن العلاقة بين أكبر رأسين في مجتمع الاستخبارات ولدت متوترة بالأساس، وقد ألقى هذا التوتر بظلاله في أكثر مناسبة لعل أبرزها التحقيق في مقتل جون كينيدي. فعندما أصدرت لجنة وارن، المكلفة بالتحقيق، استنتاجاتها بشأن جريمة القتل فإنها استبعدت وجود دلائل على دور شيوعي، بسبب صراع بين الوكالات على الأخذ بشهادة العميل السوفيتي، يوري نوسنكو، الذي أصر على أن موسكو ليس لديها دور في الجريمة. وبينما كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يعتقد أن نوسنكو كان يقول الحقيقة؛ فإن وكالة المخابرات كانت متأكدة أنه يكذب لحماية موسكو.14

لم يكن هذا هو الفصل الوحيد للصراع بين الوكالتين، فنجد أن مكتب التحقيقات لعب الدور الأبرز في الكشف عن إحدى فضائح وكالة المخابرات المركزية، وهي قضية تصدير الأسلحة الأميركية إلى إيران في عهد "رونالد ريغان"، والمعروفة باسم "إيران كونترا"، بعد قيامه بتفتيش مكتب نائب مدير عمليات سي آي إيه، حيث عثر على معظم الوثائق وهو ما أدى إلى توتر العلاقات بين إدارة ريغان ومدير مخابراته "وليام كيسي" من ناحية، وبين مكتب التحقيقات الفيدرالي من ناحية أخرى.



دولة عميقة؟
على الرغم من التاريخ المعقد للمنافسة بين مختلف أقطاب البيروقراطية الأميركية، وبين هذه الأقطاب وبين السياسيين المنتخبين وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي نفسه، فإن مفهوم الدولة العميقة، الذي يعني وجود نظام كامل خارج الإطار الدستوري يسعى إلى تقويض الحكومة المنتخبة لم يكن أبدًا قضية مطروحة لوصف دهاليز السياسة الأميركية. في واقع الأمر، فإن المسؤولين الأميركيين يعون جيدًا ماذا تكون الدولة العميقة بحق، منذ قامت المخابرات الأميركية بتدشين "عملية غلاديو" في محاولة لبناء مجموعات شبه عسكرية في جميع أنحاء أوروبا، يمكن أن تكون بمثابة قوة مقاومة في حال الغزو السوفيتي، لنجد أنها وفي تركيا على وجه التحديد، خرجت "غلاديو" عن السيطرة، وانتهى الأمر بإنشاء شبكة مسلحة، كانت أشبه بشبكة أمنية داخل الدولة الأمنية.


تسببت نتائج العملية "غلاديو" في تغيير بنية المؤسسات الأمنية التركية، الذي دخلت العديد من قياداتها في روابط مع شبكات الجريمة المنظمة من أجل الإيرادات، وكذلك صنعت روابط مع جماعة قومية متطرفة. وتوسعت الشبكة التي بدأت كجيوب صغيرة شبه عسكرية، في أوائل التسعينيات، لتصبح شبكة فاسدة هائلة تشمل السياسيين وعصابات الجريمة المنظمة ومسؤولي الاستخبارات والجيش، وحتى بعض الحلفاء في النظام القضائي.

ومارست الشبكة حق النقض غير المرئي في السياسة التركية، وكان المسؤولون الذين يعارضونها يخاطرون بوظائفهم وربما بحياتهم. وكان وجود هذه الدولة العميقة موضع جدل كبير في تركيا نفسها حتى عام 1996، حين وقعت حادثة الاصطدام الشهيرة لسيارة مرسيدس بنز كانت تقل مجموعة غريبة تضم نائب رئيس شرطة اسطنبول، وعضو في البرلمان، ورجل عصابات، وهي الحادثة المشتهرة باسم فضيحة "سوسورلوك"، والتي سلَّطت الضوء على هذه الروابط المشبوهة داخل الدولة العميقة.


6aebed58-58fc-4143-bac0-efae781167b9



تعد تركيا المثل السياسي الحي اليوم لوصف الدولة العميقة، حيث شهدت البلاد على مدار تاريخها السياسي القصير أربعة انقلابات عسكرية ضد حكومات منتخبة15، وهو اللقب الذي لم تنازعها فيه سوى مصر ما بعد الربيع العربي. ولكن الأمر في الولايات المتحدة نفسها يبدو مختلفًا كثيرا عن هذه الصورة، فما يحدث في الولايات المتحدة هو شكل من أشكال الانفصال بين ما يمكن أن نطلق عليه الدولة السياسية، والممثلة في الرئيس والكونغرس ومجلس الوزراء، والدولة الإدارية الممثلة في البيروقراطية والأجهزة الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية، وهي آلية وضعت بالأساس للحد من سلطات السياسيين على إحداث تغييرات راديكالية في البنية الأساسية للدولة الأميركية.

أي أن الدولة العميقة الأميركية هي في أدنى أحوالها شكل من أشكال المقاومة السلبية الذي تبديه البيروقراطية الأميركية لإدخال تغييرات راديكالية في طريقة في عملها، وربما تكون هذه المقاومة مرتفعة نسبيًا مع ترمب خاصة في المعاقل التقليدية لليسار مثل وزارة الخارجية، وفي أقصى أحوالها هي صراع بين مراكز القوى المختلفة داخل النظام الأميركي لمنع تغول بعض هذه المراكز على بعضها الآخر، أو في محاولة لتشبث بعض هذه المراكز بمكتسباتها التي حققتها على امتداد تاريخها السياسي.16




على مدار التاريخ كانت التسريبات دوما سلاحًا شائعًا في صراعات البيروقراطية الأميركية، ولكنها لم تكن يوما دليلًا على وجود دولة عميقة بالمفهوم التقليدي، ترغب في استبدال النخبة السياسية القائمة بطريقة غير دستورية أو ترغب في إفشال مسيرة الرئيس وحكومته. في الحقيقة فإن دونالد ترمب لم يكن مجرد ضحية للبيروقراطية الأميركية، أو لتلك الدولة العميقة التي يصورها، كما يصور، ولكنه استفاد منها أيضًا بل إنه ربما يدين لها بوجوده في منصبه.


300

جيمس كومي، الرئيس السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي "أف.بي.آي"

multi-mapicon.png
رويترز

كان جيمس كومي، الرئيس (السابق) لمكتب التحقيقات الفيدرالي، هو رجل الشاشة في الأسبوع الأخير قبيل إجراء اقتراع الرئاسة الأميركية الأخير، فبعد أكثر من خمسة أشهر من إعلانه في (يوليو/تموز) الماضي أن مكتب التحقيقات لم ير أي دليل على إدانة المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون في قضية استخدامها وفريقها خوادم خاصة في إرسال بعض رسائل البريد الإلكتروني المهنية بدلا من استخدام خوادم الوزارة17، عاد كومي ليعلن من جديد في 28 (أكتوبر/تشرين الأول) من العام الماضي؛ أي قبل 11 يوما فقط من الاقتراع، أنه بصدد إعادة فتح التحقيق في رسائل جديدة تخص القضية، قبل أن يعود ليعلن مرة أخرى بعد يومين أنه لم يجد شيئا يمكن أن يدين كلينتون.18 خسرت هيلاري انتخابات 8 (نوفمبر/تشرين الثاني) في مفاجأة غير متوقعة، وحمَّلت حملتها مكتب التحقيقات الفيدرالي مسؤولية خسارتها، بسبب تدخله «المشبوه» قبل الانتخابات بأيام.19



أما المفاجأة الحقيقية فهي ما أعلنه مكتب التحقيقات الفيدرالي الشهر الماضي من أن المكتب يجري تحقيقات منذ يوليو الماضي (قبل الانتخابات بـ5 أشهر) حول تدخل روسيا لدعم ترمب إلا أنه لم يقم، لسبب لا يزال مجهولا، بالإعلان عن هذه التحقيقات أسوة بما فعله مع كلينتون.20 بينما يخبرنا التأمل في وقائع التاريخ السياسي للولايات المتحدة بملاحظة لا تخلو من طرافة: حين تكون روسيا حاضرة في المشهد الأميركي فإن موقف الرئيس من روسيا هو من يحدد طبيعة علاقته مع مجتمع الاستخبارات وخاصة الوكالتين الأمنيتين الكبيرتين (سي.آي.أيه وأف.بي.آي).



ولا تزال (سي.آي.أيه) معقل الصقور المعادين للكرملين الذين لم يكونوا أبدا راضين عن سياسات ترمب بالتقارب مع روسيا وربما كانوا يفضلون فوز كلينتون، على العكس من المكتب الفيدرالي الذي يرى دوما أن المبالغة في تضخيم الخطر الخارجي يعني بالضرورة مزيدا من النفوذ لخصومه في (السي.آي.أيه). أما ترمب، فإنه يعرف، في قرارة نفسه، على الأقل أنه يدين بالكثير لجحافل القوميين البيض في الشرطة الأميركية، التي تعد أبرز المؤسسات التي دفعت صعود ترمب، بإجماع واضح، على ما يبدو.21
 
reality;ord=396829942056.37366;dc_seg=456318144

*




آخر تحديث: 2017/5/12 الساعة 11:29 (مكة المكرمة) الموافق1438/8/16 هـ











424

"المُخبر والجنرال".. الجيش والاستخبارات ولعبة السيطرة على البيت الأبيض
250

محمد السعيد
محرر سياسة






كانت الصدفة وحدها هي التي قادت ضابط البحرية الشاب في مساء ذلك اليوم إلى قاعة الانتظار الواقعة خارج غرفة العمليات في البيت الأبيض. كان الشاب مكلفًا بحمل بعض الأوراق الهامة لوزارة الدفاع، وفي انتظار مقابلة شخص من البيت الأبيض للتوقيع عليها. وأثناء جلوسه في قاعة الانتظار، دارت بينه وبين مجاوره الأكبر عمرًا محادثة قصيرة، بدا آنذاك أن دافعها لم يكن أكثر من كسر بعض الملل المصاحب لدقائق الانتظار الطويلة.




تحدث الملازم الشاب عن إتمامه لدراسته الجامعية في جامعة جورج واشنطن، وللمفارقة، فإنها كانت نفس الجامعة التي حضر فيها مرافقه الأكبر سنًا دروس الحقوق الليلية، قبل أن يعمل في مكتب التحقيقات الفيدرالي "FBI" تحت إمرة مدير المكتب آنذاك، ومؤسسه الفعلي، الأخطبوط "إدغار هوفر"، الرجل واسع النفوذ في دوائر السياسة الأميركية وقتها. وقد شجع رجل "الأف.بي.آي" الأربعيني مرافقه الشاب على مواصلة حياته في العمل الذي يحبه، ويجد فيه شغفه.




300

بوب وودورد.. صحفي التحقيقات الذي يلقب بـ"كاشف أسرار البيت الأبيض"

multi-mapicon.png
الجزيرة.نت

لم تكن تلك سوى نصيحة أبوية عابرة من بيروقراطي خبير لشاب لا يزال يستقبل حياته، أجبرتهما الظروف على الانخراط في ثرثرة عابرة، وبالتأكيد فإنه لا أحد يعلم إذا ما كانت تلك المحادثة القصيرة، وحدها أم لسبب آخر، هي التي دفعت شاب البحرية بعد ذلك ببضعة أشهر إلى ترك عمله القديم، والتقدم بطلب للعمل كمراسل لدى صحيفة واشنطن بوست، قبل أن يجدد اتصاله مع صديقه القديم العابر، كناصح مهني، وربما أيضا كمصدر محتمل للمعلومات لوظيفته الجديدة.



سرعان ما وثق رجل التحقيقات في المراسل الشاب، وتطورت علاقتهما سريعًا، وكانت تلك العلاقة علامة فارقة ليس في تاريخ كل منهما فحسب، ولكن في تاريخ الولايات المتحدة بأكملها. لم يكن ضابط البحرية السابق سوى "بوب وودورد"، الذي صار فيما بعد أشهر صحفيي عصره بلا منازع، بعد أن عمل مع زميله "كارل برنستين"، على التحقيق الصحفي ذائع الصيت حول فضيحة "ووترغيت"1، الفضيحة المتسببة في حدث فريد من نوعه في السياسة الأميركية وهو استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون من منصبه قبل نهاية ولايته. أما رجل "الأف.بي.آي"، فلم يكن سوى "مارك فيليت"، أحد قادة الصف الأول في الجهاز آنذاك، والمصدر الرئيس لـ "وودورد" في التحقيق نفسه، والذي ظل لسنوات يعرف فقط باسمه المستعار «الصوت العميق Deep Throat».



دونالد ترمب، الرئيس الأميركي الحالي، لم يكن حاضرًا بحدته الهجومية في المشهد السياسي في ذلك التوقيت. وغالبًا ما كان يتم التعامل مع مثل هذه التسريبات على أنها نوع من الشذوذ المتفهم عنالبيروقراطية الإدارية، يهدف إلى حماية النظام الديمقراطي عبر كشف أوجه قصوره، أو تسليط الضوء على محاولات الاستغلال غير الشرعية للسلطة، فضلًا عن أن يتم التعامل معها على أنها محاولة للانقلاب على النظام أو الإطاحة به، ولكن مع وجود ترمب، تتخذ الأمور في غالب الأحايين مسارات غير متوقعة.




لم يكد ترمب يتم أسابيع قليلة من حكمه قبل أن يتورط في تراشق علني مع مجتمع الاستخبارات الأميركي، تراشق وضع حكومته في مرمى جدل كبير، بعد أن تم تسريب تقارير حول قيام "مايك فلين"، مستشار ترمب المستقيل لشؤون الأمن القومي، بمناقشة موضوع العقوبات الأميركية مع السفير الروسي في واشنطن قبل تولي ترمب مهام الرئاسة.2 في حقيقة الأمر، فإن الجدل بين ترمب ومجتمع الاستخبارات الأميركي، وعلى وجه التحديد وكالة المخابرات المركزية "CIA"، بدأ قبل أن يتولى الرئيس الجديد مهام منصبه رسميًا، حين تم تسريب تقييم سري للوكالة يؤكد قيام روسيابمحاولة التدخل في نتائج الانتخابات الأميركيةلصالح ترمب.3

بالنسبة إلى ترمب ومستشاريه، فإن مثل هذه التسريبات لا تشير فقط إلى وجود خلل بيروقراطي، ولكنها تؤكد وجود "دولة عميقة"4 تقف اليوم ضد الرئيس الجديد وتمثل "تهديدًا حقيقيًا لرئاسته"، كما يرى "ستيف بانون" كبير الاستراتيجيين في الإدارة الجديدة.5 بل إن ترمب نفسه ذهب لمدى غير مسبوق باتهام سلفه، باراك أوباما، بأنه هو من "يدير خطوط هذه الدولة العميقة"، وأنه - أي أوباما- قام بالتنصت على هواتف مكتبه في برج ترمب خلال الأشهر الأخيرة من حملته الرئاسية، داعيًا إلى إجراء تحقيق في الكونغرس حول الأمر، وهو ما حدث بالفعل في جلسة مفتوحة للجنة الاستخبارات في 20 (مارس/آذار) الفائت لعامنا الحالي، بحضور مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق "جيمس كومي"، الذي أكد أن أيًا من مكتبه أو وزارة العدل لم يجدا أي مزاعم حول ادعاءات الرئيس الجديد.

ed3097f4-2c58-463e-adcf-07696d4a901b



لسبب أو لآخر، يريد ترمب من مؤيديه اليوم أن يؤمنوا بوجود قوى خفية تتحكم في السياسة الأميركية خلف المنظومة الدستورية، وهي تتمثل في بعض أفرع البيروقراطية الأميركية وخاصة في جناحها المعلوماتي الممثل في مجتمع الاستخبارات. وبشكل عام لم تكن هذه الفكرة، وإن كانت بصورة أقل حدة، غائبة عن التداول في الأوساط الأميركية في فترات الأزمات السياسية، وهي تعرف اليوم في أكاديميات السياسة الأميركية باعتبارها أحد نظريات المؤامرة الرائجة.

وربما يكون ترمب هو الرئيس الأول الذي يقدم على تبني مثل هذا الطرح، بهذا القدر من الصراحة، ليشعل صراعًا داخل إدارته الوليدة بينما لم يتم بضعة أسابيع في منصبه، لكن الصراع داخل البيروقراطية الأميركية له تاريخ طويل، ربما تدعم بعض فصوله تلك النظرية التي تروج لها اليوم الإدارة الأميركية الجديدة، أكثر مما تدعمه بعض تسريبات الأجهزة الأمنية إلى الصحافة، والتي تثير اليوم ترمب ورموز إدارته بشكل مبالغ فيه. ولعل أبرز من يخبرنا عن هذه الصراعات هو "جون كينيدي"، الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة، الذي تولى السلطة في ذروة الصراع بين بلاده وبين الاتحاد السوفيتي.



الشاب والجنرالات
"أول أمر سوف أخبر به خَلَفي أنَّ عليه أن يُبقِيَ عينَهُ على الجنرالات. يجب عليه أن يتجنب الشعور أنه وبسبب كونهم رجالًا عسكريين؛ فإن آراءهم في الشؤون العسكرية لا تقبل المناقشة"
(جون كينيدي في لقاء مع مستشاريه في البيت الأبيض بعد نهاية أزمة الصواريخ الكوبية)




يعرف عهد الرئيس الأميركي "دوايت آيزنهاور"، الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة، على أنه العصر الذهبي «للأنشطة القذرة» لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، التي قامت في عهده بتدبير عشرات المحاولات، الناجحة والفاشلة، للإطاحة بالحكام غير المرضي عنهم في واشنطن، بداية من محمد مصدق في إيران، إلى فيدل كاستروفي كوبا، مرورًا بغواتيمالا وجمهوريات الموز في أميركا الوسطى والجنوبية. وربما لا يكون ذلك مستغربًا بالنظر إلى عمل "آيزنهاور" في مصاف قيادات الجيش العليا خلال الحرب العالمية الثانية، ومسؤوليته عن العديد من العمليات «المشبوهة» خلال تلك الفترة.6

ولكن المفارقة أن "آيزنهاور" نفسه وقف في خطابه الأخير، قبل أن يترك السلطة، محذرًا الأميركيين من مغبّة زيادة نفوذ المجمع العسكري الصناعي في السياسة الأميركية. وكان من المستغرب أن يصدر مثل هذا التصريح من شخص أفنى جلّ عمره، سواءً في الخدمة العسكرية أو كرئيس، في زيادة السلطات الممنوحة للعسكريين لتشكيل السياسة الخارجية للبلاد.7


300

دوايت آيزنهاور، الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة، توفي في الثامن والعشرين من مارس لعام 1969

multi-mapicon.png
الجزيرة.نت


وبينما كان "جون كينيدي" يخطو خطواته الأولى إلى البيت الأبيض خلفًا لأيزنهاور، كان العالم في أشد لحظاته قربًا إلى نشوب حرب نووية شاملة، بينما لم يكن "كينيدي" يثق كثيرًا في عسكريي بلاده المولعين بالحرب. وفي المقابل فإن كبار الجنرالات وقتها، وفي مقدمتهم رئيس الأركان "ليان ليمنيتزر"، و"أرليه بورك" قائد القوات البحرية، و"كورتيس ليماي" قائد القوات الجوية، لم يثقوا كثيرًا في قدرة الرئيس البالغ من العمر 43 عامًا على مجاراة التحديات العسكرية الضخمة أسوة بسلفه واسع الخبرة في الشؤون العسكرية.


شعر كينيدي بقدر كبير من المفاجأة حول حجم السلطة التي يملكها القادة العسكريون لشن حرب نووية، وفي حوار مع مستشاره للأمن القومي "ماك جورج باندي"، أخبر "باندي" الرئيس أن أي قائد عسكري في البلاد يواجه عملًا عسكريًا روسيًا كبيرًا يمكنه أن يبدأ المحرقة النووية بإشارة منه.8 في الواقع، كانت خطة قصف موسكو بالقنابل النووية جاهزة بالفعل في أروقة البنتاغون، وتضمنت إسقاط 170 قنبلة هيدروجينية على موسكو وحدها، فضلًا عن الصين وأوروبا الشرقية. ولمواجهة رغبة الجيش في استخدام الأسلحة النووية ضد الشيوعيين، دفع "كينيدي" البنتاغون لاستبدال استراتيجية أيزنهاور المسماة بـ "الانتقام الضخم"، باستراتيجية "الاستجابة المرنة"، والتي وضعها المستشار العسكري للبيت الأبيض الجنرال "ماكسويل تايلور" في عام 1959.


ولكن الجنرالات واصلوا مقاومتهم في مواجهة ما وصفوه بأنه "تردد كينيدي في استخدام الميزة النووية للأمة"، وكانت كوبا هي ساحة النزال الفعلية بين كينيدي وجنرالاته، قبل أن تكون ساحة للصراع بين الولايات المتحدة وموسكو وهافانا. قبيل وصول كينيدي إلى السلطة، كان البنتاغون والسي آي إيه يضعان اللمسات الأخيرة لغزو كوبا بدعم من واشنطن، يقوم به 1500 شخص من المنفيين الكوبيين للإطاحة بكاسترو، وبينما عارض كينيدي الخطة، لأنها كانت تتعارض مع سياسته الرامية إلى كسب الجماهير في أميركا اللاتينية من خلال المزايا الاقتصادية. لم يكن معارضًا للإطاحة بكاسترو بالتأكيد، ولكنه لم يكن يريد أن تتورط الولايات المتحدة بشكل مباشر في الأمر، لذا فإنه أصر أن يتم الغزو دون غطاء أميركي وهو ما تم قبوله في البداية، قبل أن يضطر كينيدي لقبول تدخل محدود مع الإرهاصات الأولى لفشل العملية التي منيت في النهاية، رغم كل شيء، بفشل ذريع.


كانت نتائج العملية مأساوية على واشنطن: قتل أكثر من مائة وتم القبض على 1200 شخص من قوة قوامها 1400 شخص تقريبًا، وتم أسر أربعة طيارين أميركيين شاركوا في القتال، وتم إجبارهم على إخفاء هويتهم والقول بأنهم من المرتزقة، وتم الكشف عن هذه الحقيقة عام 2011 فقط بموجب قانون حرية المعلومات. ولكن ما أهم كينيدي فعلًا هو معرفته فيما بعد أن الاستخبارات الأميركية أخفت عن علمه تقريرًا استخباراتيًا يرجح فشل العملية ما لم تتدخل الولايات المتحدة بالدعم المباشر.9


00000000-0000-0000-0000-000000000000

جون كينيدي، الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة، اغتيل في الثاني والعشرين من نوفمبر لعام 1963 (مواقع التواصل)

لم يمض عام على عملية «خليج الخنازير» الفاشلة، قبل أن تصبح كوبا من جديد محطة للصراع بين كينيدي وجنرالاته. شرعت كوبا بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي في بناء قواعد سرية لعدد من الصواريخ النووية متوسطة المدى، والتي يمكن أن تضرب الولايات المتحدة. ومن جديد عادت أحلام الحرب النووية تداعب الجنرالات، ولكن كينيدي كان مصرًا على الاكتفاء بالحصار العسكري، وسلوك السبل الدبلوماسية محتجًا أن السوفييت سوف يردون أي هجوم على كوبا بهجوم مماثل على برلين. وجاء الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين كينيدي والرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشوف، بإنهاء وتفكيك الصواريخ الكوبية، ليعطي كينيدي انتصارًا صريحا في معركته ضد الجنرالات، سرعان ما استغله ليصب جام غضبه المكتوم على رأس مسؤولي "سي آي إيه" الذين اتهمهم بالمسؤولية عن فشل عملية «خليج الخنازير»، والأهم فشل التنبؤ بقيام السوفييت بزرع صواريخهم في كوبا.


وفي سابقة تاريخية قام كينيدي بإقالة ثلاثة من كبار مسؤولي جهاز الاستخبارات، وعلى رأسهم "ألن دالاس" مدير الجهاز، ونقل عنه آنذاك قوله الشهير "سأمزق سي آي إيه لألف قطعة ثم أبعثرهم في الهواء"، وربما يكون هذا التداعي الدرامي هو أكبر حجج القائلين بأن كينيدي قد دفع حياته ثمنًا للصراع مع مجتمع الجنرالات والاستخبارات في بلاده. وبدا أن خلف كينيدي، ليندون جونسون، لم يكن على استعداد لمواصلة الصراع ضد البيروقراطية الأمنية، وسرعان ما منح المخابرات التصريح الذي طلبته للقيام بالعملية "فينيكس" ضد الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام، وهي الحرب التي منيت فيها المخابرات المركزية بفشل ذريع آخر.



أخطبوط المباحث الفيدرالية
لم تكن حالة كينيدي فريدة من نوعها في الصراع التاريخي بين البيروقراطيين والسياسيين في الولايات المتحدة، رغم كونها الحالة الأبرز والأكثر وضوحًا، والأكثر قدرة على استدعاء السياقات التآمرية. ولكن أخطبوط المباحث الفيدرالية "إدغار هوفر" يعد أقرب النماذج في التاريخ الأميركي لما يمكن أن يطلق عليها «دولة عميقة» بالمفهوم الشائع.10


تولى هوفر منصبه لقرابة 40 عامًا نجح خلالها في استغلال قدرته على جمع المعلومات الاستخباراتية لتحويل نفسه إلى قوة سياسية، قوة غالبًا ما كانت تمارس سلطتها ضد المعارضين السياسيين الشرعيين مثل الشيوعيين والناشطين في مجال الحقوق المدنية، وعلى رأس هؤلاء "مارتن لوثر كينغ"، الذي تلقى تهديدات من مكتب التحقيقات الفيدرالي بالكشف عن خياناته الزوجية ما لم يتخل عن نضاله المدني في حقوق السود.


300

إدغار هوفر، مؤسس مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف.بي.آي" وأول رئيس له

multi-mapicon.png
مواقع التواصل

أدار هوفر برنامج تجسس مشبوه يدعى "سوينتيلبرو" (COINTELPRO)، والذي كان يعد أول برنامج تجسس داخلي بهذا الحجم في تاريخ الدولة الأميركية. وبلغ نفوذ هوفر ذروته في عهد الرئيس ليندون جونسون، لذا فإن نيكسون، خلف جونسون، كان عازمًا على الإطاحة به قبل أن يضطر إلى التراجع، وهو التراجع الذي كشف عن سره بعد استقالة نيكسون، الذي كان يخشى أن يقوم هوفر بإسقاط المعبد عليه وتسريب معلومات حول جهوده السرية في التجسس على خصومه السياسيين.



على كل حال، أثار النفوذ الكبير الذي حظي به مجتمع الاستخبارات، داخليًا في التجسس على المعارضين والسياسيين والنشطاء المدنيين، وخارجيًا في قيادة العمليات «القذرة» ضد الأنظمة المناوئة للولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطلع السبعينيات، الكثير من القلق داخل الولايات المتحدة، مما دفع الرئيس "جيرالد فورد" إلى تشكيل لجنة برئاسة سيناتور ولاية إيداهو، "فرانك تشارش"، من أجل التحقيق في أنشطة وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفيدرالي ودائرة الإيرادات الداخلية، وكانت النتائج التي توصلت إليها لجنة تشارش مثيرة لرعب الأميركيين قبل كل شيء.11



بخلاف برنامج "سوينتيلبرو" المدار من قبل المباحث الفيدرالية، كانت وكالة الأمن القومي (NSA) تدير بدورها برنامجها الخاص للمراقبة الذي يدعي "شامروك"12، والذي جمعت الوكالة بموجبه معلومات عن 75 ألف مواطن أميركي حينها، ووظفت خلاله شركات التلغراف الثلاث الكبرى في البلاد، فضلًا عن أن الاستخبارات الأميركية كانت هي الأخرى تدير برنامجها الخاص للمراقبة غير القانونية المعروف باسم "العملية تشاوس". ومع نهاية السبعينيات، أصدر الكونغرس قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية، الذي منع وكالات الاستخبارات من التجسس على أي شخص في الولايات المتحدة، ما لم يكن لديهم سبب محتمل للاعتقاد بأن الشخص يعمل لصالح قوة أجنبية. وقبلها بعامين تم تأسيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ للإشراف على عمل مجتمع الاستخبارات كاملًا.



الإخوة الأعداء
"داخل كل ديمقراطية هناك بيروقراطية كامنة لديها القدرة على تحدي عمل الإدارة المنتخبة بحكم الاستمرارية والخبرة"
(المنظِّر السياسي فهيم حسين)



يشير إرث هوفر، وتلك الحقبة بأكملها، إلى حقيقة أساسية: كلما كان هناك مجتمع أمني أو استخباراتي قوي، فهناك احتمال حقيقي لإساءة استخدام السلطة. لذا ظل الصراع محتدمًا داخل المجتمع الأميركي لتحجيم نفوذ مجتمع الاستخبارات. كانت آخر هذه الخطوات في عام 2004 حين تم استحداث منصب مدير الاستخبارات الوطنية، وهو شخص يتبع الرئيس الأميركي مباشرة ومهمته هي الإشراف على عمل 17 وكالة استخباراتية أميركية.

11e06704-4f41-4084-96d9-364cebdd3757


في عام 2009، كان أدميرال البحرية الأميركية المتقاعد "دينيس بلير" هو من يشغل منصب مدير الاستخبارات الوطنية، ومع السلطة المفترضة لبلير على جميع وكالات الاستخبارات في الولايات المتحدة، إلا أنه وجد نفسه عاجزًا عن تعيين كبير الجواسيس الأميركيين في أي دولة حول العالم13، وهي المهمة التي يستأثر بها مدير درة تاج مجتمع الاستخبارات الأميركي: وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، إلا أن بلير قرر آنذاك أن يشعل معركة مبكرة لإبراز سلطته، لم يكن يعرف حينها أنها ستكلفه منصبه في نهاية المطاف.



قام مدير الاستخبارات الوطنية الجديد بإرسال أمر مكتوب يخوله شخصيًا مسؤولية تعيين كبير الجواسيس، وهو ما لم يعجب مدير سي آي إيه آنذاك، "ليون بانيتا"، الذي أرسل برقية لجميع مكاتبه يطالبهم فيها بتجاهل أوامر دينيس بلير. لم تكن تلك هي المعركة الوحيدة التي خسرها بلير أمام سي آي إيه، فالوكالة الكبرى تمسكت برفضها إخضاع جميع برامجها للمناقشة من قبل مدير الاستخبارات الوطنية، وتمسكت بخطها المباشر التقليدي مع الرئيس، وهو ما حصلت عليه بالفعل.

ليس ذلك فحسب، فمع مقدم عام 2013 طلبت الوكالة تمويلًا بمقدار 14.7 مليار دولار، بعد أن كان تمويلها في عام 1994 لا يتجاوز الـ 4.8 مليارات دولار، مع مطالبات أخرى بتوسيع صلاحياتها في شن حروبها السرية، وتوسيع أسطول الطائرات بدون طيار الخاص بها، وهي المطالب التي حصلت عليها كاملة، مع إقرار الرئيس الأميركي باراك أوباما في نهاية المطاف بأن "وكالة المخابرات تحصل على ما تريد"، ما دفع بلير في إلى التنحي عن منصبه بعدما عرف أن المعركة خاسرة.



تهيمن سي آي إيه اليوم بشكل كبير على سائر وكالات مجتمع الاستخبارات، وعلى وجه التحديد منافسيهم التاريخيين في مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف.بي.آي". ولكن الأمور لم تكن كذلك في منتصف القرن الماضي، حين عهد الرئيس الأميركي "فرانكلين روزفلت" إلى رئيس المخابرات في زمن الحرب، الجنرال "ويليام دونوفان"، بوضع النواة الأولى لوكالة الاستخبارات الخارجية، وهو ما رآه إدغار هوفر آنذاك تهديدًا لسلطته، سرعان ما حشد كامل نفوذه لمواجهته، وأشاع هوفر حينها في معلومات سربها إلى صحيفة واشنطن بوست أن "دونوفان" يخطط لإنشاء وكالة تجسس فائقة تهيمن على مكتب التحقيقات الفيدرالي.


00000000-0000-0000-0000-000000000000

مدير الاستخبارات القومية الأميركية السابق دينيس بلير (رويترز)

يبدو إذن أن العلاقة بين أكبر رأسين في مجتمع الاستخبارات ولدت متوترة بالأساس، وقد ألقى هذا التوتر بظلاله في أكثر مناسبة لعل أبرزها التحقيق في مقتل جون كينيدي. فعندما أصدرت لجنة وارن، المكلفة بالتحقيق، استنتاجاتها بشأن جريمة القتل فإنها استبعدت وجود دلائل على دور شيوعي، بسبب صراع بين الوكالات على الأخذ بشهادة العميل السوفيتي، يوري نوسنكو، الذي أصر على أن موسكو ليس لديها دور في الجريمة. وبينما كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يعتقد أن نوسنكو كان يقول الحقيقة؛ فإن وكالة المخابرات كانت متأكدة أنه يكذب لحماية موسكو.14

لم يكن هذا هو الفصل الوحيد للصراع بين الوكالتين، فنجد أن مكتب التحقيقات لعب الدور الأبرز في الكشف عن إحدى فضائح وكالة المخابرات المركزية، وهي قضية تصدير الأسلحة الأميركية إلى إيران في عهد "رونالد ريغان"، والمعروفة باسم "إيران كونترا"، بعد قيامه بتفتيش مكتب نائب مدير عمليات سي آي إيه، حيث عثر على معظم الوثائق وهو ما أدى إلى توتر العلاقات بين إدارة ريغان ومدير مخابراته "وليام كيسي" من ناحية، وبين مكتب التحقيقات الفيدرالي من ناحية أخرى.



دولة عميقة؟
على الرغم من التاريخ المعقد للمنافسة بين مختلف أقطاب البيروقراطية الأميركية، وبين هذه الأقطاب وبين السياسيين المنتخبين وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي نفسه، فإن مفهوم الدولة العميقة، الذي يعني وجود نظام كامل خارج الإطار الدستوري يسعى إلى تقويض الحكومة المنتخبة لم يكن أبدًا قضية مطروحة لوصف دهاليز السياسة الأميركية. في واقع الأمر، فإن المسؤولين الأميركيين يعون جيدًا ماذا تكون الدولة العميقة بحق، منذ قامت المخابرات الأميركية بتدشين "عملية غلاديو" في محاولة لبناء مجموعات شبه عسكرية في جميع أنحاء أوروبا، يمكن أن تكون بمثابة قوة مقاومة في حال الغزو السوفيتي، لنجد أنها وفي تركيا على وجه التحديد، خرجت "غلاديو" عن السيطرة، وانتهى الأمر بإنشاء شبكة مسلحة، كانت أشبه بشبكة أمنية داخل الدولة الأمنية.


تسببت نتائج العملية "غلاديو" في تغيير بنية المؤسسات الأمنية التركية، الذي دخلت العديد من قياداتها في روابط مع شبكات الجريمة المنظمة من أجل الإيرادات، وكذلك صنعت روابط مع جماعة قومية متطرفة. وتوسعت الشبكة التي بدأت كجيوب صغيرة شبه عسكرية، في أوائل التسعينيات، لتصبح شبكة فاسدة هائلة تشمل السياسيين وعصابات الجريمة المنظمة ومسؤولي الاستخبارات والجيش، وحتى بعض الحلفاء في النظام القضائي.

ومارست الشبكة حق النقض غير المرئي في السياسة التركية، وكان المسؤولون الذين يعارضونها يخاطرون بوظائفهم وربما بحياتهم. وكان وجود هذه الدولة العميقة موضع جدل كبير في تركيا نفسها حتى عام 1996، حين وقعت حادثة الاصطدام الشهيرة لسيارة مرسيدس بنز كانت تقل مجموعة غريبة تضم نائب رئيس شرطة اسطنبول، وعضو في البرلمان، ورجل عصابات، وهي الحادثة المشتهرة باسم فضيحة "سوسورلوك"، والتي سلَّطت الضوء على هذه الروابط المشبوهة داخل الدولة العميقة.


6aebed58-58fc-4143-bac0-efae781167b9



تعد تركيا المثل السياسي الحي اليوم لوصف الدولة العميقة، حيث شهدت البلاد على مدار تاريخها السياسي القصير أربعة انقلابات عسكرية ضد حكومات منتخبة15، وهو اللقب الذي لم تنازعها فيه سوى مصر ما بعد الربيع العربي. ولكن الأمر في الولايات المتحدة نفسها يبدو مختلفًا كثيرا عن هذه الصورة، فما يحدث في الولايات المتحدة هو شكل من أشكال الانفصال بين ما يمكن أن نطلق عليه الدولة السياسية، والممثلة في الرئيس والكونغرس ومجلس الوزراء، والدولة الإدارية الممثلة في البيروقراطية والأجهزة الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية، وهي آلية وضعت بالأساس للحد من سلطات السياسيين على إحداث تغييرات راديكالية في البنية الأساسية للدولة الأميركية.

أي أن الدولة العميقة الأميركية هي في أدنى أحوالها شكل من أشكال المقاومة السلبية الذي تبديه البيروقراطية الأميركية لإدخال تغييرات راديكالية في طريقة في عملها، وربما تكون هذه المقاومة مرتفعة نسبيًا مع ترمب خاصة في المعاقل التقليدية لليسار مثل وزارة الخارجية، وفي أقصى أحوالها هي صراع بين مراكز القوى المختلفة داخل النظام الأميركي لمنع تغول بعض هذه المراكز على بعضها الآخر، أو في محاولة لتشبث بعض هذه المراكز بمكتسباتها التي حققتها على امتداد تاريخها السياسي.16




على مدار التاريخ كانت التسريبات دوما سلاحًا شائعًا في صراعات البيروقراطية الأميركية، ولكنها لم تكن يوما دليلًا على وجود دولة عميقة بالمفهوم التقليدي، ترغب في استبدال النخبة السياسية القائمة بطريقة غير دستورية أو ترغب في إفشال مسيرة الرئيس وحكومته. في الحقيقة فإن دونالد ترمب لم يكن مجرد ضحية للبيروقراطية الأميركية، أو لتلك الدولة العميقة التي يصورها، كما يصور، ولكنه استفاد منها أيضًا بل إنه ربما يدين لها بوجوده في منصبه.


300

جيمس كومي، الرئيس السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي "أف.بي.آي"

multi-mapicon.png
رويترز

كان جيمس كومي، الرئيس (السابق) لمكتب التحقيقات الفيدرالي، هو رجل الشاشة في الأسبوع الأخير قبيل إجراء اقتراع الرئاسة الأميركية الأخير، فبعد أكثر من خمسة أشهر من إعلانه في (يوليو/تموز) الماضي أن مكتب التحقيقات لم ير أي دليل على إدانة المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون في قضية استخدامها وفريقها خوادم خاصة في إرسال بعض رسائل البريد الإلكتروني المهنية بدلا من استخدام خوادم الوزارة17، عاد كومي ليعلن من جديد في 28 (أكتوبر/تشرين الأول) من العام الماضي؛ أي قبل 11 يوما فقط من الاقتراع، أنه بصدد إعادة فتح التحقيق في رسائل جديدة تخص القضية، قبل أن يعود ليعلن مرة أخرى بعد يومين أنه لم يجد شيئا يمكن أن يدين كلينتون.18 خسرت هيلاري انتخابات 8 (نوفمبر/تشرين الثاني) في مفاجأة غير متوقعة، وحمَّلت حملتها مكتب التحقيقات الفيدرالي مسؤولية خسارتها، بسبب تدخله «المشبوه» قبل الانتخابات بأيام.19



أما المفاجأة الحقيقية فهي ما أعلنه مكتب التحقيقات الفيدرالي الشهر الماضي من أن المكتب يجري تحقيقات منذ يوليو الماضي (قبل الانتخابات بـ5 أشهر) حول تدخل روسيا لدعم ترمب إلا أنه لم يقم، لسبب لا يزال مجهولا، بالإعلان عن هذه التحقيقات أسوة بما فعله مع كلينتون.20 بينما يخبرنا التأمل في وقائع التاريخ السياسي للولايات المتحدة بملاحظة لا تخلو من طرافة: حين تكون روسيا حاضرة في المشهد الأميركي فإن موقف الرئيس من روسيا هو من يحدد طبيعة علاقته مع مجتمع الاستخبارات وخاصة الوكالتين الأمنيتين الكبيرتين (سي.آي.أيه وأف.بي.آي).



ولا تزال (سي.آي.أيه) معقل الصقور المعادين للكرملين الذين لم يكونوا أبدا راضين عن سياسات ترمب بالتقارب مع روسيا وربما كانوا يفضلون فوز كلينتون، على العكس من المكتب الفيدرالي الذي يرى دوما أن المبالغة في تضخيم الخطر الخارجي يعني بالضرورة مزيدا من النفوذ لخصومه في (السي.آي.أيه). أما ترمب، فإنه يعرف، في قرارة نفسه، على الأقل أنه يدين بالكثير لجحافل القوميين البيض في الشرطة الأميركية، التي تعد أبرز المؤسسات التي دفعت صعود ترمب، بإجماع واضح، على ما يبدو.21
 
عودة
أعلى