فتنة ابن الأشعث - 2
=======
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ
---------
فَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الزَّاوِيَةِ بَيْنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَالْحَجَّاجِ , وَكَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ
ثُمَّ تَوَاقَعُوا يَوْمًا آخَرَ , فَقَالَ الْقُرَّاءُ - وَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ - : أَيُّهَا النَّاسُ , لَيْسَ الْفِرَارُ مِنْ أَحَدٍ بِأَقْبَحَ مِنْهُ مِنْكُمْ , فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : قَاتِلُوهُمْ عَلَى جَوْرِهِمْ , وَاسْتِذْلَالِهِمُ الضُّعَفَاءَ , وَإِمَاتَتِهِمُ الصَّلَاةَ .
ثُمَّ حَمَلَتِ الْقُرَّاءُ - وَهُمُ الْعُلَمَاءُ - عَلَى جَيْشِ الْحَجَّاجِ حَمْلَةً صَادِقَةً , فَبَدَّعُوا فِيهِمْ , ثُمَّ رَجَعُوا ، فَإِذَا هُمْ بِمُقَدَّمِهِمْ جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ صَرِيعًا , فَهَدَّهُمْ ذَلِكَ
فَنَادَاهُمْ جَيْشُ الْحَجَّاجِ : يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ , قَدْ قَتَلْنَا طَاغِيَتَكُمْ .
وَحَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ - أَحَدُ أُمَرَاءِ أَهْلِ الشَّامِ - عَلَى مَيْمَنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَهَزَمَهَا
وَخَرَّ الْحَجَّاجُ لِلَّهِ سَاجِدًا بَعْدَمَا كَانَ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ , وَسَلَّ شَيْئًا مِنْ سَيْفِهِ , وَجَعَلَ يَتَرَحَّمُ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَيَقُولُ : مَا كَانَ أَكْرَمَهُ حِينَ صَبَرَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ .
ثُمَّ حَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ - وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْحَجَّاجِ - عَلَى مَيْسَرَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ - وَعَلَيْهَا الْأَبْرَدُ بْنُ قُرَّةَ التَّمِيمِيُّ - فَانْهَزَمُوا , وَلَمْ يُقَاتِلُوا كَثِيرَ قِتَالٍ
فَأَنْكَرَ النَّاسُ مِنْهُمْ ذَلِكَ , وَكَانَ أَمِيرُ مَيْسَرَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ - الْأَبْرَدُ - شُجَاعًا لَا يَفِرُّ , وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ خَامَرَ ( خان ) فَنُقِضَتِ الصُّفُوفُ , وَرَكِبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ,
وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ , وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ : أَبُو الطُّفَيْلِ بْنُ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ .
وَكَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ , فَلَمَّا رَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ ، أَخَذَ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَسَارَ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ
فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا عَلَى خَلْعِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ .
وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ , وَكَثُرَ مُتَابِعُو ابْنِ الْأَشْعَثِ عَلَى ذَلِكَ , وَاشْتَدَّ الْحَالُ , وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ جِدًّا , وَعَظُمَ الْخَطْبُ , وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ .
وَعَمَدَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَبَايَعُوهُ
فَقَاتَلَ الْحَجَّاجَ خَمْسَ لَيَالٍ أَشَدَّ الْقِتَالِ , ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَحِقَ بِابْنِ الْأَشْعَثِ , وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ
فَاسْتَنَابَ الْحَجَّاجُ عَلَى الْبَصْرَةِ أَيُّوبَ بْنَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ الثقفي
وَقْعَةُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ
----------
ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ لَمَّا قَصَدَ الْكُوفَةَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا , فَتَلَقَّوْهُ , وَحَفُّوا بِهِ , وَدَخَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ
غَيْرَ أَنَّ شِرْذِمَةً قَلِيلَةً أَرَادَتْ أَنْ تُقَاتِلَهُ دُونَ مَطَرِ بْنِ نَاجِيَةَ نَائِبِ الْحَجَّاجِ , فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ , فَعَدَلُوا إِلَى الْقَصْرِ
فَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْكُوفَةِ أَمَرَ بِالسَّلَالِيمِ فَنُصِبَتْ عَلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ , فَأَخَذَهُ , وَاسْتَنْزَلَ مَطَرَ بْنَ نَاجِيَةَ , وَأَرَادَ قَتْلَهُ
فَقَالَ لَهُ : اسْتَبْقِنِي ; فَإِنِّي خَيْرٌ مِنْ فُرْسَانِكَ .
فَحَبَسَهُ , ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَأَطْلَقَهُ وَبَايَعَهُ
وَاسْتَوْثَقَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ أَمْرُ الْكُوفَةِ , وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ , وَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , وَأَمَرَ بِالْمَسَالِحِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ , وَحُفِظَتِ الثُّغُورُ وَالطُّرُقُ وَالْمَسَالِكُ .
ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ رَكِبَ فَيْمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي الْبَرِّ , حَتَّى مَرَّ بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ وَالْعُذَيْبِ
وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَشْعَثِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْعَبَّاسِ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمَصْرَيْنِ , فَمَنَعُوا الْحَجَّاجَ مِنْ نُزُولِ الْقَادِسِيَّةِ
فَسَارَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ قُرَّةَ
وَجَاءَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الْبَصْرِيَّةِ وَالْكُوفِيَّةِ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ الْجَمَاجِمِ , وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ , وَفِيهِمُ الْقُرَّاءُ مِنَ الْمِصْرَيْنِ , وَخَلْقٌ مِنَ الصَّالِحِينَ
وَكَانَ الْحَجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : قَاتَلَ اللَّهُ ابْنَ الْأَشْعَثِ , أَمَا كَانَ يَزْجُرُ الطَّيْرَ حَيْثُ رَآنِي قَدْ نَزَلْتُ دَيْرَ قُرَّةَ , وَنَزَلَ هُوَ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ ؟ .( يعني أن الحجاج تفاءل باسم القرية دير قُرَّة ، لأنها تدل على قُرَّة العين , بينما دير الجماجم تدل على قطع الرؤوس )
وَكَانَ جُمْلَةُ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ , مِمَّنْ يَأْخُذُ الْعَطَاءَ , وَمَعَهُمْ مِثْلُهُمْ مِنْ مَوَالِيهِمْ
وَقَدِمَ عَلَى الْحَجَّاجِ فِي غُبُونِ ذَلِكَ أَمْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشَّامِ
وَخَنْدَقَ كُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَحَوْلَ جَيْشِهِ خَنْدَقًا يُمْتَنَعُ بِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ
غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ كَانَ يَبْرُزُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ , فَيَقْتَتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا فِي كُلِّ يَوْمٍ , حَتَّى أُصِيبَ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ خَلْقٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ , وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ مُدَّةً طَوِيلَةً
وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَةِ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ , فَقَالُوا لَهُ : إِنْ كَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يُرْضِيهِمْ مِنْكَ أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمُ الْحَجَّاجَ , فَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ قِتَالِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ
فَاسْتَحْضَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ عِنْدَ ذَلِكَ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ , وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ , وَمَعَهُمَا جُنُودٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا , وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُ لَهُمْ : إِنْ كَانَ يُرْضِيكُمْ مِنِّي عَزْلُ الْحَجَّاجِ عَنْكُمْ عَزَلْتُهُ , وَأَبْقَيْتُ عَلَيْكُمْ أُعْطِيَّاتِكُمْ مِثْلَ أَهْلِ الشَّامِ , وَلْيَخْتَرِ ابْنُ الْأَشْعَثِ أَيَّ بَلَدٍ شَاءَ يَكُونُ عَلَيْهِ أَمِيرًا مَا عَاشَ وَعِشْتُ , وَتَكُونُ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ .
وَقَالَ فِي عَهْدِهِ هَذَا : فَإِنْ لَمْ يُجِبْ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى ذَلِكَ ، فَالْحَجَّاجُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ , وَإِلَيْهِ إِمْرَةُ الْحَرْبِ , وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ أَمْرِهِ , لَا يَخْرُجُونَ عَنْ رَأْيِهِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ .
وَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ عَزْلِهِ إِنْ رَضُوا بِهِ , شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَشَقَّةً عَظِيمَةً جِدًّا , وَعَظُمَ شَأْنُ هَذَا الرَّأْيِ عِنْدَهُ , وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , وَاللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَ أَهْلَ الْعِرَاقِ نَزْعِي عَنْهُمْ , لَا يَلْبَثُونَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يُخَالِفُوكَ وَيَسِيرُوا إِلَيْكَ , وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا جُرْأَةً عَلَيْكَ , أَلَمْ تَرَ وَتَسْمَعْ بِوُثُوبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ ؟ ، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ ( عثمان ) : مَا تُرِيدُونَ ؟ , قَالُوا : نَزْعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ , فَلَمَّا نَزَعَهُ , لَمْ تَتِمَّ لَهُمُ السَّنَةُ حَتَّى سَارُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ , وَإِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ , كَانَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا ارْتَأَيْتَ , وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ .
فَأَبَى عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَّا عَرْضَ هَذِهِ الْخِصَالِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ كَمَا أَمَرَ
فَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ , فَنَادَى عَبْدُ اللَّهِ : يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ , أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ , فَذَكَرَ مَا كَتَبَ بِهِ أَبُوهُ مَعَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ : وَأَنَا رَسُولُ أَخِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكُمْ بِذَلِكَ .
فَقَالُوا : نَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا غَدًا , وَنَرُدُّ عَلَيْكُمُ الْخَبَرَ عَشِيَّةً , ثُمَّ انْصَرَفُوا
فَاجْتَمَعَ جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ , فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا , وَنَدَبَهُمْ إِلَى قَبُولِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَزْلِ الْحَجَّاجِ عَنْهُمْ , وَبَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ , وَإِبْقَاءِ الْأُعْطِيَّاتِ , وَإِمْرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ بَدَلَ الْحَجَّاجِ .
فَنَفَرَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ , وَقَالُوا : لَا وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ ذَلِكَ ; نَحْنُ أَكْثَرُ عَدَدًا وَعُدَدًا , وَهُمْ فِي ضِيقٍ مِنَ الْحَالِ , وَقَدْ حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ وَذَلُّوا لَنَا , وَاللَّهِ لَا نُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا .
ثُمَّ جَدَّدُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ثَانِيَةً , وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ كُلُّهُمْ .
فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَمَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ الْخَبَرُ قَالَا لِلْحَجَّاجِ : شَأْنُكَ بِهِمْ إِذًا , فَنَحْنُ فِي طَاعَتِكَ كَمَا أَمَرَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ . فَكَانَا إِذَا لَقِيَاهُ سَلَّمَا عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ , وَيُسَلِّمُ هُوَ أَيْضًا عَلَيْهِمْ بِالْإِمْرَةِ
وَتَوَلَّى الْحَجَّاجُ أَمْرَ الْحَرْبِ وَتَدْبِيرَهَا كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ , فَعِنْدَ ذَلِكَ بَرَزَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْقِتَالِ وَالْحَرْبِ ,
فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سُلَيْمَانَ الْكَلْبِيَّ , وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عُمَارَةَ بْنَ تَمِيمٍ اللَّخْمِيَّ , وَعَلَى الْخَيْلِ سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ , وَعَلَى الرَّجَّالَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَبِيبٍ الْحَكَمِيَّ ,
وَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ عَلَى مَيْمَنَتِهِ الْحَجَّاجَ بْنَ حَارِثَةَ الْخَثْعَمِيَّ , وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ التَّمِيمِيَّ , وَعَلَى الْخَيَّالَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ , وَعَلَى الرَّجَّالَةِ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ الزُّهْرِيَّ , وَكَانَ فِي الْقُرَّاءِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ , وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ , وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى , وَكُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ - وَكَانَ شُجَاعًا فَاتِكًا عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ - وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ وَغَيْرُهُمْ .
وَجَعَلُوا يَقْتَتِلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ , وَأَهْلُ الْعِرَاقِ تَأْتِيهِمُ الْمِيرَةُ ( الطعام ) مِنَ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ , مِنَ الْعَلَفِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِ , وَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ الَّذِينَ مَعَ الْحَجَّاجِ فَفِي ضِيقٍ مِنَ الْعَيْشِ , وَقِلَّةٍ مِنَ الطَّعَامِ , وَقَدْ فَقَدُوا اللَّحْمَ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَجِدُونَهُ
وَمَا زَالَتِ الْحَرْبُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا , حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ وَقِتَالِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ , أَوْ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ , وَالدَّائِرَةُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ .
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ
========
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالنَّاسُ مُتَوَاقِفُونَ لِقِتَالِ الْحَجَّاجِ وَأَصْحَابِهِ بِدَيْرِ قُرَّةَ , وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابُهُ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ , وَالْمُبَارَزَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَاقِعَةٌ , وَفِي غَالِبِ الْأَيَّامِ تَكُونُ النُّصْرَةُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ , حَتَّى قِيلَ : إِنَّ أَصْحَابَ ابْنِ الْأَشْعَثِ - وَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ - كَسَرُوا أَهْلَ الشَّامِ - وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ - بِضْعًا وَثَمَانِينَ مَرَّةً يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ .
وَمَعَ هَذَا ، فَالْحَجَّاجُ ثَابِتٌ فِي مَكَانِهِ صَابِرٌ وَمُصَابِرٌ , لَا يَتَزَحْزَحُ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ , بَلْ إِذَا حَصَلَ لَهُ ظَفَرٌ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ يَتَقَدَّمُ بِجَيْشِهِ إِلَى نَحْرِ عَدُّوِهِ , وَكَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالْحَرْبِ , وَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُمْ حَتَّى أَمَرَ بِالْحَمْلَةِ عَلَى كَتِيبَةِ الْقُرَّاءِ ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا تَبَعًا لَهُمْ , وَهُمُ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ , وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِهِمْ
فَصَبَرَ الْقُرَّاءُ لِحَمْلَةِ جَيْشِهِ
ثُمَّ جَمَعَ الْحَجَّاجُ الرُّمَاةَ مِنْ جَيْشِهِ وَحَمَلَ بِهِمْ , وَمَا انْفَكَّ حَتَّى قَتلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا , ثُمَّ حَمَلَ عَلَى جَيْشِ ابْنِ الْأَشْعَثِ
فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَذَهَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ
وَهَرَبَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ , وَمَعَهُ فَلٌّ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ ,
فَأَتْبَعُهُ الْحَجَّاجُ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ عِمَارَةَ بْنِ تَمِيمٍ اللَّخْمِيِّ , وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ , وَالْإِمْرَةُ لِعِمَارَةَ
فَسَاقُوا وَرَاءَهُمْ يَطْرُدُونَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَظْفَرُونَ بِهِ قَتْلًا أَوْ أَسْرًا
فَمَا زَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يَسُوقُ وَيَخْتَرِقُ الْأَقَالِيمَ وَالْكُورَ وَالرَّسَاتِيقَ , وَهُمْ فِي أَثَرِهِ , حَتَّى وَصَلَ إِلَى كَرْمَانَ ، وَاتَّبَعَهُ الشَّامِيُّونَ
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ قصد إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ , وَمَرَّ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ عَلَى عَامِلٍ لَهُ فِي مَدِينَةِ بُسْتَ , كَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيها عِنْدَ رُجُوعِهِ إِلَى الْعِرَاقِ
فَأَكْرَمَهُ ذَلِكَ الْعَامِلُ , وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا وَأَنْزَلَهُ ، فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً بِهِ وَمَكْرًا , وَقَالَ لَهُ : ادْخُلْ إِلَى عِنْدِي إِلَى الْبَلَدِ لِتَتَحَصَّنَ بِهَا مِنْ عَدُوِّكَ , وَلَكِنْ لَا تَدَعْ أَحَدًا مِمَّنْ مَعَكَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ .
فَأَجَابَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى ذَلِكَ
وَإِنَّمَا أَرَادَ العاملُ الْمَكْرَ بِهِ فَمَنْعَهُ أَصْحَابُهُ
فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ ابْنُ الْأَشْعَثِ فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ
فَلَمَّا دَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ الْمَدِينَةَ ، وَثَبَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ فَمَسَكَهُ وَأَوْثَقَهُ بِالْحَدِيدِ , وَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ بِهِ يَدًا عِنْدَ الْحَجَّاجِ
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ رُتْبِيلَ سُرَّ بِقُدُومِ ابْنِ الْأَشْعَثِ , فَلَمَّا بَلَغَهُ مَا حَدَثَ لَهُ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْعَامِلِ , سَارَ حَتَّى أَحَاطَ بِبُسْتَ , وَأَرْسَلَ إِلَى عَامِلِهَا يَقُولُ لَهُ : وَاللَّهِ لَئِنْ آذَيْتَ ابْنَ الْأَشْعَثِ ، لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَسَتَنْزِلَكَ , وَأَقْتُلَ جَمِيعَ مَنْ فِي بَلَدِكَ .
فَخَافَهُ ذَلِكَ الْعَامِلُ , وَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنَ الْأَشْعَثِ , فَأَكْرَمَهُ رُتْبِيلُ , وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ , وَأَمَّنَهُ وَعَظَّمَهُ . ( رتبيل يريد ابن الأشعث ليساوم به الحجاج ، وليس محبةً في ابن الأشعث )
فَقَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ لرُتْبِيلَ : إِنَّ هَذَا الْعَامِلَ كَانَ عَامِلِي وَمِنْ جِهَتِي , فَغَدَرَ بِي , وَفَعَلَ مَا رَأَيْتَ ، فَأْذَنْ لِي فِي قَتْلِهِ .
فَقَالَ رُتْبِيلُ : قَدْ أَمَّنْتُهُ .
وَكَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ هُنَالِكَ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ
ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْفَلِّ الَّذِينَ هَرَبُوا مِنَ الْحَجَّاجِ اجْتَمَعُوا وَسَارُوا وَرَاءَ ابْنِ الْأَشْعَثِ لِيُدْرِكُوهُ فَيَكُونُوا مَعَهُ , وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا , فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى سِجِسْتَانَ ، وَجَدُوا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ دَخَلَ إِلَى عِنْدِ رُتْبِيلَ ، فَتَغَلَّبُوا عَلَى سِجِسْتَانَ , وَعَذَّبُوا عَامِلَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ الْبِعَارَ وَإِخْوَتَهُ وَقَرَائِبَهُ , وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ , وَانْتَشَرُوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَأَخَذُوهَا , ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ : أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى نَكُونَ مَعَكَ ; نَنْصُرُكَ عَلَى مَنْ يُخَالِفُكَ , وَنَأْخُذُ بِلَادَ خُرَاسَانَ , فَإِنَّ بِهَا جُنْدًا عَظِيمًا مِنَّا , فَنَكُونُ بِهَا حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ أَوْ عَبْدَ الْمَلِكِ , فَنَرَى بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْنَا
فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ , وَسَارَ بِهِمْ قَلِيلًا إِلَى نَحْوِ خُرَاسَانَ
فَاعْتَزَلَهُ شِرْذِمَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ
فَقَامَ فِيهِمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ خَطِيبًا , فَذَكَرَ غَدْرَهُمْ وَنُكُولَهُمْ عَنِ الْحَرْبِ , وَقَالَ : لَا حَاجَةَ لِي بِكُمْ , وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى صَاحِبِي رُتْبِيلَ فَأَكُونُ عِنْدَهُ , ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ
وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ , وَبَقِيَ مُعْظَمُ الْجَيْشِ
فَلَمَّا انْفَصَلَ عَنْهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بَايَعُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ الْهَاشِمِيَّ , وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى خُرَاسَانَ
فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ لِيَمْنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ بِلَادِهِ , وَكَتَبَ يَزِيدُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَهُ : إِنَّ فِي الْبِلَادِ مُتَّسَعًا , فَاذْهَبْ إِلَى أَرْضٍ لَيْسَ بِهَا سُلْطَانٌ , فَإِنِّي أَكْرَهُ قِتَالَكَ , وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالًا بَعَثْتُ إِلَيْكَ .
فَقَالَ لَهُ : إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ , وَإِنَّمَا جِئْنَا نَسْتَرِيحُ وَنُرِيحُ خَيْلَنَا , ثُمَّ نَذْهَبُ , وَلَيْسَتْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى حَاجَةٍ مِمَّا عَرَضْتَ , ثُمَّ أَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ مِمَّا حَوْلُهُ مِنَ الْبِلَادِ مِنْ كُورِ خُرَاسَانَ
فَخَرَجَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَمَعَهُ أَخُوهُ الْمُفَضَّلُ فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ , فَلَمَّا صَادَفُوهُمُ اقْتَتَلُوا غَيْرَ كَثِيرٍ , ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسٍ , وَقَتَلَ يَزِيدُ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً , وَأَسَرَ مِنْهُمْ أَسْرَى كَثِيرَةً , وَاحْتَازَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ , وَبَعَثَ بِالْأُسَارَى - وَفِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ - إِلَى الْحَجَّاجِ .
وَلَمَّا قَدِمَتِ الْأُسَارَى عَلَى الْحَجَّاجِ قَتَلَ أَكْثَرَهُمْ , وَعَفَا عَنْ بَعْضِهِمْ .
كَيْفِيَّةِ دُخُولِ الْحَجَّاجِ الْكُوفَةَ
-----------------
عَنْ عَاصِمٍ قَالَ : خَطَبَ الْحَجَّاجُ أَهْلَ الْعِرَاقِ بَعْدَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فَقَالَ : يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ , إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدِ اسْتَبْطَنَكُمْ , فَخَالَطَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ وَالْعَصَبَ وَالْمَسَامِعَ وَالْأَطْرَافَ ، ثُمَّ أَفْضَى إِلَى الْأَسْمَاخِ وَالْأَمْخَاخِ وَالْأَشْبَاحِ وَالْأَرْوَاحِ , ثُمَّ ارْتَفَعَ فَعَشَّشَ , ثُمَّ بَاضَ وَفَرَّخَ , ثُمَّ دَبَّ وَدَرَجَ , فَحَشَاكُمْ نِفَاقًا وَشِقَاقًا , وَأَشْعَرَكُمْ خِلَافًا , اتَّخَذْتُمُوهُ دَلِيلًا تَتَّبِعُونَهُ , وَقَائِدًا تُطِيعُونَهُ , وَمُؤَامِرًا تُشَاوِرُونَهُ وَتَسْتَأْمِرُونَهُ , فَكَيْفَ تَنْفَعُكُمْ تَجْرِبَةٌ أَوْ يَنْفَعُكُمْ بَيَانٌ ؟ , أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حَيْثُ رُمْتُمُ الْمَكْرَ وَأَجْمَعْتُمْ عَلَى الْكُفْرِ , وَظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يَخْذُلُ دِينَهُ وَخِلَافَتَهُ ؟ , وَأَنَا أَرْمِيكُمْ بِطَرْفِي وَأَنْتُمْ تَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا , وَتَنْهَزِمُونَ سِرَاعًا .
يَوْمُ الزَّاوِيَةِ وَمَا يَوْمُ الزَّاوِيَةِ ؟ , مِمَّا كَانَ مِنْ فَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ وَتَخَاذُلِكُمْ , وَبَرَاءَةِ اللَّهِ مِنْكُمْ , وَنُكُوسِ قُلُوبِكُمْ ; إِذْ وَلَّيْتُمْ كَالْإِبِلِ الشَّارِدَةِ عَنْ أَوْطَانِهَا النَّوَازِعِ , لَا يَسْأَلُ الْمَرْءُ عَنْ أَخِيهِ , وَلَا يَلْوِي الشَّيْخُ عَلَى بَنِيهِ , حِينَ عَضَّكُمُ السِّلَاحُ , وَنَخَسَتْكُمُ الرِّمَاحُ .
يَوْمُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ , وَمَا يَوْمُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ ! بِهَا كَانَتِ الْمَعَارِكُ وَالْمَلَاحِمُ , بِضَرْبٍ يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ , وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ ,
يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ , يَا أَهْلَ الْكَفَرَاتِ بَعْدَ الْفَجَرَاتِ , وَالْغَدَرَاتِ بَعْدَ الْخَتَرَاتِ , وَالنَّزْوَةِ بَعْدَ النَّزَوَاتِ , إِنْ بَعَثْنَاكُمْ إِلَى ثُغُورِكُمْ ، غَلَلْتُمْ وَخُنْتُمْ , وَإِنْ أَمِنْتُمْ أَرَجَفْتُمْ , وَإِنْ خِفْتُمْ نَافَقْتُمْ , لَا تَذْكُرُونَ نِعْمَةً ، وَلَا تَشْكُرُونَ مَعْرُوفًا , هَلِ اسْتَخَفَّكُمْ نَاكِثٌ , أَوِ اسْتَغْوَاكُمْ غَاوٍ , أَوِ اسْتَنْقَذَكُمْ عَاصٍ , أَوِ اسْتَنْصَرَكُمْ ظَالِمٌ , أَوِ اسْتَعْضَدَكُمْ خَالِعٌ إِلَّا لَبَّيْتُمْ دَعْوَتَهُ ؟ , وَأَجَبْتُمْ صَيْحَتَهُ ؟ , وَنَفَرْتُمْ إِلَيْهِ خِفَافًا وَثِقَالًا , وَفُرْسَانًا وَرِجَالًا ؟
يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ , هَلْ شَغَبَ شَاغِبٌ , أَوْ نَعَبَ نَاعِبٌ , أَوْ زَفَرَ زَافِرٌ إِلَّا كُنْتُمْ أَتْبَاعَهُ وَأَنْصَارَهُ ؟
يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ , أَلَمْ تَنْفَعْكُمُ الْمَوَاعِظُ ؟ , أَلَمْ تَزْجُرْكُمُ الْوَقَائِعُ ؟ , أَلَمْ يُشَدِّدِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَطْأَتَهُ , وَيُذِقْكُمْ حَرَّ سَيْفِهِ ؟ , وَأَلِيمَ بَأْسِهِ وَمَثُلَاتِهِ ؟
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ : يَا أَهْلَ الشَّامِ , إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ كَالظَّلِيمِ الرَّامِحِ عَنْ فِرَاخِهِ , يَنْفِي عَنْهَا الْقَذَرَ , وَيُبَاعِدُ عَنْهَا الْحَجَرَ , وَيُكِنُّهَا مِنَ الْمَطَرِ , وَيَحْمِيهَا مِنَ الضِّبَابِ , وَيَحْرُسُهَا مِنَ الذُّبَابِ .
يَا أَهْلَ الشَّامِ , أَنْتُمْ الْجُنَّةُ وَالرِّدَاءُ , وَأَنْتُمُ الْمُلَاءَةُ وَالْحِذَاءُ , أَنْتُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَنْصَارُ , وَالشِّعَارُ وَالدِّثَارُ , بِكُمْ يُذَبُّ عَنِ الْبَيْعَةِ وَالْحَوْزَةِ , وَبِكُمْ تُرْمَى كَتَائِبُ الْأَعْدَاءِ , وَيُهْزَمُ مَنْ عَانَدَ وَتَوَلَّى .
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ يَوْمَ ظَهَرَ عَلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ نَادَى مُنَادِيهِ فِي النَّاسِ : مَنْ رَجَعَ فَهُوَ آمِنٌ , وَمَنْ لَحِقَ بِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ بِالرَّيِّ فَهُوَ آمِنٌ
فَلَحِقَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ
فَأَمَّنَهُمُ الْحَجَّاجُ , وَمَنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ، شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِهِمْ , فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا , حَتَّى كَانَ آخِرَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ .
وَكَانَ الشَّعْبِيُّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَارَ إِلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ , فَذَكَرَهُ يَوْمًا الْحَجَّاجُ
فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ سَارَ إِلَى قُتَيْبَةَ .
فَكَتَبَ إِلَيْهِ : أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِالشَّعْبِيِّ .
قَالَ الشَّعْبِيُّ : فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ , ثُمَّ قُلْتُ : أَيُّهَا الْأَمِيرُ , إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَمَرُونِي أَنْ أَعْتَذِرَ إِلَيْكَ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ الْحَقُّ , وَايْمُ اللَّهِ لَا أَقُولُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا الْحَقَّ , قَدْ وَاللَّهِ تَمَرَّدْنَا عَلَيْكَ , وَحَرَّضْنَا وَجَهَدْنَا كُلَّ الْجَهْدِ فَمَا آلَوْنَا , فَمَا كُنَّا بِالْأَقْوِيَاءِ الْفَجَرَةِ , وَلَا بِالْأَتْقِيَاءِ الْبَرَرَةِ , وَلَقَدْ نَصَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا , وَأَظْفَرَكَ بِنَا , فَإِنْ سَطَوْتَ فَبِذُنُوبِنَا وَمَا جَرَّتْ إِلَيْكَ أَيْدِينَا , وَإِنْ عَفَوْتَ عَنَّا فَبِحِلْمِكَ , وَبَعْدُ فَالْحُجَّةُ لَكَ عَلَيْنَا .
فَقَالَ الْحَجَّاجُ : أَنْتَ وَاللَّهِ يَا شَعْبِيُّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّنْ يَدْخُلُ عَلَيْنَا يَقْطُرُ سَيْفُهُ مِنْ دِمَائِنَا , ثُمَّ يَقُولُ : مَا فَعَلْتُ وَلَا شَهِدْتُ , قَدْ أَمِنْتَ عِنْدَنَا يَا شَعْبِيُّ .
قَالَ : فَانْصَرَفْتُ , فَلَمَّا مَشَيْتُ قَلِيلًا قَالَ : هَلُمَّ يَا شَعْبِيُّ .
قَالَ : فَوَجَلَ لِذَلِكَ قَلْبِي , ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ : قَدْ أَمِنْتَ يَا شَعْبِيُّ , فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسِي .
فَقَالَ : كَيْفَ وَجَدْتَ النَّاسَ بَعْدَنَا يَا شَعْبِيُّ ؟
قَالَ الشَّعْبِيُّ - وَكَانَ الْحَجَّاجُ لِي مُكْرِمًا - فَقُلْتُ : أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ , قَدِ اكْتَحَلْتُ بَعْدَكَ السَّهَرَ , وَاسْتَوْعَرْتُ السُّهُولَةَ , وَاسْتَوْخَمْتُ الْجَنَابَ , وَاسْتَحْلَسْتُ الْخَوْفَ , وَاسْتَحْلَيْتُ الْهَمَّ , وَفَقَدْتُ صَالِحَ الْإِخْوَانِ , وَلَمْ أَجِدْ مِنَ الْأَمِيرِ خَلَفًا .
قَالَ : انْصَرِفْ يَا شَعْبِيُّ .
فَانْصَرَفْتُ .
ثُمَّ سَارَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْكُوفَةِ فَدَخَلَهَا , فَجَعَلَ لَا يُبَايِعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا قَالَ : أَتَشْهَدُ عَلَى نَفْسِكَ أَنَّكَ قَدْ كَفَرْتَ ؟ .
فَإِذَا قَالَ : نَعَمْ . بَايَعَهُ , وَإِنْ أَبَى قَتَلَهُ , فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا , مِمَّنْ أَبَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ .
فَأُتِيَ بِرَجُلٍ , فَقَالَ الْحَجَّاجُ : مَا أَظُنُّ هَذَا يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ ; لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ , وَأَرَادَ الْحَجَّاجُ مُخَادَعَتَهُ
فَقَالَ : أَخَادِعِي أَنْتَ عَنْ نَفْسِي ؟ , أَنَا أَكْفَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ , وَأَكْفَرُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَنَمْرَودَ .
فَضَحِكَ الْحَجَّاجُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ .
ثُمَّ شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ , فَقَتَلَهُمْ مَثْنَى وَفُرَادَى , حَتَّى قِيلَ : إِنَّهُ قَتَلَ مِنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا مِائَةَ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا . قَالَهُ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ . مِنْهُمْ : مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ , وَجَمَاعَاتٌ مِنَ السَّادَاتِ , حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ