"الملاك": ماذا قدم أشرف مروان لإسرائيل قبل حرب أكتوبر؟
في أغسطس الماضي، قبل شهرين على الذكرى السنوية لحرب السادس من أكتوبر 1973 التي تحل علينا اليوم، صدرت أخيراً الترجمة الإنجليزية التي طال انتظارها لكتاب "الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل" عن دار نشر هاربر في الولايات المتحدة. وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية توالت المقالات والعروض للكتاب الإسرائيلي الذي يتناول قصة حياة وموت أشرف مروان، "أهم جاسوس في تاريخ الشرق الأوسط" كما يوصف دائما، والذي لم تنقشع بعد هالة الغموض والفضول بشأنه رغم مرور تسع سنوات على سقوطه من شرفة منزله في لندن ليلقى حتفه في يوم 27 يونيو 2007.
الكتاب، الذي نشر بالعبرية تحت عنوان Hamal’ach ليس بالطبع الأول من نوعه، فقد صدرت قبله عدة كتب في إسرائيل ومصر قبيل وبعد مصرع مروان. لكن ما يميز "الملاك" هو أن كاتبه ليس أكاديميا أو مؤرخا أو صحفيا كحال مؤلفي الكتب السابقة. صحيح أن مؤلف "الملاك" أوري بار-جوزيف، يعمل حاليا أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة حيفا، لكن الأهم هو أنه خدم على مدى 15 عاما كضابط في جهاز المخابرات العسكرية بالجيش الإسرائيلي، وتحديداً كمحلل استخبارات بوحدة الأبحاث بالجهاز.
في عام 1998 تم تكليف بار-جوزيف من قبل المخابرات العسكرية –كان وقتها ضابط احتياط بالجيش الإسرائيلي- بإعداد دراسة حول أسباب الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في التنبؤ بموعد اندلاع حرب 73 وبالتالي في تجهيز الجيش للتصدي لها. لم تنشر الدراسة أبداً نظراً لخضوعها لتصنيف "سري للغاية"، لكنها أتاحت لمؤلف كتابنا الاطلاع على المئات من التقارير التي حوت كافة المعلومات التي توافرت لأجهزة المخابرات الإسرائيلية المتعددة في السنوات السابقة على اندلاع الحرب، ومن بينها التقارير التي كان يرسلها منذ 1970 عميل سري لجهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد"، وحملت اسمه الكودي Khotel. كان هذا العميل- كما انكشف بعد سنوات قليلة من إعداد الدراسة- هو أشرف مروان، زوج ابنة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، ولاحقاً مدير مكتب خليفته أنور السادات.
"اليوم، تقبع الوثائق التي سلمها مروان لإسرائيل في أربعة صناديق ضخمة للغاية في أرشيف الموساد. وإلى جانب الوثائق وترجمتها العبرية، فإن في الصناديق أيضاً تفريغ لانطباعاته التي قدمها شفهيا، والتي يطلق عليها "تقييمات المصدر". تغطي هذه الأوراق طيفاً واسعاً من المواضيع، بعضها قليل الأهمية نسبيا، مثل التعيينات الحكومية الوشيكة، وتقييم السادات للتحديات الاقتصادية التي تواجه بلاده، وإعادة هيكلة جهاز الشرطة وقوات الأمن الداخلي، وغيرها من القضايا الداخلية...غير أن أكثر المواد أهمية كان حول الشأن العسكري".
أتاح تكليف بار-جوزيف بإعداد دراسة المخابرات العسكرية فرصة غير مسبوقة له للاطلاع على وثائق ما زالت تخضع لحظر النشر من قبل رقباء الجيش الإسرائيلي. لكنه استعمل ما استطاع الحصول عليه من معلومات، وما أمكن له من الناحية القانونية استعماله، من أجل تأليف كتاب سابق بعنوان "حين سقط جندي المراقبة في النوم" (The Watchman Fell Asleep) صدرت ترجمته الإنجليزية عام 2005، والذي أصبح أحد أهم المراجع حول أسباب ومظاهر ونتائج الفشل المخابراتي الإسرائيلي الذي أدى للمفاجأة المذهلة في ظهر السادس من أكتوبر وكاد أن يؤدي للقضاء الكامل على دولة إسرائيل، لولا التدخل الأمريكي إلى جانبها والذي مكنها من تغيير النتائج ميدانيا في غضون شهر.
في كتابه الجديد حول أشرف مروان لا يبتعد بار-جوزيف كثيراً عن موضوع وخلاصة "حين سقط جندي المراقبة في النوم". فمن خلال البحث التفصيلي الدقيق في حياة وعمل ومصرع مروان، على مدى قرابة 350 صفحة، يسعى المؤلف والضابط السابق والأكاديمي الحالي للوصول إلى نفس الخلاصة، وينجح إلى حد كبير في إثباتها وإقناع القارئ بها:
"إن التحقيق في سبب الفشل الاستخباراتي الهائل لإسرائيل في الأيام السابقة على حرب يوم الغفران يؤدي إلى حقيقة واضحة: لم يكن السبب هو غياب المعلومات الدقيقة، بل كان رفض جهاز المخابرات العسكرية التخلي عن [النظرية السائدة وقتها] حتى بعد أن تجاوزتها التطورات بشكل واضح وقاطع. فبفضل مروان كان الإسرائيليون يفهمون بدقة حتى أكتوبر 1972 كيف يرى المصريون كلا من ضرورة شن الحرب والشروط اللازمة لشنها. غير أنه في غضون ذلك الوقت تغير رأي السادات ليقرر أن يذهب للحرب دون انتظار وصول الأسلحة التي سيحتاجها للانتصار في الحرب. قام أشرف مروان- كما سنرى لاحقاً بإبلاغ إسرائيل بإخلاص بهذا التغير. لكن المخابرات العسكرية فشلت في تعديل تقييمها وفقا لتقريره. كان هذا، وهذا فقط، ما أدى لفشل إسرائيل في أن تكون جاهزة حين اندلعت الحرب".
وبسبب ذلك الموقع الفريد والموقف المعلن لمؤلف "الملاك"، فإنه يقدم لنا هنا أول دراسة حول فترة عمل مروان لصالح الموساد استناداً ليس فقط لما اطلع عليه من وثائق وتقارير، وإنما أيضاً لعدد من المقابلات الحصرية مع ضباط المخابرات الذين تولوا مسؤولية "إدارة" الجاسوس المصري في السبعينيات، والذين أصبح بإمكانهم الآن رواية جزء كبير من وقائع ما شهدوه بعد أن تم تسريب اسم مروان الحقيقي في إسرائيل في عام 2002 (في ظروف سنتطرق لها لاحقا في هذه السلسلة) وبعد أن لقي مصرعه في 2007.
على رأس هذه المصادر التي وافقت على الحديث لمؤلف "الملاك" كل من تسفي زامير، رئيس الموساد في الفترة من 1968 إلى 1974، وأرييه شاليف، مدير وحدة الأبحاث بالمخابرات العسكرية في الفترة من 1967 وحتى 1974، وربما المصدر الأهم، مائير مائير، رئيس الفرع السادس في وحدة الأبحاث وهو الفرع المخصص لمصر في الفترة 1969-1972، والذي تولى التعامل مع مروان كممثل عن المخابرات العسكرية إلى جانب الموساد، وشارك في أغلب اللقاءات مع الأخير في لندن وغيرها من العواصم الأوروبية طوال فترة عمل مروان مع مخابرات إسرائيل.
هل كان مروان جاسوسا لإسرائيل أم عميلا مزدوجاً استخدمه السادات في تمرير معلومات مضللة للإسرائيليين و"رجلا وطنيا بحق" كما وصفه حسني مبارك بعد مصرعه؟ من أجل الإجابة عن هذا السؤال سنستعرض في الحلقة المقبلة طبيعة المعلومات والوثائق التي سلمها مروان لإسرائيل عبر أعوام من تعامله مع أجهزتها، وتحديدا على مدار عام 1973 وصولا لحرب أكتوبر، وبهذا سيتمكن القارئ وحده من الوصول للإجابة.
تفاصيل الاجتماعات الأولى لأشرف مروان مع الموساد
كان أشرف مروان في السادسة والعشرين من عمره حين تواصل للمرة الأولى مع السفارة الإسرائيلية في لندن ليعرض خدماته في صيف عام 1970. كان مهندساً كيميائياً وضابطاً بالجيش المصري وزوجاً لابنة رئيس الجمهورية والزعيم العربي الأوحد وقتها جمال عبد الناصر، وموظفاً بمكتب الرئيس للمعلومات برئاسة سامي شرف.
قبل صدور كتاب "الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل"، الذي تتناوله هذه السلسلة، كانت الرواية الشائعة تحدد ربيع عام 1969 كتاريخ للتواصل الأول بين مروان والإسرائيليين. أطلق تلك الرواية للمرة الأولى المؤرخ هوارد بلوم في كتابه " «عشية الدمار.. القصة الخفية لحرب يوم الغفران» الصادر عام 2003 (أي قبل الكشف عن اسم مروان وهويته في إسرائيل). وفقاً لرواية بلوم فقد زار مروان لندن بدعوى إجراء فحص على معدته، ولكنه اختار لذلك عيادة طبيب في شارع هارلي كانت العيادة نفسها التي استخدمت كغطاء في السابق لمقابلة سرية بين الملك حسين عاهل الأردن الراحل والمدير العام لمكتب جولد مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية. وتمضي الرواية لتقول إن مروان سلم الطبيب ملفاً بالأشعة على معدته وبصحبته ظرف مليء بالوثائق المصرية الحكومية، وطلب منه توصيله إلى السفارة الإسرائيلية في لندن. وبعد ثلاثة أيام تواصل ضابط بالموساد مع مروان بينما كان يتجول في متجر هارودز، لتبدأ العلاقة بين الطرفين.
لكن كتاب "الملاك"-الذي يستند إلى مقابلات مع المسئولين عن "إدارة" العميل أشرف مروان من ضباط الموساد والمخابرات العسكرية الإسرائيلية، فضلاً عن استعراض الوثائق التي قدمها مروان لإسرائيل عبر سنوات طويلة- يقدم رواية مخالفة، بعد أن أصبح من الممكن الحديث صراحة عن مروان بسبب انكشاف هويته ثم مقتله في صيف 2007.
يقول كاتبنا أوري بار-جوزيف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة حيفا، والضابط السابق بجهاز المخابرات العسكرية بالجيش الإسرائيلي، إن مروان كان في زيارة للندن في صيف 1970 لمتابعة دراسته للحصول على الماجستير في الكيمياء، حين اتصل بالسفارة الإسرائيلية وترك رسالة ذكر فيها اسمه وطلب التواصل مع ضابط المخابرات بالسفارة.
ما يهمنا هنا هو أن كلتا الروايتين (وإن كانت رواية بار-جوزيف تستند لمصادر أكثر قوة ورسمية من رواية بلوم) تتفقان على أن اتصال مروان بالموساد للمرة الأولى قد جرى في نهاية عهد عبد الناصر وليس بعد تولي السادات للحكم مع وفاة ناصر في سبتمبر 1970. ستتخذ هذه التفصيلة التاريخية أهمية لاحقاً في ضوء محاولات مروان وأسرته وبعض الكتاب المصريين التأكيد، بعد أكثر من ثلاثة عقود، على أن مروان كان يتواصل مع الإسرائيليين بتكليف من السادات لتغذيتهم بمعلومات خاطئة في إطار عملية للخداع الاستراتيجي كان مروان يلعب فيها دور عميل مزدوج. ليس هناك -حتى الآن- أي دليل أو حتى قرينة تثبت أن اتصال مروان بالموساد للمرة الأولى قد تم في عهد السادات أو تنفي أن ذلك الاتصال الأول قد تم في نهاية حكم عبد الناصر وقبيل وفاته.
على أي حال فإن ما يهمنا هنا ـكما جاء في المقال السابق- هو استعراض طبيعة المعلومات والوثائق التي سلمها مروان لإسرائيل عبر أعوام من تعامله مع الموساد، بحسب الوثائق والتقارير غير المنشورة التي اطلع عليها بار-جوزيف إبان تكليفه بإعداد دراسة للمخابرات العسكرية حول أسباب الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في التنبؤ بموعد اندلاع حرب أكتوبر، وبحسب المعلومات التي استكملها لاحقاً من مصادر مباشرة قررت أن تتحدث عن الأمر بعد مصرع مروان.
بعد الرسالة الهاتفية التي كان قد تركها لدى السفارة الإسرائيلية بالعاصمة البريطانية، انعقد الاجتماع الأول بين مروان والموساد أثناء زيارته اللاحقة إلى لندن في شهر ديسمبر من عام 1970. كانت حرب الاستنزاف قد انتهت رسمياً في أغسطس وكان عبد الناصر قد فارق الحياة في سبتمبر. وقع اختيار الإسرائيليين على الرجل الثاني في مكتب الموساد بلندن ليلتقي بمروان بسبب إجادته للغة العربية نظراً لمولده في فلسطين التي هاجرت أسرته اليهودية إليها في مطلع القرن العشرين (لم يكن لدى الإسرائيليين علم قبل اللقاء بمدى إجادة مروان للإنجليزية).
قدم الرجل نفسه لمروان باسم "أليكس"، ولكننا نعلم الآن أن اسمه الحقيقي هو "دوبي Dubi" بينما لا يزال اسم عائلته سراً رسمياً في إسرائيل، ولم يكشف الرجل عن هويته أو يتحدث للإعلام حتى هذه اللحظة. سيظل دوبي مسؤولاً عن إدارة "الملاك" حتى انتهاء علاقة الأخير بالموساد في نهاية التسعينيات.
خلال ذلك اللقاء الأول -الذي جرى بغرفة بأحد الفنادق الكبرى بوسط لندن- كان مروان مستعداً لإثبات مصداقيته وأهمية المعلومات التي يتاح له الاطلاع عليها كموظف بمكتب رئيس الجمهورية. بعد وقت من بدء الاجتماع أخرج مروان من حقيبته عدة صفحات مكتوبة بخط اليد وأخبر دوبي أنه يسلمها له "على سبيل مقدم تحت الحساب" وأنها "أوراق تحمل أهمية خاصة لإسرائيل".
كانت تلك الأوراق الأولى هي مذكرة تحمل عنوان "سري للغاية" وتشرح تفاصيل ما يسمى "نظام المعركة" Order of Battle للجيش المصري بأكمله: تفاصيل الوحدات المقاتلة، ومواقعها، وقادتها، والأسلحة المتوفرة لكل منها. ويبدو أن مروان نجح بهذه الدفعة الأولى في انتزاع ثقة الإسرائيليين، حيث ينقل الكتاب عن شموئيل جورين، مدير عمليات الموساد في أوروبا في الفترة من 1968 وحتى 1974، أنه بعد انتهائه من قراءة المذكرة قال: "مادة كهذه من مصدر كهذا—إنه شيء لا يحدث إلا مرة واحدة كل ألف عام".
في ضوء الطبيعة العسكرية للمعلومات التي قدمها مروان في اللقاء الأول قررت القيادات الأمنية والسياسية في تل أبيب ضرورة أن يضم الاجتماع التالي خبيراً عسكريًا إلى جانب دوبي من الموساد، من ناحية ليطرح عليه الأسئلة الصحيحة ومن ناحية أخرى لكي يتأكد من دقة المعلومات التي يقدمها ويستكشف أي إشارات حول كون الأمر بجملته فخاً لإسرائيل.
وقع الاختيار على المقدم مائير مائير، رئيس الفرع السادس (مصر) في وحدة الأبحاث بالمخابرات العسكرية في الفترة من 1969-1972، وهو أحد المصادر الأساسية للمعلومات الواردة في الكتاب نظراً لمشاركته في أغلب اللقاءات مع مروان في لندن وغيرها من العواصم الأوروبية خلال العامين الأولين من التعامل مع الأخير.
انعقد الاجتماع الثاني في لندن في أبريل 1971، واستغرق ثلاث ساعات كاملة دار أغلبها حول النوايا المصرية لشن حرب لاستعادة سيناء المحتلة في حرب 1967 وقدم فيها مروان -بحسب الكتاب- كل ما استطاع أن يجيب عليه من أسئلة مائير حول الخطط المصرية الأولية لعبور قناة السويس وتحييد الطيران الإسرائيلي في سيناء بصواريخ أرض-أرض وطلب مصر الحصول على طائرات روسية متقدمة لتوفير مظلة جوية لقوات العبور في ظل تفوق السلاح الجوي الإسرائيلي. ولما أدرك مائير أن عدداً من أسئلته بقيت بلا إجابة لأن مروان لم يكن مطلعاً على الصورة الكاملة في هذا الوقت، فإنه قدم لمروان تكليفه الأول: عليه أن يحضر في الاجتماع التالي نسخة من خطط الجيش المصري لعبور قناة السويس، وكذلك نسخة من نظام المعركة لكافة تشكيلات القوات المسلحة المصرية.
حين التقى مائير بمروان بعدها في أغسطس 1971 كان وضع الأخير ومكانته قد تغيرا كثيرًا. فقد قام السادات بما أسماه ثورة التصحيح في 15 مايو وأطاح بالكثيرين من رجال عبد الناصر في الحكم، وقام بتصعيد وجوه جديدة لتحل محل "مراكز القوى" القديمة. ولأن مروان وقف إلى جوار السادات في هذه المعركة فقد كوفئ بتصعيده ليحل محل سامي شرف كسكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات وأصبح بالتالي ذراع السادات اليمنى ومدير مكتبه. كان السادات قد أعلن أيضا أن 1971 سيكون "عام الحسم" بين الخيارين الدبلوماسي والعسكري لاستعادة سيناء، وكان الإسرائيليون حريصين على الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات بشأن النوايا المصرية لشن الحرب في ضوء عدم حدوث أي تقدم على المسار الدبلوماسي.
عن الاجتماع الثالث مع مروان يكتب بار-جوزيف في "الملاك": "أخرج [مروان] الوثائق التي أحضرها معه. وأصبح مائير الآن يمسك بين يديه كلا من خطط عبور قناة السويس ونظام المعركة للجيش المصري بأكمله—كان ذلك بالضبط هو ما طلبه. إن كانت لدى مائير أي شكوك في السابق بشأن مروان، فإنها الآن قد زالت".
ووفقاً لمائير مائير فإن الوثيقة الأولى بشأن خطط عبور القنال "وصفت أي قوات ستقوم ببناء الجسور، وأين ستتخذ مواقعها، وأيها ستعبر أولاً وأيها ستتلوها في العبور، والكثير من التفاصيل العملياتية الأخرى… هذه الخطط -كما نعلم الآن- كانت صحيحة بشكل استثنائي، حيث تطابقت فيها المرحلة الأولى حرفياً مع ما حدث في يوم عيد الغفران، السادس من أكتوبر 1973".
أما الوثيقة الثانية فقد تضمنت "هيكل الجيش، وقوائم أسماء القادة، وأرقام الكتائب وأسماء قادتها، والأسلحة المتوفرة لكل كتيبة، وقوائم تفصيلية بالطائرات الحربية لكل سرب من أسراب القوات الجوية وأماكن وجودها، وطائفة واسعة من التفاصيل حول كل وحدة عملياتية بالقوات المسلحة المصرية".
ولأن الإسرائيليين كانت لديهم بالفعل من مصادر أخرى صورة غير مكتملة لبعض المعلومات الواردة في الوثيقة الثانية، فإنهم تمكنوا من مطابقة تلك المعلومات مع نظيرتها الواردة في أصل الوثيقة التي أحضرها مروان. وهكذا، بنهاية الاجتماع الثالث مع "الملاك"، يقول بار-جوزيف إن أية شكوك حول احتمال كون مروان عميلاً مزدوجاً مدسوساً من المصريين ذهبت إلى غير رجعة، وتحول مروان في نظر كل من الموساد والمخابرات العسكرية إلى "أهم جاسوس في تاريخ الشرق الأوسط طوال النصف الثاني من القرن العشرين".
الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل
هذا المقال المُترجم هو قراءة في كتاب جديد صدر مؤخراً، في أغسطس/آب 2016، عن خبير الاستخبارات الإسرائيلي «أوري بار-جوزيف»، بعنوان: «الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل»، والذي يكشف عن أسرار جديدة بخصوص «أشرف مروان».
كان الجاسوس الأفضل على الإطلاق من بين من جندهم الموساد، ورغم ذلك لم يستمع الإسرائيليون إليه، والأسوأ، أن وفاته كانت بسبب الخلافات داخل إسرائيل حول أسباب تجاهل معلوماته. مع العلم، أن إسرائيل لم تكن العميل الوحيد لديه، بل كان يبيع خدماته أيضاً إلى المملكة العربية السعودية.
أشرف مروان، كان صهر الرئيس المصري «جمال عبد الناصر»، ثم صار أحد أهم مستشاري الرئيس أنور السادات. في عام 1970، تواصل مع السفارة الإسرائيلية في لندن، وعرض عليهم العمل لصالح جهاز المخابرات الإسرائيلية. وقد اعتبر الموساد حينها أن مروان سيكون أهم عملائها على الإطلاق، فقد كان رئيس الموساد «تسفي زامير»، يذهب في كثير من الأحيان، لمقابلة مروان بنفسه لاستخلاص المعلومات منه.
كتاب جديد لخبير الاستخبارات الإسرائيلي المخضرم «أوري بار-جوزيف» يحكي قصة «الملاك» – وهو الاسم الرمزي لمروان – بالتفصيل. وهي قصة تجسس على أعلى مستوى.
حيث قام الملاك بتزويد إسرائيل بالخطة المصرية الكاملة للمعركة، من حيث تنظيم القوات المسلحة، والخطط الحربية المصرية لمهاجمة إسرائيل عبر قناة السويس. وكذلك قدّم تفاصيل اجتماعات السادات مع قادة الاتحاد السوفيتي، وتقارير متتابعة بما يصل مصر من شحنات أسلحة سوفيتية.
لكن الخبراء الإسرائيليين في «إدارة الاستخبارات العسكرية»، التي كانت وحدها المسئولة عن إنتاج تقديرات الاستخبارات الوطنية حول ما إذا كانت مصر سوف تذهب إلى الحرب، كانوا على قناعة أن السادات لن يجازف بخوض حرب ضد إسرائيل. فإدارة الاستخبارات كان لديها مفهوم «التخطيط للحرب»، ووفقاً لهذا المفهوم، لم يكن لمصر القدرة على هزيمة إسرائيل بسبب التفوق الجوي الإسرائيلي الساحق، مما يجعل قدوم مصر على الحرب بمثابة انتحار، وبالتالي فإن السادات لن يُحارب.
ولكن الملاك أبلغ إسرائيل في عام 1972 أن السادات بات يدرك أنه ليس لديه خيار سوى الذهاب إلى الحرب، لأن إسرائيل قد أغلقت كافة السبل الدبلوماسية. وعلاوة على ذلك، كان السادات يُخطط لحرب محدودة لكسر الجمود، وليس لحرب شاملة، وبالتالي كان مفهوم الحرب لدى الاستخبارات الإسرائيلية غير دقيق.
في أغسطس/أب 1973، قال مروان لزامير أن السادات كان قد سافر إلى المملكة العربية السعودية للقاء الملك فيصل. وقال السادات لفيصل، في اجتماع جمعهما فقط بجانب مروان، أنه سيهاجم إسرائيل مع سوريا خلال الخريف. ووعد فيصل السادات بأن المملكة سوف تفرض حظراً نفطياً على الولايات المتحدة، إذا ما قامت بفتح خطوط الإمداد إلى إسرائيل. حيث كان حظر النفط هو آخر أسلحة العرب.
قامت إسرائيل باطلاع الإدارة الأمريكية برئاسة نيكسون على تقارير الملاك، ويبدو أن وزير الخارجية «هنري كيسنجر» قد تجاهل التحذير بأن العرب يجهزون لاستخدام سلاح النفط. وقد أظهرت تقارير أخرى أن هذا التحذير لم يكن الوحيد الذي تجاهله كيسنجر.
وفي الوقت ذاته، رفض جنرالات إسرائيل التخلي عن مفهومهم. وعندما بدأت غيوم حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 في التجمع، أصرت إدارة الاستخبارات العسكرية أنه لا يوجد ما يدعو للقلق، وأقنعوا وزير الدفاع «موشيه ديان» أن الحرب ليست وشيكة. حتى عندما بدأ الروس في إجلاء جماعي عاجل لمستشاريهم المدنيين في مصر وسوريا، قال رئيس إدارة الاستخبارات العسكرية «إيلي زعيرا» أنه لا يوجد أي سبب لتوقع حرب قادمة.
قبل يوم واحد من هجوم السادات، استدعى الملاك زامير إلى لندن على وجه السرعة، ليخبره بأن الهجوم سيكون في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، يوم الغفران في إسرائيل. في صباح اليوم التالي فقط، بدأت إسرائيل في عملية تعبئة الجيش. فإذا كان الجيش قد استمع إلى مروان في الأشهر التي سبقت أكتوبر/تشرين الأول، كان يمكن أن يستعد بشكل أفضل بكثير.
ورغم أنه جاء في اللحظات الأخير، إلا أن تحذير لندن، ربما يكون قد أنقذ إسرائيل من فقدان مرتفعات الجولان، وأنقذها كذلك من كارثة أسوأ مما حدثت فعلاً.
لماذا فعل ذلك؟ لماذا يقوم شاب مصري يبلغ من العمر التاسعة والعشرين، وهو متزوج من ابنة أعظم بطل في بلاده، بخيانة وطنه لصالح أكبر أعدائه؟
كان المال جزءًا من هذه القصة. حيث دفع الموساد لمروان ما يزيد عن مليون دولار، مما ساعده على أن يصبح رجل غني جداً. «الأنا» كانت جزءًا أيضاً، حيث شعر مروان بأنه اللاعب المحوري في الصراع الأكثر خطورة في العالم، فكان يتمتع بالتشويق في كل شيء.
يدّعي «بار-جوزيف» أن الموساد لم تكن الجهة الوحيدة التي تدفع لمروان. حيث رأى جهاز المخابرات السعودية في مروان عميل مفيد وفاعل لهم في القاهرة. «كمال أدهم»، رئيس المخابرات السعودية، وصهر الملك فيصل، كان يدفع لمروان أكثر من الموساد في عقود مربحة وصفقات أخرى. حيث أن وجوده في قمة أغسطس/آب 1973 الحاسمة، انعكاس للثقة المفرطة من جانب المملكة العربية السعودية في أشرف مروان. وهي، بطبيعة الحال، لم يكن لديها أدنى فكرة أنه كان عميلاً لإسرائيل. وفي المقابل، فإن قدرة مروان على الوصول إلى العائلة المالكة في السعودية مثّل رصيد كبير لدى الإسرائيليين.
بعد الحرب، خاضت وكالات التجسس الإسرائيلية حرباً أخرى حول من يتحمل مسئولية عدم الاستماع لتحذيرات الحرب في أكتوبر/تشرين الأول عام 1973. مع العلم، أنه إذا كانت الحروب بين الجواسيس قاتلة، فإن الحروب بين الجواسيس السابقين على «لعبة اللوم» هي أكثر فتكاً.
في محاولة يائسة منه، حاول زعيرا تشويه مروان، ووصفه بالعميل المزدوج، ليعفي إدارة الاستخبارات العسكرية من إهمال جسيم. تدريجياً، تم كشف معلومات لوسائل الإعلام، عن أهم عميل للموساد، والتي كشفت هوية أشرف مروان، حتى أن زامير حاول حماية مروان من الذهاب إلى المحكمة.
وبحلول عام 2007 كان الوقت قد فات. توفى مروان، بعد أن سقط، أو تم دفعه، من شرفة منزله بلندن. وكان التحقيق من قبل شرطة سكوتلاند يارد روتيني، وخلص إلى أنه إما انتحار أو قتل من قبل مصادر غير معروفة.
بالنسبة للموساد، إن الكشف عن أفضل عملاء ومصادر المنظمة من قبل ضابط مخابرات إسرائيلي سابق، هو كارثة لا يمكن أن تستمر. ففي المستقبل، يجب أن يتم التفكير طويلاً وبشكل جدي، حول إذا ما كان الموساد قادر على صيانة أسراره.
الكاتب : بروس ريدل
مستشار لأربعة رؤساء أمريكيين منذ جورج بوش الأب وحتى أوباما، ويشغل منصب مستشار لشئون الشرق الأوسط وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي.
في أغسطس الماضي، قبل شهرين على الذكرى السنوية لحرب السادس من أكتوبر 1973 التي تحل علينا اليوم، صدرت أخيراً الترجمة الإنجليزية التي طال انتظارها لكتاب "الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل" عن دار نشر هاربر في الولايات المتحدة. وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية توالت المقالات والعروض للكتاب الإسرائيلي الذي يتناول قصة حياة وموت أشرف مروان، "أهم جاسوس في تاريخ الشرق الأوسط" كما يوصف دائما، والذي لم تنقشع بعد هالة الغموض والفضول بشأنه رغم مرور تسع سنوات على سقوطه من شرفة منزله في لندن ليلقى حتفه في يوم 27 يونيو 2007.
الكتاب، الذي نشر بالعبرية تحت عنوان Hamal’ach ليس بالطبع الأول من نوعه، فقد صدرت قبله عدة كتب في إسرائيل ومصر قبيل وبعد مصرع مروان. لكن ما يميز "الملاك" هو أن كاتبه ليس أكاديميا أو مؤرخا أو صحفيا كحال مؤلفي الكتب السابقة. صحيح أن مؤلف "الملاك" أوري بار-جوزيف، يعمل حاليا أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة حيفا، لكن الأهم هو أنه خدم على مدى 15 عاما كضابط في جهاز المخابرات العسكرية بالجيش الإسرائيلي، وتحديداً كمحلل استخبارات بوحدة الأبحاث بالجهاز.
في عام 1998 تم تكليف بار-جوزيف من قبل المخابرات العسكرية –كان وقتها ضابط احتياط بالجيش الإسرائيلي- بإعداد دراسة حول أسباب الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في التنبؤ بموعد اندلاع حرب 73 وبالتالي في تجهيز الجيش للتصدي لها. لم تنشر الدراسة أبداً نظراً لخضوعها لتصنيف "سري للغاية"، لكنها أتاحت لمؤلف كتابنا الاطلاع على المئات من التقارير التي حوت كافة المعلومات التي توافرت لأجهزة المخابرات الإسرائيلية المتعددة في السنوات السابقة على اندلاع الحرب، ومن بينها التقارير التي كان يرسلها منذ 1970 عميل سري لجهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد"، وحملت اسمه الكودي Khotel. كان هذا العميل- كما انكشف بعد سنوات قليلة من إعداد الدراسة- هو أشرف مروان، زوج ابنة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، ولاحقاً مدير مكتب خليفته أنور السادات.
"اليوم، تقبع الوثائق التي سلمها مروان لإسرائيل في أربعة صناديق ضخمة للغاية في أرشيف الموساد. وإلى جانب الوثائق وترجمتها العبرية، فإن في الصناديق أيضاً تفريغ لانطباعاته التي قدمها شفهيا، والتي يطلق عليها "تقييمات المصدر". تغطي هذه الأوراق طيفاً واسعاً من المواضيع، بعضها قليل الأهمية نسبيا، مثل التعيينات الحكومية الوشيكة، وتقييم السادات للتحديات الاقتصادية التي تواجه بلاده، وإعادة هيكلة جهاز الشرطة وقوات الأمن الداخلي، وغيرها من القضايا الداخلية...غير أن أكثر المواد أهمية كان حول الشأن العسكري".
أتاح تكليف بار-جوزيف بإعداد دراسة المخابرات العسكرية فرصة غير مسبوقة له للاطلاع على وثائق ما زالت تخضع لحظر النشر من قبل رقباء الجيش الإسرائيلي. لكنه استعمل ما استطاع الحصول عليه من معلومات، وما أمكن له من الناحية القانونية استعماله، من أجل تأليف كتاب سابق بعنوان "حين سقط جندي المراقبة في النوم" (The Watchman Fell Asleep) صدرت ترجمته الإنجليزية عام 2005، والذي أصبح أحد أهم المراجع حول أسباب ومظاهر ونتائج الفشل المخابراتي الإسرائيلي الذي أدى للمفاجأة المذهلة في ظهر السادس من أكتوبر وكاد أن يؤدي للقضاء الكامل على دولة إسرائيل، لولا التدخل الأمريكي إلى جانبها والذي مكنها من تغيير النتائج ميدانيا في غضون شهر.
في كتابه الجديد حول أشرف مروان لا يبتعد بار-جوزيف كثيراً عن موضوع وخلاصة "حين سقط جندي المراقبة في النوم". فمن خلال البحث التفصيلي الدقيق في حياة وعمل ومصرع مروان، على مدى قرابة 350 صفحة، يسعى المؤلف والضابط السابق والأكاديمي الحالي للوصول إلى نفس الخلاصة، وينجح إلى حد كبير في إثباتها وإقناع القارئ بها:
"إن التحقيق في سبب الفشل الاستخباراتي الهائل لإسرائيل في الأيام السابقة على حرب يوم الغفران يؤدي إلى حقيقة واضحة: لم يكن السبب هو غياب المعلومات الدقيقة، بل كان رفض جهاز المخابرات العسكرية التخلي عن [النظرية السائدة وقتها] حتى بعد أن تجاوزتها التطورات بشكل واضح وقاطع. فبفضل مروان كان الإسرائيليون يفهمون بدقة حتى أكتوبر 1972 كيف يرى المصريون كلا من ضرورة شن الحرب والشروط اللازمة لشنها. غير أنه في غضون ذلك الوقت تغير رأي السادات ليقرر أن يذهب للحرب دون انتظار وصول الأسلحة التي سيحتاجها للانتصار في الحرب. قام أشرف مروان- كما سنرى لاحقاً بإبلاغ إسرائيل بإخلاص بهذا التغير. لكن المخابرات العسكرية فشلت في تعديل تقييمها وفقا لتقريره. كان هذا، وهذا فقط، ما أدى لفشل إسرائيل في أن تكون جاهزة حين اندلعت الحرب".
وبسبب ذلك الموقع الفريد والموقف المعلن لمؤلف "الملاك"، فإنه يقدم لنا هنا أول دراسة حول فترة عمل مروان لصالح الموساد استناداً ليس فقط لما اطلع عليه من وثائق وتقارير، وإنما أيضاً لعدد من المقابلات الحصرية مع ضباط المخابرات الذين تولوا مسؤولية "إدارة" الجاسوس المصري في السبعينيات، والذين أصبح بإمكانهم الآن رواية جزء كبير من وقائع ما شهدوه بعد أن تم تسريب اسم مروان الحقيقي في إسرائيل في عام 2002 (في ظروف سنتطرق لها لاحقا في هذه السلسلة) وبعد أن لقي مصرعه في 2007.
على رأس هذه المصادر التي وافقت على الحديث لمؤلف "الملاك" كل من تسفي زامير، رئيس الموساد في الفترة من 1968 إلى 1974، وأرييه شاليف، مدير وحدة الأبحاث بالمخابرات العسكرية في الفترة من 1967 وحتى 1974، وربما المصدر الأهم، مائير مائير، رئيس الفرع السادس في وحدة الأبحاث وهو الفرع المخصص لمصر في الفترة 1969-1972، والذي تولى التعامل مع مروان كممثل عن المخابرات العسكرية إلى جانب الموساد، وشارك في أغلب اللقاءات مع الأخير في لندن وغيرها من العواصم الأوروبية طوال فترة عمل مروان مع مخابرات إسرائيل.
هل كان مروان جاسوسا لإسرائيل أم عميلا مزدوجاً استخدمه السادات في تمرير معلومات مضللة للإسرائيليين و"رجلا وطنيا بحق" كما وصفه حسني مبارك بعد مصرعه؟ من أجل الإجابة عن هذا السؤال سنستعرض في الحلقة المقبلة طبيعة المعلومات والوثائق التي سلمها مروان لإسرائيل عبر أعوام من تعامله مع أجهزتها، وتحديدا على مدار عام 1973 وصولا لحرب أكتوبر، وبهذا سيتمكن القارئ وحده من الوصول للإجابة.
تفاصيل الاجتماعات الأولى لأشرف مروان مع الموساد
كان أشرف مروان في السادسة والعشرين من عمره حين تواصل للمرة الأولى مع السفارة الإسرائيلية في لندن ليعرض خدماته في صيف عام 1970. كان مهندساً كيميائياً وضابطاً بالجيش المصري وزوجاً لابنة رئيس الجمهورية والزعيم العربي الأوحد وقتها جمال عبد الناصر، وموظفاً بمكتب الرئيس للمعلومات برئاسة سامي شرف.
قبل صدور كتاب "الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل"، الذي تتناوله هذه السلسلة، كانت الرواية الشائعة تحدد ربيع عام 1969 كتاريخ للتواصل الأول بين مروان والإسرائيليين. أطلق تلك الرواية للمرة الأولى المؤرخ هوارد بلوم في كتابه " «عشية الدمار.. القصة الخفية لحرب يوم الغفران» الصادر عام 2003 (أي قبل الكشف عن اسم مروان وهويته في إسرائيل). وفقاً لرواية بلوم فقد زار مروان لندن بدعوى إجراء فحص على معدته، ولكنه اختار لذلك عيادة طبيب في شارع هارلي كانت العيادة نفسها التي استخدمت كغطاء في السابق لمقابلة سرية بين الملك حسين عاهل الأردن الراحل والمدير العام لمكتب جولد مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية. وتمضي الرواية لتقول إن مروان سلم الطبيب ملفاً بالأشعة على معدته وبصحبته ظرف مليء بالوثائق المصرية الحكومية، وطلب منه توصيله إلى السفارة الإسرائيلية في لندن. وبعد ثلاثة أيام تواصل ضابط بالموساد مع مروان بينما كان يتجول في متجر هارودز، لتبدأ العلاقة بين الطرفين.
لكن كتاب "الملاك"-الذي يستند إلى مقابلات مع المسئولين عن "إدارة" العميل أشرف مروان من ضباط الموساد والمخابرات العسكرية الإسرائيلية، فضلاً عن استعراض الوثائق التي قدمها مروان لإسرائيل عبر سنوات طويلة- يقدم رواية مخالفة، بعد أن أصبح من الممكن الحديث صراحة عن مروان بسبب انكشاف هويته ثم مقتله في صيف 2007.
يقول كاتبنا أوري بار-جوزيف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة حيفا، والضابط السابق بجهاز المخابرات العسكرية بالجيش الإسرائيلي، إن مروان كان في زيارة للندن في صيف 1970 لمتابعة دراسته للحصول على الماجستير في الكيمياء، حين اتصل بالسفارة الإسرائيلية وترك رسالة ذكر فيها اسمه وطلب التواصل مع ضابط المخابرات بالسفارة.
ما يهمنا هنا هو أن كلتا الروايتين (وإن كانت رواية بار-جوزيف تستند لمصادر أكثر قوة ورسمية من رواية بلوم) تتفقان على أن اتصال مروان بالموساد للمرة الأولى قد جرى في نهاية عهد عبد الناصر وليس بعد تولي السادات للحكم مع وفاة ناصر في سبتمبر 1970. ستتخذ هذه التفصيلة التاريخية أهمية لاحقاً في ضوء محاولات مروان وأسرته وبعض الكتاب المصريين التأكيد، بعد أكثر من ثلاثة عقود، على أن مروان كان يتواصل مع الإسرائيليين بتكليف من السادات لتغذيتهم بمعلومات خاطئة في إطار عملية للخداع الاستراتيجي كان مروان يلعب فيها دور عميل مزدوج. ليس هناك -حتى الآن- أي دليل أو حتى قرينة تثبت أن اتصال مروان بالموساد للمرة الأولى قد تم في عهد السادات أو تنفي أن ذلك الاتصال الأول قد تم في نهاية حكم عبد الناصر وقبيل وفاته.
على أي حال فإن ما يهمنا هنا ـكما جاء في المقال السابق- هو استعراض طبيعة المعلومات والوثائق التي سلمها مروان لإسرائيل عبر أعوام من تعامله مع الموساد، بحسب الوثائق والتقارير غير المنشورة التي اطلع عليها بار-جوزيف إبان تكليفه بإعداد دراسة للمخابرات العسكرية حول أسباب الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في التنبؤ بموعد اندلاع حرب أكتوبر، وبحسب المعلومات التي استكملها لاحقاً من مصادر مباشرة قررت أن تتحدث عن الأمر بعد مصرع مروان.
بعد الرسالة الهاتفية التي كان قد تركها لدى السفارة الإسرائيلية بالعاصمة البريطانية، انعقد الاجتماع الأول بين مروان والموساد أثناء زيارته اللاحقة إلى لندن في شهر ديسمبر من عام 1970. كانت حرب الاستنزاف قد انتهت رسمياً في أغسطس وكان عبد الناصر قد فارق الحياة في سبتمبر. وقع اختيار الإسرائيليين على الرجل الثاني في مكتب الموساد بلندن ليلتقي بمروان بسبب إجادته للغة العربية نظراً لمولده في فلسطين التي هاجرت أسرته اليهودية إليها في مطلع القرن العشرين (لم يكن لدى الإسرائيليين علم قبل اللقاء بمدى إجادة مروان للإنجليزية).
قدم الرجل نفسه لمروان باسم "أليكس"، ولكننا نعلم الآن أن اسمه الحقيقي هو "دوبي Dubi" بينما لا يزال اسم عائلته سراً رسمياً في إسرائيل، ولم يكشف الرجل عن هويته أو يتحدث للإعلام حتى هذه اللحظة. سيظل دوبي مسؤولاً عن إدارة "الملاك" حتى انتهاء علاقة الأخير بالموساد في نهاية التسعينيات.
خلال ذلك اللقاء الأول -الذي جرى بغرفة بأحد الفنادق الكبرى بوسط لندن- كان مروان مستعداً لإثبات مصداقيته وأهمية المعلومات التي يتاح له الاطلاع عليها كموظف بمكتب رئيس الجمهورية. بعد وقت من بدء الاجتماع أخرج مروان من حقيبته عدة صفحات مكتوبة بخط اليد وأخبر دوبي أنه يسلمها له "على سبيل مقدم تحت الحساب" وأنها "أوراق تحمل أهمية خاصة لإسرائيل".
كانت تلك الأوراق الأولى هي مذكرة تحمل عنوان "سري للغاية" وتشرح تفاصيل ما يسمى "نظام المعركة" Order of Battle للجيش المصري بأكمله: تفاصيل الوحدات المقاتلة، ومواقعها، وقادتها، والأسلحة المتوفرة لكل منها. ويبدو أن مروان نجح بهذه الدفعة الأولى في انتزاع ثقة الإسرائيليين، حيث ينقل الكتاب عن شموئيل جورين، مدير عمليات الموساد في أوروبا في الفترة من 1968 وحتى 1974، أنه بعد انتهائه من قراءة المذكرة قال: "مادة كهذه من مصدر كهذا—إنه شيء لا يحدث إلا مرة واحدة كل ألف عام".
في ضوء الطبيعة العسكرية للمعلومات التي قدمها مروان في اللقاء الأول قررت القيادات الأمنية والسياسية في تل أبيب ضرورة أن يضم الاجتماع التالي خبيراً عسكريًا إلى جانب دوبي من الموساد، من ناحية ليطرح عليه الأسئلة الصحيحة ومن ناحية أخرى لكي يتأكد من دقة المعلومات التي يقدمها ويستكشف أي إشارات حول كون الأمر بجملته فخاً لإسرائيل.
وقع الاختيار على المقدم مائير مائير، رئيس الفرع السادس (مصر) في وحدة الأبحاث بالمخابرات العسكرية في الفترة من 1969-1972، وهو أحد المصادر الأساسية للمعلومات الواردة في الكتاب نظراً لمشاركته في أغلب اللقاءات مع مروان في لندن وغيرها من العواصم الأوروبية خلال العامين الأولين من التعامل مع الأخير.
انعقد الاجتماع الثاني في لندن في أبريل 1971، واستغرق ثلاث ساعات كاملة دار أغلبها حول النوايا المصرية لشن حرب لاستعادة سيناء المحتلة في حرب 1967 وقدم فيها مروان -بحسب الكتاب- كل ما استطاع أن يجيب عليه من أسئلة مائير حول الخطط المصرية الأولية لعبور قناة السويس وتحييد الطيران الإسرائيلي في سيناء بصواريخ أرض-أرض وطلب مصر الحصول على طائرات روسية متقدمة لتوفير مظلة جوية لقوات العبور في ظل تفوق السلاح الجوي الإسرائيلي. ولما أدرك مائير أن عدداً من أسئلته بقيت بلا إجابة لأن مروان لم يكن مطلعاً على الصورة الكاملة في هذا الوقت، فإنه قدم لمروان تكليفه الأول: عليه أن يحضر في الاجتماع التالي نسخة من خطط الجيش المصري لعبور قناة السويس، وكذلك نسخة من نظام المعركة لكافة تشكيلات القوات المسلحة المصرية.
حين التقى مائير بمروان بعدها في أغسطس 1971 كان وضع الأخير ومكانته قد تغيرا كثيرًا. فقد قام السادات بما أسماه ثورة التصحيح في 15 مايو وأطاح بالكثيرين من رجال عبد الناصر في الحكم، وقام بتصعيد وجوه جديدة لتحل محل "مراكز القوى" القديمة. ولأن مروان وقف إلى جوار السادات في هذه المعركة فقد كوفئ بتصعيده ليحل محل سامي شرف كسكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات وأصبح بالتالي ذراع السادات اليمنى ومدير مكتبه. كان السادات قد أعلن أيضا أن 1971 سيكون "عام الحسم" بين الخيارين الدبلوماسي والعسكري لاستعادة سيناء، وكان الإسرائيليون حريصين على الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات بشأن النوايا المصرية لشن الحرب في ضوء عدم حدوث أي تقدم على المسار الدبلوماسي.
عن الاجتماع الثالث مع مروان يكتب بار-جوزيف في "الملاك": "أخرج [مروان] الوثائق التي أحضرها معه. وأصبح مائير الآن يمسك بين يديه كلا من خطط عبور قناة السويس ونظام المعركة للجيش المصري بأكمله—كان ذلك بالضبط هو ما طلبه. إن كانت لدى مائير أي شكوك في السابق بشأن مروان، فإنها الآن قد زالت".
ووفقاً لمائير مائير فإن الوثيقة الأولى بشأن خطط عبور القنال "وصفت أي قوات ستقوم ببناء الجسور، وأين ستتخذ مواقعها، وأيها ستعبر أولاً وأيها ستتلوها في العبور، والكثير من التفاصيل العملياتية الأخرى… هذه الخطط -كما نعلم الآن- كانت صحيحة بشكل استثنائي، حيث تطابقت فيها المرحلة الأولى حرفياً مع ما حدث في يوم عيد الغفران، السادس من أكتوبر 1973".
أما الوثيقة الثانية فقد تضمنت "هيكل الجيش، وقوائم أسماء القادة، وأرقام الكتائب وأسماء قادتها، والأسلحة المتوفرة لكل كتيبة، وقوائم تفصيلية بالطائرات الحربية لكل سرب من أسراب القوات الجوية وأماكن وجودها، وطائفة واسعة من التفاصيل حول كل وحدة عملياتية بالقوات المسلحة المصرية".
ولأن الإسرائيليين كانت لديهم بالفعل من مصادر أخرى صورة غير مكتملة لبعض المعلومات الواردة في الوثيقة الثانية، فإنهم تمكنوا من مطابقة تلك المعلومات مع نظيرتها الواردة في أصل الوثيقة التي أحضرها مروان. وهكذا، بنهاية الاجتماع الثالث مع "الملاك"، يقول بار-جوزيف إن أية شكوك حول احتمال كون مروان عميلاً مزدوجاً مدسوساً من المصريين ذهبت إلى غير رجعة، وتحول مروان في نظر كل من الموساد والمخابرات العسكرية إلى "أهم جاسوس في تاريخ الشرق الأوسط طوال النصف الثاني من القرن العشرين".
الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل
هذا المقال المُترجم هو قراءة في كتاب جديد صدر مؤخراً، في أغسطس/آب 2016، عن خبير الاستخبارات الإسرائيلي «أوري بار-جوزيف»، بعنوان: «الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل»، والذي يكشف عن أسرار جديدة بخصوص «أشرف مروان».
كان الجاسوس الأفضل على الإطلاق من بين من جندهم الموساد، ورغم ذلك لم يستمع الإسرائيليون إليه، والأسوأ، أن وفاته كانت بسبب الخلافات داخل إسرائيل حول أسباب تجاهل معلوماته. مع العلم، أن إسرائيل لم تكن العميل الوحيد لديه، بل كان يبيع خدماته أيضاً إلى المملكة العربية السعودية.
أشرف مروان، كان صهر الرئيس المصري «جمال عبد الناصر»، ثم صار أحد أهم مستشاري الرئيس أنور السادات. في عام 1970، تواصل مع السفارة الإسرائيلية في لندن، وعرض عليهم العمل لصالح جهاز المخابرات الإسرائيلية. وقد اعتبر الموساد حينها أن مروان سيكون أهم عملائها على الإطلاق، فقد كان رئيس الموساد «تسفي زامير»، يذهب في كثير من الأحيان، لمقابلة مروان بنفسه لاستخلاص المعلومات منه.
كتاب جديد لخبير الاستخبارات الإسرائيلي المخضرم «أوري بار-جوزيف» يحكي قصة «الملاك» – وهو الاسم الرمزي لمروان – بالتفصيل. وهي قصة تجسس على أعلى مستوى.
حيث قام الملاك بتزويد إسرائيل بالخطة المصرية الكاملة للمعركة، من حيث تنظيم القوات المسلحة، والخطط الحربية المصرية لمهاجمة إسرائيل عبر قناة السويس. وكذلك قدّم تفاصيل اجتماعات السادات مع قادة الاتحاد السوفيتي، وتقارير متتابعة بما يصل مصر من شحنات أسلحة سوفيتية.
لكن الخبراء الإسرائيليين في «إدارة الاستخبارات العسكرية»، التي كانت وحدها المسئولة عن إنتاج تقديرات الاستخبارات الوطنية حول ما إذا كانت مصر سوف تذهب إلى الحرب، كانوا على قناعة أن السادات لن يجازف بخوض حرب ضد إسرائيل. فإدارة الاستخبارات كان لديها مفهوم «التخطيط للحرب»، ووفقاً لهذا المفهوم، لم يكن لمصر القدرة على هزيمة إسرائيل بسبب التفوق الجوي الإسرائيلي الساحق، مما يجعل قدوم مصر على الحرب بمثابة انتحار، وبالتالي فإن السادات لن يُحارب.
ولكن الملاك أبلغ إسرائيل في عام 1972 أن السادات بات يدرك أنه ليس لديه خيار سوى الذهاب إلى الحرب، لأن إسرائيل قد أغلقت كافة السبل الدبلوماسية. وعلاوة على ذلك، كان السادات يُخطط لحرب محدودة لكسر الجمود، وليس لحرب شاملة، وبالتالي كان مفهوم الحرب لدى الاستخبارات الإسرائيلية غير دقيق.
في أغسطس/أب 1973، قال مروان لزامير أن السادات كان قد سافر إلى المملكة العربية السعودية للقاء الملك فيصل. وقال السادات لفيصل، في اجتماع جمعهما فقط بجانب مروان، أنه سيهاجم إسرائيل مع سوريا خلال الخريف. ووعد فيصل السادات بأن المملكة سوف تفرض حظراً نفطياً على الولايات المتحدة، إذا ما قامت بفتح خطوط الإمداد إلى إسرائيل. حيث كان حظر النفط هو آخر أسلحة العرب.
قامت إسرائيل باطلاع الإدارة الأمريكية برئاسة نيكسون على تقارير الملاك، ويبدو أن وزير الخارجية «هنري كيسنجر» قد تجاهل التحذير بأن العرب يجهزون لاستخدام سلاح النفط. وقد أظهرت تقارير أخرى أن هذا التحذير لم يكن الوحيد الذي تجاهله كيسنجر.
وفي الوقت ذاته، رفض جنرالات إسرائيل التخلي عن مفهومهم. وعندما بدأت غيوم حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 في التجمع، أصرت إدارة الاستخبارات العسكرية أنه لا يوجد ما يدعو للقلق، وأقنعوا وزير الدفاع «موشيه ديان» أن الحرب ليست وشيكة. حتى عندما بدأ الروس في إجلاء جماعي عاجل لمستشاريهم المدنيين في مصر وسوريا، قال رئيس إدارة الاستخبارات العسكرية «إيلي زعيرا» أنه لا يوجد أي سبب لتوقع حرب قادمة.
قبل يوم واحد من هجوم السادات، استدعى الملاك زامير إلى لندن على وجه السرعة، ليخبره بأن الهجوم سيكون في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، يوم الغفران في إسرائيل. في صباح اليوم التالي فقط، بدأت إسرائيل في عملية تعبئة الجيش. فإذا كان الجيش قد استمع إلى مروان في الأشهر التي سبقت أكتوبر/تشرين الأول، كان يمكن أن يستعد بشكل أفضل بكثير.
ورغم أنه جاء في اللحظات الأخير، إلا أن تحذير لندن، ربما يكون قد أنقذ إسرائيل من فقدان مرتفعات الجولان، وأنقذها كذلك من كارثة أسوأ مما حدثت فعلاً.
لماذا فعل ذلك؟ لماذا يقوم شاب مصري يبلغ من العمر التاسعة والعشرين، وهو متزوج من ابنة أعظم بطل في بلاده، بخيانة وطنه لصالح أكبر أعدائه؟
كان المال جزءًا من هذه القصة. حيث دفع الموساد لمروان ما يزيد عن مليون دولار، مما ساعده على أن يصبح رجل غني جداً. «الأنا» كانت جزءًا أيضاً، حيث شعر مروان بأنه اللاعب المحوري في الصراع الأكثر خطورة في العالم، فكان يتمتع بالتشويق في كل شيء.
يدّعي «بار-جوزيف» أن الموساد لم تكن الجهة الوحيدة التي تدفع لمروان. حيث رأى جهاز المخابرات السعودية في مروان عميل مفيد وفاعل لهم في القاهرة. «كمال أدهم»، رئيس المخابرات السعودية، وصهر الملك فيصل، كان يدفع لمروان أكثر من الموساد في عقود مربحة وصفقات أخرى. حيث أن وجوده في قمة أغسطس/آب 1973 الحاسمة، انعكاس للثقة المفرطة من جانب المملكة العربية السعودية في أشرف مروان. وهي، بطبيعة الحال، لم يكن لديها أدنى فكرة أنه كان عميلاً لإسرائيل. وفي المقابل، فإن قدرة مروان على الوصول إلى العائلة المالكة في السعودية مثّل رصيد كبير لدى الإسرائيليين.
بعد الحرب، خاضت وكالات التجسس الإسرائيلية حرباً أخرى حول من يتحمل مسئولية عدم الاستماع لتحذيرات الحرب في أكتوبر/تشرين الأول عام 1973. مع العلم، أنه إذا كانت الحروب بين الجواسيس قاتلة، فإن الحروب بين الجواسيس السابقين على «لعبة اللوم» هي أكثر فتكاً.
في محاولة يائسة منه، حاول زعيرا تشويه مروان، ووصفه بالعميل المزدوج، ليعفي إدارة الاستخبارات العسكرية من إهمال جسيم. تدريجياً، تم كشف معلومات لوسائل الإعلام، عن أهم عميل للموساد، والتي كشفت هوية أشرف مروان، حتى أن زامير حاول حماية مروان من الذهاب إلى المحكمة.
وبحلول عام 2007 كان الوقت قد فات. توفى مروان، بعد أن سقط، أو تم دفعه، من شرفة منزله بلندن. وكان التحقيق من قبل شرطة سكوتلاند يارد روتيني، وخلص إلى أنه إما انتحار أو قتل من قبل مصادر غير معروفة.
بالنسبة للموساد، إن الكشف عن أفضل عملاء ومصادر المنظمة من قبل ضابط مخابرات إسرائيلي سابق، هو كارثة لا يمكن أن تستمر. ففي المستقبل، يجب أن يتم التفكير طويلاً وبشكل جدي، حول إذا ما كان الموساد قادر على صيانة أسراره.
الكاتب : بروس ريدل
مستشار لأربعة رؤساء أمريكيين منذ جورج بوش الأب وحتى أوباما، ويشغل منصب مستشار لشئون الشرق الأوسط وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي.