دور مصر في انشاء الصاعقة الجزائرية.
كتب اللواء أحمد رجائي احد أبطال الصاعقة والمجموعة 39 قتال ومؤسس وحده الـ 777
في مذكراته عن نشأه قوات الصاعقة الجزائرية
بعثة الصاعقة
فى صيف 1965 وقد كنت فى يوم راحة عقب الانتهاء من داورية تدريب للطلبة فى جبل عتاقة .. حيث اتصل بى الملازم أول فؤاد سعد الدين (والذى تقلد فيما بعد محافظا للإسماعيلية والمنوفية والمنيا) وقال لى أنت قاعد فى البيت وفيه بعثة للجزائر من ثلاثة ضباط وثمانية صف ضابط .. وقد تعدى دورك فى المأموريات وكان الضباط هم الملازم أول شاكر مرسى ونبيل حسن وصلاح خيرى غنيم ..
فقـررت عدم التنازل عن وضعي المناسب بين أقرنائي متحديا أى قرار فذهبت فى اليوم التالي إلى مدرسة الصاعقة وقابلت قائد المدرسة وهو المقدم صلاح عبد الحليم .. وخاطبته متحدثا أننى لن أقبل أن يتقدم أحد دوري فى التكليف وأكملت حديثي أننى قد أحضرت معى مـلابسى للإقامـة بالمدرسة ولن أغادرها إلا أما بخطـاب نقـلى من الصاعقة أو خطاب تكليفي ضمن البعثة للجزائر .. وكان هذا أول تحدى للدفاع عن مكانتي الأدبية بين أقـرنائى وكنت برتبه المـلازم أول ولكنى كنت أقدمهم فى الأقـدميه ولكن كان يسـبقني نبيل وشـاكر فقط فى الخدمة بالصاعقة.
وكان المقدم صلاح رجل واسع الأفق حكيم فى أفعاله .. وفعلا استدعاني فى آخر اليوم ليخبرني أن استعد وأجهز أوراقى للسفر .. بل واستدعى النقيب سمير ياسين وكان أقدمنا جميعاً إلا لأنه كان يخدم بالصاعقة قائدا للحملة (سيارات) المدرسة لكن فإن التكليف بقيادة البعثة كانت لى حيث كان النقيب سمير بعيد كل البعد عن التشكيلات القيادية .. وبذلك فقد عين المقدم صلاح عبد الحليم كل من هو أقـدم من الملازم أول صلاح خيرى ضمن مأمورية الجزائر.
فى اليوم المحدد للسفر تقابل الجميع بمطار القاهرة الدولى وقد حضر المقدم صلاح لتوديع البعثة بالمطار .. إلا أنه وأثناء انتظار الإجراءات كان يوجد مع الضباط عدد ثمانية صف ضباط وقد لاحظت من أقدم ضابط صف موجود بالبعثة وكان برتبه مساعد بعض التصرفات الخارجة عن التقاليد العسكرية سواء فى أسـلوب الحديث أو التعامل مع زملاءه .. فالأدب شيء والتقاليد العسكرية شيء آخر .. ولكنها تصرفات فيها تعالى غير مبرر.
وهنا أخذت أول قرار لى كقائد للمأمورية حيث نظرت إلى المقدم صلاح وقلت له أن هذا المساعد لا يصلح أن يكمل المأمورية معى .. وكان قد لاحظ المقدم صلاح ذلك .. فما كان منه إلا أن قال للمساعد بعد أن أخذ باسبورة .. روح أنتى دلوقت وقابلني بكره فى المدرسة .. وألغيت المأمورية له وأرسل بدلا منه لاحقا رقيب يدعى فتحى.
وصلنا الجزائر العاصمة ومن المطار أخذتنا سيارات إلى مكتب الملحق العسكرى بالسفارة المصرية والذى قام باستقبالنا وافهمنا السيد المحلق إننا سنذهب إلى بلده كلوم بشار فى الجنوب للمشاركة فى الصراع القائم بين الجزائر والمغرب فى بما هو معلوم عن الصراع حول منطقة الصحراء المشتركة بين البلدين والذى خلقها المستعمر الفرنسى قبل مغادرته البلاد .. وهذا طبيعى من مستعمر لا يترك البلاد إلا بمشكلة – وقد أرسلنا الملحق الحربى إلى مبنى فخم بما يشبه القصر ويسمى (فيلا عزيزة) وهو مبنى على الطراز المغربي من حوائط بالقيشانى وأحواش داخل المبنى .. وقد قابلت هناك الفريق القاضي واللواء محمود ذكى عبد اللطيف والذى كان كبير معلمي الكلية الحربية إثناء دراستي بالكلية والذى اشتهر عنه بكلمة (جنابو شديد) وذلك بما عرف عنه من شدة وأصول فى التقاليد العسكرية وكنت سعيد جدا أن التقى بهؤلاء القمم الكبيرة فى هذا المكان.
وبعد ليلتين قضيناهم بالجزائر العاصمة ذهبنا إلى كلوم بشار بواسطة طائرة حربيـة والتى كانت تبعد برا بمسافة حوالى 1800كم.
وهناك استقبلنا قائد الناحية (المحافظ) ويدعى سليمان وهو من أبرز المجاهدين أثناء حرب التحرير الجزائرية .. وكان بشوش طويل القامة
ينم مظهره وأفعاله عن طيب قلب .. وحب للمصريين وسأذكره فيما بعد لأنه كان له العون الكثير فى نشأة الصاعقة بالجزائر.
وكنت اعتقد إننا سنذهب إلى الإقامة فى معسكر أو ما شابه .. ولكنى فؤجئت بالإقامة فى فندق بسيط بالمدينة ومع هذا يعتبر أفخم مكان للإقامة بهذا المكان وهو عبارة عن مبنى من طابقين له صحن كبير فى وسط الغرف تطل عليه كافة الغرف.
وقد سبقنا إلى هناك النقيب كراوية (مدفعية) والمقدم تحسين شنن (مدرعات) – كما كان يقيم فى نفس الفندق مراسلين عسكريين من الأهرام والأخبار وكذلك صوت العرب وهم بالترتيب السيد/ عارف والسيدة/ مريم روبين والأستاذ/ محمد أبو الفتوح.
وكانت التعليمات بالا نغادر الفندق لأى سبب أو الظهور بالمدينة واعتقد أن ذلك لتوفير الأمن لنا والحفاظ على سرية المأمورية من قبل دولة المغرب وجلسنا ما يقرب من خمسة أيام لم يغادر الفندق غير النقيب كراوية لمعاونة القوات الجزائرية فى استخدام مدفعية الميدان – أما بالنسبة للمراسلين الحربين فقد كان أشجعهم السيدة/ مريم روبين التى كانت تصر فى معظم الليالى إلى الخروج لمشاركة القوات المشتبكة على الحدود .. أما الباقى فكان يكتفي بالأحاديث الشفوية مع العسكريين الجزائريين.
واذكر أن السيد/ محمد أبو الفتوح مراسل من صوت العرب كان يجرى أحاديث مسجلة ويرسلها للقاهرة .. وكان يبدأ حديثة بمقولة شهيرة حيث يقول ونحن فى وسط المعارك والنيران .. قابلت المقاتل!! ثم يبدأ فى ذكر الاسم ويسترسل فى الحديث – إلا أنه عندما جاء للتسجيل معى وفؤجئت بالمقدمة التى ذكرتها من قبل .. أحرجته وقلت له أحنا قاعدين فى لوكانده مش فى الميدان ورفضت التسجيل معه.
بعد مضى بضع أيام انتهت المعارك على الجبهة وكان علينا أن نغادر الجرائر لانتهاء المهمة – وقد جاء السيد وزير الحربية آنذاك الهوارى بومدين والسيد/ سليمان (المحافظ) وبعض صغار الضابط برفقتهم وذلك لشكر كافة الموجودين فى الفندق .. وبعد ذلك خرجنا لأول مرة خارج الفندق وكنا أفراد بعثة الصاعقة كضباط واقفين فى الشارع أمام الفندق وفوجئنا بالسيد هوراى بومدين يقف بيننا ونظر لى وقال أنت مأموريتكم انتهت .. لكن هل فى أمكانكم أن تنشأوا مدرسة ووحدة صاعقة فقلت له طبعا ممكن .. وخصوصا كنا نحن الضباط والصف نمثل كافة الأجنحة التعليمية لمدرسة الصاعقة وعلى دراية كاملة بذلك.
وفعلا كنا نمثل أجنحة مدرسة الصاعقة حيث كان صلاح خيرى من الجناح الأساسي ونبيل وشاكر من الجناح الراقي وأنا من الجناح الخاص (الجبال) وسمير ياسين كخبرة فى الشئون الإدارية وقادر أيضا على تعليم بعض مواد التعليم الأساسي – أما الصف ضباط فكانوا خليط من كافة الأجنحة التعليمية بمدرسة الصاعقة فنظر إلى ضابط كان معه برتبه رائد يدعى طاهر وقد علمت فيما بعد أنه ابن أخت هوارى بومدين وكان من المجاهدين أيضا وقال له بومدين عليك بعد أن ترافقهم إلى الجزائر ثم ترافق النقيب رجائى إلى معسكر المظلات فى بلده سكيكدا (فيليب فيل) ليعاين المعسكر ويقر هل هو صالح لذلك من عدمه.
غادرنا مدينة كولومب بشار لنصل العاصمة .. والتى غادرت العاصمة فى اليوم التالى مع النقيب طاهر فى عربة جيب وكنت أنا وهو فقط حيث كان يقود السيارة بنفسه.
وتحركنا شرقا إلى بلدة (سطيف) وهى على جبال عالية مرتفعة تكسوها الثلوج معظم أيام السنة .. ثم إلى بلدة قسطنطين وهى على جبلين كبيرين متصلين ببعضهما فى منظر جميل خلاب وتمتاز بجو لطيف عن بلده (سطيف) .. وهى عاصمة الناحية (المحافظة) الرابعة وكان قائد الناحية (المحافظ) المجاهد الشاذلى بن جديد والذى أصبح رئيس للجمهورية فيما بعد – ويعاونه رائد من المجاهدين أيضا وغير ملم بالقراء أو الكتابة وأسمه (بن روچى) وأكيد له أسم آخر حقيقي .. حيث كانت كلمة (روچى) بالفرنسية تعنى الأحمر وذلك لاحمرار وبياض بشرته.
وبعد حوالى 80 كم من قسطنطين وصلنا سكيكدا ومنها وبعد مسيرة 8 كم على الطريق البحر ليحتضن المعسكر أروع مكان موجود بالمنطقة حيث جبال الغابات خلفه والبحر أمامه ويطل عليها مجموعة من الشاليلات المتناثرة بطول الشاطئ.
كان المعسكر عبارة عن عنابر لها سقف جمالون وفى مدخل المعسكر مبنى متعدد الأغراض ويبدو أنه كان لقيادة هذه الفرقة والتى كنت أعلم أن معظمها من المرتزقة.
كما أنه توجد مجموعة من الملاعب المتعددة – ولكن كل هذا يحتاج إلى ترميم بسيط حتى تكون صالحة للاستخدام ويبدو أن هناك بعض الأشياء قد نهبت لا تصل لمستوى التدمير.
وكان يوجد شخص مدني فى حدود الأربعينيات وأسمه (بوعلى) وهو حارس على هذا المعسكر وكانت ميزته والتى عرفتها فيما بعد أنه متعدد المهن ونشيط ويفهم فى مبادئ أعمال الكهرباء البسيطة وكذلك السباكة وفرحت به وخاصة أن لغته العربية واضحة بجانب الفرنسية طبعا وأنك تجد أن اللهجة العربية أكثر وضوحا كلما اتجهت إلى الشرق من البلاد حيث أنك فى غرب الجزائر تفهم منهم اللغة العربية بالكاد وقد حافظوا وتعرفوا على اللغة العربية من خلال راديو صوت العرب وأغانيها المصرية كلمات المذيعين.
وافقت على اختيار المعسكر وبدأنا رحلة العودة لنصل فى نفس اليوم وكانت وجباتنا خفيفة فى بعض المطاعم المنتشرة على الطرق والتى كانت تقدم كل شىء من شراب والمأكولات على الطريقة الفرنسية.
لقد قطعنا مسافة 1000كم ذهابا وإيابا من العاصمة إلى سكيكدا فى يوم واحد .. وقد كنا نتبادل قيادة السيارة.
وفى صباح اليوم التالى ذهبنا لنقابل وزير الحربية هوارى بومدين وقد كنت أعددت قائمة بالمطالب الملحة لإصلاح المعسكر من سباكة وكهرباء وخلافه وطلبت أمدادنا بى 200 شاب مجند لكى نبدأ بهم أول فرقة صاعقة .. ووعد بأن كافة المطالب سوف تأتى لنا فى خلال أسبوع .. وقد أعطاني النقيب طاهر السيارة الجيب الذى كان يقودها واستخرج لى بطاقة سواقة عسكرية فى الحال.
وخرجت من وزارة الدفاع بالسيارة إلى المجهول حيث كان المفروض أن أذهب إلى مكتب الملحق الحربى والذى أجهل الطريق إليه تماما .. كما كنت أجهل بتعليمات المرور الجزائرية!! هكذا كانت الأمور تسير بتلقائية غريبة بالنسبة لى .. فلك أن تتخيل بساطة إلقاء المهمة من وزير الحربية ونحن وقوفاً أمام الفندق فى كولمبشار وقبولى للمهمة .. لأقطع مسافة ما يقرب من 1800 كيلو بواسطة الطائرة إلى العاصمة وفى اليوم التالى 1000 كم ذهابا وإيابا لمعاينة المعسكر ثم أقابل وزير الحربية فى اليوم التالى ويوافق على كل المطالب .. ثم اذهب إلى مكتب الملحق الحربى لجمع قوة البعثة ويتم الحجز لهم فى القطار إلى سكيكدا .. وأقود أنا السيارة ومعى شاكر مرسى بعد أن صرفنا بعض المواد الغذائية من أرز وعـدس ومعلبات من مكتب الملحق الحـربى وهى مواد غذائية ترسل من القاهرة .. وكان هذا ضروري حيث أن الراتب هو مرتب بدل اغتراب وهو لا يكفى معيشة كاملة من شرب وغذاء .. أى بالمعنى الدارج (مصروف أيد).
وصلت سكيكدا فى ليل نفس اليوم لأنتظر القطار الأتي من العاصمة حيث كان يقل الضباط والصف ضباط .. لأنقلهم إلى المعسكر على عدة مرات.
كان لهذا المعسكر حارس أو غفير كنت قد تعرفت عليه فى المرة السابقة وهو من النوع المتعاون جدا لا تفرقه عن ابن البلد عندنا فى مصر وهو نحيف سريع الحركة وأهم ما فى الموضوع أنه على قدر معقول من العمل فى السباكة والتوصيلات الكهربائية البسيطة .. وهذا مما ساعدنا على تجهيز لمبنى للصف ضباط وعنبر للضباط أو الأحرى غرفتين كبار متجاورتان ومبنى يمكن استخدامه كمكاتب وذلك بملحقات هذه المبانى من دورات مياه وكنا نعمل جميعاً مع الحارس سواء ضباط أو صف ضباط وفعلا أرسلت العربة إلى البلدة التى أحضرت بعض المستلزمات مثل المفكات والمسامير وغيره وكان المعسكر يشمل عدة عنابر وكلها دور واحد وكانت كافية لاستقبال طلبه لفرقة الصاعقة وكذلك تكفى لإنشاء كتيبة صاعقة أيضا وهذا ما تم فعلا فيما عد.
وقبل الغروب حضر قول من سيارات النقل العسكرية والتى كانت تحمل عدد كافى من السراير والمراتب والبطاطين وبعض من المكاتب والدواليب وقد تعاونا جميعا ضباط وصف وسائقين فى نقل هذه الكمية من الاحتياجات إلى العنابر .. وقد فرشنا ما يلزمنا للنوم – ولا أنسى الحارس (بوعلى) عندما أستوقفنى أثناء العمل وقد لمعت عيناه دامعة فى الضوء الخافت من بعض اللمبات الكهربائية والتى أنارنا بها العنابر والغرف .. وقال لقد عملت فى هذا المعسكر كعامل لخدمة القوات الفرنسية .. والآن لا أصدق نفسى وأنا أقوم بالمشاركة فى إعداد المعسكر مرة أخرى لاستقبال أخوه عرب من جنسى .. وأنه سوف يمتلأ بأفراد جزائريين فى زيهم العسكرى ثم حضنني وقد ربت على ظهره مشجعاً .. وقد قال ذلك بلهجة جزائرية فهمت منها معظم كلماتها والتى كان يرددها بحرارة.
لقد انتهينا فى فترة وجيزة تجهيز أقامة لعدد 200 فرد تقريبا للتأهيل للصاعقة وإقامة الضباط والجنود بالشكل اللائق – وكان ينقص أعداد ميادين التدريب الخاصة بالصاعقة مثل ميدان الرماية بالذخيرة الحية ميدان الاشتباك وميدان السونكى وميدان لتدريب الجبال وكذلك ملاعب مثل الكرة واليد والطائرة والسلة والتى كانت موجودة ولكن غير معتنى بها.
وفعلا بدأنا فى تجهيز كل هـذه الميادين والملاعب وكان يتم ذلك بواسطة الضباط والصـف ضباط سواء من أعمال نجارة خفيفة أو دهانات.
وهنا ظهر بوادر للتمرد من الصف ضباط المصريين المرافقين للبعثة وللأسف جميعا خدموا معى قبل ذلك بمدرسة الصاعقة ومعظمهم كنت معلم عليهم فى فرقة الصـاعقة – وكان هذا التحدي الثانى لى من قبل الأفراد بعد موقف المساعد بمطار القاهرة.
لقد حضر أقدم صف ضابط ويدعى الرقيب أول سامى وكان يخدم معى بمدرسة الصاعقة بالقاهرة .. وأخبرني أن باقى صف ضباط البعثة ممتنعين عن العمل ويقول أنهم مدربين ومعلمين وليس عمال صيانة أو تراحيل. فطلبت منه أن يجمعهم .. وذهبت أليهم وبمنتهى الهدوء قلت لهم انتم فعلا لكم كل الحق وأنا بطلب منكم جمع حوائجكم فى الشنط استعدادا للسفر إلى القاهرة وسأرسل معكم خطاب لإرسال بدلا منكم صف ضباط معلمين يقبلون أى أعمال أخرى مهما كان نوعها.
وتركتهم بعد ذلك وبمجرد وصولى إلى مكتبى حضر الجميع لى ليعتذروا ولكنى لم أقبل اعتذارهم .. وأخيرا قلت لهم .. سأقبل الاعتذار ولكن عليكم تجهيز الشنط الخاصة بكم ويتم تبديل الملابس من خلال الشنطة ولمدة أسـبوع ومن يتقاعس عن العمل سوف أرحله فورا .. وفعلا تم ذلك .. وبدأ العمل بنشاط وهمه
عن ذى قبل.
هؤلاء الشباب رغم أن ليس هناك بدل نقدى يذكر وأن الإقامة كانت قاسية من ناحية المأكل والمشرب .. إلا أنهم كأى مصرى من هذا الجيل لا يقبل التراجع أو الفشل وعلاوة على أنهم كانوا يؤدون نفس الأعمال التى يقوم الضباط بعملها.
وأصبح المعسكر جاهز ولكن لم يأتي لنا أى من الشباب الجزائري لنبدأ الدورة وقد كنت طلبت من بومدين 200 فرد.
وبدأت فعلا أذهب إلى الجزائر العاصمة حيث قيادة الجيش كل ثلاثة أو أربع أيام لأكرر طلبى – وأحيانا اقطع المسافة 500كم إلى العاصمة أما بالقطار أو بالسيارة الجيب – وبعد حوالى أسبوعين على هذا الحال وفى المرة الأخيرة كان مع بومدين محافظ ناحية كولمبشار وهو المجاهد سليمان والذى سبق أن تقابلنا عندما أخذت التكليف من بومدين فى كولمبشار .. وكانت هذه المقابلة فى وزارة الحربية عند سلالم الوزارة حيث كان بومدين يغادرها .. فقال لى سليمان أوعدك أنه فى خلال يومين سوف يكون عندك 200 شخص.
وفعلا فى عصر اليوم الثالث وجدت حوالى ستة أفراد يرتدون الملابس المدنية يدخلون المعسكر ليقدموا أنفسهم على أن السيد سليمان أرسلهم من كولمبشار وكانوا شباب فى سن العشرينات وما دون وأنهم حضروا مع مجموعة حوالى 220 فرد فى نفس العمر وقد حضروا بالقطار وأنهم سوف يحضروا تباعا من المحطة بواسطة (الاتوستوب) – وفى الحال أرسلت السيارة الجيب والتى كانت تساعد فى نقل الأفراد إلى المعسكر من محطة القطار.
وقد عمت الفرحة أفراد البعثة وبدأنا فى استقبالهم بتوزيع الملابس والمهمات العسكرية عليهم والتى قد سبق صرفها من قبل – كانوا هؤلاء الشباب فى سن ما بين 18 – 22 عاماً وجميعهم ذو بشرة سمراء حيث أنهم جميعا من جنوب الجزائر ذوى البشرة السمراء ونحافة وطول القامة – إذا فإن المجاهد سليمان محافظ (عامل العمالة كما يسونهم) يعتبر هو الوحيد الذى تحمس ونفذ وعده.
لقد برز لنا شىء لم يكن فى الحسبان وهو أننا وضعنا برنامج تدريب دورة الصاعقة على أن القادمين من المتطوعين الجزائريين قد أمضوا فترة التعليم الأساسي ولكن كانوا جميعا مدنيين لم يمر بمرحلة التعليم الأساسي للجندى.
فوضعنا منهج تعليم أساسي لهؤلاء الشباب المدنى .. من أول تعليم صفا .. وانتباه – والسير بالخطوة المعتادة والسريعة والرماية بالأسلحة الصغيرة وقواعد التنشين والرماية بالذخيرة الحية!! .. هذا كله علاوة على اللياقة البدنية.
وكان البرنامج لمدة شهر (ينفذ فى مصر فى مدة 45يوم إلى 60يوم) وكان الصحيان فى الخامسة صباحاً والنوم فى التاسعة مساءًا وقد مرت هذه الفترة بنجاح وقد تآلف فيه أفراد البعثة مع هؤلاء الشباب وقد أصبحوا يحملون لقب جندى مدرب تدريب أساسي لا يقل عن أى جندى من جيوش العالم واثقا فى نفسه – وقد تخلف عن هذه الفترة بعض الأفراد الذين لا يزيدون عن عدد أصابع اليد الواحدة.
استطلاع الداوريات
تنقسم فرقة الصاعقة على ثلاث مراحل – المرحلة الأولى لمدة شهر وهى مرحلة التدريب الأساسي للصاعقة (الجناح الأساسي) ومدتها شهر – والمرحلة الثانية (جناح الدوريات) وهو التدريب القتالى فى الأراضي المفتوحة سواء صحراء أو مزارع وغابات ومدتها شهر أيضا أما المرحلة الثالثة (الجناح الخاص) وهو فن التدريب القتالى فى المناطق الجبلية.
لقد تم استغلال فترة التعليم الأساسي للمتطوعين وهى شهر وكذلك جزء من فترة التدريب بالجناح الأساسي لفرقة الصاعقة فى استطلاع الدوريات – ومع نقص إمكانيات النقل لاختيار الأراضي المناسبة للتدريب سواء أراضى مفتوحة صحراوية أو زراعية وكذلك أراضى جبلية وذلك للتدريب على القتال فى الأراضي الجبلية .. حيث كنا لا نملك سوى سيارة جيب واحد وهى التى تركها لى طاهر فى أول الأمر .. لذلك قررت أن تكون بداية كافة الداوريات من المعسكر وأحيانا تكون الداورية لعدة وثبات لتنتهى فى المعسكر أيضا.
وفعلا بدأت فى السير بالسيارة فى محيط المعسكر حتى 40 كيلومتر على كافة الطرق لاختيار نقط النهاية لكل داوريه واختيار الأراضي المفتوحة وكذلك الأراضي الجبلية .. علما بأن الأراضي الجبلية المحيطة بالمعسكر ليست جبال صحراوية ولكنها جبال مغطاة بالغابات وشلالات المياه والبحيرات الصغيرة – وكنا نتجنب فى الأماكن المفتوحة الأراضي المزروعة حيث كانت منتشرة مزارع العنب حتى نتجنب أتلافها وعدم إثارة الأهالي – أما بالنسبة للغابات الجبلية والتى كنت اصطحب معى دائما أما ملازم أول شاكر مرسى أو نبيل حسن ومن الصف ضباط الرقيب سعد علام ومحمد عبده ومحمد إبراهيم والمغاورى وكانوا جميعا من أجنحة الدوريات سواء الجناح الراقى أو الخاص .. وكان معنا دائما استعدادات السير فى الغابات من سيف قصير وبلطه ولذلك لفتح المدقات من أنواع الشجر المتشابك .. أما السلاح الشخصى فكان لزاما لمواجه اى حيوانات شرسة مثل الذئاب أو الخنزير البرى والذى كان السكان المحليين يسمونه الحلوف – ورغم أن الأهالى كان يحذروننا من السير فى هذه الغابات .. إلا أننا أتممنا الاستطلاع رغم هذه المخاطر .. وتعرضنا لمواقف حرجة مع هذه الحيوانات والزواحف.
لقد ألزمتنا طبيعة الأرض هناك سواء مفتوحة أو جبلة من تغيير أسلوب التدريب القتالي عن ما هو موجود بمصر وما يتم التدريب عليه عاده .. وعلى سبيل المثال أن ليس فى مصر غابات مثل الموجودة فى الجزائر.
كما أن عدم وجود عربات نقل ضمن إمكانياتنا جعلنا بقدر الإمكان أن تبدأ الداورية من المدرسة وتنتهي على وثبات فى المدرسة أيضا عدا الداوريات الجبلية حيث اعتمدنا على رجوع الطلبة إلى المدرسة بطريق (الاوتوستوب) وكان ذلك مرحب به بين الأهالى حيث كان مازال آثار الثورة موجود وجلهم للمجاهدين ولم نجد فى ذلك أى صعوبة وكان أحيانا نجد سيارات نقل مدنية تؤجل عملها لنقل أفراد فرقة الصاعقة أولا .. وذلك تطوعا منهم دون أى أوامر.
التمـــــــرد
وقد حدثت واقعة بعد مرور عدة أيام كادت أن تقضى على فكرة إنشاء وحدات صاعقة بالجزائر .. فإنه بعد مرور فترة المستجدين وبدأنا فرقة الصاعقة بالجناح الأساسي حيث قسوة التدريب والاستيقاظ فى الخامسة صباحاً وطـــــــوابير الجري والاشتباك وممارسة التكتيكات تحت تأثير النيران الحيـة ونـــــــزول المستنقعات القذرة وأكل الثعابين والضفادع وخلافه.
ولم يمر عشرة أيام حتى وجدت أحد صف ضباط البعثة يدخل حجرتي فى حوالى الساعة الواحدة صباحاً بعد منتصف الليل وهو فى حالة هلع ليوقظنى ويخبرنى أن أفراد فرقة الصاعقة الجزائريين قد تجمعوا بالقرب من بوابة المعسكر ويتوعدون لأي شخص يقف فى طريقهم لترك المعسـكر وأن المعلمين يحاولون تعطيلهم
لحين حضوري.
وفعلا فى دقائق معدودة كنت قد ارتديت ثيابي العسكري على أكمل وجه وتوجهت بسرعة إلى الجمع الحاشـد من طلبة الفرقة وهم فى حالة تمـرد وهيـاج ومعظمهم غير ملتزم بالزى العسكري.
لقد وقفت على مكان مرتفع عنهم ليلتفوا حولى وأنا أنظر إلى وجوههم الغاضبة السمراء ولا أرى غير عيون تلمع فى الظلام الذى يغطى المعسكر عدا من عدة لمبات إضاءة متفرقة تمكنى من مشاهدة هذه العيون.
لقد بدأت أتكلم فيهم مستعينا بتمجيد جهاد من سبقوهم فى الجهاد ضد المستعمر وروعة الشعب الجزائري فى كفاحه واستحضرت فى كلماتى وقوف الشعب المصرى بجانبهم وعند ذكر جمال عبد الناصر والعروبة .. وجدتهم وكأن هناك نار وسكبت عليها الماء .. وكان الحديث باللهجة الجزائرية والتى بدأت فى إتقانها ومعها كلمات باللهجة المصرية والفصحى.
وقد انتهزت هذه الفرصة من الهدوء النفسى لأنادى على أحد الطلبة المحبين لديهما وكان أسمه (محمد المقدم) وكان ذو ملامح صارمة طويل القامة وحددت له مكان ليقف فى أقصى يسار المكان وذلك بعد أن رد على بصوت عال وقال أفندم .. وبصوت عالى وجهورى قلت فدائيين على شمال الدليل .. أجمع .. ومع صيحة الصاعقة بصوت عالى أندفع الجميع ليقفوا طابور منتظم فى ثلاث صفوف كالعادة .. ولكنى قلت أنا عايز أحسن من كده .. لأصرفهم مرة أخرى .. وأجمعهم ثانية.
وبعد أن كررت ذلك عدة مرات .. قلت أننى سأكتفى بذلك ولن أجازى أحد وسنتقابل فى الصباح فى الخامسة صباحا .. وبعدها سارت الفرقة على ما يرام ولم يترك الفرقة غير عدد بسيط ولكنهم رجعوا مرة أخرى من تلقاء أنفسهم.
ولقد اكتشفت أن هناك خطأ منا نحن حيث تجاهلنا الجانب النفسى والمعنوى .. وكان ذلك غير موجود فى برامج الصاعقة أصلاً .. فوضعت فى البرنامج ساعة قبل وجبة العشاء لنجتمع فى لقاء أما جلسات سمر ترفيهية أو محاضرات مفتوحة لرفع المعنويات وقصص البطولات سوء المصريين أو عرب أو جزائريين .. وتعجبوا أننا نعرف عن أبطالهم فى جهادهم ضد الجزائريين وشهدائهم أكثر منهم.
لقد اعتبرت أن هذا الموقف هو تحدى ضد النفس البشرية وصعوبة التعامل معها .. واعترف أنها كان اكبر من تحدى الطبيعة بقسوتها من تضاريس صعبة أو درجات الحرارة بين ارتفاعها فى الصحراء أو برودتها فى الجبال.
الوقيعة
وكما كانت هناك مواجهة مع طلبة الفرقة الجزائريين وتم بحمد الله التغلب عليها .. كانت هناك مواجه من نوع آخر .. فهى فى هذه المرة مع أكبر قيادة مدنية وعسكرية فى نفس الوقت وهو محافظ المنطقة الرابعة والتى أتبعها وعاصمتها قسطنطين .. وكان المحافظ هو الشاذلى بن جديد والذى أصبح فيما بعد رئيس جمهورية الجزائر .. وهو من كبار المجاهدين وكان مساعده يدعى محمد بن روج نظرا .. لاحمرار بشرته وكان يزراع واحد وغير ملم بالكتابة والقراءة وكان من المجاهدين أيضا وبرتبه رائد.
وقد كان أحد معاونيه نقيب من الذين كانوا قد خدموا فى الجيش الفرنسى برتبة رقيب ولكنهم عندما تم تعينهم فى الجيش الجزائرى انضموا برتبـه كضباط وكان هذا الشخص عين برتبة نقيب.
والقصة بدأت عندما بدأت إعداد المعسكر لاستقبال الأفراد الجزائريين وقد صرفت بعض الإمكانيات من وزارة الدفاع وكما أن الأفراد وقد اتوا عن طريق قائد الناحية الأولى .. كل هذا ولم اتصل ولو مرة بالمحافظ (الشاذلى بن جديد) وهو رجل عسكرى فى نفس الوقت .. بل كانت كل اتصالاتي بالرئآسه مباشرة مع هوارى بومدين – وقد استغل النقيب هذا المواقف وكانوا يطلقون على هؤلاء كلمة (الفرنسيسة) ليحدث الوقيعة بينى وبين الشاذلى بن جديد .. حيث فسر له ذلك أنه تجاهل أو تعالى منا نحن المصريين .. وهذا غير مقصود طبعا ولكن هؤلاء (الفرنسيسة) كانوا قادرين على اللعب برؤوس هؤلاء المجاهدين طيبى القلب وليس لديهم لوع أو التفاف على الأحداث أو الكلام.
فأرسل الشاذلى بن جديد لاستدعائي وأنا لا أعلم لماذا بل توقعنا انه يريد أن يشكرنا أو لديه تعليمات لتوفير باقى الإمكانيات اللازمة للتدريب وخاصة بالنسبة لسيارات نقل الجنود.
قبل هذا الاستدعاء من قبل الشاذلى بن جديد كان قد حضر وانضم للمعسكر ثلاث ضباط جزائريين أثنين منهم خريجى الكلية الحربية العراقية.
وكانوا برتبة ملازم والثالث من ما يدعونهم بالفرنسيسة وكان برتبة نقيب وكان يخدم بالجيش الفرنسى فى الوحدات المرتزقة أو ما يسمى (ترانجيه) بالفرنسية وكان حاصل على دورة مظلات وكان من ضمن القوات التى قفزت (المظليين الفرنسيين) فى منطقة الجميل ببورسعيد فى حرب 1956 أثناء العدوان الثلاثى – والمفروض أن ينضموا إلى فرقة الصاعقة ولكنهم رفضوا ليبقوا فى المعسكر للمعاونة الإدارية لحين نهو فرقة الصاعقة وتشكيلهم فى تنظيم كتيبه على أن يقوموا بقيادة هذه الكتيبة .. إلا أنى كنت أشركتهم فى بعض الداوريات كمساعدين مع المعلمين.
عندما ذهبت إلى قسنطنية لمقابلة الشاذلى بن جديد رافقتى أحدهم ولكن عند بوابة مبنى المحافظة استأذن على أن يبقى خارج المبنى .. وعلمت سر ذلك فيما بعد حيث ذكر فى طريق العودة أنه كان يعلم أن المقابلة لن تكون مريحة أو مستحبة.
لقد وجدت مبنى المحافظة عبارة عن قلعة أثرية ذات بوابة ضخمة وأسوار عالية وعندما تدخل من البوابة فعليك أن تسلك طريق بعرض حوالى 3م ملتف مع سور القلعة وللقلعة صحن كبير فى المنتصف منخفض عن الممر أربعة أمتار .. وقد سرت حوالى 200م ليدلني الجندى الذى رافقني من حرس البوابة حتى باب كبير وقال هنا مكتب الشاذلى بن جديد .. ودخلت المكتب لأجده عبارة عن صحن كبير ذو سقف عالى جدا عن كونه غرفة واتساعها حوالى 15 م أو أكثر ذو سقف وكان الشاذلى قابع فى مكتب صغير فى آخر الصحن ويقف بجانبه رائد يدعى محمد بن روج وعلى الجانب الأيمن من الصحن كان نقيب من الفرنسيسة يقف عند باب جانبى.
تقدمت عدة خطوات حتى أقف أمام مكتبه وكان صوت حذائى البيادة ذو الحدوه الحديد يصدر صوتا عالى على الأرضية الرخام – وبعد أن أديت التحية انتظرت أن يأمرنى بالجلوس .. لكنى فؤجئت بتجاهله لذلك وبعد أن رد التحية وهو جالس وفجاه تكلم وبصوت عالى لا يليق باستقبال ضيف ليقول وبدون أى مقدمات (أنت جاى من مصر علشان تحتلونا بعد ما طلعنا الفرنسيين) وبعد كلمات حول هذا المفهوم .. ولكنى رديت عليه بنفس النبرة ونفس الأسلوب وما كان منه إلا أن قال أنت تعديت حدودك العسكرية ونظر إلى النقيب الموجود وقال هذا (مشاورا علىّ) النقيب موقوف وتحت التحفظ .. وفى نفس الوقت خرج من هذا الباب الجانبى أربعة جنود مدججين بالسلاح الرشاش القصير المعلق فى أكتافهم .. وكأن هذا الشىء مرتب ومعد له من قبل.
وفى خطوات عسكرية معتادة وجدت نفسى محاط بعدد 2 جندى على يمينى ويسارى مثلهم وكل جندى ملاصق لى قد تأبط زراعى المجاور لكل منهم – وفى حركة أعطانى الله فيها قوته وتوفيقه .. بأن دفعت بكلتا زراعي من هم على يمينى ويسارى فى وقت واحد .. ليقع الأربع جنود بأسلحتهم على الأرض .. ثم تقدمت خطوة للأمام تجاهه وقلت له أنا خارج من هنا لكن قسما بالله (اللى حيجى ورايا سوف أكون قاتله) واستدرجت متجها خارجا من بابه لأقطع حوالى 200م حتى بوابة المحافظة كما دخلت ولم أحاول النظر خلفى أو حتى أسرع فى خطواتى مع أنى كنت انتظر أى رد فعل فى أى لحظه .. واعتقد أن هذه أطول 200م قطعتهم فى حياتى.
خرجت من البوابة لأقابل الضابط الجزائرى الذى كان ينتظرنى فى الخارج والذى بدأ من كلامه أنه ستكون مقابلة غير مريحة.
توجهنا إلى المعسكر فى سكيلدا لأقابل زملائى وأبلغهم أنى سوف ألغى مأموريتى وعليهم أن يستمروا فى مهمتهم .. وفعلا جمعت جاجيانى فى الشنطنة لأتجه فى اليوم التالى إلى مكتب الملحق الحربى وقد قصصت عليه ما حدث وأبلغته بقرارى – لكنى فؤجئت به بكلام له وجه نظر مختلفة حيث قال أن النساء والرجال الذين يقومون بالتبشير فى أفريقيا يتعرضون للمواقف بما أسوء من ذلك بكثير علاوة على المعيشة الصعبة التى يعيشونها فى وسط الحشرات والحيوانات المفترسة .. ومع ذلك يتحملونها!! عارف ليه لأنهم أصحاب رسالة وإحنا أصحاب رسالة ورسالتنا تعريب الجزائر بعد غربة طويلة عن الأمة العربية وكذلك تحويل ميليشياتهم وشبابهم إلى جيش نظامى مدرب.
لقد تأثرت بكلامه وبحكمته وفكرة .. رغم أنى كنت مختلف عليه من قبل .. لما شاهدته وهو يعيش حياة مرفهه لم نشاهدها من قبل بين زملاءنا – ولكنها قلة الخبرة فى أن لكل مكان مقام.
تلاحظ هنا أن اللغة الرئيسية فى إقناع الآخر .. هى لغة القومية العربية والهدف القومى لها – وهكذا كنا جيل نؤمن بأننا فى معركة ضد المستعمر .. وأن آمالنا هى الوحدة والقومية العربية.
وقد رجعت إلى زملائى فى المعسكر وقد أسعدهم استمراري بالبعثة. وعملنا جميعا بهمه عالية بعد أن قلت لزملائى أقوال الملحق الحربى وانتهينا من الفرقة رقم 1 صاعقة وذلك قبل عيد الاستقلال بأسابيع قليلة .. وقد قمنا بتشكيل الأفراد فى صورة وحدة عسكرية (كتيبه) وتم تعيين الضباط الجزائريين كقيادات لهم وتم اختيار الخريجين الممتازين وذو الشخصيات القيادية وتم ترقيتهم إلى رتبه عريف والرقيب ليعينوا قادة جماعات وفصائل وسرايا وكان هؤلاء الصف هم القيادات الحقيقة للكتيبة دون الضباط الجزائريين .. حيث كانت تعليمات التدريب وخلافه تصدر منى مباشرة .. وبدأنا فى التدريب التكتيكى على القتال الخاص بمهام الصاعقة كما أنه تم التدريب على طوابير الاستعراض استعدادا للاشتراك فى الاحتفال بعيد الاستقلال.
وكنت قد قدمت تقريرى بما تم انجازه إلى وزير الحربية هوارى بومدين وذلك فى مقابلة شخصية وتم الاتفاق على الاشتراك فى عيد الاستقلال بالطابور العسكرى.
وفى يوم عيد الاستقلال كنت قد قسمت الكتيبة أربع مجموعات على أن تكون 2 سرية فى طابور العرض بالعاصمة الجزائر وفصيلة فى المحافظة بقسنطينة وفصيلة فى بلدة سكيكدا وفصيلة فى عنابه وقد حضرت العرض بالجزائر العاصمة وكان معى نبيل حسن وقد كنا نجلس فى المنصة والتى كان بها بن بيلا وهوارى بومدين والشخصيات العامة الجزائرية من المجاهدين وكافة الملحقين العسكريين والسفراء الأجانب وقد مر بالعرض كافة الوحدات من الجيش الجزائرى وحتى طلبة الكلية الحربية بشرشال والتى كان بإنشائها وتدريبها ضباط مصريون وكانوا يسيرون فى طابور العرض بالخطوة المعتادة والتى ظهر جليا عدم التدريب الكافى على طوابير الاستعراض أو الاهتمام بأناقة الزى العسكرى – وعندما بدأت سرايا الصاعقة فى المرور أمام المنصة وكنت قد نسقت مع الموسيقات العسكرية بأن يعزف المارشات المناسبة للخطوة السريعة .. وفعلا ظهر جنود الصاعقة بالأفرولات المموه والسلاح المعلق على الأجناب وبالخطوة السريعة ومع صيحات الصاعقة وأداء التحية .. كل هذا أبهر من هم موجودين بالمنصة وبدأت المنصة بأن يقف فيها الأفراد مرة واحدة مع التصفيق وبدأوا بالتعليق المستمر أثناء مرور جنود الصاعقة والإشادة بهم.
وعندما انتهى مرور الصاعقة المشرف بدأ من هم موجود بالمنصة بالجلوس .. كما أنك كنت تسمع الزغاريد من جمهور الشعب .. ولكنى سمعت بعض من الموجودين يقولون أن هؤلاء الجنود مصريين أتوا من مصر – فأعطيت أوامري إل الملازم أول نبيل حسن بأن يذهب إلى سرايا الصاعقة ويعطيهم أمر بالانتشار بين الجمهور وفى المنصة لأن التحدث معهم سيثبت أن هؤلاء جنود صاعقة جزائريين .. وأكملت أوامري بأن العودة تكون بواسطة القطار فى نفس اليوم .. ومع أن هؤلاء الجنود قد صار لهم أكثر من ثلاث شهور لم يلتقوا بأهلهم ولم ينزلوا أجازة ولو ليوم .. إلا أن الجميع ذهب إلى المعسكر فى سكيكدا (500كم) من العاصمة ولم يتخلف جندى واحد عن ميعاد الحضور للمعسكر.
لقد كان هذا العرض العسكرى الذى قمنا به كوحدة صاعقة جزائرية هو المفتاح السحرى الذى فتح الأبواب أمام بعثة الصاعقة المصرية – فإنه لم يمر أسبوع حتى حضر إلى المعسكر وزير الحربية هوارى بومدين ومعه الشاذلى بن جديد ليشكر البعثة على الجهد الذى بذل لإنشاء هذه الوحدة .. وقد أعتذر الشاذلى بن جديد لما بدر منه حيالى.
وقد قدمنا طلبا منا من الاحتياجات سواء الحملة (السيارات) اللازمة لنقل الجنود فى التدريب والذخيرة الحية والتجديدات اللازمة للمعسكر .. كما صدق هوارى بومدين على تسكين الضباط المصريين والصف ضباط كل فى عمارة مستقلة متجاورتين .. لكل فرد شقة منفصلة.
كما تم أمدادنا بأفراد للدورة الثانية لتدريب الصاعقة وفى هذه المرة كان المجندين من كل محافظات الجزائر وليس من بلدة كولومبشار فقط كما فى الدورة الأولى .. كما تغير الوضع بالنسبة لأفراد البعثة فى بلدة سكيكدا .. لقد كان لنا بعض من الشعبية بين أهل البلدة حيث كان شاكر مرسى من أبهر لأعبى كرة السلة وكذلك بالنسبة لى .. وكنا ضمن فريق البلدة والذى كان بسبب ذلك تقدم الفريق من ذيل الدورى إلى الأول على دورى المحافظة والتى كان بها عشر فرق لكرة السلة.
ولكن بعد العرض العسكرى أصبح لنا تعامل خاص بين جموع الشعب والمسئولين وأصبح مجلسنا اليومى مع رئيس المدينة ومسئول الشرطة وصاحب جريدة المدينة وغيرهم من المسئولين حيث كان المجلس اليومى دائما فى قهوة تسمى قهوة (فيدنزا) – لقد كان هذه القهوة هى ملتقى المسئولين لبحث مشاكل ووضع الحلول والتى أجدها تطبق فى اليوم التالى حيث كان المناقشة قليلة والقرارات سريعة وحاسمه.
وأصبحت هذه المجموعة تقريبا وغيرها تجتمع عندى كل يوم أحد فى الفيلا التى استأجرتها على البحر مباشرة على ربوه عالية بجوار المعسكر وكانت أفخم مبنى على هذا الشاطئ .. ولقد توطدت العلاقات بيننا وبين المسئولين الجزائريين فى المحافظة .. لدرجة أننى تدخلت لدى المحافظ حتى أسكنت المدرسين المصريين المجودين بالبلدة (سكيكدا) كل فرد فى غرفة بعد أن كان كل أثنين فى غرفة وكذلك كل شخص متزوج فى شقة مستقلة بعد أن كان كل عائلتين فى شقة وأصبح تعامل الجزائريين مع المدرسين المصريين بشكل أكثر احتراما بكثير عن ذى قبل.
وأحب أن أذكر واقعة كان لها معنى كثير فى هذه التوقيت من الشعب العربى عامة .. وذلك عندما كنت فى أحد دوريات التدريب ومعى أفراد الداورية وعندما مررنا فى أحدى القرى على منزل أحد الفلاحين وعلم أننى مصرى .. فأصر بتوقيف الدورية ليحلب الجاموسة التى لديه ويقدم لى اللبن الحليب .. ثم ينظر إلى أبنه الشاب ويقول له هذا شاب مثلك مشيرًا إلى .. وقد ترك بلدة ويعرض نفسه للمخاطر داخل الجبال ليدرب جيش قوى لبلدك الجزائر .. وأنت جالس بجانبى هنا .. وأقسم عليه أن يتوجه فى اليوم التالى لكى ينضم إلينا.
وفى خلال ثلاث شهور أخرى كنا قد كونا كتيبة صاعقة أخرى ليصبح ما تم انجازه هو مركز تدريب للمجندين ومدرسة صاعقة وعدد 2 كتيبة صاعقة .. وبعد ذلك حضر النقيب سيد الشرقاوى وهو من أفضل ضباط الصاعقة ليتسلم منى قيادة البعثة بالجزائر لينتهى خدمتى بالجزائر فى مايو 1965.
لقد كانت تجربتى بالجزائر فيها تحدى مختلف عن أى فترة أو تجربة أخرى .. لقد كانت تجربتى فى اكتشاف طريق فى بحر الرمال الأعظم بالصحراء الغربية هو تحدى ضد الطبيعة وتحدى لمن سبقونى ولم يتمكنوا من اجتياز جبال الجلف فى الحدود بين مصر وليبيا .. أما التحدي مع الآلة الحربية كان مع الطائرة الهليكوبترا ونظريتها للاستخدام العسكرى وتسليحها.
وفى الجزائر كان التحدى هو ضد الطبيعة البشرية للإنسان بما فيها من مواقف مع البشر سواء من هم يتبعونك أو مع من نتعامل معهم سواء رؤساء أو مرؤوسين .. ومنهم من يريد لك النجاح ومنهم من يقف فى سبيل أنجاح عملك.
وقد وفقنى الله سبحانه وتعالى فى هذه المهمة وقد اكتسبت انطباعات إنسانية كثيرة من هذه الفترة التى قضيتها بالجزائر.
وقد سجلت الكثير منها كعادتى فى حبى فى تسجيل هذه الأشياء كتابة .. وقد سجلتها تحت عنوان شعوب لا تعرف الكراهية وكانت الزاوية الأولى والتى روتها لى المناضلة وكانت تدعى (فله) وكانت زوجة لنقيب شرطة بالمدينة وكانت قبل ذلك خطيبة للمجاهد مراد ديدوش والذى تسمى أشهر شارع باسمه فى الجزائر العاصمة والقصة أنها كانت فى مدرستها بالثانوية منتظمة وفى المساء والأجازات تعمل ضمن المجاهدين وكانت صديقتها الحميمة بالفصل تدعى (نيكول).
وفى أحدى العمليات تم القبض على (فلة) لتودع السجن وتحاكم عسكريا ليتم الحكم عليها بالإعدام رميا بالرصاص – وكان سيتم ذلك فى الميدان المطل على ميناء سكيكدا.
وفى اليوم المحدد بالميدان تم حضور جماعة الإعدام بقيادة (كولونيل) فرنسى حيث تم ربط الفتاة فى عامود وقد أحاط الميدان أهل البلدة وبين همهمة الرجال بالشهادة وزعزدة النساء .. حيث اندفعت فتاة فرنسية لتحضن (فلة) وتقول أقتلونى معها ولم تكن هذه الفتاة الفرنسية سوى صديقتها الحميمة (نيكول) .. وهى فى نفس الوقت ابنة (الكولونيل) قائد فرقة الإعدام .. وبعد أحداث وملابسات عدة تم الإفراج عن فله .. والتى انقطعت عن الدراسة ولكنها استمرت فى نضالها مع المجاهدين والرواية الثانية قد حضرتها وأنا أقيم بالجزائر .. وبدأت عندما أذيع عن مقتل (بن خضرى) بالغرب وهو أحد الزعماء الخمسة الذين قادوا حركة الثورة الجزائرية والذى قادها بن بلا ولكنه بعد الاستقلال استبعد لاراءه الخاصة به .. وبذلك اتجهت صوابع الاتهام فى أغتيالة بأن ذلك تم بتدبير داخلى من زملاءه.
وفى مساء هذا اليوم ذهبت كالعادة إلى قهوة (فيدنزا) والقربية من ميناء سكيكدا .. وكنا غالبا نغادر الكافية فى حدود ما بين التاسعة والعاشرة ولكنى وجدت جميع الرجال جالسين وغير مؤهلين لمغادرة المكان فسألت أنتوا ناويين تباتوا هنا ولا أيه .. وكان أغرب رد وصلنى بأنهم قالوا .. فعلا أحنا ممنوعين من دخول بيوتنا حتى يتضح من قتل خضرى – فقلت ومن منعكم وأصدر هذا الفرمان .. فقالوا (العجوز) .. ولكن العجوز هذه تطلق على أكبر السيدات سنا فى العائلة .. فهى التى تتحكم فى القرارات المصيرية بالنسبة للعائلة. وهنا علمت لماذا نجحت الثورة الجزائرية ومن الذى كان يتحكم فى استمرارها.
بل ذكرنى ذلك وأنا اكتب هذه السطور بكبيرة العائلة فى الصعيد ..
http://group73historians.com/مقالات-عسكرية/1210-2017-03-26-09-54-57
كتب اللواء أحمد رجائي احد أبطال الصاعقة والمجموعة 39 قتال ومؤسس وحده الـ 777
في مذكراته عن نشأه قوات الصاعقة الجزائرية
بعثة الصاعقة
فى صيف 1965 وقد كنت فى يوم راحة عقب الانتهاء من داورية تدريب للطلبة فى جبل عتاقة .. حيث اتصل بى الملازم أول فؤاد سعد الدين (والذى تقلد فيما بعد محافظا للإسماعيلية والمنوفية والمنيا) وقال لى أنت قاعد فى البيت وفيه بعثة للجزائر من ثلاثة ضباط وثمانية صف ضابط .. وقد تعدى دورك فى المأموريات وكان الضباط هم الملازم أول شاكر مرسى ونبيل حسن وصلاح خيرى غنيم ..
فقـررت عدم التنازل عن وضعي المناسب بين أقرنائي متحديا أى قرار فذهبت فى اليوم التالي إلى مدرسة الصاعقة وقابلت قائد المدرسة وهو المقدم صلاح عبد الحليم .. وخاطبته متحدثا أننى لن أقبل أن يتقدم أحد دوري فى التكليف وأكملت حديثي أننى قد أحضرت معى مـلابسى للإقامـة بالمدرسة ولن أغادرها إلا أما بخطـاب نقـلى من الصاعقة أو خطاب تكليفي ضمن البعثة للجزائر .. وكان هذا أول تحدى للدفاع عن مكانتي الأدبية بين أقـرنائى وكنت برتبه المـلازم أول ولكنى كنت أقدمهم فى الأقـدميه ولكن كان يسـبقني نبيل وشـاكر فقط فى الخدمة بالصاعقة.
وكان المقدم صلاح رجل واسع الأفق حكيم فى أفعاله .. وفعلا استدعاني فى آخر اليوم ليخبرني أن استعد وأجهز أوراقى للسفر .. بل واستدعى النقيب سمير ياسين وكان أقدمنا جميعاً إلا لأنه كان يخدم بالصاعقة قائدا للحملة (سيارات) المدرسة لكن فإن التكليف بقيادة البعثة كانت لى حيث كان النقيب سمير بعيد كل البعد عن التشكيلات القيادية .. وبذلك فقد عين المقدم صلاح عبد الحليم كل من هو أقـدم من الملازم أول صلاح خيرى ضمن مأمورية الجزائر.
فى اليوم المحدد للسفر تقابل الجميع بمطار القاهرة الدولى وقد حضر المقدم صلاح لتوديع البعثة بالمطار .. إلا أنه وأثناء انتظار الإجراءات كان يوجد مع الضباط عدد ثمانية صف ضباط وقد لاحظت من أقدم ضابط صف موجود بالبعثة وكان برتبه مساعد بعض التصرفات الخارجة عن التقاليد العسكرية سواء فى أسـلوب الحديث أو التعامل مع زملاءه .. فالأدب شيء والتقاليد العسكرية شيء آخر .. ولكنها تصرفات فيها تعالى غير مبرر.
وهنا أخذت أول قرار لى كقائد للمأمورية حيث نظرت إلى المقدم صلاح وقلت له أن هذا المساعد لا يصلح أن يكمل المأمورية معى .. وكان قد لاحظ المقدم صلاح ذلك .. فما كان منه إلا أن قال للمساعد بعد أن أخذ باسبورة .. روح أنتى دلوقت وقابلني بكره فى المدرسة .. وألغيت المأمورية له وأرسل بدلا منه لاحقا رقيب يدعى فتحى.
وصلنا الجزائر العاصمة ومن المطار أخذتنا سيارات إلى مكتب الملحق العسكرى بالسفارة المصرية والذى قام باستقبالنا وافهمنا السيد المحلق إننا سنذهب إلى بلده كلوم بشار فى الجنوب للمشاركة فى الصراع القائم بين الجزائر والمغرب فى بما هو معلوم عن الصراع حول منطقة الصحراء المشتركة بين البلدين والذى خلقها المستعمر الفرنسى قبل مغادرته البلاد .. وهذا طبيعى من مستعمر لا يترك البلاد إلا بمشكلة – وقد أرسلنا الملحق الحربى إلى مبنى فخم بما يشبه القصر ويسمى (فيلا عزيزة) وهو مبنى على الطراز المغربي من حوائط بالقيشانى وأحواش داخل المبنى .. وقد قابلت هناك الفريق القاضي واللواء محمود ذكى عبد اللطيف والذى كان كبير معلمي الكلية الحربية إثناء دراستي بالكلية والذى اشتهر عنه بكلمة (جنابو شديد) وذلك بما عرف عنه من شدة وأصول فى التقاليد العسكرية وكنت سعيد جدا أن التقى بهؤلاء القمم الكبيرة فى هذا المكان.
وبعد ليلتين قضيناهم بالجزائر العاصمة ذهبنا إلى كلوم بشار بواسطة طائرة حربيـة والتى كانت تبعد برا بمسافة حوالى 1800كم.
وهناك استقبلنا قائد الناحية (المحافظ) ويدعى سليمان وهو من أبرز المجاهدين أثناء حرب التحرير الجزائرية .. وكان بشوش طويل القامة
ينم مظهره وأفعاله عن طيب قلب .. وحب للمصريين وسأذكره فيما بعد لأنه كان له العون الكثير فى نشأة الصاعقة بالجزائر.
وكنت اعتقد إننا سنذهب إلى الإقامة فى معسكر أو ما شابه .. ولكنى فؤجئت بالإقامة فى فندق بسيط بالمدينة ومع هذا يعتبر أفخم مكان للإقامة بهذا المكان وهو عبارة عن مبنى من طابقين له صحن كبير فى وسط الغرف تطل عليه كافة الغرف.
وقد سبقنا إلى هناك النقيب كراوية (مدفعية) والمقدم تحسين شنن (مدرعات) – كما كان يقيم فى نفس الفندق مراسلين عسكريين من الأهرام والأخبار وكذلك صوت العرب وهم بالترتيب السيد/ عارف والسيدة/ مريم روبين والأستاذ/ محمد أبو الفتوح.
وكانت التعليمات بالا نغادر الفندق لأى سبب أو الظهور بالمدينة واعتقد أن ذلك لتوفير الأمن لنا والحفاظ على سرية المأمورية من قبل دولة المغرب وجلسنا ما يقرب من خمسة أيام لم يغادر الفندق غير النقيب كراوية لمعاونة القوات الجزائرية فى استخدام مدفعية الميدان – أما بالنسبة للمراسلين الحربين فقد كان أشجعهم السيدة/ مريم روبين التى كانت تصر فى معظم الليالى إلى الخروج لمشاركة القوات المشتبكة على الحدود .. أما الباقى فكان يكتفي بالأحاديث الشفوية مع العسكريين الجزائريين.
واذكر أن السيد/ محمد أبو الفتوح مراسل من صوت العرب كان يجرى أحاديث مسجلة ويرسلها للقاهرة .. وكان يبدأ حديثة بمقولة شهيرة حيث يقول ونحن فى وسط المعارك والنيران .. قابلت المقاتل!! ثم يبدأ فى ذكر الاسم ويسترسل فى الحديث – إلا أنه عندما جاء للتسجيل معى وفؤجئت بالمقدمة التى ذكرتها من قبل .. أحرجته وقلت له أحنا قاعدين فى لوكانده مش فى الميدان ورفضت التسجيل معه.
بعد مضى بضع أيام انتهت المعارك على الجبهة وكان علينا أن نغادر الجرائر لانتهاء المهمة – وقد جاء السيد وزير الحربية آنذاك الهوارى بومدين والسيد/ سليمان (المحافظ) وبعض صغار الضابط برفقتهم وذلك لشكر كافة الموجودين فى الفندق .. وبعد ذلك خرجنا لأول مرة خارج الفندق وكنا أفراد بعثة الصاعقة كضباط واقفين فى الشارع أمام الفندق وفوجئنا بالسيد هوراى بومدين يقف بيننا ونظر لى وقال أنت مأموريتكم انتهت .. لكن هل فى أمكانكم أن تنشأوا مدرسة ووحدة صاعقة فقلت له طبعا ممكن .. وخصوصا كنا نحن الضباط والصف نمثل كافة الأجنحة التعليمية لمدرسة الصاعقة وعلى دراية كاملة بذلك.
وفعلا كنا نمثل أجنحة مدرسة الصاعقة حيث كان صلاح خيرى من الجناح الأساسي ونبيل وشاكر من الجناح الراقي وأنا من الجناح الخاص (الجبال) وسمير ياسين كخبرة فى الشئون الإدارية وقادر أيضا على تعليم بعض مواد التعليم الأساسي – أما الصف ضباط فكانوا خليط من كافة الأجنحة التعليمية بمدرسة الصاعقة فنظر إلى ضابط كان معه برتبه رائد يدعى طاهر وقد علمت فيما بعد أنه ابن أخت هوارى بومدين وكان من المجاهدين أيضا وقال له بومدين عليك بعد أن ترافقهم إلى الجزائر ثم ترافق النقيب رجائى إلى معسكر المظلات فى بلده سكيكدا (فيليب فيل) ليعاين المعسكر ويقر هل هو صالح لذلك من عدمه.
غادرنا مدينة كولومب بشار لنصل العاصمة .. والتى غادرت العاصمة فى اليوم التالى مع النقيب طاهر فى عربة جيب وكنت أنا وهو فقط حيث كان يقود السيارة بنفسه.
وتحركنا شرقا إلى بلدة (سطيف) وهى على جبال عالية مرتفعة تكسوها الثلوج معظم أيام السنة .. ثم إلى بلدة قسطنطين وهى على جبلين كبيرين متصلين ببعضهما فى منظر جميل خلاب وتمتاز بجو لطيف عن بلده (سطيف) .. وهى عاصمة الناحية (المحافظة) الرابعة وكان قائد الناحية (المحافظ) المجاهد الشاذلى بن جديد والذى أصبح رئيس للجمهورية فيما بعد – ويعاونه رائد من المجاهدين أيضا وغير ملم بالقراء أو الكتابة وأسمه (بن روچى) وأكيد له أسم آخر حقيقي .. حيث كانت كلمة (روچى) بالفرنسية تعنى الأحمر وذلك لاحمرار وبياض بشرته.
وبعد حوالى 80 كم من قسطنطين وصلنا سكيكدا ومنها وبعد مسيرة 8 كم على الطريق البحر ليحتضن المعسكر أروع مكان موجود بالمنطقة حيث جبال الغابات خلفه والبحر أمامه ويطل عليها مجموعة من الشاليلات المتناثرة بطول الشاطئ.
كان المعسكر عبارة عن عنابر لها سقف جمالون وفى مدخل المعسكر مبنى متعدد الأغراض ويبدو أنه كان لقيادة هذه الفرقة والتى كنت أعلم أن معظمها من المرتزقة.
كما أنه توجد مجموعة من الملاعب المتعددة – ولكن كل هذا يحتاج إلى ترميم بسيط حتى تكون صالحة للاستخدام ويبدو أن هناك بعض الأشياء قد نهبت لا تصل لمستوى التدمير.
وكان يوجد شخص مدني فى حدود الأربعينيات وأسمه (بوعلى) وهو حارس على هذا المعسكر وكانت ميزته والتى عرفتها فيما بعد أنه متعدد المهن ونشيط ويفهم فى مبادئ أعمال الكهرباء البسيطة وكذلك السباكة وفرحت به وخاصة أن لغته العربية واضحة بجانب الفرنسية طبعا وأنك تجد أن اللهجة العربية أكثر وضوحا كلما اتجهت إلى الشرق من البلاد حيث أنك فى غرب الجزائر تفهم منهم اللغة العربية بالكاد وقد حافظوا وتعرفوا على اللغة العربية من خلال راديو صوت العرب وأغانيها المصرية كلمات المذيعين.
وافقت على اختيار المعسكر وبدأنا رحلة العودة لنصل فى نفس اليوم وكانت وجباتنا خفيفة فى بعض المطاعم المنتشرة على الطرق والتى كانت تقدم كل شىء من شراب والمأكولات على الطريقة الفرنسية.
لقد قطعنا مسافة 1000كم ذهابا وإيابا من العاصمة إلى سكيكدا فى يوم واحد .. وقد كنا نتبادل قيادة السيارة.
وفى صباح اليوم التالى ذهبنا لنقابل وزير الحربية هوارى بومدين وقد كنت أعددت قائمة بالمطالب الملحة لإصلاح المعسكر من سباكة وكهرباء وخلافه وطلبت أمدادنا بى 200 شاب مجند لكى نبدأ بهم أول فرقة صاعقة .. ووعد بأن كافة المطالب سوف تأتى لنا فى خلال أسبوع .. وقد أعطاني النقيب طاهر السيارة الجيب الذى كان يقودها واستخرج لى بطاقة سواقة عسكرية فى الحال.
وخرجت من وزارة الدفاع بالسيارة إلى المجهول حيث كان المفروض أن أذهب إلى مكتب الملحق الحربى والذى أجهل الطريق إليه تماما .. كما كنت أجهل بتعليمات المرور الجزائرية!! هكذا كانت الأمور تسير بتلقائية غريبة بالنسبة لى .. فلك أن تتخيل بساطة إلقاء المهمة من وزير الحربية ونحن وقوفاً أمام الفندق فى كولمبشار وقبولى للمهمة .. لأقطع مسافة ما يقرب من 1800 كيلو بواسطة الطائرة إلى العاصمة وفى اليوم التالى 1000 كم ذهابا وإيابا لمعاينة المعسكر ثم أقابل وزير الحربية فى اليوم التالى ويوافق على كل المطالب .. ثم اذهب إلى مكتب الملحق الحربى لجمع قوة البعثة ويتم الحجز لهم فى القطار إلى سكيكدا .. وأقود أنا السيارة ومعى شاكر مرسى بعد أن صرفنا بعض المواد الغذائية من أرز وعـدس ومعلبات من مكتب الملحق الحـربى وهى مواد غذائية ترسل من القاهرة .. وكان هذا ضروري حيث أن الراتب هو مرتب بدل اغتراب وهو لا يكفى معيشة كاملة من شرب وغذاء .. أى بالمعنى الدارج (مصروف أيد).
وصلت سكيكدا فى ليل نفس اليوم لأنتظر القطار الأتي من العاصمة حيث كان يقل الضباط والصف ضباط .. لأنقلهم إلى المعسكر على عدة مرات.
كان لهذا المعسكر حارس أو غفير كنت قد تعرفت عليه فى المرة السابقة وهو من النوع المتعاون جدا لا تفرقه عن ابن البلد عندنا فى مصر وهو نحيف سريع الحركة وأهم ما فى الموضوع أنه على قدر معقول من العمل فى السباكة والتوصيلات الكهربائية البسيطة .. وهذا مما ساعدنا على تجهيز لمبنى للصف ضباط وعنبر للضباط أو الأحرى غرفتين كبار متجاورتان ومبنى يمكن استخدامه كمكاتب وذلك بملحقات هذه المبانى من دورات مياه وكنا نعمل جميعاً مع الحارس سواء ضباط أو صف ضباط وفعلا أرسلت العربة إلى البلدة التى أحضرت بعض المستلزمات مثل المفكات والمسامير وغيره وكان المعسكر يشمل عدة عنابر وكلها دور واحد وكانت كافية لاستقبال طلبه لفرقة الصاعقة وكذلك تكفى لإنشاء كتيبة صاعقة أيضا وهذا ما تم فعلا فيما عد.
وقبل الغروب حضر قول من سيارات النقل العسكرية والتى كانت تحمل عدد كافى من السراير والمراتب والبطاطين وبعض من المكاتب والدواليب وقد تعاونا جميعا ضباط وصف وسائقين فى نقل هذه الكمية من الاحتياجات إلى العنابر .. وقد فرشنا ما يلزمنا للنوم – ولا أنسى الحارس (بوعلى) عندما أستوقفنى أثناء العمل وقد لمعت عيناه دامعة فى الضوء الخافت من بعض اللمبات الكهربائية والتى أنارنا بها العنابر والغرف .. وقال لقد عملت فى هذا المعسكر كعامل لخدمة القوات الفرنسية .. والآن لا أصدق نفسى وأنا أقوم بالمشاركة فى إعداد المعسكر مرة أخرى لاستقبال أخوه عرب من جنسى .. وأنه سوف يمتلأ بأفراد جزائريين فى زيهم العسكرى ثم حضنني وقد ربت على ظهره مشجعاً .. وقد قال ذلك بلهجة جزائرية فهمت منها معظم كلماتها والتى كان يرددها بحرارة.
لقد انتهينا فى فترة وجيزة تجهيز أقامة لعدد 200 فرد تقريبا للتأهيل للصاعقة وإقامة الضباط والجنود بالشكل اللائق – وكان ينقص أعداد ميادين التدريب الخاصة بالصاعقة مثل ميدان الرماية بالذخيرة الحية ميدان الاشتباك وميدان السونكى وميدان لتدريب الجبال وكذلك ملاعب مثل الكرة واليد والطائرة والسلة والتى كانت موجودة ولكن غير معتنى بها.
وفعلا بدأنا فى تجهيز كل هـذه الميادين والملاعب وكان يتم ذلك بواسطة الضباط والصـف ضباط سواء من أعمال نجارة خفيفة أو دهانات.
وهنا ظهر بوادر للتمرد من الصف ضباط المصريين المرافقين للبعثة وللأسف جميعا خدموا معى قبل ذلك بمدرسة الصاعقة ومعظمهم كنت معلم عليهم فى فرقة الصـاعقة – وكان هذا التحدي الثانى لى من قبل الأفراد بعد موقف المساعد بمطار القاهرة.
لقد حضر أقدم صف ضابط ويدعى الرقيب أول سامى وكان يخدم معى بمدرسة الصاعقة بالقاهرة .. وأخبرني أن باقى صف ضباط البعثة ممتنعين عن العمل ويقول أنهم مدربين ومعلمين وليس عمال صيانة أو تراحيل. فطلبت منه أن يجمعهم .. وذهبت أليهم وبمنتهى الهدوء قلت لهم انتم فعلا لكم كل الحق وأنا بطلب منكم جمع حوائجكم فى الشنط استعدادا للسفر إلى القاهرة وسأرسل معكم خطاب لإرسال بدلا منكم صف ضباط معلمين يقبلون أى أعمال أخرى مهما كان نوعها.
وتركتهم بعد ذلك وبمجرد وصولى إلى مكتبى حضر الجميع لى ليعتذروا ولكنى لم أقبل اعتذارهم .. وأخيرا قلت لهم .. سأقبل الاعتذار ولكن عليكم تجهيز الشنط الخاصة بكم ويتم تبديل الملابس من خلال الشنطة ولمدة أسـبوع ومن يتقاعس عن العمل سوف أرحله فورا .. وفعلا تم ذلك .. وبدأ العمل بنشاط وهمه
عن ذى قبل.
هؤلاء الشباب رغم أن ليس هناك بدل نقدى يذكر وأن الإقامة كانت قاسية من ناحية المأكل والمشرب .. إلا أنهم كأى مصرى من هذا الجيل لا يقبل التراجع أو الفشل وعلاوة على أنهم كانوا يؤدون نفس الأعمال التى يقوم الضباط بعملها.
وأصبح المعسكر جاهز ولكن لم يأتي لنا أى من الشباب الجزائري لنبدأ الدورة وقد كنت طلبت من بومدين 200 فرد.
وبدأت فعلا أذهب إلى الجزائر العاصمة حيث قيادة الجيش كل ثلاثة أو أربع أيام لأكرر طلبى – وأحيانا اقطع المسافة 500كم إلى العاصمة أما بالقطار أو بالسيارة الجيب – وبعد حوالى أسبوعين على هذا الحال وفى المرة الأخيرة كان مع بومدين محافظ ناحية كولمبشار وهو المجاهد سليمان والذى سبق أن تقابلنا عندما أخذت التكليف من بومدين فى كولمبشار .. وكانت هذه المقابلة فى وزارة الحربية عند سلالم الوزارة حيث كان بومدين يغادرها .. فقال لى سليمان أوعدك أنه فى خلال يومين سوف يكون عندك 200 شخص.
وفعلا فى عصر اليوم الثالث وجدت حوالى ستة أفراد يرتدون الملابس المدنية يدخلون المعسكر ليقدموا أنفسهم على أن السيد سليمان أرسلهم من كولمبشار وكانوا شباب فى سن العشرينات وما دون وأنهم حضروا مع مجموعة حوالى 220 فرد فى نفس العمر وقد حضروا بالقطار وأنهم سوف يحضروا تباعا من المحطة بواسطة (الاتوستوب) – وفى الحال أرسلت السيارة الجيب والتى كانت تساعد فى نقل الأفراد إلى المعسكر من محطة القطار.
وقد عمت الفرحة أفراد البعثة وبدأنا فى استقبالهم بتوزيع الملابس والمهمات العسكرية عليهم والتى قد سبق صرفها من قبل – كانوا هؤلاء الشباب فى سن ما بين 18 – 22 عاماً وجميعهم ذو بشرة سمراء حيث أنهم جميعا من جنوب الجزائر ذوى البشرة السمراء ونحافة وطول القامة – إذا فإن المجاهد سليمان محافظ (عامل العمالة كما يسونهم) يعتبر هو الوحيد الذى تحمس ونفذ وعده.
لقد برز لنا شىء لم يكن فى الحسبان وهو أننا وضعنا برنامج تدريب دورة الصاعقة على أن القادمين من المتطوعين الجزائريين قد أمضوا فترة التعليم الأساسي ولكن كانوا جميعا مدنيين لم يمر بمرحلة التعليم الأساسي للجندى.
فوضعنا منهج تعليم أساسي لهؤلاء الشباب المدنى .. من أول تعليم صفا .. وانتباه – والسير بالخطوة المعتادة والسريعة والرماية بالأسلحة الصغيرة وقواعد التنشين والرماية بالذخيرة الحية!! .. هذا كله علاوة على اللياقة البدنية.
وكان البرنامج لمدة شهر (ينفذ فى مصر فى مدة 45يوم إلى 60يوم) وكان الصحيان فى الخامسة صباحاً والنوم فى التاسعة مساءًا وقد مرت هذه الفترة بنجاح وقد تآلف فيه أفراد البعثة مع هؤلاء الشباب وقد أصبحوا يحملون لقب جندى مدرب تدريب أساسي لا يقل عن أى جندى من جيوش العالم واثقا فى نفسه – وقد تخلف عن هذه الفترة بعض الأفراد الذين لا يزيدون عن عدد أصابع اليد الواحدة.
استطلاع الداوريات
تنقسم فرقة الصاعقة على ثلاث مراحل – المرحلة الأولى لمدة شهر وهى مرحلة التدريب الأساسي للصاعقة (الجناح الأساسي) ومدتها شهر – والمرحلة الثانية (جناح الدوريات) وهو التدريب القتالى فى الأراضي المفتوحة سواء صحراء أو مزارع وغابات ومدتها شهر أيضا أما المرحلة الثالثة (الجناح الخاص) وهو فن التدريب القتالى فى المناطق الجبلية.
لقد تم استغلال فترة التعليم الأساسي للمتطوعين وهى شهر وكذلك جزء من فترة التدريب بالجناح الأساسي لفرقة الصاعقة فى استطلاع الدوريات – ومع نقص إمكانيات النقل لاختيار الأراضي المناسبة للتدريب سواء أراضى مفتوحة صحراوية أو زراعية وكذلك أراضى جبلية وذلك للتدريب على القتال فى الأراضي الجبلية .. حيث كنا لا نملك سوى سيارة جيب واحد وهى التى تركها لى طاهر فى أول الأمر .. لذلك قررت أن تكون بداية كافة الداوريات من المعسكر وأحيانا تكون الداورية لعدة وثبات لتنتهى فى المعسكر أيضا.
وفعلا بدأت فى السير بالسيارة فى محيط المعسكر حتى 40 كيلومتر على كافة الطرق لاختيار نقط النهاية لكل داوريه واختيار الأراضي المفتوحة وكذلك الأراضي الجبلية .. علما بأن الأراضي الجبلية المحيطة بالمعسكر ليست جبال صحراوية ولكنها جبال مغطاة بالغابات وشلالات المياه والبحيرات الصغيرة – وكنا نتجنب فى الأماكن المفتوحة الأراضي المزروعة حيث كانت منتشرة مزارع العنب حتى نتجنب أتلافها وعدم إثارة الأهالي – أما بالنسبة للغابات الجبلية والتى كنت اصطحب معى دائما أما ملازم أول شاكر مرسى أو نبيل حسن ومن الصف ضباط الرقيب سعد علام ومحمد عبده ومحمد إبراهيم والمغاورى وكانوا جميعا من أجنحة الدوريات سواء الجناح الراقى أو الخاص .. وكان معنا دائما استعدادات السير فى الغابات من سيف قصير وبلطه ولذلك لفتح المدقات من أنواع الشجر المتشابك .. أما السلاح الشخصى فكان لزاما لمواجه اى حيوانات شرسة مثل الذئاب أو الخنزير البرى والذى كان السكان المحليين يسمونه الحلوف – ورغم أن الأهالى كان يحذروننا من السير فى هذه الغابات .. إلا أننا أتممنا الاستطلاع رغم هذه المخاطر .. وتعرضنا لمواقف حرجة مع هذه الحيوانات والزواحف.
لقد ألزمتنا طبيعة الأرض هناك سواء مفتوحة أو جبلة من تغيير أسلوب التدريب القتالي عن ما هو موجود بمصر وما يتم التدريب عليه عاده .. وعلى سبيل المثال أن ليس فى مصر غابات مثل الموجودة فى الجزائر.
كما أن عدم وجود عربات نقل ضمن إمكانياتنا جعلنا بقدر الإمكان أن تبدأ الداورية من المدرسة وتنتهي على وثبات فى المدرسة أيضا عدا الداوريات الجبلية حيث اعتمدنا على رجوع الطلبة إلى المدرسة بطريق (الاوتوستوب) وكان ذلك مرحب به بين الأهالى حيث كان مازال آثار الثورة موجود وجلهم للمجاهدين ولم نجد فى ذلك أى صعوبة وكان أحيانا نجد سيارات نقل مدنية تؤجل عملها لنقل أفراد فرقة الصاعقة أولا .. وذلك تطوعا منهم دون أى أوامر.
التمـــــــرد
وقد حدثت واقعة بعد مرور عدة أيام كادت أن تقضى على فكرة إنشاء وحدات صاعقة بالجزائر .. فإنه بعد مرور فترة المستجدين وبدأنا فرقة الصاعقة بالجناح الأساسي حيث قسوة التدريب والاستيقاظ فى الخامسة صباحاً وطـــــــوابير الجري والاشتباك وممارسة التكتيكات تحت تأثير النيران الحيـة ونـــــــزول المستنقعات القذرة وأكل الثعابين والضفادع وخلافه.
ولم يمر عشرة أيام حتى وجدت أحد صف ضباط البعثة يدخل حجرتي فى حوالى الساعة الواحدة صباحاً بعد منتصف الليل وهو فى حالة هلع ليوقظنى ويخبرنى أن أفراد فرقة الصاعقة الجزائريين قد تجمعوا بالقرب من بوابة المعسكر ويتوعدون لأي شخص يقف فى طريقهم لترك المعسـكر وأن المعلمين يحاولون تعطيلهم
لحين حضوري.
وفعلا فى دقائق معدودة كنت قد ارتديت ثيابي العسكري على أكمل وجه وتوجهت بسرعة إلى الجمع الحاشـد من طلبة الفرقة وهم فى حالة تمـرد وهيـاج ومعظمهم غير ملتزم بالزى العسكري.
لقد وقفت على مكان مرتفع عنهم ليلتفوا حولى وأنا أنظر إلى وجوههم الغاضبة السمراء ولا أرى غير عيون تلمع فى الظلام الذى يغطى المعسكر عدا من عدة لمبات إضاءة متفرقة تمكنى من مشاهدة هذه العيون.
لقد بدأت أتكلم فيهم مستعينا بتمجيد جهاد من سبقوهم فى الجهاد ضد المستعمر وروعة الشعب الجزائري فى كفاحه واستحضرت فى كلماتى وقوف الشعب المصرى بجانبهم وعند ذكر جمال عبد الناصر والعروبة .. وجدتهم وكأن هناك نار وسكبت عليها الماء .. وكان الحديث باللهجة الجزائرية والتى بدأت فى إتقانها ومعها كلمات باللهجة المصرية والفصحى.
وقد انتهزت هذه الفرصة من الهدوء النفسى لأنادى على أحد الطلبة المحبين لديهما وكان أسمه (محمد المقدم) وكان ذو ملامح صارمة طويل القامة وحددت له مكان ليقف فى أقصى يسار المكان وذلك بعد أن رد على بصوت عال وقال أفندم .. وبصوت عالى وجهورى قلت فدائيين على شمال الدليل .. أجمع .. ومع صيحة الصاعقة بصوت عالى أندفع الجميع ليقفوا طابور منتظم فى ثلاث صفوف كالعادة .. ولكنى قلت أنا عايز أحسن من كده .. لأصرفهم مرة أخرى .. وأجمعهم ثانية.
وبعد أن كررت ذلك عدة مرات .. قلت أننى سأكتفى بذلك ولن أجازى أحد وسنتقابل فى الصباح فى الخامسة صباحا .. وبعدها سارت الفرقة على ما يرام ولم يترك الفرقة غير عدد بسيط ولكنهم رجعوا مرة أخرى من تلقاء أنفسهم.
ولقد اكتشفت أن هناك خطأ منا نحن حيث تجاهلنا الجانب النفسى والمعنوى .. وكان ذلك غير موجود فى برامج الصاعقة أصلاً .. فوضعت فى البرنامج ساعة قبل وجبة العشاء لنجتمع فى لقاء أما جلسات سمر ترفيهية أو محاضرات مفتوحة لرفع المعنويات وقصص البطولات سوء المصريين أو عرب أو جزائريين .. وتعجبوا أننا نعرف عن أبطالهم فى جهادهم ضد الجزائريين وشهدائهم أكثر منهم.
لقد اعتبرت أن هذا الموقف هو تحدى ضد النفس البشرية وصعوبة التعامل معها .. واعترف أنها كان اكبر من تحدى الطبيعة بقسوتها من تضاريس صعبة أو درجات الحرارة بين ارتفاعها فى الصحراء أو برودتها فى الجبال.
الوقيعة
وكما كانت هناك مواجهة مع طلبة الفرقة الجزائريين وتم بحمد الله التغلب عليها .. كانت هناك مواجه من نوع آخر .. فهى فى هذه المرة مع أكبر قيادة مدنية وعسكرية فى نفس الوقت وهو محافظ المنطقة الرابعة والتى أتبعها وعاصمتها قسطنطين .. وكان المحافظ هو الشاذلى بن جديد والذى أصبح فيما بعد رئيس جمهورية الجزائر .. وهو من كبار المجاهدين وكان مساعده يدعى محمد بن روج نظرا .. لاحمرار بشرته وكان يزراع واحد وغير ملم بالكتابة والقراءة وكان من المجاهدين أيضا وبرتبه رائد.
وقد كان أحد معاونيه نقيب من الذين كانوا قد خدموا فى الجيش الفرنسى برتبة رقيب ولكنهم عندما تم تعينهم فى الجيش الجزائرى انضموا برتبـه كضباط وكان هذا الشخص عين برتبة نقيب.
والقصة بدأت عندما بدأت إعداد المعسكر لاستقبال الأفراد الجزائريين وقد صرفت بعض الإمكانيات من وزارة الدفاع وكما أن الأفراد وقد اتوا عن طريق قائد الناحية الأولى .. كل هذا ولم اتصل ولو مرة بالمحافظ (الشاذلى بن جديد) وهو رجل عسكرى فى نفس الوقت .. بل كانت كل اتصالاتي بالرئآسه مباشرة مع هوارى بومدين – وقد استغل النقيب هذا المواقف وكانوا يطلقون على هؤلاء كلمة (الفرنسيسة) ليحدث الوقيعة بينى وبين الشاذلى بن جديد .. حيث فسر له ذلك أنه تجاهل أو تعالى منا نحن المصريين .. وهذا غير مقصود طبعا ولكن هؤلاء (الفرنسيسة) كانوا قادرين على اللعب برؤوس هؤلاء المجاهدين طيبى القلب وليس لديهم لوع أو التفاف على الأحداث أو الكلام.
فأرسل الشاذلى بن جديد لاستدعائي وأنا لا أعلم لماذا بل توقعنا انه يريد أن يشكرنا أو لديه تعليمات لتوفير باقى الإمكانيات اللازمة للتدريب وخاصة بالنسبة لسيارات نقل الجنود.
قبل هذا الاستدعاء من قبل الشاذلى بن جديد كان قد حضر وانضم للمعسكر ثلاث ضباط جزائريين أثنين منهم خريجى الكلية الحربية العراقية.
وكانوا برتبة ملازم والثالث من ما يدعونهم بالفرنسيسة وكان برتبة نقيب وكان يخدم بالجيش الفرنسى فى الوحدات المرتزقة أو ما يسمى (ترانجيه) بالفرنسية وكان حاصل على دورة مظلات وكان من ضمن القوات التى قفزت (المظليين الفرنسيين) فى منطقة الجميل ببورسعيد فى حرب 1956 أثناء العدوان الثلاثى – والمفروض أن ينضموا إلى فرقة الصاعقة ولكنهم رفضوا ليبقوا فى المعسكر للمعاونة الإدارية لحين نهو فرقة الصاعقة وتشكيلهم فى تنظيم كتيبه على أن يقوموا بقيادة هذه الكتيبة .. إلا أنى كنت أشركتهم فى بعض الداوريات كمساعدين مع المعلمين.
عندما ذهبت إلى قسنطنية لمقابلة الشاذلى بن جديد رافقتى أحدهم ولكن عند بوابة مبنى المحافظة استأذن على أن يبقى خارج المبنى .. وعلمت سر ذلك فيما بعد حيث ذكر فى طريق العودة أنه كان يعلم أن المقابلة لن تكون مريحة أو مستحبة.
لقد وجدت مبنى المحافظة عبارة عن قلعة أثرية ذات بوابة ضخمة وأسوار عالية وعندما تدخل من البوابة فعليك أن تسلك طريق بعرض حوالى 3م ملتف مع سور القلعة وللقلعة صحن كبير فى المنتصف منخفض عن الممر أربعة أمتار .. وقد سرت حوالى 200م ليدلني الجندى الذى رافقني من حرس البوابة حتى باب كبير وقال هنا مكتب الشاذلى بن جديد .. ودخلت المكتب لأجده عبارة عن صحن كبير ذو سقف عالى جدا عن كونه غرفة واتساعها حوالى 15 م أو أكثر ذو سقف وكان الشاذلى قابع فى مكتب صغير فى آخر الصحن ويقف بجانبه رائد يدعى محمد بن روج وعلى الجانب الأيمن من الصحن كان نقيب من الفرنسيسة يقف عند باب جانبى.
تقدمت عدة خطوات حتى أقف أمام مكتبه وكان صوت حذائى البيادة ذو الحدوه الحديد يصدر صوتا عالى على الأرضية الرخام – وبعد أن أديت التحية انتظرت أن يأمرنى بالجلوس .. لكنى فؤجئت بتجاهله لذلك وبعد أن رد التحية وهو جالس وفجاه تكلم وبصوت عالى لا يليق باستقبال ضيف ليقول وبدون أى مقدمات (أنت جاى من مصر علشان تحتلونا بعد ما طلعنا الفرنسيين) وبعد كلمات حول هذا المفهوم .. ولكنى رديت عليه بنفس النبرة ونفس الأسلوب وما كان منه إلا أن قال أنت تعديت حدودك العسكرية ونظر إلى النقيب الموجود وقال هذا (مشاورا علىّ) النقيب موقوف وتحت التحفظ .. وفى نفس الوقت خرج من هذا الباب الجانبى أربعة جنود مدججين بالسلاح الرشاش القصير المعلق فى أكتافهم .. وكأن هذا الشىء مرتب ومعد له من قبل.
وفى خطوات عسكرية معتادة وجدت نفسى محاط بعدد 2 جندى على يمينى ويسارى مثلهم وكل جندى ملاصق لى قد تأبط زراعى المجاور لكل منهم – وفى حركة أعطانى الله فيها قوته وتوفيقه .. بأن دفعت بكلتا زراعي من هم على يمينى ويسارى فى وقت واحد .. ليقع الأربع جنود بأسلحتهم على الأرض .. ثم تقدمت خطوة للأمام تجاهه وقلت له أنا خارج من هنا لكن قسما بالله (اللى حيجى ورايا سوف أكون قاتله) واستدرجت متجها خارجا من بابه لأقطع حوالى 200م حتى بوابة المحافظة كما دخلت ولم أحاول النظر خلفى أو حتى أسرع فى خطواتى مع أنى كنت انتظر أى رد فعل فى أى لحظه .. واعتقد أن هذه أطول 200م قطعتهم فى حياتى.
خرجت من البوابة لأقابل الضابط الجزائرى الذى كان ينتظرنى فى الخارج والذى بدأ من كلامه أنه ستكون مقابلة غير مريحة.
توجهنا إلى المعسكر فى سكيلدا لأقابل زملائى وأبلغهم أنى سوف ألغى مأموريتى وعليهم أن يستمروا فى مهمتهم .. وفعلا جمعت جاجيانى فى الشنطنة لأتجه فى اليوم التالى إلى مكتب الملحق الحربى وقد قصصت عليه ما حدث وأبلغته بقرارى – لكنى فؤجئت به بكلام له وجه نظر مختلفة حيث قال أن النساء والرجال الذين يقومون بالتبشير فى أفريقيا يتعرضون للمواقف بما أسوء من ذلك بكثير علاوة على المعيشة الصعبة التى يعيشونها فى وسط الحشرات والحيوانات المفترسة .. ومع ذلك يتحملونها!! عارف ليه لأنهم أصحاب رسالة وإحنا أصحاب رسالة ورسالتنا تعريب الجزائر بعد غربة طويلة عن الأمة العربية وكذلك تحويل ميليشياتهم وشبابهم إلى جيش نظامى مدرب.
لقد تأثرت بكلامه وبحكمته وفكرة .. رغم أنى كنت مختلف عليه من قبل .. لما شاهدته وهو يعيش حياة مرفهه لم نشاهدها من قبل بين زملاءنا – ولكنها قلة الخبرة فى أن لكل مكان مقام.
تلاحظ هنا أن اللغة الرئيسية فى إقناع الآخر .. هى لغة القومية العربية والهدف القومى لها – وهكذا كنا جيل نؤمن بأننا فى معركة ضد المستعمر .. وأن آمالنا هى الوحدة والقومية العربية.
وقد رجعت إلى زملائى فى المعسكر وقد أسعدهم استمراري بالبعثة. وعملنا جميعا بهمه عالية بعد أن قلت لزملائى أقوال الملحق الحربى وانتهينا من الفرقة رقم 1 صاعقة وذلك قبل عيد الاستقلال بأسابيع قليلة .. وقد قمنا بتشكيل الأفراد فى صورة وحدة عسكرية (كتيبه) وتم تعيين الضباط الجزائريين كقيادات لهم وتم اختيار الخريجين الممتازين وذو الشخصيات القيادية وتم ترقيتهم إلى رتبه عريف والرقيب ليعينوا قادة جماعات وفصائل وسرايا وكان هؤلاء الصف هم القيادات الحقيقة للكتيبة دون الضباط الجزائريين .. حيث كانت تعليمات التدريب وخلافه تصدر منى مباشرة .. وبدأنا فى التدريب التكتيكى على القتال الخاص بمهام الصاعقة كما أنه تم التدريب على طوابير الاستعراض استعدادا للاشتراك فى الاحتفال بعيد الاستقلال.
وكنت قد قدمت تقريرى بما تم انجازه إلى وزير الحربية هوارى بومدين وذلك فى مقابلة شخصية وتم الاتفاق على الاشتراك فى عيد الاستقلال بالطابور العسكرى.
وفى يوم عيد الاستقلال كنت قد قسمت الكتيبة أربع مجموعات على أن تكون 2 سرية فى طابور العرض بالعاصمة الجزائر وفصيلة فى المحافظة بقسنطينة وفصيلة فى بلدة سكيكدا وفصيلة فى عنابه وقد حضرت العرض بالجزائر العاصمة وكان معى نبيل حسن وقد كنا نجلس فى المنصة والتى كان بها بن بيلا وهوارى بومدين والشخصيات العامة الجزائرية من المجاهدين وكافة الملحقين العسكريين والسفراء الأجانب وقد مر بالعرض كافة الوحدات من الجيش الجزائرى وحتى طلبة الكلية الحربية بشرشال والتى كان بإنشائها وتدريبها ضباط مصريون وكانوا يسيرون فى طابور العرض بالخطوة المعتادة والتى ظهر جليا عدم التدريب الكافى على طوابير الاستعراض أو الاهتمام بأناقة الزى العسكرى – وعندما بدأت سرايا الصاعقة فى المرور أمام المنصة وكنت قد نسقت مع الموسيقات العسكرية بأن يعزف المارشات المناسبة للخطوة السريعة .. وفعلا ظهر جنود الصاعقة بالأفرولات المموه والسلاح المعلق على الأجناب وبالخطوة السريعة ومع صيحات الصاعقة وأداء التحية .. كل هذا أبهر من هم موجودين بالمنصة وبدأت المنصة بأن يقف فيها الأفراد مرة واحدة مع التصفيق وبدأوا بالتعليق المستمر أثناء مرور جنود الصاعقة والإشادة بهم.
وعندما انتهى مرور الصاعقة المشرف بدأ من هم موجود بالمنصة بالجلوس .. كما أنك كنت تسمع الزغاريد من جمهور الشعب .. ولكنى سمعت بعض من الموجودين يقولون أن هؤلاء الجنود مصريين أتوا من مصر – فأعطيت أوامري إل الملازم أول نبيل حسن بأن يذهب إلى سرايا الصاعقة ويعطيهم أمر بالانتشار بين الجمهور وفى المنصة لأن التحدث معهم سيثبت أن هؤلاء جنود صاعقة جزائريين .. وأكملت أوامري بأن العودة تكون بواسطة القطار فى نفس اليوم .. ومع أن هؤلاء الجنود قد صار لهم أكثر من ثلاث شهور لم يلتقوا بأهلهم ولم ينزلوا أجازة ولو ليوم .. إلا أن الجميع ذهب إلى المعسكر فى سكيكدا (500كم) من العاصمة ولم يتخلف جندى واحد عن ميعاد الحضور للمعسكر.
لقد كان هذا العرض العسكرى الذى قمنا به كوحدة صاعقة جزائرية هو المفتاح السحرى الذى فتح الأبواب أمام بعثة الصاعقة المصرية – فإنه لم يمر أسبوع حتى حضر إلى المعسكر وزير الحربية هوارى بومدين ومعه الشاذلى بن جديد ليشكر البعثة على الجهد الذى بذل لإنشاء هذه الوحدة .. وقد أعتذر الشاذلى بن جديد لما بدر منه حيالى.
وقد قدمنا طلبا منا من الاحتياجات سواء الحملة (السيارات) اللازمة لنقل الجنود فى التدريب والذخيرة الحية والتجديدات اللازمة للمعسكر .. كما صدق هوارى بومدين على تسكين الضباط المصريين والصف ضباط كل فى عمارة مستقلة متجاورتين .. لكل فرد شقة منفصلة.
كما تم أمدادنا بأفراد للدورة الثانية لتدريب الصاعقة وفى هذه المرة كان المجندين من كل محافظات الجزائر وليس من بلدة كولومبشار فقط كما فى الدورة الأولى .. كما تغير الوضع بالنسبة لأفراد البعثة فى بلدة سكيكدا .. لقد كان لنا بعض من الشعبية بين أهل البلدة حيث كان شاكر مرسى من أبهر لأعبى كرة السلة وكذلك بالنسبة لى .. وكنا ضمن فريق البلدة والذى كان بسبب ذلك تقدم الفريق من ذيل الدورى إلى الأول على دورى المحافظة والتى كان بها عشر فرق لكرة السلة.
ولكن بعد العرض العسكرى أصبح لنا تعامل خاص بين جموع الشعب والمسئولين وأصبح مجلسنا اليومى مع رئيس المدينة ومسئول الشرطة وصاحب جريدة المدينة وغيرهم من المسئولين حيث كان المجلس اليومى دائما فى قهوة تسمى قهوة (فيدنزا) – لقد كان هذه القهوة هى ملتقى المسئولين لبحث مشاكل ووضع الحلول والتى أجدها تطبق فى اليوم التالى حيث كان المناقشة قليلة والقرارات سريعة وحاسمه.
وأصبحت هذه المجموعة تقريبا وغيرها تجتمع عندى كل يوم أحد فى الفيلا التى استأجرتها على البحر مباشرة على ربوه عالية بجوار المعسكر وكانت أفخم مبنى على هذا الشاطئ .. ولقد توطدت العلاقات بيننا وبين المسئولين الجزائريين فى المحافظة .. لدرجة أننى تدخلت لدى المحافظ حتى أسكنت المدرسين المصريين المجودين بالبلدة (سكيكدا) كل فرد فى غرفة بعد أن كان كل أثنين فى غرفة وكذلك كل شخص متزوج فى شقة مستقلة بعد أن كان كل عائلتين فى شقة وأصبح تعامل الجزائريين مع المدرسين المصريين بشكل أكثر احتراما بكثير عن ذى قبل.
وأحب أن أذكر واقعة كان لها معنى كثير فى هذه التوقيت من الشعب العربى عامة .. وذلك عندما كنت فى أحد دوريات التدريب ومعى أفراد الداورية وعندما مررنا فى أحدى القرى على منزل أحد الفلاحين وعلم أننى مصرى .. فأصر بتوقيف الدورية ليحلب الجاموسة التى لديه ويقدم لى اللبن الحليب .. ثم ينظر إلى أبنه الشاب ويقول له هذا شاب مثلك مشيرًا إلى .. وقد ترك بلدة ويعرض نفسه للمخاطر داخل الجبال ليدرب جيش قوى لبلدك الجزائر .. وأنت جالس بجانبى هنا .. وأقسم عليه أن يتوجه فى اليوم التالى لكى ينضم إلينا.
وفى خلال ثلاث شهور أخرى كنا قد كونا كتيبة صاعقة أخرى ليصبح ما تم انجازه هو مركز تدريب للمجندين ومدرسة صاعقة وعدد 2 كتيبة صاعقة .. وبعد ذلك حضر النقيب سيد الشرقاوى وهو من أفضل ضباط الصاعقة ليتسلم منى قيادة البعثة بالجزائر لينتهى خدمتى بالجزائر فى مايو 1965.
لقد كانت تجربتى بالجزائر فيها تحدى مختلف عن أى فترة أو تجربة أخرى .. لقد كانت تجربتى فى اكتشاف طريق فى بحر الرمال الأعظم بالصحراء الغربية هو تحدى ضد الطبيعة وتحدى لمن سبقونى ولم يتمكنوا من اجتياز جبال الجلف فى الحدود بين مصر وليبيا .. أما التحدي مع الآلة الحربية كان مع الطائرة الهليكوبترا ونظريتها للاستخدام العسكرى وتسليحها.
وفى الجزائر كان التحدى هو ضد الطبيعة البشرية للإنسان بما فيها من مواقف مع البشر سواء من هم يتبعونك أو مع من نتعامل معهم سواء رؤساء أو مرؤوسين .. ومنهم من يريد لك النجاح ومنهم من يقف فى سبيل أنجاح عملك.
وقد وفقنى الله سبحانه وتعالى فى هذه المهمة وقد اكتسبت انطباعات إنسانية كثيرة من هذه الفترة التى قضيتها بالجزائر.
وقد سجلت الكثير منها كعادتى فى حبى فى تسجيل هذه الأشياء كتابة .. وقد سجلتها تحت عنوان شعوب لا تعرف الكراهية وكانت الزاوية الأولى والتى روتها لى المناضلة وكانت تدعى (فله) وكانت زوجة لنقيب شرطة بالمدينة وكانت قبل ذلك خطيبة للمجاهد مراد ديدوش والذى تسمى أشهر شارع باسمه فى الجزائر العاصمة والقصة أنها كانت فى مدرستها بالثانوية منتظمة وفى المساء والأجازات تعمل ضمن المجاهدين وكانت صديقتها الحميمة بالفصل تدعى (نيكول).
وفى أحدى العمليات تم القبض على (فلة) لتودع السجن وتحاكم عسكريا ليتم الحكم عليها بالإعدام رميا بالرصاص – وكان سيتم ذلك فى الميدان المطل على ميناء سكيكدا.
وفى اليوم المحدد بالميدان تم حضور جماعة الإعدام بقيادة (كولونيل) فرنسى حيث تم ربط الفتاة فى عامود وقد أحاط الميدان أهل البلدة وبين همهمة الرجال بالشهادة وزعزدة النساء .. حيث اندفعت فتاة فرنسية لتحضن (فلة) وتقول أقتلونى معها ولم تكن هذه الفتاة الفرنسية سوى صديقتها الحميمة (نيكول) .. وهى فى نفس الوقت ابنة (الكولونيل) قائد فرقة الإعدام .. وبعد أحداث وملابسات عدة تم الإفراج عن فله .. والتى انقطعت عن الدراسة ولكنها استمرت فى نضالها مع المجاهدين والرواية الثانية قد حضرتها وأنا أقيم بالجزائر .. وبدأت عندما أذيع عن مقتل (بن خضرى) بالغرب وهو أحد الزعماء الخمسة الذين قادوا حركة الثورة الجزائرية والذى قادها بن بلا ولكنه بعد الاستقلال استبعد لاراءه الخاصة به .. وبذلك اتجهت صوابع الاتهام فى أغتيالة بأن ذلك تم بتدبير داخلى من زملاءه.
وفى مساء هذا اليوم ذهبت كالعادة إلى قهوة (فيدنزا) والقربية من ميناء سكيكدا .. وكنا غالبا نغادر الكافية فى حدود ما بين التاسعة والعاشرة ولكنى وجدت جميع الرجال جالسين وغير مؤهلين لمغادرة المكان فسألت أنتوا ناويين تباتوا هنا ولا أيه .. وكان أغرب رد وصلنى بأنهم قالوا .. فعلا أحنا ممنوعين من دخول بيوتنا حتى يتضح من قتل خضرى – فقلت ومن منعكم وأصدر هذا الفرمان .. فقالوا (العجوز) .. ولكن العجوز هذه تطلق على أكبر السيدات سنا فى العائلة .. فهى التى تتحكم فى القرارات المصيرية بالنسبة للعائلة. وهنا علمت لماذا نجحت الثورة الجزائرية ومن الذى كان يتحكم فى استمرارها.
بل ذكرنى ذلك وأنا اكتب هذه السطور بكبيرة العائلة فى الصعيد ..
http://group73historians.com/مقالات-عسكرية/1210-2017-03-26-09-54-57