عبيدة عامر
محرر سياسي
في بلدة منزل شاكر الواقعة على 40 كلم غربي مركز ولاية صفاقس يسكن رجل تونسي لا يعرف أحد ماهية عمله تحديدًا، جُل ما يعرفونه عنه كونه مديرًا بإحدى الشركات الخاصة، قصير القامة ممتلئ قليلًا، وبوجه أربعيني يبدو منهكًا دائمًا ومبتسمًا أيضًا، رجل غارق في العادية إلا أن كيانًا آخر سيتولى تعريف سكان طريق منزل شاكر والتونسيين والعرب جميعًا بالرجل وبأشرس وسيلة ممكنة.
في ظهيرة الخامس عشر من ديسمبر/كانون الأول نهاية العام الماضي، خرج الرجل الأربعيني كعادته من منزله مستقلًا سيارته الفولكسفاغن، بعد عودته من رحلة مرهقة لم يعرف أحد وقتها وجهتها، وبعد تلقيه لهاتف غامض زعم صاحبه أنه يريد لقاءه لإشهار جمعية "الجنوب" للطيران، التي أسسها الرجل برفقة طيارين تونسيين سابقين، مرت ثوان معدودة فارقة، كسر فيها أزيز الرصاص هدوء الطريق، واستقبل جسده فيها عشرون رصاصة منها ثلاث مباشرات في رأسه، ليتوفى في الحال.
ثوان معدودة كانت فاصلًا بين تحول المهندس محمد الزواري من كائن حي إلى جسد أشبه بمصفاة، ولتشير بعدها أصابع الاتهام مباشرة لتل أبيب، ولقسم الاغتيالات في جهازها الأمني الأول "الموساد".
لم تكن هذه الرصاصات موجهة لجسد الزواري فحسب، بل كانت محاولة أكثر عمقًا وتأثيرًا لقتل مسار تطوير الطائرات بدون طيار المعروفة بـ "أبابيل"، طائرات كان الزواري عرابها ومطورها، وكشفت عنها كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الفلسطينية حماس، في الحرب التي أسمتها "العصف المأكول" مع الكيان المحتل عام ٢٠١٤، والتي تبنت الزواري التونسي رسميًا وأطلقت عليه لق: "طيار حماس".
لكن الطائرات بدون طيار بعد الحرب الباردة، أي ما يمكن تسميته عصر "الحروب ما بعد الحديثة"، كغيرها من الأدوات الفاعلة غير التقليدية هي فكرة والأفكار على الأغلب لا تموت، لذا وفي ٢٢ فبراير/شباط الماضي زعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه اعترض طائرة بدون طيار أطلقتها حماس باتجاه البحر المتوسط، في مؤشر واضح على استمرار المشروع بعد الاغتيال، مشروع لم يعد حكرًا على الدول ولا يتطلب مستويات عالية من التقنية، وإنما أرضية أساسية يمكن تحصيلها في زمننا الحالي من مواقع التسوق الإلكتروني ببساطة.
الموت من الأعلى
وفي إصدار حديث لـ "تنظيم الدولة الإسلامية" بعنوان "هذا وعد الله"، في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني للعام الماضي ٢٠١٦؛ أعلن التنظيم بدايته الرسمية لاستخدام الطائرات بدون طيار على المستوى القتالي، والتي كان يستخدمها بشكل متواضع قبلًا وبشكل عام للتصوير والمراقبة، مثل بقية الأطراف الفاعلة في سوريا والعراق من ثوار وتنظيمات وفصائل.
ففي مشهد نادر ومثير أسقطت طائرة بدون طيار تابعة لتنظيم الدولة قذيفة يتوقع أن تكون بطول ٤٠ مم معدلة، فوق سيارة "هامر" أميركية تابعة للجيش العراقي أثناء معركة الموصل، أدت إلى انفجارها بالكلية، في كسر لهيمنة الطائرات العراقية والأميركية على الفضاء العراقي، وخلق لرعب جديد دخل الساحة العسكرية، ونشر للفوضى لعدم توقع وقت ومكان الهجوم الذي يتم التحكم به عن بعد.
"أظهرت مقاطع دعائية لفصيل جند الأقصى قبل انضمامه إلى تنظيم الدولة مؤخرًا، قصفًا باستخدام الطائرات بدون طيار على مواقع للنظام السوري"
هذا الهجوم هو واحد من مئات الهجمات التي شنها التنظيم خلال شهر فبراير/شباط 2017، باستخدام الطائرات بدون طيار، والتي توزع استخدامها على كل جبهات التنظيم في سوريا والعراق، في تغيير وصفه الجندي البريطاني السابق والمحلل العسكري نيك واترز بأنه قد لا يكون استراتيجيًا، لكنه يعني أن السماء مشغولة كما هي الأرض، مما يخلق مزيدًا من الجهد على الجنود المجهدين أساسً.
وفي رصده لهجمات التنظيم والتي أسماها "الموت من الأعلى"، والآتية ضمن قسم الطيران التابع لـ "هيئة التطوير والتصنيع العسكري" داخله، كشفت وثائق من داخل التنظيم أن هناك قسم مسؤول عن شراء معدات متكاملة لتصنيع طائرات بدون طيار مناسبة، يمكن استخدامها لعدة أغراض كالمراقبة والتجسس والتصوير والهجوم والتفخيخ، كما حدث في أول طائرة اكتشفت للتنظيم وأدت لمقتل جنديين كرديين في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
لم يكن تنظيم الدولة أول من استخدم الطائرات المسلحة بدون طيار من التنظيمات غير الرسمية تاريخيًا، ولا حتى على مستوى الصراع السوري، فقد أظهرت مقاطع دعائية لفصيل جند الأقصى، قبل انضمامه إلى تنظيم الدولة مؤخرًا، قصفًا باستخدام الطائرات بدون طيار على مواقع للنظام السوري، كما نشر الإعلام الرسمي لـ "حزب الله" اللبناني مقاطع مشابهة، مستخدمًا فيها قذائف عنقودية على مواقع للمعارضة، قيل أنه استخدمها مسبقًا أثناء حربه مع إسرائيل عام ٢٠٠٦، بالإضافة إلى مشروع حماس "طائرات أبابيل"، ضمن طيف أوسع وأكبر من الفاعلين غير الرسميين الذين يستخدمون الطائرات بدون طيار للمراقبة والتجسس والتصوير، خاصة بعد أن أصبحت متوفرة وسهلة الشراء تجاريًا، وأصبح لها وكلاء لبيعها في الشمال السوري، على سبيل المثال.
يأتي هذا التطوير داخل التنظيم ضمن عمل أكبر تقوم به "هيئة البحث والتطوير" بحسب ما كشفتوثائق أخرى، وهي مسؤولة عن عدة صناعات حربية أخرى، أغلبها قائم على التفجير عن بعد باستخدام العبوات الناسفة والتفخيخ، والتي كسرت وجهًا آخر من وجوه احتكار القوة لدى الفاعلين الرسميين.
أحد الأسلحة المثيرة للاهتمام والتي استطاع بها الفاعلون غير الرسميين تحييد القوة التقنية المتقدمة للدول المختلفة خاصة في سوريا والعراق هي العبوات الناسفة، واسمها الكامل "العبوات الناسفة المرتجلة"، والمعتمدة على معدات بسيطة وأساسية في التفجير الذي يتم باستخدام نبضات إلكترونية أو كهربائية، مثل اتصال هاتفي أو صاعق كهربائي.
الهاكرز.. عالم القبعات السوداء
أعلنت حالة الطوارئ وقطعت الكهرباء عن ٢٥٠ ألفأوكراني لأكثر من ثلاث ساعات، ليس بسبب قصف من الجارة الروسية على سبيل المثال، أو اشتباكات بين الانفصاليين والقوات الحكومية، بل بسبب مجموعة من الشباب الذين لم يعرف من هم بعد وتمكنوا من اختراق شبكة الكهرباء الأوكرانية المتطورة وزرع ملفات ضارة ومسح البيانات عن المشغلين قبل أن يتم اكتشافهم.
ولا يقتصر الأمر على الكيانات والأفراد فقط، إذ تسعى الدول لتشكيل جحافلها من المخترقين، واللعب في المجال الحربي الإلكتروني الجديد، حيث تعد الدول الكبرى وأبرزها الولايات المتحدة وروسيا جيوشها من المخترقين ومضادي الاختراقات، في برامج دفاعية واستخباراتية غالبًا ما تكون محاطة بالسرية.
يروي المبرمج الروسي أليكساندر فارايا، الذي كان عمله مطاردة المخترقين، كيف سعت السلطات الروسية لضمه إلى برنامج جديد في الجيش الروسي "تحت عقيدة جديدة" كما وصفها، عقيدة تضع الحرب الإلكترونية في مركز اهتمامات ومصالح الكرملين، ومكنته من التأثير أو إرباك منافسيه في الغرب، بعد اتهامات لروسيا بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح ترامب، وكشف المخابرات البريطانية عن تدخل روسي لدعم البريكست، ومخاوف من التدخل في الانتخابات الأوروبية القادمة، التي تشهد صعود اليمين بالقوة كما يبدو، لا بمجرد التغير الاجتماعي.
التهديد الحقيقي قد يأتي من شاب غاضب أو متسلٍ جالس في غرفته في إحدى مدن الصين أو روسيا أو إيران أو مناطق سيطرة تنظيم الدولة
ومع تطور التقنية لم يعد هناك خوف من وقوع هجوم نووي منظم، أو تطوير سلاح بيولوجي يمكن أن يتسبب بموت نصف البشرية، بسبب أدوات الردع السياسية والعسكرية القادرة والمسؤولة عن ضبط هذا النوع من الهجمات، لكن التهديد الحقيقي قد يأتي من شاب غاضب أو متسلٍ جالس في غرفته في إحدى مدن الصين أو روسيا أو إيران أو مناطق سيطرة تنظيم الدولة دون أن يعرف أحد شخصيته، ويسعى للسيطرة على شبكة كهرباء أو سدود أو مواصلات الولايات المتحدة واستهدافها والسيطرة عليها، أو اختراق بيانات مؤسسات الدفاع أو الجيش في أي دولة، على سبيل المثال.
الحرب الجديدة
بهذه الأركان الثلاثة الطائرات بلا طيار والعبوات الناسفة والاختراق الإلكتروني، واستخدامها من قبل الفاعلين غير الرسميين؛ تحولت بنية الحروب من بنية عسكرية معتمدة على الاندماج والخوض المباشر والاستنزاف والتكتيك العسكري، إلى حرب غير متماثلة (assymetrical)، حيث تحولت الحروب التي كانت متوقعة بالدرجة الأولى إلى حروب خارج التكتيك، معتمدة على أدوات تقليدية وجديدة في الوقت نفسه.
قبل دخول هذه العوامل على يد الفاعلين غير الرسميين، كانت الدول تتوقع بشكل عام ما الذي يملكه الخصم، ولذلك كانت تعتمد على محاربين مدربين ومنظمين هرميًا لحل الإشكالات الخارجية.
أكثر من دخول البارود إليها قديمًا.
من الجانب الآخر جانب الدول الذي يواجه فقد أفضليته التقنية والعسكرية والسياسية على المدى الطويل؛ هناك سعي إلى مواكبة هذه التطورات والتكتيكات، عبر تحويل بنيتها الحربية إلى "حروب إلكترونية"، أي معتمدة في جوهرها بشكل أكبر وأسرع على الأتمتة، مثل الهياكل العظمية التي تعمل بالبطاريات، من تطوير وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة الأميركية الشهيرة، المعروفة اختصارا بـ "داربا"، والتي كانت طورت الإنترنت ونظام تحديد المواقع "جي بي إس"، أو للتطورات الكبيرة في مجال الدروع والمعدات المضادة للرمال وتطوير الرؤية الليلية، لمكافحة العبوات الناسفة، أو المقاتلة الجديدة المتطورة كليًا "F-35"، والتي تكلف مشروعها ١.٥ تريليون دولار، ذات قدرة الاختفاء غير المسبوقة والحوسبة الكلية، والمجسات المتطورة التي تعطي الطيارين قدرة كاملة على الرؤية خارج طائراتهم باستخدام الخوذة الجديدة، عدا عن تطوير الطائرات بلا طيار والعربات غير المأهولة.
مستقبل القوة
"عندما كنت في إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، كنا نتعامل مع سياسات منع الانتشار النووي، وكان أحد أسرارنا الضخمة أننا كنا قادرين على تصوير أي مكان على سطح الأرض بوضوح متر واحد، وكلفنا هذا بلايين الدولارات،أما الآن فيمكنك الدخول على محرك البحث جوجلعلى الإنترنت والحصول علي صور أفضل مجانًا".
(الباحث والسياسي جوزيف ناي)
بهذه الكلمات أشار الباحث المخضرم ناي إلى تغير موازين القوة، وتحولها إلى "معلوماتية متاحة" في القرن العشرين، ضمن تبدلها التاريخي من معيار القوة وصاحبها، ففي القرن السادس عشر كانت إسبانيا هي القوة العظمى بسيطرتها على المستعمرات وتكديس الذهب، ثم تبعتها هولندا التي اعتمدت على التجارة والمال، ثم مكن عدد السكان والقوة العسكرية فرنسا من تبوأها سيادة العالم في القرن الثامن عشر، ثم وضعت الثورة الصناعية والقوة البحرية بريطانيا في هذه المكانة، وصولًا إلى المعلوماتية أحد أهم متغيرات القوة المركزية في عصرنا هذا، بحسب ما يرى ناي في كتابه "مستقبل القوة".
"تنبأ ناي ردًا على غيره مثل "مجلس المخابرات الوطني الأميركي"، بأن الهيمنة الأميركية لن تتراجع، لكن قدرتها العسكرية لن تكون هي القوة المهيمنة"
وترافق مع "معلوماتية" القرن العشرين ظهور أطراف جديدة غير الدول على المسرح الدولي، كالمنظمات المسلحة والشركات متعددة الجنسية وكيانات الجريمة المنظمة والمنظمات غير الحكومية وغيرها، وهي في تزايد مستمر وبعضها عابر للحدود، وكلفة تواصلها عبر تلك الحدود أصبحت منخفضة وممكنة، مما يوصل بحسب تصوره إلى "موت المسافة" دون نهاية السيادة، إذ أصبحت الحكومات مجرد ممثل على خشبة المسرح التي ازدحمت بهؤلاء الذين أصبحوا قادرين على التمثيل، وبعض هؤلاء الممثلين جيدون، مثل منظمات "أوكسفام" الإغاثية، والبعض الآخر سيء مثل تنظيم القاعدة، وفق رؤية المفكر الأميركي.
عمليًا تنبأ ناي ردًا على غيره مثل "مجلس المخابرات الوطني الأميركي"، بأن الهيمنة الأميركية لن تتراجع، لكن قدرتها العسكرية لن تكون هي القوة المهيمنة، فهو يرسم خريطة مركبة لميزان القوة في القرن الحالي، مستعيرًا وصف رقعة الشطرنج ثلاثية الأبعاد، ففي البعد الأول تبدو الولايات المتحدة مهيمنة عسكريًا، ويرى ناي أنها ستظل كذلك لعقد أو اثنين ولن تستطع الصين أن تواكبها، أما البعد الثاني فيشير فيه إلى أن العالم متعدد الأقطاب اقتصاديًا، حيث توجد القوى الأوروبية والأميركية والصينية، أما البعد الثالث فيتعلق بالعلاقات العابرة للقومية التي ساعدت على انتشار القوة خاصة لجهة الفاعلين غير الرسميين، الذين يبدو أنهم أصحاب السيادة والهيمنة الكبرى في الشرق الأوسط.
العبوات الناسفة
"جئناكم بالكواتم واللواصق"(تهديد شهير لتنظيم الدولة في إشارة لاستخدام العبوات الناسفة في عمليات الاغتيال)
والعبوات الناسفة سلاح بدائي أدى لخسائر كبيرة وتحديدًا في صفوف القوات الأميركية في العراق وأفغانستان، والتي كانت تتوقع حربًا سهلة لتخسر كثيرًا من جنودها باستخدام هذه العبوات الناسفة عن بعد، إذ سقط نصف عدد قتلى الجنود الأمريكيين لعام ٢٠١١ في أفغانستان باستخدام هذه العبوات، ضمن ٦٠٨ هجومًا بالعبوات الناسفة في ٩٩ دولة للعام نفسه، بحسب إحصاء لوزارة الدفاع الأميركية.
تسبب العبوات الناسفة نزيفًا في صفوف المستهدفين بها، وفي ميزانياتهم كذلك ضمن محاولتهم لإيجاد طرق مبتكرة لإيقافها ومقاومتها، تناظر "ارتجالها" الدائم والمتطور وبكلفة منخفضة، نزيف وارتجال يمنحان الفاعلين مساحة للتطوير والتوسع تتطلب مزيدًا من التقنيات المضادة لإيقافها ومقاومتها، في دائرة لا تنتهي تقريبًا، إذ كلفت المعدات المضادة للعبوات الناسفة الولايات المتحدة أكثر من ١٧ مليار دولار خلال العقد الأول من الألفية، عدا عن الـ ٤٥ مليار التي تكلفتها واشنطن للعربات المضادة للألغام، ودفعتها لوضع مصنعي العبوات ومطوريها على أعلى قوائم المستهدفين، واغتالت عددًا كبيرا منهم مؤخرًا، للمفارقة باستخدام الطائرات بدون طيار.
الهاكرز.. عالم القبعات السوداء
أعلنت حالة الطوارئ وقطعت الكهرباء عن ٢٥٠ ألفأوكراني لأكثر من ثلاث ساعات، ليس بسبب قصف من الجارة الروسية على سبيل المثال، أو اشتباكات بين الانفصاليين والقوات الحكومية، بل بسبب مجموعة من الشباب الذين لم يعرف من هم بعد وتمكنوا من اختراق شبكة الكهرباء الأوكرانية المتطورة وزرع ملفات ضارة ومسح البيانات عن المشغلين قبل أن يتم اكتشافهم.
ولا يقتصر الأمر على الكيانات والأفراد فقط، إذ تسعى الدول لتشكيل جحافلها من المخترقين، واللعب في المجال الحربي الإلكتروني الجديد، حيث تعد الدول الكبرى وأبرزها الولايات المتحدة وروسيا جيوشها من المخترقين ومضادي الاختراقات، في برامج دفاعية واستخباراتية غالبًا ما تكون محاطة بالسرية.
يروي المبرمج الروسي أليكساندر فارايا، الذي كان عمله مطاردة المخترقين، كيف سعت السلطات الروسية لضمه إلى برنامج جديد في الجيش الروسي "تحت عقيدة جديدة" كما وصفها، عقيدة تضع الحرب الإلكترونية في مركز اهتمامات ومصالح الكرملين، ومكنته من التأثير أو إرباك منافسيه في الغرب، بعد اتهامات لروسيا بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح ترامب، وكشف المخابرات البريطانية عن تدخل روسي لدعم البريكست، ومخاوف من التدخل في الانتخابات الأوروبية القادمة، التي تشهد صعود اليمين بالقوة كما يبدو، لا بمجرد التغير الاجتماعي.
التهديد الحقيقي قد يأتي من شاب غاضب أو متسلٍ جالس في غرفته في إحدى مدن الصين أو روسيا أو إيران أو مناطق سيطرة تنظيم الدولة
ومع تطور التقنية لم يعد هناك خوف من وقوع هجوم نووي منظم، أو تطوير سلاح بيولوجي يمكن أن يتسبب بموت نصف البشرية، بسبب أدوات الردع السياسية والعسكرية القادرة والمسؤولة عن ضبط هذا النوع من الهجمات، لكن التهديد الحقيقي قد يأتي من شاب غاضب أو متسلٍ جالس في غرفته في إحدى مدن الصين أو روسيا أو إيران أو مناطق سيطرة تنظيم الدولة دون أن يعرف أحد شخصيته، ويسعى للسيطرة على شبكة كهرباء أو سدود أو مواصلات الولايات المتحدة واستهدافها والسيطرة عليها، أو اختراق بيانات مؤسسات الدفاع أو الجيش في أي دولة، على سبيل المثال.
الحرب الجديدة
بهذه الأركان الثلاثة الطائرات بلا طيار والعبوات الناسفة والاختراق الإلكتروني، واستخدامها من قبل الفاعلين غير الرسميين؛ تحولت بنية الحروب من بنية عسكرية معتمدة على الاندماج والخوض المباشر والاستنزاف والتكتيك العسكري، إلى حرب غير متماثلة (assymetrical)، حيث تحولت الحروب التي كانت متوقعة بالدرجة الأولى إلى حروب خارج التكتيك، معتمدة على أدوات تقليدية وجديدة في الوقت نفسه.
قبل دخول هذه العوامل على يد الفاعلين غير الرسميين، كانت الدول تتوقع بشكل عام ما الذي يملكه الخصم، ولذلك كانت تعتمد على محاربين مدربين ومنظمين هرميًا لحل الإشكالات الخارجية.
أكثر من دخول البارود إليها قديمًا.
من الجانب الآخر جانب الدول الذي يواجه فقد أفضليته التقنية والعسكرية والسياسية على المدى الطويل؛ هناك سعي إلى مواكبة هذه التطورات والتكتيكات، عبر تحويل بنيتها الحربية إلى "حروب إلكترونية"، أي معتمدة في جوهرها بشكل أكبر وأسرع على الأتمتة، مثل الهياكل العظمية التي تعمل بالبطاريات، من تطوير وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة الأميركية الشهيرة، المعروفة اختصارا بـ "داربا"، والتي كانت طورت الإنترنت ونظام تحديد المواقع "جي بي إس"، أو للتطورات الكبيرة في مجال الدروع والمعدات المضادة للرمال وتطوير الرؤية الليلية، لمكافحة العبوات الناسفة، أو المقاتلة الجديدة المتطورة كليًا "F-35"، والتي تكلف مشروعها ١.٥ تريليون دولار، ذات قدرة الاختفاء غير المسبوقة والحوسبة الكلية، والمجسات المتطورة التي تعطي الطيارين قدرة كاملة على الرؤية خارج طائراتهم باستخدام الخوذة الجديدة، عدا عن تطوير الطائرات بلا طيار والعربات غير المأهولة.
مستقبل القوة
"عندما كنت في إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، كنا نتعامل مع سياسات منع الانتشار النووي، وكان أحد أسرارنا الضخمة أننا كنا قادرين على تصوير أي مكان على سطح الأرض بوضوح متر واحد، وكلفنا هذا بلايين الدولارات،أما الآن فيمكنك الدخول على محرك البحث جوجلعلى الإنترنت والحصول علي صور أفضل مجانًا".
(الباحث والسياسي جوزيف ناي)
بهذه الكلمات أشار الباحث المخضرم ناي إلى تغير موازين القوة، وتحولها إلى "معلوماتية متاحة" في القرن العشرين، ضمن تبدلها التاريخي من معيار القوة وصاحبها، ففي القرن السادس عشر كانت إسبانيا هي القوة العظمى بسيطرتها على المستعمرات وتكديس الذهب، ثم تبعتها هولندا التي اعتمدت على التجارة والمال، ثم مكن عدد السكان والقوة العسكرية فرنسا من تبوأها سيادة العالم في القرن الثامن عشر، ثم وضعت الثورة الصناعية والقوة البحرية بريطانيا في هذه المكانة، وصولًا إلى المعلوماتية أحد أهم متغيرات القوة المركزية في عصرنا هذا، بحسب ما يرى ناي في كتابه "مستقبل القوة".
"تنبأ ناي ردًا على غيره مثل "مجلس المخابرات الوطني الأميركي"، بأن الهيمنة الأميركية لن تتراجع، لكن قدرتها العسكرية لن تكون هي القوة المهيمنة"
وترافق مع "معلوماتية" القرن العشرين ظهور أطراف جديدة غير الدول على المسرح الدولي، كالمنظمات المسلحة والشركات متعددة الجنسية وكيانات الجريمة المنظمة والمنظمات غير الحكومية وغيرها، وهي في تزايد مستمر وبعضها عابر للحدود، وكلفة تواصلها عبر تلك الحدود أصبحت منخفضة وممكنة، مما يوصل بحسب تصوره إلى "موت المسافة" دون نهاية السيادة، إذ أصبحت الحكومات مجرد ممثل على خشبة المسرح التي ازدحمت بهؤلاء الذين أصبحوا قادرين على التمثيل، وبعض هؤلاء الممثلين جيدون، مثل منظمات "أوكسفام" الإغاثية، والبعض الآخر سيء مثل تنظيم القاعدة، وفق رؤية المفكر الأميركي.
هؤلاء الفاعلون يمتلكون عناصر قوة جديدة متوزعة ومنتشرة حول أنحاء العالم، ويستطيعون التواصل فيما بينهم بسهولة باستخدام وسائل العولمة وثورة الاتصالات والتقنيات الجديدة، مما تسبب بنقل الحروب من خارج الدول إلى داخلها، مما يجب أن يدفع الدول إلى الانتقال من القوة الخشنة العسكرية والسياسية، أو الناعمة الثقافية والاجتماعية، إلى ما يسميه ناي بـ"القوة الذكية"، التي تجمع بين هاتين القوتين معًا.
http://midan.aljazeera.net/reality/...ود-أسلحة-التنظيمات-غير-الرسمية-لاستنزاف-الدول
التعديل الأخير: