الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره ومُصَّرف الأمور بأمره، ومُزيد النعمِ بِشُكرِه، ومُستَدرِج الكافرين بمَكره،الذي قدَّرَ الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمُتقين بفضله، وأفاض على العباد من طَلْهِ وهَطلِه،الذي أظهر دينه على الدين كُله، القاهرُ فوق عباده فلا يُمانَعْ والظاهر على خليقته فلا يُنازَع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجعْ ، والحاكم بما يُريد فلا يدافع أحمده على أظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصره أنصاره،ومُطَهر بيته المُقَدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمدَ من استشعر الحمد باطن سره وظاهر إجهاره .
.... وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من طَهَّرَ بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وعرج به منه إلى السماوات العلى، إلى سِدرَة المُنتهى عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وسلم ، عليه وعلى خليفته الصديق السابق بالإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شِعارَ الصُلبان وعلى أمير المؤمنين عُثمان بن عفان ذي النورين جامعِ القُرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مُزَلزلِ الشرك ومُكَسرِ الأصنام، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ..... .
...أيها الناس: ابشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا لما يَسره الله على أيديكم من استراد هذه الضالة من الأمة الضالة وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيد المشركين قريبا من مائة عام وتطهير هذا البيت الذي أذِن الله أن يرفع وأن يذكرَ فيها أسمه وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستعمر فيها رسمه ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بُنيَ على بالتقوى ، فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه ، فهو مَوطنُ أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم محمد عليه السلام وقبلتكم التي كنتم تُصَّلْ ون إليها في ابتداء الإسلام وهو مقرُ الأنبياء ومقصِدُ الأولياء ومقرُ الرسل ومهبط الوحي ومَنْزِلُ تَنَزل الأمر والنهي وهو في أرض المحشر وصعيدُ المَنْشَرْ،وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله(ص) بالملائكة المُقربين وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحه عيسى الذي شَرْفَه الله برسالته وكرمه بنبوته ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته
وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ولا تعتقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاه من سكان بلاده لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار ولا يباريكم في شرفها مبار فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية والوقعات البدرية والعز مات الصديقية والفتوح ألعمريه، والجيوش العثمانية والفتكات العلوية،
جددتم للإسلام أيام القادسية والوقعات اليرموكية والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجازاكم الله عن نبيه محمد أفضل الجزاء وشكر لكم ما بذلتموه من مهجك في مقارعة الأعداء وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مهرا ق الدماء وأثابكم الجنة فهي دار السعداء فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها وقوموا الله تعالى بواجب شكرها فله النعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة وترشيحكم لهذه الخدمة فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء وابتهج به الملائكة المقربون وقربة عينا الأنبياء والمرسلون فإذا عليكم من نعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح عليه البيت المقدس في آخر الزمان والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة إعلام الأيمان فيوشك أن تكون التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في خطابه فقال تعالى : [ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ]
أليس هو البيت الذي عظمته الملوك وأثبت عليه الرسل وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من إلهكم عز وجل أليس هو البيت الذي أمسك الله عز وجل الشمس على يوشع لأجله أن تغرب وباعد بيت خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان وغضب عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان فاحمدوا الله الذي أمضى عزائكم لما قعد عنه بنو إسرائيل وقد فضلهم على العالمين ووفقكم لما فيه من كان قبلكم من الأمم الماضين وجمع لأجله كلمتم وكانت شتى فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده وجعلكم بعد أن كنتم جنودا لاهويتكم جنده وشكركم الملائكة المنزلون على ما أهديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتحميد وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث والاعتقاد الفاجر فالآن يستغفر لكم أملاك السماوات وتصلي عليكم الصلوات المباركات
فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم واحرصوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سلم ومن اعتصم بعروبتها نجا وعصم واحذروا من إتباع الهوى وموافقة الردى ورجوع القهقرى والنكول عن العدا وخذوا في انتهاز الفرصة وإزالة ما بقى من الغصة وجاهدوا في الله حق جهادة وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه إذ جعلكم من الخير عباده وإياكم أن يستذلكم الشيطان وأن بتداخلكم الطغيان فيخل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد ،وبخيولكم الجياد ، وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله عزيز حكيم ،
واحذروا عباد الله بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل والمنهج الجزيل ، وخصكم بهذا الفتح المبين ، وأعلق أيديكم بحبله المتين أن تقترفوا كبيرا من مناهيه وأن تأتوا عظيما من معاصيه فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ، والذي آتياه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين ،و الجهاد فهو من أفضل عباداتكم وأشرف عادتكم أنصروا الله ينصركم ،اذكروا أيام الله يذكركم ، اشكروا الله يزدكم ويشكركم ،
جِدُّوا في حسم الداء وقطع شأفة الأعداء وتطهير بقية الأرض التي أغضبت الله ورسوله واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية والملة المحمدية الله أكبر فتح الله ونصر ،غلب الله وقهر ، أذل الله من كفر واعملوا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها وفريسة فأنجزوها ومهمة فأخرجوا لها هممكم ،وأبرزوها،وسَيِّروا إليها عزماتكم، وجَهِزوها فالأمور بأواخرها والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول، وهم مثلكم أو يزيدون فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم عشرون منكم،
وقد قال تعالى:..
(إن يَكُنْ منكم عٍشرون صابِرون يغلِبُوا مائتين) أعاننا الله على إتباع أوامره والازدجار بزواجره وأيدنا معشرَ المسلمين بِنَصرٍ من عنده ، إن ينصُركُمُ الله فلا غالب لكم وإن يَخذلكم فمن ذا الذي ينصُركم من بعده
==
==
ثم خطب الخطبة الثانية على عادة الخطباء مختصرة، ثم دعا للإمام الناصر خليفة العصر،
ثم قال: اللهم وأدم سلطان عبدِك الخاضعِ لهيبتك، الشاكرِ لنعتمك، المعترفِ بموهبتك، سيفِك القاطع، وشهابِك اللامع، والمحامي عن دينك المدافع، والذابِّ عن حرمك الممانع، السيدِ الأجل، الملكِ الناصر، جامعِ كلمة الإيمان، وقامعِ عبدة الصلبان، صلاحِ الدنيا والدين، سلطانِ الإسلام والمسلمين، مطهرِ البيتِ المقدس أبي المظفر يوسف بن أيوب، محيي دولة أمير المؤمنين. اللهم عُمَّ بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه، اللهم أبق للإسلام مهجته، ووق للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس بعد أن ظُنَّت الظنون، وابتُلي المؤمنون، فافتح على يديه داني الأرض وقاصيها، ومَلِّكه صياصي الكفر ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها. اللهم اشكر عن محمد -صلى الله عليه وسلم- سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها، اللهم ذلل به معاطس الكفار، وأرغم به أنوف الفجّار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار، اللهم ثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم، اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام، وتتخلد على مرِّ الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار اليقين، وأجب دعاءه في قوله {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[النمل:19]. ثم دعا بما جرت به العادة"
جاءت ترجمة القاضي محي الدين ابن الزكي في "الوافي في الوفيات" كما يلي:
هو القاضي محيي الدين ابن الزكي، محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي، قاضي قضاة الشام، محيي الدين أبو المعالي، ابن قاضي القضاة زكي الدين أبي الحسن، ابن قاضي القضاة المنتخب أبي المعالي، ابن قاضي القضاة الزكي أبي المفضل القرشي الدمشقي الشافعي. وجاء في (البداية والنهاية) ما نصه: القاضي ابن الزكي، محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو المعالي القرشي محيي الدين قاضي قضاة دمشق وكل منهما كان قاضيا أبوه وجده وأبو جده يحيى بن علي، وهو أول من ولي الحكم بدمشق منهم، وكان هو جد الحافظ أبي القاسم بن عساكر لأمه. ولد -رحمه الله- سنة خمسين وخمس مائة، وهو من بيت القضاء والحشمة والأصالة والعلم، وكان حسن اللفظ والخط، وقد قرأ المذهب على جماعة، وسمع من والده. وكان مما زاده شرفا أنه شهد فتح القدس مع السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكان له يومئذ ثلاث وثلاثون سنة، واسمه على قبة النسر في التثمين بخط كوفي أبيض
.
كان -رحمه الله- فطنا ذكيا صاحب علم وفراسة، وفي ذات الوقت يتصف بالأمانة العلمية، ومما جاء في ذلك أنه لما فتح السلطان مدينة حلب سنة تسع وسبعين وخمس مائة أنشده القاضي محيي الدين بن الزكي قصيدة بائيةً أجاد فيها وجاء فيها: وفتحك القلعة الشهباء في صفر... مبشرٌ بفتوح القدس في رجب فكان فتح القدس كما قال لثلاث بقين من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، عندئذ قيل لمحيي الدين: من أين لك ذلك؟ فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: {ألم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1-4]. فابن الزكي -رحمه الله- وجد النجابة في تفسير ابن برجان، فتلقفها بالقبول والاستحسان، بل وصاغها شعرا، وكان ذلك قبل تحرير الأقصى بأربع سنين، ومما يُعد درة على جبينه أنه نسب مصدر هذا الإلهام إلى أهله وهو تفسير ابن برجان ولم ينسبه إلى نفسه، وهكذا كانت أخلاق العلماء فضلا عن القضاة.
ذكر ابن كثير أن ابن الزكي كان له درس في التفسير يذكره بالكلاسة تجاه تربة صلاح الدين، وذكر أيضا أنه كان ينهى الطلبة عن الاشتغال بالمنطق وعلم الكلام، وكان يمزق كتب من كان عنده شيء من ذلك بالمدرسة النورية، وكان يحفظ العقيدة المسماة بالمصباح للغزالي، ويحفظها أولاده أيضا. إلا أن أهم ما أُثر عنه في حياته العلمية والقضائية -حيث لم نعثر له على ذكرٍ لمؤلفات أو شيوخ أو تلاميذ- ما يمكن أن نسميه "خُطبة التحرير"، وهي خطبة الجمعة، تلك الخطبة التي أعيد بها افتتاح الأقصى من الفرنجة على يد صلاح الدين الأيويى رحمه الله، وكانت أول خطبة في القدس بعد التحرير. تلك التي لم يكن مستعدا لها، بل أخرج إليه وقد أذن المؤذنون على السدة رسالة السلطان أن يخطب ويصلي بالناس، وهو مقام صعب؛ حيث اجتمع من أهل الاسلام ما لا يقع لهم إحصاء، وامتلئت ساحات المسجد وصحونه بالخلائق، واستعبرت العيون من شدة الفرح، وخشعت الأصوات ووجلت القلوب، وأخذ الناس لذلك الموقف أُهبته، حتى إذا حان وقت الخطبة قام ابن الزكي فخطب على المنبر في هذا الحشد العظيم، وقد ذكرها ابن خلكان في تاريخه،
أول يوم جمعة بعد تحرير القدس لم يتمكن المسلمون من اقامة الصلاة في المسجد الأقصى بسبب كثرة الصلبان والأوساخ والتخريب ..مما دفعهم الى تنظيفه واصلاحه وتهيئته وجلب المنبر النوري (( المنبر الذي بناه نور الدين محمود زنكي )) الى القدس من دمشق ووضع بالمسجد الأقصى ..
بالأول يعود للسلاجقة الذين أعادو الهيبة للخلافة العباسية وحرروها من هيمنة البويهيين الشيعة ...ثم ظهور الوزير المصلح نظام الملك السلجوقي والذي أقام المدارس النظامية التي هدفت الى تنشأت الجيل على الفكر الاسلامي والفقه وحب الجهاد ...عندها بدأت الغارات والحملات الصليبية وكانت الدولة السلجوقية تفككت الى 3 دول وحكام الشام كل استقل بامارته والعبيديون الفاطميون يحتلون مصر..
تصدت سلاجقة الروم وقبائل الديشمنت التركية في اسيا الصغرى للهجمات الصليبية نحوها
الغريب أن أول من قاوم الصليبيين من القادة كانو دوما حكام الموصل والتي كانت تحت حكم السلاجقة وتزدهر فيها المدارس النظاامية مثل الأمير مودود بن التنتكين والأرتقيين وغيرهم الى أن ظهر القائد عماد الدين زنكي وأعطاه السلطان السلجوقي الموصل فكان هو الممهد الأول لصلاح الدين ثم خلفه ابنه نور الدين زنكي ثم صلاح الدين...
ثم أكمل المماليك تحرير السساحل الشامي من قطز وبيبرس وقلاوون ومحمد بن قلاوون وخليل بن قلاوون...
تربية اسلامية + قادة تحب الجهاد وتوحيد الأمة + شعوب ترفض الذل وتريد الجهاد
لما افتتح السلطان صلاح الدين تلك الأماكن المذكورة فيما تقدم، أمر العساكر فاجتمعت ثم سار نحو بيت المقدس، فنزل بيت غربي المقدس في الخامس عشر من رجب من هذه السنة - أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة - فوجد البلد قد حصنت غاية التحصين، وكانوا ستين ألف مقاتل، دون بيت المقدس أو يزيدون، وكان صاحب القدس يومئذ رجلا يقال له: بالبان بن بازران، ومعه من سلم من وقعة حطين يوم التقى الجمعان، من الداوية والاسبتارية أتباع الشيطان، وعبدة الصلبان.
فأقام السلطان بمنزله المذكور خمسة أيام، وسلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وأبراجه، ثم تحول السلطان إلى ناحية الشام لأنه رآها أوسع للمجال، والجلاد والنزال، وقاتل الفرنج دون البلد قتالا هائلا، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في نصرة دينهم وقمامتهم، واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين، فحنق عند ذلك كثير من الأمراء والصالحين، واجتهدوا في القتال ونصب المناجنيق والعرادات على البلد، وغنت السيوف والرماح الخطيات، والعيون تنظر إلى الصلبان منصوبة فوق الجدران، وفوق قبة الصخرة صليب كبير، فزاد ذلك أهل الإيمان حنقا وشدة التشمير، وكان ذلك يوما عسيرا على الكافرين غير يسير.
فبادر السلطان بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها وعلقها وحشاها وأحرقها، فسقط ذلك الجانب وخر البرج برمته فإذا هو واجب.
فلما شاهد الفرنج ذلك الحادث الفظيع، والخطب المؤلم الوجيع، قصد أكابرهم السلطان وتشفعوا إليه أن يعطيهم الأمان، فامتنع من ذلك وقال السلطان صلاح الدين: لا أفتحها إلا عنوة، كما افتتحتموها أنتم عنوة، ولا أترك بها أحدا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين.
فطلب صاحبها بالبان بن بازران الأمان ليحضر عنده فأمنه، فلما حضر ترقق للسلطان وذل ذلا عظيما، وتشفع إليه بكل ما أمكنه فلم يجبه إلى الأمان لهم.
فقالوا: إن لم تعطنا الأمان رجعنا فقتلنا كل أسير بأيدينا - وكانوا قريبا من أربعة آلاف - وقتلنا ذرارينا وأولادنا ونساءنا وخربنا الدور والأماكن الحسنة، وأحرقنا المتاع وأتلفنا ما بأيدينا من الأموال، وهدمنا قبة الصخرة وحرقنا ما نقدر عليه، ولا نبقي ممكنا في إتلاف ما نقدر عليه، وبعد ذلك نخرج فنقاتل قتال الموت، ولا خير في حياتنا بعد ذلك، فلا يقتل واحد منا حتى يقتل أعدادا منكم، فماذا ترتجي بعد هذا من الخير؟
فلما سمع السلطان ذلك أجاب إلى الصلح وأناب، على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن كل صغير وصغيرة دينارين، ومن عجز عن ذلك كان أسيرا للمسلمين، وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين، وأنهم يتحولون منها إلى مأمنهم وهي مدينة صور.
فكتب الصلح بذلك، وأن من لم يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يوما فهو أسير، فكان جملة من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف أسير من رجال ونساء وولدان، ودخل السلطان والمسلمون البلد يوم الجمعة قبل وقت الصلاة بقليل، وذلك يوم السابع والعشرين من رجب.
قال العماد: وهي ليلة الإسراء برسول الله ﷺ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
قال أبو شامة: وهو أحد الأقوال في الإسراء، ولم يتفق للمسلمين صلاة الجمعة يومئذ خلافا لمن زعم أنها أقيمت يومئذ، وأن السلطان خطب بنفسه بالسواد، والصحيح أن الجمعة لم يتمكنوا من إقامتها يومئذ لضيق الوقت، وإنما أقيمت في الجمعة المقبلة، وكان الخطيب محي الدين بن محمد بن علي القرشي ابن الزكي كما سيأتي قريبا.
ولكن نظفوا المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وخربت دور الداوية، وكانوا قد بنوها غربي المحراب الكبير، واتخذوا المحراب مشتا لعنهم الله، فنظف من ذلك كله، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، ووضع الصليب عن قبتها، وعادت إلى حرمتها.
وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعا فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهبا، فتعذر استعادة ما قطع منها.
ثم قبض من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال، وأطلق السلطان خلقا منهم بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئا مما يقتني ويدخر، وكان رحمه الله حليما كريما مقداما شجاعا رحيما.
لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقساقس، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالأذان وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، كان أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان، بعد يوم الفتح بثمان.
ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، ولم يكن عين خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبا، فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف البيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات.
وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في (الروضتين) بطولها وكان أول ما قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] .
ثم أورد تحميدات القرآن كلها، ثم قال الخطبة الواردة في مطلع الموضوع