أسمى المطالب

عبدَ الله

<b><font color="#FF00FF">فرسان النهار</font></b>
إنضم
5 يناير 2008
المشاركات
559
التفاعل
6 0 0
أسمى المطالب

كتبه/ سعيد صابر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فهذه آية نستحث بها أنفسنا على أسمى المطالب وأجلها، يقول -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة:11].

فالعلم هو مادة العلو والسمو في الأولى والآخرة، وهو الغاية التي خلق الله الخليقة لأجلها، وإن كان عامة الخلق إلا من رحم ربك بمعزل وغفلة عنهما، يقول -تعالى-: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ [الطلاق:12].

العلم نعمة وأي نعمة؛ يقول الله -تعالى- في معرض الامتنان علينا وعلى الناس: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ . فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة:151-152].

ويقول ممتنا على نبيه -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء:113].

وفي الحديث: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله -أي صفوة الخلف منهم- ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) رواه البيهقي، وصححه الألباني، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين) متفق عليه، ومفهوم الحديث أن من لم يرد الله به خيرا يصرفه عن التفقه في الدين؛ ليكن من الجاهلين، وهو في الآخرة من الخاسرين.

وقال معاذ -رضي الله عنه-: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، ومدارسته عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد".

وقال غيره: "إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني من الله، فلا بورك لي في شمس هذا اليوم".

ذلك، ولما كان هذا شأن العلم، وتلك منازل العلماء تفانى سلفنا الصلحاء في الظفر به، وبذلوا في سبيل تحصيله النفس والنفيس، وقد قال النضر بن شميل: "لا يجد الرجل لذة العلم حتى يجوع، بل وينسى جوعه".

ومما يدل على صدقهم وجدهم في الطلب أنهم كانوا يرحلون إليه حتى رحل سعيد بن جبير -رحمه الله- من الكوفة إلى المدينة؛ وذلك في سبيل سماع تفسير آية واحدة، ولسان حاله يقول:

سأضرب في طول البلاد وعرضها لأطلب علما أو أموت غريبا
فإن تلفـت نـفـسي فـلله درهـا وإن سـلمـت كـان الـرجوع قريبا

ولم يكن هذا البذل وذلك الجد حكرا على هؤلاء النبلاء فحسب، بل تعداهم ليشمل من لمع نجمه من الكافرين في فن من الفنون، فهذا "سقراط" الفيلسوف الملحد لما سئل:

"بماذا نلت العلم؟ قال: بأنني أنفقت على الزيت -أي زيت المصباح الذي يقرأ ويكتب عليه- بأنني أنفقت على الزيت أكثر مما أنفقت على الماء". وكان الماء يومئذ أنفس أموالهم.

فلابد إذن من دفع ثمن العلم والغنم بالغرم، والمكارم منوطة بالمكاره

فلا تحسبن المجد تمرا أنت آكله لا تبلغن المجد حتى تلعق الصبرا

يا ليتنا إخوتاه نسمو بهممنا كما سما هؤلاء.

يا ليتنا نهتم بالعلم الحقيقي؛ وهو العلم بالله كما نهتم اهتماما غير عادي بالعلم الدنيوي من رياضة وكيمياء وفيزياء، ونحرص كل الحرص على أن ينال أبناؤنا في ذلك الدرجات العلا، وندفع في سبيل ذلك المئات، بل الآلاف المؤلفة عداً ونقداً على الدروس الخصوصية، والكتب الخارجية، ولربما استدنا في سبيل ذلك، واقتطعنا من أقواتنا وتكبدنا لأجله التعب والنصب والمشاق، ومن ثمَّ فليس للولد عندنا عذر إن تعثر في دراسته أو قصر في مذاكرته، بل تلك هي الخطيئة الكبرى عند البعض، والتي لا تغتفر، ولربما طـُرد الولد على حسها من البيت غير مأسوف عليه، وذلك لمصلحته وحرصا منا على مستقبله، فإن تاب وأناب وجد واجتهد وتفوق وتخرج طبيبا أو مهندسا فتلك هي قرة العين والسعادة التي لا تكاد أن تدانيها سعادة!

وليس عيبا إخوتاه أن نحرص على تفوق أبنائنا وتغمرنا الفرحة إن حققوا ذلك، بل هذا أمر ينبغي أن نحرص عليه ف(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) رواه مسلم.

وما أحوجنا إلى أطباء ومهندسين وأساتذة ومفكرين يعمرون الدنيا بدين الله، ولكن العيب كل العيب أن نتفوق وأبناؤنا في دنيانا ونفشل في ديننا، العيب أن يكون عندنا مُبَرَزونَ ومتخصصون واستشاريون في الطب والمحاماة والفلك، ولا يحسن أحدهم قراءة الفاتحة؛ فضلا عن جبر صلاته إن حدث بها خلل!

العيب أن يكون عندنا أستاذا جامعيا يمسح على كم قميصه عند الوضوء بدلا من غسل يديه، تماما كما يفعل الناس بجواربهم التي تكون في أقدامهم!

العيب أن يُسأل البعض كم سورة في القرآن الكريم؟ فيكون الجواب: هذا أمر يختلف باختلاف المصاحف فهناك مصاحف صغيرة الحجم وأخرى كبيرة!!

والسبب في تلك المآسي ذاك الوباء المدمر المسمى بالجهل، وما عصي الله بمعصية أقبح من الجهل، ولذلك لما قيل للبعض: "هل هناك مصيبة أعظم من الجهل، قال: نعم، الجهل بالجهل".

وفي الجهـل قبل الموت موت لأهله وأجـسامـهـم قبل القبور قـبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور

فهلموا إخوتاه إلى نور العلم، وتلقوه عن أهله؛ فإن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، واجعلوا ذلك لوجه الله خالصا؛ وإلا فقد توعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلا: (من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عـَرْفَ الجنة -يعني ريحها- يوم القيامة) رواه أبو داود، وصححه الألباني.

ومن أخبث تلك النوايا حب الشهرة والظهور وقد قالوا: "حب الظهور قاصمة الظهور"، ويكفيك أخي حتى تـَجِدَّ في الطلب قوله -تعالى-: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [الرعد:19].

فاختر لنفسك إما العلم، وإما العمى؛ وإن آثرت الأول على الآخر، فحري بك أن تفتقر إلى الله، وأن تعلم أن الفضل كله بيد الله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

"قد صنف المصنفون في كل فن من الفنون وسطروا في ذلك كتبا وأسفارا تفوق الحصر، فمن نوَّر الله قلبه كفاه من ذلك اليسير؛ وإلا لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وتشتتا وضلالا". اهـ. بتصرف من كلام شيخ الإسلام.

ومن أعظم ما يحصل به هذا النور العمل بالعلم، فمن عمل بما علم، علمه الله ما لم يعلم، وقد قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال:29]، أي: علما وبصيرة؛ تـُفرقون بها بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والهدى والضلال، والظلمات والنور، وقال -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد:28].

وهذا والله هو العلم الحقيقي، فليس العلم بكثرة المسائل، وإنما العلم الخشية؛ ولذلك لما قيل لبعض النبلاء: "يا عالم. قال: إنما العالم من يخشى الله". وصدق الله ونصح -رحمه الله- ف﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28].

فاللهم إنا نسألك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا. وصلى الله على النبي، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 
عودة
أعلى