المسلمون والتعامل مع نبوءات المستقبل
إحسان الفقيه
في إحدى جولاته بأحياء قرية عربية صامدة، التقى وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشي ديان، مجموعة من الشباب العربي المسلم، فمد يده ليصافحهم، فأبى أحد الشباب قائلا: “أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم لا بد آت بإذن الله، فابتسم ديان وقال: “حقا سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلا، ولكن متى؟ إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه ويحترم دينه ويقدر قيمته الحضارية، وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل”.
هذه الواقعة التي قرأتها في أكثر من مرجع على ما لها من دلالات كثيرة، إلا أن أبرز ما لفت انتباهي في مضمونها، هو تعامل الإسرائيليين مع تلك النبوءة التي يُقَرّ ديان بأنَّ لها أصلا في كتبهم.
فحتما لم يكن الرجل هو الوحيدُ في قومه من يعرف بذلك، ومع هذا لم نجد منهم ركونا إلى تلك النبوءة التي تحكي عن واقع سيئ ينتظرهم، فلم يستسلموا لها، بل تعاطوا مع اللحظة الراهنة، وعملوا ليل نهار في تحقيق حُلمهم المُدوّن على قاعة الكنيست، دولة من النيل إلى الفرات.
وفي المقابل، يتعامل المسلمون في هذا العصر مع نبوءات المستقبل التي تبشر بالظفر والتمكين، بسلبية ووهن، مكتفين بأن تكون تلك النبوءات سُلوانا لهم في واقعهم المرير.
*كثير من أبناء الأمة الذين جهلوا نواميس الكون وعلاقة المقادير بالأسباب، أساؤوا التعامل مع الأحاديث الصحيحة التي تبشر بظهور المهدي المنتظر، الإمام العادل الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورا وظلما، فجلسوا ينتظرون ظهوره، دون البذل والتعاطي مع الواقع.
ولذا ابتُليت الأمة بظاهرة (المهدوية)؛ إذ يخرج في كل عصر من يزعم أنه المهدي المنتظر، ويفتتن به فئاتٌ من الأمة، إلى أن يسقط ويتبين كذب دعواه.
وهؤلاء يقول عنهم ابن خلدون في تاريخه: “يعيِّنون فيه الوقتَ والرَّجُلَ والمكانَ بأدلة واهية، وتحكّمات مختلفة، فينقضي الزمان ولا أثر لشيء من ذلك، فيرجعون إلى تجديد رأي آخر منتحل، كما تراه من مفهومات لغوية وأشياء تخيُلية، وأحكام نجومية، في هذا انقضت أعمار الأول منهم والآخر”.
*عندما اندلعت الحرب في سوريا، وصارت ميدانا لصراع دولي، انبرى الانهزاميون القاعدون يبشرون بأن هذا أوان الملحمة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تشهد تحالفا بين المسلمين والروم (الغرب) ضد عدو مشترك، تقع في أرض الشام، وهي ما يُعرف عند أهل الكتاب بمعركة “هرمجدون”.
وقِسْ على ذلك جميع الملاحم وأشراط الساعة والغيبيات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي أساء الكثيرون التعامل معها، وجلسوا في موقع المشاهد دون الأخذ بالأسباب لإنقاذ هذه الأمة المنكوبة.
واختلطت الحقائق والآمال بالأحلام والأوهام، وصار جُلّ عمل البعض إسقاطُ نصوص النبوءات على الواقع، فهناك استعداد مسبق لدى الكثيرين للربط المتعسف بين الغيبيات المستقبلية وأحداث الواقع، يذكرنا بالفنان الأمريكي أورسون ويلز، الذي نال شهرته لتقديمه تمثيلية إذاعية مقتبسة من رواية حرب العوالم، لكنه أذاعها بأسلوب التقرير الإخباري، فكانت سببا في إثارة فزع الناس؛ حيث اعتقدوا تعرض الأرض لغزو كائنات فضائية، حتى إن منهم من زعم مشاهدة ومضاتٍ في الأفق، ومنهم من ادّعى أنه استنشق الغاز السام.
*هذه الأخبار المستقبلية لم يحكِها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من أجل الاكتفاء بترقبها وانتظارها، بل تتجلى ثمرات العلم بها كما قال الدكتور محمد إسماعيل المقدم في كتابه “فقه أشراط الساعة”، في تحقيق ركن من أركان الإيمان الستة، وباعتبارها من الغيب الذي يجب الإيمان به، وإشباع رغبة فطرية لدى الإنسان تتطلع لاستكشاف ما غاب عنه وما يحدث في المستقبل.
*كما أن من ثمراتها إبراز دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وكذلك فتح باب الأمل والاستبشار بحسن العاقبة لأهل الإيمان، إضافة إلى تعلّم الكيفية الصحيحة مع الأحداث المستقبلية التي قد يلتبس علينا وجه الحق فيها.
فلم يكن القعود في انتظار تحقيق النبوءات والتعسف في إسقاطها على الواقع والانشغال بها عن العمل منهج القرون المفضلة، بل كان الأخذ بالأسباب المُفضية إليها هو ما يشغلهم، وقد أحسن الدكتور (عبد العزيز مصطفى كامل) في التعبير عن ذلك بعبارة قصيرة وافية، وذلك في كتابه “العلمانيون وفلسطين ستون عاما من الفشل”، حيث قال: “أخبار الغيب ليست قدرا يُنتظر بقدر ما هي شرعٌ يُمتثل ويُستحضر”.
*وانطلاقا من هذه الحقيقة، تسابق المسلمون إلى تحقيق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية، ولم يعتبروه غيبا مستورا يجب انتظاره حتى تكشف عنه الأقدار، فوجّه معاوية رضي الله عنها جيشا فيه جمعٌ من الصحابة لفتحها، وبعد محاولات عبر قرون عديدة، تمكن محمد بن مراد الثاني من فتحها عام 1453م.
*لقد فهم الصحابة التصريح القرآني بأن الروم سيهزمون الفرس، من أنها بشارة لانتصار المسلمين وتمكينهم؛ لأنهم أهل الإيمان والحق، كما أن الروم باعتبارهم أهل كتاب كانوا أقرب إلى الحق من الفرس المجوس.
فلم يجلسوا في انتظار تحقيق البشارة، وإنما انطلقوا -منذ أن كانوا في مرحلة الاستضعاف- إلى البناء والسعي لتكوين دولة للإسلام تنشر نور الرسالة في أنحاء الأرض.
*فهم عبد الله بن سلام حقيقة أن النبوءات والبشارات تدفع إلى العمل لا القعود، فقال لمُحدّثه: “إن سمعت بالدجال قد خرج وأنت على ودِيّة تغرسها، فلا تعجل أن تصلحه، فإن للناس بعد ذلك عيشا”.
فهو يوصي بأن يغرس الفسيلة في زمن خروج الدجال وما يصاحبه من أمور عظام، منطلقا بمنهج قويم يوجب معالجة الواقع.
*فليتنا ننشغل ونهتم بالعمل والإنجاز والسعي للتغيير، مع اليقين الكامل بتحقق النبوءات والبشارات الصحيحة، فالله تعالى قدّر المقادير بأسبابها، فلا ينبغي أن نهمل ما بأيدينا في انتظار ما تنجلي عنه صفحات الغيب.
عن موقع عربى21
إحسان الفقيه
في إحدى جولاته بأحياء قرية عربية صامدة، التقى وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشي ديان، مجموعة من الشباب العربي المسلم، فمد يده ليصافحهم، فأبى أحد الشباب قائلا: “أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم لا بد آت بإذن الله، فابتسم ديان وقال: “حقا سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلا، ولكن متى؟ إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه ويحترم دينه ويقدر قيمته الحضارية، وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل”.
هذه الواقعة التي قرأتها في أكثر من مرجع على ما لها من دلالات كثيرة، إلا أن أبرز ما لفت انتباهي في مضمونها، هو تعامل الإسرائيليين مع تلك النبوءة التي يُقَرّ ديان بأنَّ لها أصلا في كتبهم.
فحتما لم يكن الرجل هو الوحيدُ في قومه من يعرف بذلك، ومع هذا لم نجد منهم ركونا إلى تلك النبوءة التي تحكي عن واقع سيئ ينتظرهم، فلم يستسلموا لها، بل تعاطوا مع اللحظة الراهنة، وعملوا ليل نهار في تحقيق حُلمهم المُدوّن على قاعة الكنيست، دولة من النيل إلى الفرات.
وفي المقابل، يتعامل المسلمون في هذا العصر مع نبوءات المستقبل التي تبشر بالظفر والتمكين، بسلبية ووهن، مكتفين بأن تكون تلك النبوءات سُلوانا لهم في واقعهم المرير.
*كثير من أبناء الأمة الذين جهلوا نواميس الكون وعلاقة المقادير بالأسباب، أساؤوا التعامل مع الأحاديث الصحيحة التي تبشر بظهور المهدي المنتظر، الإمام العادل الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورا وظلما، فجلسوا ينتظرون ظهوره، دون البذل والتعاطي مع الواقع.
ولذا ابتُليت الأمة بظاهرة (المهدوية)؛ إذ يخرج في كل عصر من يزعم أنه المهدي المنتظر، ويفتتن به فئاتٌ من الأمة، إلى أن يسقط ويتبين كذب دعواه.
وهؤلاء يقول عنهم ابن خلدون في تاريخه: “يعيِّنون فيه الوقتَ والرَّجُلَ والمكانَ بأدلة واهية، وتحكّمات مختلفة، فينقضي الزمان ولا أثر لشيء من ذلك، فيرجعون إلى تجديد رأي آخر منتحل، كما تراه من مفهومات لغوية وأشياء تخيُلية، وأحكام نجومية، في هذا انقضت أعمار الأول منهم والآخر”.
*عندما اندلعت الحرب في سوريا، وصارت ميدانا لصراع دولي، انبرى الانهزاميون القاعدون يبشرون بأن هذا أوان الملحمة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تشهد تحالفا بين المسلمين والروم (الغرب) ضد عدو مشترك، تقع في أرض الشام، وهي ما يُعرف عند أهل الكتاب بمعركة “هرمجدون”.
وقِسْ على ذلك جميع الملاحم وأشراط الساعة والغيبيات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي أساء الكثيرون التعامل معها، وجلسوا في موقع المشاهد دون الأخذ بالأسباب لإنقاذ هذه الأمة المنكوبة.
واختلطت الحقائق والآمال بالأحلام والأوهام، وصار جُلّ عمل البعض إسقاطُ نصوص النبوءات على الواقع، فهناك استعداد مسبق لدى الكثيرين للربط المتعسف بين الغيبيات المستقبلية وأحداث الواقع، يذكرنا بالفنان الأمريكي أورسون ويلز، الذي نال شهرته لتقديمه تمثيلية إذاعية مقتبسة من رواية حرب العوالم، لكنه أذاعها بأسلوب التقرير الإخباري، فكانت سببا في إثارة فزع الناس؛ حيث اعتقدوا تعرض الأرض لغزو كائنات فضائية، حتى إن منهم من زعم مشاهدة ومضاتٍ في الأفق، ومنهم من ادّعى أنه استنشق الغاز السام.
*هذه الأخبار المستقبلية لم يحكِها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من أجل الاكتفاء بترقبها وانتظارها، بل تتجلى ثمرات العلم بها كما قال الدكتور محمد إسماعيل المقدم في كتابه “فقه أشراط الساعة”، في تحقيق ركن من أركان الإيمان الستة، وباعتبارها من الغيب الذي يجب الإيمان به، وإشباع رغبة فطرية لدى الإنسان تتطلع لاستكشاف ما غاب عنه وما يحدث في المستقبل.
*كما أن من ثمراتها إبراز دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وكذلك فتح باب الأمل والاستبشار بحسن العاقبة لأهل الإيمان، إضافة إلى تعلّم الكيفية الصحيحة مع الأحداث المستقبلية التي قد يلتبس علينا وجه الحق فيها.
فلم يكن القعود في انتظار تحقيق النبوءات والتعسف في إسقاطها على الواقع والانشغال بها عن العمل منهج القرون المفضلة، بل كان الأخذ بالأسباب المُفضية إليها هو ما يشغلهم، وقد أحسن الدكتور (عبد العزيز مصطفى كامل) في التعبير عن ذلك بعبارة قصيرة وافية، وذلك في كتابه “العلمانيون وفلسطين ستون عاما من الفشل”، حيث قال: “أخبار الغيب ليست قدرا يُنتظر بقدر ما هي شرعٌ يُمتثل ويُستحضر”.
*وانطلاقا من هذه الحقيقة، تسابق المسلمون إلى تحقيق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية، ولم يعتبروه غيبا مستورا يجب انتظاره حتى تكشف عنه الأقدار، فوجّه معاوية رضي الله عنها جيشا فيه جمعٌ من الصحابة لفتحها، وبعد محاولات عبر قرون عديدة، تمكن محمد بن مراد الثاني من فتحها عام 1453م.
*لقد فهم الصحابة التصريح القرآني بأن الروم سيهزمون الفرس، من أنها بشارة لانتصار المسلمين وتمكينهم؛ لأنهم أهل الإيمان والحق، كما أن الروم باعتبارهم أهل كتاب كانوا أقرب إلى الحق من الفرس المجوس.
فلم يجلسوا في انتظار تحقيق البشارة، وإنما انطلقوا -منذ أن كانوا في مرحلة الاستضعاف- إلى البناء والسعي لتكوين دولة للإسلام تنشر نور الرسالة في أنحاء الأرض.
*فهم عبد الله بن سلام حقيقة أن النبوءات والبشارات تدفع إلى العمل لا القعود، فقال لمُحدّثه: “إن سمعت بالدجال قد خرج وأنت على ودِيّة تغرسها، فلا تعجل أن تصلحه، فإن للناس بعد ذلك عيشا”.
فهو يوصي بأن يغرس الفسيلة في زمن خروج الدجال وما يصاحبه من أمور عظام، منطلقا بمنهج قويم يوجب معالجة الواقع.
*فليتنا ننشغل ونهتم بالعمل والإنجاز والسعي للتغيير، مع اليقين الكامل بتحقق النبوءات والبشارات الصحيحة، فالله تعالى قدّر المقادير بأسبابها، فلا ينبغي أن نهمل ما بأيدينا في انتظار ما تنجلي عنه صفحات الغيب.
عن موقع عربى21