الحياة بين الوهم و الحقيقة!
ما هي الحقيقة؟ سؤال طالما طرحته على نفسي كلما تأملت في هذه الحياة و في حركة البشر و سعيهم، ... سؤال طرحته على نفسي كلما زال شيئ كان قبل هُنَيْهَة موجودا، و كلما رحل انسان عن الحياة كان بالأمس القريب يتحرك و يتكلم فإذا به جثة هامدة توارى تحت التراب، ...
ما هي الحقيقة، في حياةٍ سُنَّتها أن كل ما عليها فَانٍ، و سنتها أن كل شيئ فيها نسبي و لا يبقى على هيئة مستقرة: يتغير حال الكل من الصغر و الضعف الى الكبر و القوة، ثم الى الضعف و الزوال، و بين كل مراحل الحياة تلك و خلالها يتأرجح الحال على الدوام بين الصحة و المرض، و بين الضعف و القوة، و بين الجوع و الشبع، و بين الفقر و الغنى، و بين الحاجة و الاستغناء، و بين الخوف و الأمن الخ ...، ... و بين كل مراحل الحياة تلك و خلالها يتغير حال القلوب، مرة ساخطة و مرة راضية، مرة قلقة و اخرى مطمئنة، مرة تحب و مرة تكره، مرة مسئومة ميؤوسة مشؤومة متضجرة و مرة فرحة نشطة مستبشرة، و مرة بين هذا و ذاك الخ ....
ما هي الحقيقة؟ سؤال طالما طرحته على نفسي كلما تأملت في حقيقة ما نملك في هذه الحياة الدنيا و ما نسعى لتحقيقه و تَمَلُّكه: أموال، بيوت، سيارات، ألقاب، سمعة، حظوة اجتماعية، وظائف، نساء، أبناء الخ ....! ما حقيقة الاشياء و الاهداف و الأمتعة كلها التي نشقى و نكد للحصول عليها إذا كانت فانية و زائلة، إذا كانت لا تحقق أبدا إشباعا تاما دائماً لدى الانسان؟ ... ما حقيقة الأكل مثلا الذي نطعمه و الشراب الذي نشربه إذا كنا كل يوم نستيقظ و كأننا لم نأكل و نشرب قط، فنهرع لملئ البطون من جديد، يوم على يوم نفس العملية، و هذا ينطبق على كل حاجاتنا و شهواتنا التي نهرع على الدوام في محاولات لإشباعها! ...
ما نسبة الحقيقة في المُتغَيِّر؟ ما نسبة الحقيقة فيما هو فانٍ؟ ما نسبة الحقيقة في حياةٍ متغيرة فانية؟
الحقيقة لا تكمن إلا فيما هو ثابت لا يتغير و لا يفنى و لا يتأثر بأي شيئ، الحقيقة لا تكمن إلا فيمن يستمد حقيقته من ذاته، و هذه الصفات لا تنطبق على المخلوقات و إنما على الخالق فقط! لذلك فالحقيقة واحدة فقط، و هو الله سبحانه! الله الحي الذي لا يموت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)}(الرحمن)، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ (58)}(الفرقان)، الله الأزلي الذي لا يحتاج لأي شيئ و لا لأي أحد، الله الغني بنفسه، الواجب الوجود بنفسه! و ما عدا الله فكل المخلوقات من انسان و حيوان و نبات و كواكب الخ ...، كلها ليست موجودة لإرادةٍ و قدرة ذاتية، و لكنها كلها موجودة لإرادة غيرها و لِقُدْرَة غيرها، و هذا الغير هو الله خالقها!
فخاصيات و قدرات كل المخلوقات ليست خاصيات و قدرات ذاتية، اي لا تستند الى إرادة ذاتية، لا في وجود تلك القدرات ابتداءً، و لا في نوعيتها و هيئتها و كيفية حركتها، و لا في حجم طاقاتها. بمعنى آخر، فخاصيات و قدرات كل المخلومات ليست واجبة الوجود بذاتها و لا غنية مستغنية بنفسها، و إنما هي على حالها لأن الله أراد لها أن تكون كذلك! ... فالعين مثلا ظاهرها انها قادرة على الرؤية من خلال استقبال نسيج الشَّبَكِيَّة للضوء الذي تعكسه الاشياء التي تقع عليها العين، و تحويلها إلى نبضات عصبية (إشارات كهروكيميائية) ينقلها العصب العيني إلى الدماغ حيث يتم تحليلها و ترتيبها و مقارنتها بالمعلومات المخزنة في الدماغ لتنشأ صورة لما وقعت عليه العين! ... هذا هو الظاهر السطحي لكيفية البصر، لكن الحقيقة أن العين و الأعصاب و الدماغ و الضوء الذي تعكسه الاشياء، كلها بمجموعها ليست موجبة البصر بذاتها، فنحن نرى الشيئ لأن الله قدَّرَ و أراد لنا أن نراه، ليس إلاَّ! ... و بالتدبر في مخلوقات الله المختلفة يتبين لنا أن وسائل البصر تختلف بين المخلوقات، فليست القدرة على البصر مرتبطة أو متعلقة بوجود عين أصلا، فتجد مثلا من بين أبسط وسائل البصر "خلايا مُتَحسِّسَة" للضوء توجد على طول جسم بعض الحيوانات كالخُرْطون (دودة الارض) يتحسس بها محيطه. إذا فالقدرة على البصر ليست متعلقة بوجود العين التي نعرفها عند البشر، و البصر ليس واجب الوجود و الحدوث لقدرة الوسائل و الأدوات المختلفة المتعلقة بالبصر نفسها، و لكن قطعا و حصرا لإرادة الله سبحانه وحده. ففي اللحظة التي تقع فيها أعيننا على وردة جميلة مثلا فإننا نراها و نتمتع بالنظر لجمالها ليس لأن أعيننا تمحنحنا القدرة على ذلك، و لكن لأن الله أمر و شاء أن نراها في تلك اللحظة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}(يس)، فكل ما هو كائن في الحياة إنما هو بمشيئةٍ و إرادةٍ من الله و ليس بإرادة و مشيئة المادة المخلوقة نفسها، فقوله سبحانه {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} شاملة لكل شيئ يحدث في هذه الدنيا (من حركة و بصر و شمٍّ الخ) و ليس هناك ما يحصرها في شيئ دون آخر، ثم يؤكد الله سبحانه و تعالى ذكره أن أمر كل شيئ بيده هو {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}!
فهاهم رجال قريش اجتمعوا حول بيت رسول الله في مكة ينتظرون خروجه صلى الله عليه و سلم لينقَضُّوا عليه بسيوفهم و يقتلوه، فخرج رسول الله عليهم و مر من بين ايديهم و لم يروه! كيف لم تستطع أعين رجال قريش رؤية رسول الله مع صحتها و سلامتها؟ لأن الله لم يشأ لرجال قريش أن يروه {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)}(يس)! فكل علوم الفيزياء و الاحياء و الكيمياء لا قيمة لها هنا، فلو كانت العين موجبة البصر من نفسها لما أخفقت قط في رؤية كل ما يقع عليه حسها، و لأبصرت قريش رسول الله، لكن أمر البصر، كما هو شأن كل شيئ، موكل أمره لله وحده، فلذلك جاء أمر الله ألا ترى قريش محمدا و هو يتمشى بين ايديهم، فكان أمر الله مفعولا!
و كذلك شأن خاصيات كل المخلوقات، فظاهرها هو ما تفسره علوم الفيزياء و الطب و الاحياء و الكيمياء الخ، لكن حقيقة كونها كما هي ليس واجب الوجود و الحدوث، بل ترجع كينونة و خاصيات كل شيئ إلى إرادة الله و قدرته {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}(القمر)، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)}(الفرقان)، ...
فخذ مثلا النار، فظاهرها أنها تحرق، و من ثم لو كان الحريق واجب الحدوث لخاصية النار نفسها لوجب دائماً، دون اي استثناء، إصابة كل من لمسته نارٌ بحريق! لكن سيدنا ابراهيم عليه الصلاة و السلام رماه قومه في نار قوية شديدة لو وُضِعَ فيها معدن لذاب، إلا أنه صلى الله عليه و سلم لم يُصب بأي أذى، إذ لم يأذن الله للنار أن تحرق إبراهيم، فخاصية الحرق فيها ليست ذاتية و إنما بأمر من الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)}(الانبياء)!
و خذ مثلا الماء الذي ينزل من السماء فالظاهر، حسب ما توصلنا اليه من تجارب فيزيائية و كيميائية، أن السحاب لا يحمل إلا ماءً عذباً حلواً صالحا للشرب و السقي، فالسحاب غالبه ينتج عن طريق تبخر ماء البحار و صعوده الى السماء ليتجمع و يُكَوِّن سحابا، و ماء البحار -الذي يغطي غالب مساحة الكرة الأرضية- مالح كما هو معلوم، إلا أن خاصية الماء تختلف عن خاصية الملح الذائب فيه، فالماء يتبخر و ينفصل عن الملح ليصعد الى السماء عذبا صافيا، أما الملح فمع تبخر الماء ينتقل من السيولة الى الجمود فيزداد وزنه و ينزل الى الارض! لكن هذه الظاهرة ليست واجبة الوجود و الحدوث من خاصيات الماء و الملح و السحاب أنفسهم، و لكن لأن الله أراد ذلك رحمة بنا، ألم يقل سبحانه و تعالى ذكره: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)}(الواقعة)، فالماء عذب ليس لقوانين الفيزياء و الكيمياء و لكن لأن الله شاء ذلك رحمة بنا، فلو شاء سبحانه لجعل الماء الذي ينزل من المُزْنِ (السحاب) أُجاجاً، أي شديد الملوحة! فالحمد لله الذي جعل الماء عذبا نروي به عطشنا و نسقي به زرعنا، و لولا فضله و منته علينا بذلك، رغم ذنوبنا، لَهَلَكْنا!
و خذ مثلا ما نحرث في الارض، فالظاهر أن الانسان إذا وضع بذرة في ارض خصبة و سقا الارض بالماء لتحصل البذرة على كل ما تحتاج اليه من مواد للنمو، فإننا يجب أن نحصل على زرع و فواكه و خضر مما حرثنا في الارض، لتوفر كل خاصيات الحياة و النمو الضرورية باجتماع البذرة و الارض و الماء! لكن الزرع ليس واجب الوجود و الحدوث من خاصيات البذرة و الماء و الارض أنفسهم، و لكن لأن الله أراد ذلك رحمة بنا و مِنَّةً علينا، ألم يقل سبحانه و تعالى ذكره: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)}(الواقعة).
و خذ مثلا الطيور التي تطير في السماء فالظاهر أن الأجنحة و نوعية تركيبتها و قدرتها على ضرب الهواء بقوة يُنتج قوة دفع تتغلب على الجاذبية فتجعل الطير يسبح في السماء و لا يسقط على الارض، لكن القدرة على الطير ليست واجبة الوجود و الحدوث من خاصيات الأجنحة أنفسها، و لكن لأن الله هو الذي يمسك الطير عن السقوط، ألم يقل سبحانه و تعالى ذكره
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}(الملك)، {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 79 )}(النحل).
و كذلك عدم سقوط السماء علينا ليس واجب الوجود لخاصيات السماء نفسها و لكن لإرادة الله سبحانه، و لو شاء الله لجعل -ضد كل قوانين الفيزياء- السماء تقع علينا و تهلكنا، ألم يقل سبحانه: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (65)}(الحج)، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)}(فاطر).
و الجبال حسب قوانين الجيوفيزياء مستقرها في الارض، و بها ترسى الارض و تثبت، و الجبال نفسها لها وزن كبير يجعل قوة الجاذبية عليها جد قوية، لكن هذه الظاهرة ليست واجبة الوجود و الحدوث من خاصيات الجبال و الجاذبية أنفسهما، و لكن لأن الله شاء ذلك، فلو شاء الله لجعل الجبال ترتفع فوقنا، ألم يفْصِل الله بأمره جبل الطور عن الارض و رفعه في السماء فوق رؤوس بني اسرائيل، يهددهم سبحانه بإسقاطه عليهم و إهلاكهم إذا لم يؤمنوا و يخضعوا لأمره: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ (154)}(النساء)، {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}(الاعراف).
فالله رحمة منه بنا و مِنَّةً و تفضلا منه علينا، و ابتلاءً و اختبارًا لنا، جعل لنا حيزا للتأثير و التحكم نسبيا في المادة -في الحياة-، فنضع البذور في الارض و نسقيها بالماء لنفرح بنتاج جهدنا و عملنا و ننعم بأكلها، .... و نبحث في خاصية العين لنفرح بقدرتنا على معرفة كيفية عملها و نستطيع علاج بعض أمراضها و تحسين قدرة البصر، ..... و نبحث في شتى المواد لندرك خاصيات كلٍّ منها و نوع الطاقات التي تحويها فنستخرج منها الإنارة لبيوتنا و شوارعنا، و السيارات و القطارات و الطائرات لحركتنا و تنقلنا، و الاسلحة للدفاع عن انفسنا، و الدواء لعلاج أمراضنا، .... نفعل كل هذا ظنا مِنَّا أن كل أفعالنا و إنتاجاتنا تلك من محض قدراتنا و إرادتنا الخالصة، و أن "تطويعنا" للمادة نابع من وجوب قانون "الفعل و ردة الفعل" المستند على خاصيات ذاتية للمادة و على قدرات الإنسان على إدراك تلك الخاصيات، أي ظَنًّا مِنَّا أن المادة و الانسان و خاصياتهما واجبة الوجود بنفسها! ... و هذا الظن يدل على الضعف الشديد لفهنا للحقيقة و على سطحيتنا و تفاهتنا {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (7)}(الروم)!
فالحقيقة لا تكمن إلا فيمن يستمد حقيقته من ذاته، فخاصيات و قدرات كل المخلوقات ليست خاصيات و قدرات ذاتية، اي لا تستند على إرادة ذاتية. فوجود تلك المخلوقات ابتداءً ليس نابع من إرادة ذاتية، فهي كلها ليست واجبة الوجود من نفسها، و خاصياتها و قدراتها كذلك ليست واجبة الوجود بنفسها! ...
و لذلك فحياتنا عبارة عن وَهْم، فالحقيقة لا تكمن في وجودنا و أفعالنا و ابتكاراتنا و قوتنا و تَمَلُّكنا الخ في حد ذاتها، إذ كل هذا فَانٍ متأثر متغير، غير واجب الوجود، مستند في وجوده و خاصياته و أشكاله لما هو خارج عنه و هو الله سبحانه، .... و بذلك فالحقيقة في حياتنا تكمن فقط في ربط اللحظة و الفعل و الحركة في حياتنا بالحق و الحقيقة، بالله سبحانه و تعالى ذكره، لأنه لا حقيقة إلا الله سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(سورة الحج)! .... فمتى ربط الانسان كلَّ نبضةٍ و حركةٍ و سعيٍ في حياته بالله، خرج من وَهْم الحياة الفانية ليرتفع الى الحقيقة، ليسمو رُوحِيًّا الى الخالق الذي لا يموت! فالحقيقة تكمن فقط في العلاقة الروحية -أي الإيمانية- بالله، و استحضاره سبحانه في كل حركة في الحياة، و جعل الحركة حسب ما يرضيه سبحانه {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}(الأنعام)، .... و متى أنكر الانسان وجود الله أو أنكر وجوب ربطه سبحانه بكل حركة في حياته مهما صَغُرَت أو كَبرَتْ - أي جعل كل حركته حسب شريعة الله- غرق في حياة الوهم، غرق في الأوهام، خيمت على حياته الظلمات {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ (39)}(الأنعام). .... فهؤلاء الذين فصلوا حياتهم عن الله يعيشون "حقيقة" اللحظة فقط، يعيشون ضيق اللحظة و سخافتها، اللحظة التي يمكن تقديرها زمنيا بالثانية أو أقل أو أكثر قليلا، إذ تذهب تلك اللحظة بلا رجعة، تنقضي لتحل محلها لحظة جديدة، سيناريو جديد، وهم جديد، أمل جديد {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}(الحجر)! ... فلا يفيقون من وَهْمِ حياتهم إلا عندما يأتيهم الموت {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)}(ق)! ... فمن يعيش حياة الأوهام، حياةً بعيدة عن الله، تبدأ عنده الحقيقة فقط بخروج الروح من جسد الأوهام و حياة الأوهام {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)}(ق)!
أما المؤمنون الذين يوقنون بالله و بوجوب طاعته و بلقائه سبحانه، فيخرجون من ضيق اللحظة و وَهْمِ الحياة الى سعة الحقيقة، إذ أحلامهم و أمانيهم و تطلعاتهم لا تنحصر على هذه الحياة الدنيا الفانية الواهية الضيقة، و لكن تمتد الى ما هو لانهائي، تمتد للآخرة، للقاء الله الواسع الأزلي و لقاء النبيين و المرسلين و المؤمنين الصالحين من عباده، فلذلك لا ينفكون عن ذكر الله، بكل ما تحمل كلمة الذكر من معنى: صلاة، تسبيح، استغفار، حمد، طاعته، تحكيم شريعته، دعوة الناس لدينه و إخراجهم من الظلمات الى النور من الوهم الى الحقيقة، ... {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}(آل عمران).
http://afkar-araa.blogspot.com.eg/2016/03/blog-post_27.html
ما هي الحقيقة؟ سؤال طالما طرحته على نفسي كلما تأملت في هذه الحياة و في حركة البشر و سعيهم، ... سؤال طرحته على نفسي كلما زال شيئ كان قبل هُنَيْهَة موجودا، و كلما رحل انسان عن الحياة كان بالأمس القريب يتحرك و يتكلم فإذا به جثة هامدة توارى تحت التراب، ...
ما هي الحقيقة، في حياةٍ سُنَّتها أن كل ما عليها فَانٍ، و سنتها أن كل شيئ فيها نسبي و لا يبقى على هيئة مستقرة: يتغير حال الكل من الصغر و الضعف الى الكبر و القوة، ثم الى الضعف و الزوال، و بين كل مراحل الحياة تلك و خلالها يتأرجح الحال على الدوام بين الصحة و المرض، و بين الضعف و القوة، و بين الجوع و الشبع، و بين الفقر و الغنى، و بين الحاجة و الاستغناء، و بين الخوف و الأمن الخ ...، ... و بين كل مراحل الحياة تلك و خلالها يتغير حال القلوب، مرة ساخطة و مرة راضية، مرة قلقة و اخرى مطمئنة، مرة تحب و مرة تكره، مرة مسئومة ميؤوسة مشؤومة متضجرة و مرة فرحة نشطة مستبشرة، و مرة بين هذا و ذاك الخ ....
ما هي الحقيقة؟ سؤال طالما طرحته على نفسي كلما تأملت في حقيقة ما نملك في هذه الحياة الدنيا و ما نسعى لتحقيقه و تَمَلُّكه: أموال، بيوت، سيارات، ألقاب، سمعة، حظوة اجتماعية، وظائف، نساء، أبناء الخ ....! ما حقيقة الاشياء و الاهداف و الأمتعة كلها التي نشقى و نكد للحصول عليها إذا كانت فانية و زائلة، إذا كانت لا تحقق أبدا إشباعا تاما دائماً لدى الانسان؟ ... ما حقيقة الأكل مثلا الذي نطعمه و الشراب الذي نشربه إذا كنا كل يوم نستيقظ و كأننا لم نأكل و نشرب قط، فنهرع لملئ البطون من جديد، يوم على يوم نفس العملية، و هذا ينطبق على كل حاجاتنا و شهواتنا التي نهرع على الدوام في محاولات لإشباعها! ...
ما نسبة الحقيقة في المُتغَيِّر؟ ما نسبة الحقيقة فيما هو فانٍ؟ ما نسبة الحقيقة في حياةٍ متغيرة فانية؟
الحقيقة لا تكمن إلا فيما هو ثابت لا يتغير و لا يفنى و لا يتأثر بأي شيئ، الحقيقة لا تكمن إلا فيمن يستمد حقيقته من ذاته، و هذه الصفات لا تنطبق على المخلوقات و إنما على الخالق فقط! لذلك فالحقيقة واحدة فقط، و هو الله سبحانه! الله الحي الذي لا يموت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)}(الرحمن)، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ (58)}(الفرقان)، الله الأزلي الذي لا يحتاج لأي شيئ و لا لأي أحد، الله الغني بنفسه، الواجب الوجود بنفسه! و ما عدا الله فكل المخلوقات من انسان و حيوان و نبات و كواكب الخ ...، كلها ليست موجودة لإرادةٍ و قدرة ذاتية، و لكنها كلها موجودة لإرادة غيرها و لِقُدْرَة غيرها، و هذا الغير هو الله خالقها!
فخاصيات و قدرات كل المخلوقات ليست خاصيات و قدرات ذاتية، اي لا تستند الى إرادة ذاتية، لا في وجود تلك القدرات ابتداءً، و لا في نوعيتها و هيئتها و كيفية حركتها، و لا في حجم طاقاتها. بمعنى آخر، فخاصيات و قدرات كل المخلومات ليست واجبة الوجود بذاتها و لا غنية مستغنية بنفسها، و إنما هي على حالها لأن الله أراد لها أن تكون كذلك! ... فالعين مثلا ظاهرها انها قادرة على الرؤية من خلال استقبال نسيج الشَّبَكِيَّة للضوء الذي تعكسه الاشياء التي تقع عليها العين، و تحويلها إلى نبضات عصبية (إشارات كهروكيميائية) ينقلها العصب العيني إلى الدماغ حيث يتم تحليلها و ترتيبها و مقارنتها بالمعلومات المخزنة في الدماغ لتنشأ صورة لما وقعت عليه العين! ... هذا هو الظاهر السطحي لكيفية البصر، لكن الحقيقة أن العين و الأعصاب و الدماغ و الضوء الذي تعكسه الاشياء، كلها بمجموعها ليست موجبة البصر بذاتها، فنحن نرى الشيئ لأن الله قدَّرَ و أراد لنا أن نراه، ليس إلاَّ! ... و بالتدبر في مخلوقات الله المختلفة يتبين لنا أن وسائل البصر تختلف بين المخلوقات، فليست القدرة على البصر مرتبطة أو متعلقة بوجود عين أصلا، فتجد مثلا من بين أبسط وسائل البصر "خلايا مُتَحسِّسَة" للضوء توجد على طول جسم بعض الحيوانات كالخُرْطون (دودة الارض) يتحسس بها محيطه. إذا فالقدرة على البصر ليست متعلقة بوجود العين التي نعرفها عند البشر، و البصر ليس واجب الوجود و الحدوث لقدرة الوسائل و الأدوات المختلفة المتعلقة بالبصر نفسها، و لكن قطعا و حصرا لإرادة الله سبحانه وحده. ففي اللحظة التي تقع فيها أعيننا على وردة جميلة مثلا فإننا نراها و نتمتع بالنظر لجمالها ليس لأن أعيننا تمحنحنا القدرة على ذلك، و لكن لأن الله أمر و شاء أن نراها في تلك اللحظة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}(يس)، فكل ما هو كائن في الحياة إنما هو بمشيئةٍ و إرادةٍ من الله و ليس بإرادة و مشيئة المادة المخلوقة نفسها، فقوله سبحانه {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} شاملة لكل شيئ يحدث في هذه الدنيا (من حركة و بصر و شمٍّ الخ) و ليس هناك ما يحصرها في شيئ دون آخر، ثم يؤكد الله سبحانه و تعالى ذكره أن أمر كل شيئ بيده هو {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}!
فهاهم رجال قريش اجتمعوا حول بيت رسول الله في مكة ينتظرون خروجه صلى الله عليه و سلم لينقَضُّوا عليه بسيوفهم و يقتلوه، فخرج رسول الله عليهم و مر من بين ايديهم و لم يروه! كيف لم تستطع أعين رجال قريش رؤية رسول الله مع صحتها و سلامتها؟ لأن الله لم يشأ لرجال قريش أن يروه {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)}(يس)! فكل علوم الفيزياء و الاحياء و الكيمياء لا قيمة لها هنا، فلو كانت العين موجبة البصر من نفسها لما أخفقت قط في رؤية كل ما يقع عليه حسها، و لأبصرت قريش رسول الله، لكن أمر البصر، كما هو شأن كل شيئ، موكل أمره لله وحده، فلذلك جاء أمر الله ألا ترى قريش محمدا و هو يتمشى بين ايديهم، فكان أمر الله مفعولا!
و كذلك شأن خاصيات كل المخلوقات، فظاهرها هو ما تفسره علوم الفيزياء و الطب و الاحياء و الكيمياء الخ، لكن حقيقة كونها كما هي ليس واجب الوجود و الحدوث، بل ترجع كينونة و خاصيات كل شيئ إلى إرادة الله و قدرته {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}(القمر)، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)}(الفرقان)، ...
فخذ مثلا النار، فظاهرها أنها تحرق، و من ثم لو كان الحريق واجب الحدوث لخاصية النار نفسها لوجب دائماً، دون اي استثناء، إصابة كل من لمسته نارٌ بحريق! لكن سيدنا ابراهيم عليه الصلاة و السلام رماه قومه في نار قوية شديدة لو وُضِعَ فيها معدن لذاب، إلا أنه صلى الله عليه و سلم لم يُصب بأي أذى، إذ لم يأذن الله للنار أن تحرق إبراهيم، فخاصية الحرق فيها ليست ذاتية و إنما بأمر من الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)}(الانبياء)!
و خذ مثلا الماء الذي ينزل من السماء فالظاهر، حسب ما توصلنا اليه من تجارب فيزيائية و كيميائية، أن السحاب لا يحمل إلا ماءً عذباً حلواً صالحا للشرب و السقي، فالسحاب غالبه ينتج عن طريق تبخر ماء البحار و صعوده الى السماء ليتجمع و يُكَوِّن سحابا، و ماء البحار -الذي يغطي غالب مساحة الكرة الأرضية- مالح كما هو معلوم، إلا أن خاصية الماء تختلف عن خاصية الملح الذائب فيه، فالماء يتبخر و ينفصل عن الملح ليصعد الى السماء عذبا صافيا، أما الملح فمع تبخر الماء ينتقل من السيولة الى الجمود فيزداد وزنه و ينزل الى الارض! لكن هذه الظاهرة ليست واجبة الوجود و الحدوث من خاصيات الماء و الملح و السحاب أنفسهم، و لكن لأن الله أراد ذلك رحمة بنا، ألم يقل سبحانه و تعالى ذكره: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)}(الواقعة)، فالماء عذب ليس لقوانين الفيزياء و الكيمياء و لكن لأن الله شاء ذلك رحمة بنا، فلو شاء سبحانه لجعل الماء الذي ينزل من المُزْنِ (السحاب) أُجاجاً، أي شديد الملوحة! فالحمد لله الذي جعل الماء عذبا نروي به عطشنا و نسقي به زرعنا، و لولا فضله و منته علينا بذلك، رغم ذنوبنا، لَهَلَكْنا!
و خذ مثلا ما نحرث في الارض، فالظاهر أن الانسان إذا وضع بذرة في ارض خصبة و سقا الارض بالماء لتحصل البذرة على كل ما تحتاج اليه من مواد للنمو، فإننا يجب أن نحصل على زرع و فواكه و خضر مما حرثنا في الارض، لتوفر كل خاصيات الحياة و النمو الضرورية باجتماع البذرة و الارض و الماء! لكن الزرع ليس واجب الوجود و الحدوث من خاصيات البذرة و الماء و الارض أنفسهم، و لكن لأن الله أراد ذلك رحمة بنا و مِنَّةً علينا، ألم يقل سبحانه و تعالى ذكره: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)}(الواقعة).
و خذ مثلا الطيور التي تطير في السماء فالظاهر أن الأجنحة و نوعية تركيبتها و قدرتها على ضرب الهواء بقوة يُنتج قوة دفع تتغلب على الجاذبية فتجعل الطير يسبح في السماء و لا يسقط على الارض، لكن القدرة على الطير ليست واجبة الوجود و الحدوث من خاصيات الأجنحة أنفسها، و لكن لأن الله هو الذي يمسك الطير عن السقوط، ألم يقل سبحانه و تعالى ذكره
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}(الملك)، {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 79 )}(النحل).
و كذلك عدم سقوط السماء علينا ليس واجب الوجود لخاصيات السماء نفسها و لكن لإرادة الله سبحانه، و لو شاء الله لجعل -ضد كل قوانين الفيزياء- السماء تقع علينا و تهلكنا، ألم يقل سبحانه: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (65)}(الحج)، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)}(فاطر).
و الجبال حسب قوانين الجيوفيزياء مستقرها في الارض، و بها ترسى الارض و تثبت، و الجبال نفسها لها وزن كبير يجعل قوة الجاذبية عليها جد قوية، لكن هذه الظاهرة ليست واجبة الوجود و الحدوث من خاصيات الجبال و الجاذبية أنفسهما، و لكن لأن الله شاء ذلك، فلو شاء الله لجعل الجبال ترتفع فوقنا، ألم يفْصِل الله بأمره جبل الطور عن الارض و رفعه في السماء فوق رؤوس بني اسرائيل، يهددهم سبحانه بإسقاطه عليهم و إهلاكهم إذا لم يؤمنوا و يخضعوا لأمره: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ (154)}(النساء)، {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}(الاعراف).
فالله رحمة منه بنا و مِنَّةً و تفضلا منه علينا، و ابتلاءً و اختبارًا لنا، جعل لنا حيزا للتأثير و التحكم نسبيا في المادة -في الحياة-، فنضع البذور في الارض و نسقيها بالماء لنفرح بنتاج جهدنا و عملنا و ننعم بأكلها، .... و نبحث في خاصية العين لنفرح بقدرتنا على معرفة كيفية عملها و نستطيع علاج بعض أمراضها و تحسين قدرة البصر، ..... و نبحث في شتى المواد لندرك خاصيات كلٍّ منها و نوع الطاقات التي تحويها فنستخرج منها الإنارة لبيوتنا و شوارعنا، و السيارات و القطارات و الطائرات لحركتنا و تنقلنا، و الاسلحة للدفاع عن انفسنا، و الدواء لعلاج أمراضنا، .... نفعل كل هذا ظنا مِنَّا أن كل أفعالنا و إنتاجاتنا تلك من محض قدراتنا و إرادتنا الخالصة، و أن "تطويعنا" للمادة نابع من وجوب قانون "الفعل و ردة الفعل" المستند على خاصيات ذاتية للمادة و على قدرات الإنسان على إدراك تلك الخاصيات، أي ظَنًّا مِنَّا أن المادة و الانسان و خاصياتهما واجبة الوجود بنفسها! ... و هذا الظن يدل على الضعف الشديد لفهنا للحقيقة و على سطحيتنا و تفاهتنا {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (7)}(الروم)!
فالحقيقة لا تكمن إلا فيمن يستمد حقيقته من ذاته، فخاصيات و قدرات كل المخلوقات ليست خاصيات و قدرات ذاتية، اي لا تستند على إرادة ذاتية. فوجود تلك المخلوقات ابتداءً ليس نابع من إرادة ذاتية، فهي كلها ليست واجبة الوجود من نفسها، و خاصياتها و قدراتها كذلك ليست واجبة الوجود بنفسها! ...
و لذلك فحياتنا عبارة عن وَهْم، فالحقيقة لا تكمن في وجودنا و أفعالنا و ابتكاراتنا و قوتنا و تَمَلُّكنا الخ في حد ذاتها، إذ كل هذا فَانٍ متأثر متغير، غير واجب الوجود، مستند في وجوده و خاصياته و أشكاله لما هو خارج عنه و هو الله سبحانه، .... و بذلك فالحقيقة في حياتنا تكمن فقط في ربط اللحظة و الفعل و الحركة في حياتنا بالحق و الحقيقة، بالله سبحانه و تعالى ذكره، لأنه لا حقيقة إلا الله سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(سورة الحج)! .... فمتى ربط الانسان كلَّ نبضةٍ و حركةٍ و سعيٍ في حياته بالله، خرج من وَهْم الحياة الفانية ليرتفع الى الحقيقة، ليسمو رُوحِيًّا الى الخالق الذي لا يموت! فالحقيقة تكمن فقط في العلاقة الروحية -أي الإيمانية- بالله، و استحضاره سبحانه في كل حركة في الحياة، و جعل الحركة حسب ما يرضيه سبحانه {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}(الأنعام)، .... و متى أنكر الانسان وجود الله أو أنكر وجوب ربطه سبحانه بكل حركة في حياته مهما صَغُرَت أو كَبرَتْ - أي جعل كل حركته حسب شريعة الله- غرق في حياة الوهم، غرق في الأوهام، خيمت على حياته الظلمات {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ (39)}(الأنعام). .... فهؤلاء الذين فصلوا حياتهم عن الله يعيشون "حقيقة" اللحظة فقط، يعيشون ضيق اللحظة و سخافتها، اللحظة التي يمكن تقديرها زمنيا بالثانية أو أقل أو أكثر قليلا، إذ تذهب تلك اللحظة بلا رجعة، تنقضي لتحل محلها لحظة جديدة، سيناريو جديد، وهم جديد، أمل جديد {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}(الحجر)! ... فلا يفيقون من وَهْمِ حياتهم إلا عندما يأتيهم الموت {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)}(ق)! ... فمن يعيش حياة الأوهام، حياةً بعيدة عن الله، تبدأ عنده الحقيقة فقط بخروج الروح من جسد الأوهام و حياة الأوهام {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)}(ق)!
أما المؤمنون الذين يوقنون بالله و بوجوب طاعته و بلقائه سبحانه، فيخرجون من ضيق اللحظة و وَهْمِ الحياة الى سعة الحقيقة، إذ أحلامهم و أمانيهم و تطلعاتهم لا تنحصر على هذه الحياة الدنيا الفانية الواهية الضيقة، و لكن تمتد الى ما هو لانهائي، تمتد للآخرة، للقاء الله الواسع الأزلي و لقاء النبيين و المرسلين و المؤمنين الصالحين من عباده، فلذلك لا ينفكون عن ذكر الله، بكل ما تحمل كلمة الذكر من معنى: صلاة، تسبيح، استغفار، حمد، طاعته، تحكيم شريعته، دعوة الناس لدينه و إخراجهم من الظلمات الى النور من الوهم الى الحقيقة، ... {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}(آل عمران).
http://afkar-araa.blogspot.com.eg/2016/03/blog-post_27.html