حصل العلماء على الكثير من الاهتمام عندما أعلنوا عن دليل جديد لتوجه ثقبين أسودين نحو بعضهما البعض باتجاه الاندماج الكارثي في مجرة بعيدة، وذلك في سبتمبر/أيلول 2015. قام أكثر من صديق لي بإخباري ذلك بحماس، وهم ليسوا بعلماء ولا صحفيين. (واحد من هؤلاء على الأقل قد نسي أنّ الثقوب السوداء بعيدة عنا حوالي 3.5 مليار سنة ضوئيّة، خلافًا للفناء الخلفي لنا).
لقد كان اكتشافاً مذهلاً بحيث يتماشى بالصدفة مع مطالعاتي عن التاريخ البحثي الخاص بالمجرات الراديويّة، والنجوم الفلكيّة البعيدة الكوازارات (quasars)، والثقوب السوداء. ما يشير إلى أن الأفكار في بعض الأحيان تبقى حبيسة الكتب لسنوات، وربما عقود، قبل أن تعاود الظهور في أشكال جديدة.
في دراسة جديدة من جامعة كولومبيا Columbia University، قام العلماء بتحليل بيانات من التلسكوبات الفضائية –بما فيها تلسكوب هابل- حيث خلصوا إلى أنه في قلب الكوازار PG 1302-102، سيندمج ثقبان أسودان هائلان خلال مائة ألف سنة من الآن. (أول من اكتشف هذا الزوج من الثقوب السوداء فريق من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا كالتيك Caltech، وقد نشر نتائجه أواخر هذا العام).
الكوازارات، التي تعد من ألمع وأبعد الأشياء المنظورة على الإطلاق، هي نوع من النوى المجرية النشطة (active galactic nuclei) او اختصاراً AGN. في خمسينيات القرن الماضي، عندما اكتشف الفلكيون أول مجرة نشطة النواة -مجرات راديوية تعد أقرب إلينا بشكل عام وأخف حدةً من الكوازارات – اعتقدوا حينها أن ما يشاهدونه هو اندماج مجرتين، لقد كان اعتقاداً جيداً.
عند مشاهدة أول مجرة راديويّة معروفة (Cygnus A) عبر التلسكوبات البصريّة، بدت كأنها اندماج مجرتين. ولكن سرعان ما أصبحت الصورة أكثر تعقيداً. ففي عام 1953، أظهر الفلكيّون أن مصدر الانبعاثات الراديويّة لـ Cygnus A هو فصّان متماثلان مشابهان لشكل الدمبل dumbbell، ويعتقد الكثير من الباحثين بوجود شيء صغير في وسط هذا الدمبل، يقوم بتزويد الفصّين بالطاقة.
محاكاة رقمية لدوران ثقبين أسودين هائلين محاطين بقرص من الغاز حقوق: Adapted from Farris et al. 2014
في أواخر خمسينيّات القرن الماضي، وضع معظم العلماء نظرية التصادم المجري جانباً، حيث كانت مهمتهم الجديدة كشف خفايا المنطقة الوسطى لتلك الأجسام الغريبة. وتتضمن التفسيرات المرشحة؛ النجوم الفائقة "superstars" التي تبلغ كتلتها ملايين أو مليارات من الشموس، والثقوب البيضاء التي تطلق الطاقة إلى الكون من أبعاد أخرى، ومجموعات من النجوم النيوترونية، والمادة المضادة –التي تُفني المادة.
في نهاية المطاف، استقر العلماء على تفسير مقبول على نطاق واسع اليوم: الكوازارات، والمجرات الراديوية، وغيرها من النوى المجريّة النّشطة كلها تستمد طاقتها من الثقوب السوداء المُستعرة.
في حال كان علماء جامعة كولومبيا ومعهد كالتيك على حق، فإن ذلك يعني بالطبع أن PG 1302-102 تحتوي على ثُقبين أسودين مركزيين هائلين. ومن هنا يعود الاعتقاد القديم مجدّداً: وهو أن السبب المحتمل وراء ذلك أن تكون PG 1302-102ناتجة عن اندماج مجرتين.
أعاد الباحثون إحياء فرضية التصادم المجري في الثمانينات، لشرح الفروقات بين الكوازارات والمجرات الأخرى. بحيث أنه من المرجح احتواء غالبية المجرات على ثقوب سوداء هائلة في قلوبها. لكن 1% فقط من المجرات تحتوي على النواة النشطة، إذاً ما الذي يخلق فيها هذا الاختلاف؟ وما الذي يجعلها تضيء؟ بالطبع، إنه التصادم المجري.
لم تكن الفكرة أن النجوم تصطدم ببعضها وتنفجر، إن النجوم بعيدة جداً عن بعضها، بحيث تكون فرصة الاصطدام المباشر، أو حتى الاندماج المجري ضئيلة جداً. بدلاً من ذلك، ذهبت الفرضية إلى أنه أثناء الاندماج المجري تحدث عمليات سحب وفتل وتعطّل مداري عام يقذِف بالنجوم والسُّحب خارج مساراتها المعتادة، ويرسلها في بعض الحالات إلى الأسفل حيث الثقب الأسود المتمركز في قلب الكوازار. يتبع ذلك هيجان في الثقب الأسود، الذي يولّد تدفقات من الطاقة الإشعاعيّة، التي نسميها على الأرض الكوازارات.
قال زولتان هايمان Zoltan Haiman، أحد باحثي جامعة كولومبيا: "لقد دُعم نموذج الكوازارات للاصطدام المجري بشكل مقبول منذ الثمانينات، لقد كان هناك الكثير من العمل النظري منذ ذلك الوقت، وبالأخص المحاكاة المتطورة، التي توضح الكمية الكبيرة من الغاز المدفوع نحو النواة أثناء الاندماج المجري، الذي يؤدي إلى إضاءة الكوازار"، كما أرسل لي عبر البريد الإلكتروني: "إضافة إلى ذلك، ثمة الكثير من العمل الرصدي، الذي أظهر ارتباط الكوازارات باندفاعات النجوم المتشكلة -التي تعتبر علامةً أُخرى على اندماج حديث، وأيضاً المجرات المُضيفة للعديد من الكوزارات. يصعب رؤية المجرات المُضيفة بشكل عام، فهي تبدو كأنها مجرات في طور الاندماج، أو كمجرة منفردة ذات شكل مضطرب، وهي تدل أيضاً على اندماج حديث".
وأضاف قائلاً: " الصورة التي نملكها اليوم أكثر دقة، فعندما تكون الكوازارات أكبر وأكثر لمعاناً، فإنّ ذلك ناجمٌ على الأرجح عن تصادم مجري، لكن كلما كانت المجرات أصغر والكوازارات أَعتم، تكون الصورة أقل وضوحاً".
هذا هو الحال مع الظواهر الحاصلة على حافة الكون المرئي حيث تبقى التساؤلات مطروحة. كم عدد الكوازارات التي تحتوي على العديد من الثقوب السوداء الهائلة؟ وهل تندمج في نهاية المطاف؟ أم أنها تبقى تدور حول بعضها إلى اللانهاية؟
تقترح PG 1302-102 الإجابات. قال لي هايمان عبر الهاتف: "نحن على يقين 100% أن معظم المجرات تحتوي على زوج مماثل من الثقوب السوداء في نقطةٍ ما، هذه نتيجة حتمية للحقيقة التي نعرفها، وهي أن كل مجرة تحتوي على ثقب أسود في مركزها –اكتشاف عمره 20 سنة.
إذاً فالحقيقة الأولى: إن كل المجرات تحتوي على ثقب أسود مركزي. والحقيقة الثانية: في كل وقت يحدث اندماج مجري في الكون. انطلاقاً من هاتين الحقيقتين، يكون من الواضح تماماً أن هناك عمليات اندماج للثقوب السوداء. انظر إلى أية مجرة في الكون، من الأرجح أنها تعرضت للاندماج مع مجرة أُخرى خلال المليار سنة الماضية. السؤال القوي المطروح هنا؛ هل اندمج الثقبان الأسودان؟ أم أنهما ما زالا هناك؟"
يعود السبب وراء الاعتقاد بأن زوجاً من الثقوب السوداء قد لا يندمج مطلقاً إلى ما يسمى "مشكلة الفرسخ النجمي[1] (بارسيك) النهائية". والفكرة هي أنه إذا كان لديك زوج من الثقوب السوداء التي تدور على مسافة بعيدة عن بعضها، ليس هناك سبب للاندماج ما لم يتم خَرق مداراتها، ما يجعلها تقترب من بعضها تدريجيّاً. إننا بحاجةٍ إلى الاحتكاك لتحقيق ذلك.
لكن ماذا إذا لم يكن هناك شيء يخلق الاحتكاك؟ كيف يمكن لهذه الثقوب السوداء أن تقترب من بعضها للاندماج؟ إنها معضلة شائكة. (الأمر أشبه بالسؤال المحير دائماً: كيف للمادة التي تدور حول الثقب الأسود أن تنزل إلى أفق الحدث؟ هذا عنوان لموضوع آخر.)
يقول هايمان: "يعتقد البعض أن مشكلة الفرسخ النجمي النهائية غير قابلة للحل –الثقوب السوداء تبقى في مداراتها ولا يمكن أن تندمج، هذه نقطة هامة أيضاً حول ورقتنا البحثية. يفصل بين الثقوب السوداء ما يعادل 1% من الفرسخ النجمي، ونتيجة لذلك فقد تمكنوا بوضوح من حل مسألة الفرسخ النجمي".
ملاحظات
[1] الفرسخ النجمي parsec: وُحدة قياس الطول النجمي وتساوي 3.258 سنة ضوئية
https://nasainarabic.net/education/articles/view/why-colliding-galaxies-never-go-out-of-style