أسطورة النقود ولغز التمويل..!!
محمد يوسف عدس
قد تسوق الصدفة للإنسان أحياناً – ومن حيث لا يحتسب – فرصة تيسّر عليه بعض الصعوبات المعرفية، وهذه القصة واحدة من هذه الصدف السعيدة التي أفادتني في فهم حقائق اقتصادية كانت مستغلقة علىّ ، ومكنتني من الربط بين نثارها فانتظمت في عقد واحد واكتسبت إضاءة جديدة ...
مؤلف هذه القصة رجل اقتصاد كندي اسمه "لويس إيفين" أراد أن يبسّط الأمور لغير المختصّين حتى يتسنى لهم استيعاب القضية دون أن يصطدموا بالمصطلحات المعجمية أو الخلافات النظرية .. ولا تكتسب هذه القصة المثيرة قيمتها الحقيقة من شهرة مؤلفها بقدر ما تكتسبها من المضمون الذي تنطوي عليه والمغزى الإنساني الذي تلمح إليه.
أما بالنسبة لي فقد كانت باباً جديداً إلى عالم من المعارف والأفكار والأشخاص تبينت فيه أن عدداً لا بأس به من المفكرين الغربيين يبشرون بنظام اقتصادي جديد متحرر من الفائدة، لأنهم يعتقدون أن النظام الاقتصادي التقليدي السائد قد تسبب في خراب المجتمعات على مرّ العصور .. [ وأنه كان دائماً وراء الكوارث الاقتصادية والجشع الرأسمالي والحروب المدمرة ونهب ثروات الشعوب، وأحد أسباب الفقر والجوع التي تعصف بشعوب العالم الثالث ..].
والقصة بعد هذا حكاية بسيطة صاغها خيال المؤلف على غرار قصة "حي بن يقظان" العربية وقصة "روبنسون كروزو" الإنجليزية، ولها مذاق جذاب من مغامرات السندباد البحري الذي ألقت به المقادير على شواطئ جزر عجيبة خلال رحلاته المثيرة.
جزيرة الخلاص :
سفينة تحطمت في المحيط الهائج فغرق ركابها فيما عدا خمسة منهم تعلقوا ببعض حطام عائم ألقى بهم على شاطئ جزيرة مهجورة ... حيث ظلت عيونهم لساعات طويلة معلقة بالأفق البعيد عسى أن تقترب منهم سفينة إنقاذ تعود بهم إلى حياة الحضارة والأهل بعد أن تقطعت بهم الأسباب، ولكن ما زال الأمل يتسرب من نفوسهم حتى تبين لهم أنهم ماكثون في هذه الجزيرة إلى ما شاء الله ... فشرعوا يتجولون في الجزيرة يستكشفون أرضها ويتعرفون على ما فيها ... فقد أصبحت وطنهم الجديد.
كانوا خمسة رجال كنديين: فرانك وهو نجار ضخم البدن مفعم بالحيوية، وبول فلاح اعتاد على الصبر والحياة الشاقة، وجيم مربى ناجح للحيوان، وهارى متخصص في الزراعة، وتوم خبير في المناجم والتعدين.
الاستطلاعات الأولية رفعت روحهم المعنوية فلم تكن الجزيرة صخرة جرداء ولكن بها حيوانات قابلة للاستئناس والاستخدام، قال جيم أنا كفيل بذلك، ووجد بول مساحات كبيرة من الأرض صالحة للزراعة، واكتشف هارى في الغابة أشجار فاكهة مختلفة تحتاج إلى شيء من العناية، أما فرانك فقد وجد أن أكثر أشجار الغابة مصدر لأخشاب جيدة تصلح لبناء المنازل، ثم جاء توم بخبر سعيد فقد تبين له أن التركيبة الصخرية للجزيرة تدل على وجود معادن كثيرة فيها.
مضت الأيام سراعاً وبدأت الجزيرة تزدهر بفضل العمل الدؤوب للرجال الخمسة .. لم تكن ثروة الجزيرة من الذهب أو أوراق البنكنوت ولكن من أشياء ذات قيمة حقيقة، ثروة من الطعام والملابس والمساكن وغير ذلك من أشياء يحتاجها الإنسان لمواصلة حياته.
كل واحد منهم اشتغل في صنعته فأنتج فيها إنتاجاً وفيراً، وما زاد عن حاجته كان يتبادل به على أشياء فائضة من إنتاج الآخرين.
لم تكن الحياة كاملة كما ينبغي أو كما اعتادوا عليها في الماضي .. ولكنهم كانوا يعللون أنفسهم بأنها فترة ستنقضي ثم يعودون إلى وطنهم وأسرهم، وحمدوا الله أنهم لم يعانوا ذلك الكساد الاقتصادي الذي خبروه بعض الوقت في كندا، فهم يتذكرون الأمعاء الفارغة جنباً إلى جنب بجوار المحلات الحافلة بالطعام والبضائع .. على الأقل .. في هذه الجزيرة – لا يرون الأشياء التي حرموا منها تتعفن أمام أعينهم، ولا يقلقون من الضرائب ولا يعيشون في خوف من حملات الشرطة على بيوتهم قبل الفجر.
اعتاد الرجال أن يجلسوا معاً كل يوم للحديث في شؤونهم ومشكلاتهم، ومن هذه المشكلات أن نظام المقايضة بالسلع له عيوب فالسلع لم تكن كلها حاضرة طوال الوقت .. فالخشب الذي استخدمه الفلاح خلال الشتاء ليطهي طعامه ويستدفئ به لم يكن يستطيع مقايضته بالبطاطس إلا بعد ستة أشهر .. وقد تتوفر لأحدهم كمية كبيرة من إنتاجه ويريد أن يستبدلها بسلع أخرى من إنتاج عدة أشخاص وفي أوقات مختلفة .. كل هذا عقّد نظام المقايضة وألقى بعبء ثقيل على الذاكرة .. وانتهوا إلى أنه لو كان هناك نظام للنقود لاستطاع الواحد أن يبيع ويشتري بها الأشياء التي يريدها في الوقت الذي يحتاجها فيه .. ولكن للأسف ولا واحد منهم كان خبيراً بإنشاء مثل هذا النظام .. إنهم يعرفون كيف ينتجون ثروة حقيقية من السلع والخدمات، ولكن كيف تنتج النقود التي هي رموز لهذه الثروة فشيء خارج عن نطاق خبراتهم.
في مساء يوم من الأيام وكان الرجال يجلسون على شاطئ البحر يتحدثون عن نفس المشكلة .. ربما للمرة المائة رأوا قارباً صغيراً يقترب من الشاطئ وبه رجل واحد .. علموا فيما بعد أنه الوحيد الذي نجا حياً من ركاب سفينة محطمة واسمه أوليفر. كانوا مبتهجين أن يجدوا رفيقاً جديداً فأتحفوه بأفضل ما عندهم .. ثم أخذوه في جولة حول الجزيرة وقالوا له: رغم أننا انقطعنا عن العالم ولكننا لا نشكو كثيراً فالأرض والغابة بهما خير كثير والحمد لله ولكننا نفتقد شيئاً واحداً هو النقود .. فقال أوليفر: حسناً .. يمكنكم أن تشكروا العناية الإلهية فأنا من رجال البنوك وفي أقصر وقت أنشيء لكم نظاماً نقدياً يحل مشكلاتكم، وبذلك يتوفر لكم كل شيء مما يتوفر للناس في الحياة الحضارية هتفوا مسرورين! رجل بنكي .. رجل بنكي ..! كأن ملاكاً قد نزل إلينا من السماء ..!
إلــه الحضارة:
يا سيد أوليفر : باعتبارك رجل البنك عندنا فسيكون عملك الوحيد هو العناية بنقودنا فقط .. لا حاجة بك للعمل اليدوي هنا.
قال: سوف أعمل على رفاهية هذه الجزيرة بكل طاقتي.
فقالوا: سنبني لك بيتاً يليق بمقامك المحترم .. وحتى يتم هذا نرحب بك ضيفاً في بيوتنا.
قال: شكراً لكرمكم .. ولكن قبل كل شيء علينا أن نفرغ حمولة القارب فهناك مطبعة وورق وأحبار وحروف، ويوجد برميل صغير أرجو أن تتناولوه بأكبر قدر من العناية. أفرغ الرجال القارب.. إلا أن البرميل الصغير أثار كثيراً من فضولهم .. فقال أوليفر: "إن هذا البرميل به كنز يفوق الأحلام .. إنه مملوء بالذهب" ..!.
شهق الرجال الخمسة في نفس واحد وهتفوا: إله الحضارة قد نزل عندنا في جزيرة الخلاص! الإله الأصفر .. الذي يختفي دائماً فلا تدركه الأبصار ولكن لديه قوة رهيبة .. بوجوده وغيابه وتقلّب أسعاره تتقرر مصائر البلاد المتحضرة ...!
- "ذهب" يا سيد أوليفر .. لابد أنك رجل بنكيّ عظيم..!!
يا لمهابتك يا صاحب العظمة – أيها المبجل أوليفر .. يا أعظم كهنة الإله الذهبي ! تقبل ثناءنا وتقديرنا وقسمنا لك بالولاء والإخلاص ..!
- نعم أيها الرفاق إنه ذهب يكفي لقارة كبيرة لا لجزيرة فحسب .. ولكن الذهب يا رفاق ليس للتداول .. فالذهب لابد من إخفائه .. إنه روح النقود الجيدة .. والروح دائماً غير مرئية .. وسوف أشرح لكم الأمر عندما تتسلمون أول دفعة من النقود.
وقبل أن ينصرفوا إلى حال سبيلهم سألهم أوليفر: "كم من النقود تحتاجون لتصريف تجارتكم"؟ .. نظر بعضهم إلى بعض وتشاوروا فيما بينهم حتى استقر الرأي على مائتي دولار لكل واحد منهم .. ذهبوا إلى فرشهم ولكن عز النوم عليهم فقد امتلأ خيالهم بصورة الذهب فظلوا مستيقظين حتى مطلع النهار.
أما أوليفر فلم يضيّع لحظة من وقته رغم ما أصابه من إجهاد .. ذاب في تيار حماسه لمستقبل هبط عليه كمدير للبنك ووزير لاقتصاد الجزيرة .. ومع تنفس الصبح كان قد انتهى من إعداد حفرة دفن فيها البرميل وأهال عليه التراب وغرس فوقه شجيرة صغيرة فأصبح مكانه غير معروف من أحد سواه. ثم بدأ يشغّل أدواته في طباعة أوراق نقدية مجمل قيمتها ألف دولار .. وقال لنفسه : "لقد أصبح الشريد مدير بنك!" كم هي مسألة سهلة أن تصنع النقود .. إن زبائني السذج يظنون أن هذه النقود تستمد قيمتها من الذهب .. ويجهلون هذه الحقيقة: وهي أن قيمة النقود تكمن في المنتجات التي ستشتريها .. يعنى في قوتها الشرائية .. فبدون المنتجات تصبح هذه الأوراق عديمة القيمة .. ولجهلهم جعلوني سيدهم!..
من يملك النقود..؟
فلما حل مساء اليوم التالي هرول الخمسة إلى أوليفر .. وكان على المنضدة خمسة أكياس من النقود عندما بادرهم أوليفر قائلاً: قبل توزيع النقود أود أن ألفت أنظاركم إلى أمر مهم.. أنتم تعلمون أن أساس النقود هو الذهب .. والذهب عندي محفوظ في خزينة البنك فهو ذهب أملكه .. وترتيباً على ذلك تكون النقود نقودي .. ولكن لا ينبغي أن تشعروا بحرج من ذلك. فسوف تتصرفون بالنقود كيف تشاءون .. وسيكلفكم هذا أن تدفعوا لي فائدة مقدارها 8% وهي فائدة معقولة في بلد تشح فيها النقود.
أجابوا جميعاً بنفس واحد: لك ما تريد يا سيد أوليفر .. هذا شيء معقول، فقال: نقطة أخيرة أيها الأصدقاء: "البيزنيس بيزنس "الشغل شغل" حتى بين الأصدقاء .. قبل أن تأخذوا النقود على كل واحد منكم أن يوقع على ورقة تلتزمون فيها أن تدفعوا الفائدة ورأس المال .. وفي حالة الامتناع عن الدفع يحق لي مصادرة ممتلكاتكم .. إنها مجرد شكليات كما ترون فممتلكاتكم لا تهمنى في شيء .. فأنا مكتف بالنقود وأثق أنني سوف أحصل عليها في موعد استحقاقها وتحتفظون أنتم بممتلكاتكم".
قالوا: إنه أمر معقول يا سيد أوليفر .. ولسوف نجتهد في أعمالنا ونسدد ديوننا إليك في حينها.
قال: هذه روح طيبة .. وأنا في خدمتكم دائماً – إذا اعترضتكم مشكلة فتعالوا إلىّ أحلها لكم فمدير بنككم هو أفضل صديق لكم .. وها هي النقود .. لكل واحد منكم مائتا دولار.
وهكذا انصرف الرفاق الخمسة وأيديهم ممتلئة بالدولارات الورقية وعقولهم تسبح في بهجة الحصول على المال.
الحل هو المعضلة :
أصبحت نقود السيد أوليفر متداولة في الجزيرة وأصبحت التجارة سهلة بل تضاعفت .. وأضحى كل إنسان سعيداً بمجريات الأمور .. وكان مدير البنك دائماً في موضع التقدير والاحترام والاعتراف بالجميل .. فيما عدا شخص واحد وهو "توم" المنقّب عن المعادن .. لماذا يبدو مهموماً وقد جلس وحيداً منهمكاً في حسابات ومعه القلم والورقة..؟ فتعالى ننظر في أمر توم:
لقد وقع توم مع زملائه على عقود تقتضى أن يعيدوا إلى البنك نقوده في نهاية العام، يعنى مائتا دولار + 16 دولاراً أخرى [هى فوائد القرض] .. ولكن توم لا يجد في جيبه سوى حفنة قليلة من الدولارات ويوم تسديد الدين يقترب حثيثاً .. كان الرجل يفكر في هذه المعضلة مليّاً منذ وقت طويل .. ولم يجد لها حلاً .. والآن أخذ ينظر إلى المشكلة من وجهة نظر الجماعة ككل .. قال في نفسه: هل يستطيع مجموع من في الجزيرة أن يدفعوا لأُوليفر 1080 دولاراً بينما كل نقود الجزيرة مجتمعة لا تزيد عن ألف دولار .. فإذا دفعناها كلها إليه سنبقى جميعاً مدينين له بثمانين دولاراً غير موجودة أصلا فى التداول .. وبسبب هذا الدين يستطيع أوليفر أن يستولى على ممتلكاتنا ومنتجاتنا .. يعنى يستولى على الجزيرة كلها ويخرجنا منها مفلسين .. وحتى لو استطاعت قلّة منا (لديها النقود) أن تسدّد ديونها هذا العام فسوف يأتى الدور على الجميع فى الأعوام التالية .. ويستولى البنك فى النهاية على كل شيء .. لا بد أن نعقد على الفور اجتماعاً لنرى معاً ماذا يمكن عمله فى هذه المعضلة ..؟!
استطاع توم بواسطة الأرقام أن يبرهن للجميع على صحة رأيه .. ومن ثم اتفقوا على أن صديقهم البنكى قد خدعهم .. فقرّروا التوجّه إليه لعقد اجتماع معه على الفور ..
البنكيّ الخيّر :
تولّى فرانك شرح وجهة نظر الجماعة واستمع أوليفر بصدر رحب والابتسامة لا تفارق شفتيه .. قال: هذه هي الفائدة يا أصدقائي، ألم يرتفع معدل إنتاجكم ..؟. أجاب فرانك : زاد الإنتاج حقّا ولكن النقود بقيت كما هى لم تزد .. فكيف نستطيع أن ندفع لك 1080 دولاراً وكل ما في الجزيرة من نقود لا يزيد عن ألف دولار فقط ..؟! .. أنت الوحيد الذي تصنع النقود، وقد صنعت لنا ألف دولار فقط وتريد الآن أن تسترد 1080 دولار .. هذه استحالة!..
قال البنكي أوليفر: "الآن استمعوا إلىّ يا أصدقاء .. من أجل خير أكبر للجماعة عليها أن تكيّف أوضاعها لظروف الزمن .. إنني سوف أطالبكم فقط بتسديد الفائدة وسوف تبقى معكم رءوس أموالكم المقترضة .. مائتا دولار لكل واحد منكم .. فأجابوا جميعاً: "بارك الله فيك يا سيد أوليفر.. هل ستلغى المائتى دولار التي يدين بها كل واحد منا لك ..؟"..
رد أوليفر مبتسماً: لا .. لا .. آسف .. ليس الأمر هكذا .. إن البنك لا يلغى الديون أبداً .. فستظلون مدينين لي بالنقود التي اقترضتموها .. ولكنكم ستدفعون لي سنوياً الفوائد فقط .. فإذا دفعتم الفوائد كل عام بأمانة فلن أطالبكم بتسديد رأس المال.. ربما لا يستطيع البعض تسديد قيمة الفوائد كل عام نظراً لتداول النقود.. حسناً نظموا أنفسكم في شكل دولة وأنشئوا نظاماً للضرائب بموجبه يدفع الأغنياء ضرائب أكثر ويدفع الفقراء أقل .. اجمعوا قيمة الفوائد كلها في مبلغ وسوف أكون راضياً بذلك .. وتأكدوا أن دولتكم ستزدهر"..
انصرفت الجماعة وقد اطمأنوا بعض الشيء ولكن لا تزال الشكوك تساور عقولهم ...
أحلام البنكيّ تتضخم :
جلس أوليفر بمفرده يتأمل فيما آلت إليه حياته .. وجرت أفكاره على هذا النحو: "البيزنيس يسير على ما يرام .. وهؤلاء الأولاد عمّال مجتهدون وإن كانوا أغبياء.. فإن غباءهم وجهلهم هما مصدر قوتي وازدهاري .. إنهم يطلبون النقود وأنا أعطيهم سلسلة من القيود والشروط .. يمنحونني من إنتاجهم ما أريد وأنا أحصد ما في جيوبهم من نقود .. حقاً إنهم قد يتمردون علىّ ويلقون بى في البحر، ولكن حتى لو تمردوا فإن معي توقيعاتهم .. إنهم أناس أمناء كادحين وُضعوا في هذه البقعة من العالم ليقوموا على خدمة رجل المال" الذكيّ ... !
ثم توجّه بحديثه إلى أستاذه فقال: "أيها الشيطان الأعظم إنني أشعر أن عبقريتك البنكية تسري في عروقي .. يا سيد الوهم والإبداع لكم كنت صادقاً عندما قلت: "أعطني السيطرة على نقود الأمة ولا يهمنى بعد ذلك من يصنع قوانينها" .. وأنا سيد جزيرة الخلاص لأنني أسيطر على أموالها .. إن روحي ثملة بالحماس والطموح .. وأشعر أنني أستطيع حكم العالم كله .. فالذي صنعته أنا أوليفر هنا أستطيع أن أصنعه في بقية العالم .. فقط إذا استطعت أن أخرج من هذه الجزيرة .. إنني أعرف كيف أحكم العالم بأسره دون أن أضع تاجاً على رأسي .. وسوف تتعاظم بهجتي وسعادتي عندما أنفث فلسفتي في عقول قادة المجتمعات من البنكيين والصناعيين والسياسيين والإصلاحيين والمعلمين والصحفيين .. كل هؤلاء سيصبحون بعض خُدامي وأدواتي .. وسوف تعيش الجماهير في العبودية سعداء عندما تكون النخبة فيهم مقتنعة بفلسفتي وعبقريّتى ...
تكاليف المعيشة أصبحت لا تطاق :
أخذت الأمور تزداد سوءاً في جزيرة الخلاص .. ارتفع الإنتاج ولكن انخفض بيع السلع إلى الحد الأدنى وأوليفر يحصد فوائده البنكية بانتظام، فقد كانت الجماعة تضع مستحقاته جانباً وبذلك تجمدت النقود بدلاً من سيولتها وانسيابها بحرية .. الذين يدفعون ضرائب أكثر يشتكون من الذين يدفعون أقل، ولكي يعوضوا ذلك رفعوا أسعار سلعهم .. وعانى الفقراء الذين ليس لديهم ما يدفعونه للضرائب من وطأة الغلاء فأخذوا يقللون من مشترياتهم حتى كسدت التجارة ...
تدهورت الروح المعنوية وتسربت البهجة خارج حياة الجماعة، فلم يعد أحد يهتم بعمله كما تعوّد من قبل .. ولم يهتم والإنتاج يُباع بصعوبة؟ .. وعندما يبيعون فإن جامع الضرائب يلاحقهم ليوفر لأوليفر قيمة الفوائد المستحقة على الديون، ويخرجهم من أموالهم التي حصّلوها بجهدهم وعرقهم .. إنها كارثة حقيقية أخذت تلقى بظلالها الكئيبة على علاقاتهم الاجتماعية، فأصبح كل واحد منهم يلقى باللوم على الآخرين ويتهمهم بأنهم السبب في ارتفاع تكاليف المعيشة وسبب ما حل بمجتمعهم من تعاسة ...
كان هارى يجلس وحيداً في حديقته – ذات يوم – يفكر في الموقف الذي صارت إليه الأمور، فوصل إلى خلاصة: أن النظام النقدي الذي جاء به هذا البنكيّ والذي وصفه بأنه نظام تقدّمي – هو الذي أفسد كل شيء طيب في هذه الجزيرة .. لا شك أن كل واحد من الجماعة كانت له أخطاء ولكن النظام المالي الذي وضعه أوليفر من شأنه وطبيعة تصميمه أن يستثير في الطبائع البشرية أسوأ ما فيها من خصال .. لذلك اعتزم هارى أن يعرض أفكاره هذه على زملائه في محاولة لإقناعهم وتوحيد جهودهم لعمل مشترك ، ثم بدأ بجيم الذي لم يكن من الصعب إقناعه .. قال: أنا لست عبقرياً ولكني منذ وقت طويل أشم رائحة سيئة في نظام هذا البنكيّ الذي حط علينا من حيث لا نعلم" .. استطاع هارى أن يقنع زملاءه واحداً بعد الآخر .. وقرر الجميع في النهاية أن يجتمعوا مع أوليفر مرة ثانية ويواجهوه بمشكلاتهم ...
انتفاضة الجزيرة :
تفجرت عاصفة من الاستياء والغضب في مجلس أوليفر .. قالوا له: النقود أصبحت نادرة في الجزيرة يا رفيق لأنك تأخذها منا أولاً بأول ..! إن لدينا أفضل تربة وأطيب المصادر الطبيعية ولكن منذ وصلت إلينا وأحوالنا تتدهور من سيئ إلى أسوأ .. ديوننا تتراكم علينا حتى أغرقتنا إلى الأعناق ...
رفع أوليفر يديه يطلب منهم الهدوء والاستماع إليه ثم قال: الآن يا أولاد كونوا عقلاء.. فأحوالكم تزدهر وذلك بفضلي .. إن النظام البنكي الصالح هو أفضل ما تملكه الدولة .. ولكن لكي يعمل هذا النظام بكفاءة لابد أن تضعوا فيه ثقتكم .. لابد أن تثقوا في نصائح خبيركم البنكيّ، ولا تترددوا في المجيء إلىّ كلما حلت بكم شدة أو ضائقة كما يأتي الأولاد إلى أبيهم يلتمسون عونه وحمايته في الشدائد .. هل تريدون مزيداً من النقود؟ .. حسناً .. إن برميل الذهب يصلح لإصدار آلاف من الدولارات.. وسوف أقرضكم ألف دولار أخرى على الفور لمعالجة أزمتكم المالية .. قالوا : معنى هذا أن ترتفع ديوننا إلى ألفي دولار بدلاً من ألف واحدة .. وسنضطر لدفع فوائد الديون حتى آخر أعمارنا" ... ؟؟
قال البنكيّ: هذا صحيح .. ولكنني سوف أقرضكم المزيد من النقود كلما احتجتم إليها .. ولن تدفعوا لي أبداً إلا الفوائد المستحقة .. اجمعوا ديونكم في دين واحد وهو ما نسميه اصطلاحاً "الدين الموحد" وتستطيعون أن تضيفوا إلى هذا الدين سنة بعد سنة وتصبح الفوائد مُركبة ...
قالوا: ونرفع نحن الضرائب سنة بعد سنة لتسديد فوائدك ..؟!
قال: طبعاً .. هذا واضح .. ولكن عوائدكم من العمل ستزيد عاماً بعد عام أيضاً.
قالوا: ومعنى هذا أنه كلما نمت الجزيرة بسبب عملنا وجهدنا كلما زادت ديوننا!!!.
قال البنكيّ: أتعرفون لماذا؟ .. لأن هذا بالضبط ما يحدث في كندا أو في أي مكان آخر من العالم المتحضر .. ذلك لأن درجة حضارة الدولة تُقاس بحجم ديونها للبنوك ... [ أليس هذا ما يروج له البنك الدولى استغفالاً للمدينين.. !!]
قالوا متعجبين: وهذا هو النظام المالي السليم يا مستر أوليفر..؟!.
فأجاب : نعم .. نعم .. يأيها الرجال المحترمون الطيبون اعلموا أن كل النقود السليمة مؤسسة على الغطاء الذهبي .. والذهب في البنوك يخرج إليكم على شكل ديون .. والدين الوطني شيء حسن لا غبار عليه .. إنه يمنح الناس فيضاً من الشعور بالرضى ويُخضع الحكومات لصوت الحكمة العالية المطلقة التي تجسدت في رجال البنوك .. إنني كبنكيّ أحمل شعلة الحضارة هنا في هذه الجزيرة الصغيرة .. وسوف أملى عليكم السياسة الحكيمة وسوف أنظم لكم مستوى معيشتكم وأوضاعكم المالية ..!!.
انزعج الحاضرون من هذه النغمة الجديدة ومن الصلاحيات والسلطات التي فرضها هذا البنكيّ الدخيل عليهم، والتي تطلق يده حرّة تتصرف بشؤونهم حسب مشيئته وهواه دون مراعاة لحريتهم هم وحقوقهم الأصيلة فقالوا له : "يا سيد أوليفر .. إننا أناس بسطاء .. لم نتعلم كثيراً ولكننا لا نريد هذا النوع من الحضارة عندنا في الجزيرة .. ولذلك لن نقترض منك بعد اليوم سنتاً واحداً .. قل ما شئت: مال حسن أو غير حسن .. نحن لن نتعامل معك بشيء ابتداء من هذه اللحظة ...
صاح فيهم البنكيّ مستنكراً: أيها الرجال المحترمون إنني أشعر بعميق الأسف لهذا القرار الذي توّرطتم فيه بسبب نصيحة تعيسة جاهلة .. ولكن إذا قررتم الاستغناء عن خدماتي فتذكروا أن معي توقيعاتكم .. ادفعوا لي كل شيء مرة واحدة .. رأس المال والفوائد جميعاً ...
قالوا: ولكنك تعلم أن هذا مستحيل يا سيد أوليفر فليس في الجزيرة كلها ما يكفى من نقود لتسديد ديونك.. فحتى لو دفعنا كل ما لدينا من نقود فسوف نبقى بعد ذلك مدينين لك دائماً وأبداً ...
قال غاضباً: وماذا أفعل لكم ..؟ .. ألم توقعوا باختياركم وبإرادتكم الحرة ..؟! .. إنه بحكم قداسة العقود التي وقعتموها من حقي الاستيلاء على ممتلكاتكم المرهونة قيد الديون، وهذا ما اتفقنا عليه عندما كنتم سعداء بتقديم مساعداتي لكم .. فإذا لم تخضعوا لسلطان المال الأعظم فسوف تطيعونني بالقوة .. سوف أسمح لكم باستغلال الجزيرة ولكن لصالحي وتحت إمرتي وشروطي .. اخرجوا من هنا ..!! .. وسوف أصدر إليكم أوامري غداً ..!!
الذئب يسيطر على الصحافة :
كان أوليفر يعلم أن من يسيطر على مال الأمة يسيطر على الأمة بأسرها .. ولكنه كان يعلم أيضاً أنه لكي يحافظ على هذه السيطرة عليه أن يُبقى على حالهم من الجهل، ويعمل على تشويش أفكارهم بكل الوسائل‘ خاصة وأنهم بدأوا يشعرون أنهم سقطوا في شرك العبودية ..
لاحظ أوليفر خلال مناقشاته مع الرجال الخمسة أمس أن بينهم اثنان محافظان وثلاثة ليبراليون .. كما لاحظ وجود خلافات في الرأي بين كل من الفريقين .. كذلك فإن انطباعه السابق عن هارى أنه أكثر الخمسة حكمة وبُعد نظر، فهو يرى أن الجميع لديهم نفس المشكلات والاحتياجات ونفس التطلعات وأن مصيرهم مشترك ، وأن اتحادهم من شأنه أن يحدث ضغوطاً على السلطة ويمنعها من ممارسة الاستبداد عليهم ... !!
ومن ناحية أخرى يرى أوليفر أن هذا الاتحاد الذي يدعو إليه هارى لا يمكن احتماله فهو يعنى – بكل بساطة – نهاية سلطانه على الجزيرة فلا يستطيع ديكتاتور ماليّ أو غير ماليّ أن يقف أمام شعب متحد متعلم واعٍ ... ومن ثم صمم أوليفر على افتعال فتنة سياسية بين سكان الجزيرة تمزق وحدتهم وتضعف قوتهم ...
وهكذا قام بتحويل مطبعة النقود إلى طباعة الصحف .. فأصدر صحيفتين أسبوعيتين: واحدة سماها "الشمس" وخصصها لليبراليين والأخرى سماها "النجم" وجعلها للمحافظين، وحدد الاتجاه الفكري لصحيفة الشمس في هذا الإطار: إذا كنا قد فقدنا السيطرة على مصائرنا فإن ذلك راجع إلى وجود خونة بيننا باعونا لرجال الأعمال، وجعل الخطاب السياسي لصحيفة النجم: "إن حالة الدمار الذي لحق بنا وباقتصادنا وهذا الدين العام المتفاقم ترجع المسئولية فيه إلى سياسة هؤلاء الليبراليين الذين لا يعبأون بالمصلحة الوطنية" .. ونجحت الفكرة الجهنمية فاستغرق الفريقان في صراع صحفي عنيف، ونسى الجميع القيود التي كبّلهم بها أوليفر الخبيث ...
لحظة تنوير واكتشاف الأسرار:
حدث في أحد الأيام أن ذهب "توم" في تجواله على الشاطئ إلى بقعة نائية في الطرف الآخر من الجزيرة حيث رأى جسماً على شكل قارب نجاة تخفيه عن الأنظار بعض الأعشاب لطويلة .. فاقترب منه وتحقق أنه قارب مهجور وفارغ .. فيما عدا صندوق خشبي يرقد في قاع القارب وهو بحالة جيدة ...
فتح "توم" الصندوق فوقع بصره على بعض أدوات عديمة القيمة ووجد تحتها شيئاً يشبه "ألبوم" الصور فتناوله بيده فإذا به كتاب مبسط في "الاقتصاد بدون فوائد" من مطبوعات هيئة مالية أو جمعية ادخار شعبية تسمى نفسها "Social Credit".
دفع "توم" حب استطلاع شديد فجلس وبدأ يتصفح الكتاب ويقرأ بشغف .. وكلما قرأ زاد اهتمامه والتمع وجهه بضوء المعرفة التي ساقها الله إليه .. يالله هذا شيء كان يجب أن نعرفه منذ وقت طويل:
[ النقود لا تكتسب قيمتها من الذهب الذي في البنك .. ولكن من السلع التي تشتريها .. من القوة الشرائية للنقود ] ... وهذا الكتاب يعلمنا كيف نصنع النقود ببساطة .. ويتلخص السر كله في نوع من المحاسبة (مسك دفاتر) .. أرقام تُسمى أرصدة تُنقل من حساب شخص إلى شخص آخر تبعاً لحركة البيع والشراء، والمحصلة النهائية هي مجموع الإنتاج لا مجموع الديون .. فكلما زاد الإنتاج تزيد كمية النقود .. ولن يكون هناك في أي لحظة فوائد تدفع على إصدار النقود الجديدة .. ولا يُقاس التقدم – كما يدّعى ذلك البنكيّ الأفّاق – بحجم الدين العام، وإنما بإصدار أسهم متساوية لكل فرد .. وتنضبط الأسعار وفقاً للقوة الشرائية العامة بواسطة ما يُسمى بمعامل السعر Coefficient.
لم يستطع "توم" أن يكبح جماح نفسه فهب قائماً وعاد مهرولاً ليشارك زملاءه هذه الاكتشافات الباهرة .. وتحول "توم" بين يوم وليلة إلى معلم ناجح ، علّم إخوانه ما أفاء الله عليه به من فهم للاقتصاد الصحي المبرأ من الفوائد والربا ... !
قال لزملائه: استمعوا إليّ جيداً .. هذا ما ينبغي أن نفعله دون انتظار للبنكيّ أو برميل ذهبه وبدون التوقيع على ديون جديدة : سوف أفتح حساباً باسم كل واحد منكم على ورقة مقسمة إلى عدة أنهر أو أعمدة .. في العمود الأيمن سأضع قيمة الأرصدة المضافة التي تُجمع إلى حساب كل عميل ، وفي العمود الأيسر سأضع حساب المبالغ التي تُخصم من حسابه .. كل واحد يريد مائتي دولار .. حسناً سوف نكتب 200 دولار [ رصيد دائن ] في العمود الأيمن لكل واحد منكم .. فإذا اشترى "فرانك" سلعاً من "بول" بمبلغ عشرة دولارات فسوف نخصم عشرة دولارات من حساب "فرانك" وبذلك ينخفض رصيده إلى 190 دولاراً بينما يرتفع الرصيد الدائن لبول ليصبح 110 دولاراً، فإذا اشترى "جيم" من "بول" شيئاً بثمانية دولارات فسوف نخصم 8 دولارات من حساب "جيم" ليصبح 192 دولاراً فقط .. بينما يرتفع رصيد "بول" إلى 208 دولاراً.. وهكذا نستمر في نقل الأرقام من حساب شخص إلى شخص آخر بنفس الطريقة التي تنتقل فيه النقود من جيب شخص إلى جيب شخص آخر .. فإذا احتاج شخص ما إلى نقود ليتوسع في مشروعاته الإنتاجية نصدر له المبلغ المطلوب لأرصدة جديدة حتى إذا تمكنّ من بيع منتجاته نضيف المبالغ التي حصلها إلى رصيده الدائن .. وبنفس الأسلوب نعامل الأشغال العامة التي يقوم بها المجتمع ، تُدفع من أرصدة دائنة جديدة.. وبهذه الطريقة تزداد أرصدة العملاء شيئاً فشيئاً دون الافتئات على أرصدة الآخرين .. ومن ثم يستفيد كل واحد من التقدم الذي يحققه المجتمع ككل ، وهذا ما يُسمى بالأسهم الوطنية .. وبهذا الأسلوب تصبح النقود وسيلة للخدمة وليست ديوناً تقيّد الأعناق ...
استطاع كل واحد أن يفهم النظام المالي الجديد .. وفي اليوم التالي تسلم البنكيّ أوليفر رسالة وقعها الخمسة تقول : "سيدي الفاضل إنك بدون ضرورة ما قد أوقعتنا جميعاً في الديون والفوائد وقمت باستغلالنا أسوأ استغلال .. ولذلك لم نعد في حاجة إليك بعد اليوم في إدارة نظامنا المالي .. من الآن فصاعداً سوف نحصل على كل ما نريد من نقود بدون ذهبك المخفيّ عن الأنظار وبدون ديون وبدون لصوصية .. إننا سننشئ على الفور نظاماً مالياً جديداً في هذه الجزيرة، وسوف تحل الأسهم الوطنية محل الدين الوطني العام .. فإذا أصررت على أن تحصل على نقودك فسوف نعيدها إليك كاملة ولكن بلا سنت واحد زيادة .. لا فوائد [ ولا يحزنون ! ] ...
وقع أوليفر في حيرة شديدة ، وحل عليه يأس مُقنط ، وهو يرى إمبراطوريته تنهار على رأسه .. تحطمت أحلامه كلها وضاع مستقبله .. فماذا يصنع ..؟ .. لم يعد الجدل مع هؤلاء الناس يُجدي .. لقد فهم الجميع اللعبة البنكية، فلم تعد للنقود والأرصدة الدائنة سراً بالنسبة لهم .. لقد استهوت عقولهم فكرة الاقتصاد المتحرّر من الفوائد والربا وسوف تنتشر عقيدتهم بسرعة كبيرة على حساب فلسفتي الربوية .. فهل أطلب منهم الصفح والمغفرة .. ؟ هل أصبح واحداً منهم؟ .. أنا الممول البنكي المبجل ؟!! .. لا .. لا يمكن أن أقبل بهذا ما حييت .. الأفضل لي أن أعتزلهم وأضع بيني وبينهم الحواجز قدر ما أستطيع ...
سقوط القناع الزائف :
لكي تحصّن الجماعة نفسها ضد أي مطالبات يقوم بها أوليفر في المستقبل قررت أن تحمله على أن يوقع على وثيقة يعترف فيها أنه قد استعاد كل ما كان يملك عندما وصل أول مرة إلى الجزيرة .. حصروا ممتلكاته وأثبتوها في الوثيقة: القارب والمجاديف، والمطبعة الصغيرة وبرميل الذهب ...
كان على أوليفر أن يدلّهم على المكان السري الذي أخفى فيه الذهب فاتجهوا إليه وأخرجوه من الحفرة التي دلهم عليها ، ولكن بدون ذلك الإجلال الذي أحاطوه به في المرة الأولى عندما نقلوه من القارب ، فقد علمهم كتاب "الاقتصاد بدون فوائد" احتقار الذهب ...
لعب الفأر في صدر خبير المعادن الذي كان يساعد في استخراج البرميل من الحفرة .. فقد شعر أنه أخف من أن تكون حمولته ذهباً خالصاً ، وتشكك أن يكون الذهب مختلطاً بشيء آخر، ذلك إذا كان البرميل ممتلئاً .. فلما أفضى الرجل بشكوكه إلى أصحابه لم يفكر "فرانك" طويلاً وإنما هوى بفأسه على البرميل بضربة واحدة أطاحت بالغطاء وانكشف ما في البرميل .. وصاح الجميع : يا إلهى .. أي ذهب هذا !؟ .. ولا ذرة من الذهب .. كل ما في البرميل صخور .. مجرد صخور لا قيمة لها ..!
لم يستطع الرجال أن يتغلبوا على الصدمة المروعة : "لا تقل لنا أن هذا الأفّاق قد استطاع أن يخدعنا إلى هذا الحد .. هل كنا نحمل على أكتافنا رءوس خراف عندما طرنا فرحاً وابتهاجاً لمجرد أن نطق باسم الذهب على مسامعنا .. هل رهنّا كل ممتلكاتنا في مقابل بعض أوراق تستند فقط على كمية من الصخور عديمة القيمة!؟ .. يا لها من سرقة مغلّفة بأكاذيب ..! .. عندما نفكر أن بعضنا قد عبس في وجه بعضنا الآخر، وأصبح كل واحد منا يكره أخاه ويرى فيه مصدر البلية التي ابتلينا بها ، ندرك فداحة ما أوقعنا فيه هذا الرجل الشرير المزيف .. يا له من شيطان رجيم ..! ".
استشاط "فرانك" غضباً ورفع فأسه مرة أخرى .. ولكن قبل أن يهوى بها على رأس البنكيّ أوليفر كان قد أطلق ساقيه للريح واختفى في الغابة ...