كشف الغطاء عن عيني من جعل بينه وبين الله واسطة في الدعاء
(بيان لبطلان اتخاذ العبد واسطة بينه وبين الله تعالى من عشرين وجها)
ماجد بن سليمان الرسي
القسم الرابع
الوجه الثالث عشر :
أن قياس الله على ملوك الدنيا باطل من جهة الرحمة ، وبيان ذلك أن الملوك بحاجة إلى من يلينهم ويعطفهم على رعاياهم عن طريق الوسطاء والمقربـين ، فلهذا اتخذوهم وسائط ، أما الله تعالى فليس بحاجة إلى ذلك ، فهو الرحمن الرحيم ، أرحم من الوالدة بولدها ، وهو الذي خلق الرحمة وجعلها في قلوب عباده ، فصار هذا يحسن إلى هذا ، وهذا يحسن إلى هذا ، فعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله مائة رحمة ، فمنها رحمة بها يتراحم الخلق بينهم ، وتسعة وتسعون ليوم القيامة .[ رواه مسلم (2753) واللفظ له ، وأحمد (5/439) ].
قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله مناصحا أحد من قرروا دعاء غير الله [ في « السيف المسلول على عابد الرسول » ، ص 31 – 32 ، بتصرف يسير جدا] :
إذا دعوت نبياً أو غيره ، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك ، أو يقدِر على سؤالك ، وأرحم بك من ربك ؛ فهذا جهل وكفر وضلال ، ولا حُجة لك على ذلك لا نقلاً ولا عقلاً ، ولا يحتج أحد بما هو بعينه حجةٌ عليه ، اللهم إلا من ابتُلي بسوء الفهم وفساد التصور . وإن كنت تعلم أن اللهَ أعلم وأقدر وأرحم ، فلِماذا عدَلت عن سؤاله إلى سؤال غيره ، وهو سبحانه القائل:
{ أدعوني أستجب لكم } [ غافر ـ 60 ] ، والقائل :
{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } [ البقرة ـ 186 ] ؟؟ .
فالحاصل أن قياس الله على ملوك الدنيا باطل ، بل هو كفر بالله العظيم ، لأن تشبـيه الله تعالى بخلقه يلزم منه رد خبر القرآن ، قال تعالى:
{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [ الشورى ـ 11 ]
، قال نُعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمـهما الله : من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها .[ أخرجه الذهبي في « العلو » ، برقم (464) ، ص 172 ، ط مكتبة أضواء السلف ].
وأخرج اللالكائي في « شرح أصول اعتقاد أهل السنة » عن إسحاق بن راهويه قال : من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم ، لأن وصف صفاته[في المطبوع : لأنه وصف لصفاته ، ولعله تصحيف .] إنما هو استسلام لأمر الله ولما سن الرسول صلى الله عليه وسلم .[ رقم (937) ، ط دار طيبة ] .
وبناء على ما تقدم فإن دعاء غير الله يستلزم سوء الظن بالله ، وتنقص الداعي به في صفة العلم والرحمة والتدبير والغنى والملك ، وسوء الظن بالله من كبائر الذنوب ، ومما توعد الله عليه بالعقاب الشديد ، قال تعالى:
{ الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } [ الفتح ـ 6 ].
قال ابن القيم رحمه الله : أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به ، فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كمالِه المقدس ، وظن به ما يناقض أسمائه وصفاته ، ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم ، كما قال تعالى:
{عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } [ الفتح ـ 6 ]، وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته :
{ وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } [ فصلت ـ 23] .
وقال تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه { ماذا تعبدون * ءإفكا آلهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين } [ الصافات 85 ـ 87] ، أي فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره ، وماذا ظننتم به حتى عبدتم معه غيره ؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك لعبودية غيره ، فلو ظننتم به ما هو أهلُـه من أنه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه غني عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه ، وأنه قائم بالقسط على خلقه ، وأنه المنفرد بتدبير خلقه ، لا يَشرََكُـه فيه غيره ، والعالِـم بتفاصيل الأمور ، فلا يخفى عليه خافية من خلقه ، والكافي لهم وحده فلا يحتاج إلى معين ، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه ، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم ، وإلى من يعينهم على قضاء حوائجهم ، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة ، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورةً ، لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علمهم .
فأما القادر على كل شيء ، الغني بذاته عن كل شيء ، العالم بكل شيء ، الرحمن الرحيم ، الذي وسعت رحمته كل شيء ؛ فإدخال وسائط بينه وبين خلقه نقص بحق ربوبيته وإلاهيته وتوحيده ، وظنٌّ به ظن السوء ، وهذا يستحيل أن يشرَعُـه لعباده ، ويمتنع في العقول والفِطر جوازه ، وقُـبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح .
يوضح هذا أن العابد مُعظِّم لمعبوده ، متأله خاضع ذليل له ، والرب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال والتأله ، والخضوع والذل ، وهذا خالص حقه .
فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره ممن لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره ، وإن سلبه الذباب شيئا مما عليه لم يقدر على استنقاذه منه ، قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } ( سورة الزمر) ، فما قدَرَ من هذا شأنه وعظمته حق قدرِه من أشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة ، بل هو أعجز شيء وأضعفه ، فما قدَرَ القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل .[ « الداء والدواء » ، ص 211 – 217 ، باختصار ].
وبناء على ما تقدم ؛ فإن دعاء غير الله يدل على قصور عند الداعي في فهم ما دلت عليه أسماء الله تعالى الحسنى : العليم ، الرحيم ، الرحمـٰن ، الغني ، الملك ، الغفور ، وغيرها من الأسماء والصفات .
الوجه الرابع عشر :
يقال لمن قال إن عنده معاصي تحول بينه وبين إجابة دعاءه : إن الله سبحانه وتعالى الله أخبر بأنه يستجيب للعبد ولو كان عنده معاصي ، بل حتى لو كان كافرا ، لأن هذا من مقتضيات رحمته ، ورحمته تشمل المطيع والعاصي ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا ، فإنه ليس دونها حجاب .[ رواه أحمد (3/153) ، وحسنة الألباني في « صحيح الجامع » (119) ، و « الصحيحة » (767) ].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوة المظلوم مستجابة ، وإن كان فاجرا فجوره على نفسه .[ رواه أحمد (2/367) ، وحسنه الألباني في « الصحيحة » (767) ].
فإجابة الدعاء ليست محصورة بدعاء الرجل الصالح ، فإنه وإن كان دعاؤه أقرب للإستجابة من دعاء العاصي ، ولكن لا ينحصر فيه ، وإلا لما استجاب الله لدعاء أحد ، لأن كل ابن آدم خطاء كما أخبر بذلك النبـي صلى الله عليه وسلم بقوله : كل بني آدم خطاءون ، وخير الخطائين التوابون .[ رواه ابن ماجه (4251) ، والترمذي (2499) ، وغيرهم ، وحسنه الألباني ].
الوجه الخامس عشر :
ومن وجوه بطلان اتخاذ العبد واسطة بينه وبين ربه في الدعاء أن اتخاذ الواسطة يلغي العلاقة المباشرة بـين العبد وربه ، ويقطع الصلة بـينهما ، لكون فاعل ذلك قد وكَّّّل غيره ليقوم عنه بعبادة الدعاء ، فجعل بـينه وبـين الله حاجزا ، وهذا خلاف ما قصدته الشريعة الإسلامية من تقوية العلاقة بـين العبد وربه .
الوجه السادس عشر :
ومن وجوه بطلان اتخاذ الواسطة أن فاعل ذلك قد حرم نفسه من خير كثير ، ألا وهو فرح الله بإقباله إليه ، وانطراحه بـين يديه ، واستعاض عن هذا بالانطراح بين يدي ميت ، ليس له من الأمر شيء ، ولا يقربه من ربه بشيء ، ومن المعلوم أن الله أشد فرحا من عبده بإقباله إليه ولو بلغت ذنوب عبده عنان السماء ، قال الله عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبـي صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بـي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة .[ رواه البخاري (7405) ، ومسلم (2675) ].
الوجه السابع عشر:
وفضلا عن كون دعاء غير الله شرك في العبادة ؛ فإن أولئك الوسائط لا تقوم بدعاء الله كما يظنه من يدعوهم ، لأنهم إما جمادات وإما موتى ، وكلاهما لا يعلم شيئا عن الحي ، ولا يستجيب له ، ولا يخدمه بشيء ، لا دعاء ولا غيره ، قال تعالى :
{ وما أنت بمسمع من في القبور } [ فاطر ـ 22 ]، وقال تعالى :
{ إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } [ فاطر ـ 14 ] ، فسمى الله دعاءهم شركا .
بل إن الميت يعتبر مضرب مثل عند الناس في عدم الاستجابة ، فواعجبا من حي سميع بصير يسأل ميتا حاجاته!
ولهذا قيل:
لقد أسمعت لو ناديت حيا *** ولكن لا حياة لمن تنادي
يتبع
التعديل الأخير: