كيف يصلي المجاهدون في سبيل الله وهم في أرض القتال حال الأمن وحال الخوف ؟
ما حكم من فاتته الصلاة وهو في أرض المعركة ؟ فقد قرأت في بعض الإجابات أن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته أربع صلوات في غزوة الخندق. فهل بالإمكان أن تفصّلوا القول في كيف أنه صلى الله عليه وسلم فاتته تلك الصلوات ؟ ، وكيف قضاها ؟ وهل ينطبق الحال والحكم على كل مسلم يقاتل هذه الأيام في سبيل الله في أرض المعركة ؟
الجواب
الحمد لله.
أولا :
إذا كان الجنود بأرض المعركة وليس ثمة قتال ، ولا يخافون بغتة العدو فإنهم يصلون الصلاة بهيئتها المعروفة ؛ فإن كانوا مسافرين صلوا صلاة مسافر ، وإن كانوا في بلدهم صلوا صلاة مقيم ، فإن صافوا العدو أو خافوا بغتته صلوا صلاة الخوف .
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله :
هل يشرع لبعض الجنود الذين يعملون على بعض الأسلحة في الجبهة : أن يصلوا صلاة الخوف ، وكيف يكون ذلك رغم عدم قيام الحرب ؟
فأجاب : " ليس لهم صلاة الخوف إلا إذا كانوا مصافي العدو ، أو يخافون هجومه " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (30/ 227) .
وقال أيضا رحمه الله :
" صلاة الحرب مختلفة ، إن كان مسافرا ليس في بلده فإنه يصلي صلاة قصر، يصلي ثنتين ، الظهر ثنتين ، والعصر ثنتين ، والعشاء ثنتين كسائر المسافرين ، والسنة لهم أن يصلوها كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم ، يصلونها جماعة ، والواجب أن يصلوها جماعة مع القدرة بإمام ، فيصلي بهم ركعتين ، وإذا كان العدو في القبلة يصلي بهم جميعا ويركع بهم جميعا ، ثم يسجد بالصف الأول ، ويبقى الصف الثاني يراقب لئلا يهجم العدو، فإذا قام الصف الأول من السجود ، سجد الصف الثاني ، كما فعله الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد ذلك يتقدم الصف الثاني ويتأخر الصف الأول ، ويصلي بهم جميعا ويركع بهم جميعا، ثم يسجد بالصف الأول الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى، ويقف الصف الثاني الذي هو مقدم في الأولى ، يقف ينتظر وينظر ويحرس ، فإذا قام الصف الأول من سجوده سجد الصف الثاني، ثم سلم بهم جميعا. هذا نوع من صلاة الخوف ، وهناك أنواع أخرى .
فإذا لم يستطيعوا صارت الحرب شديدة ، والاختلاط بين العدو وخصمه ، فإنهم يصلون رجالا وركبانا ولو بالإيماء ، كل يصلي لنفسه مستقبل القبلة ، وغير مستقبلها عند الضرورة كما قال الله جل وعلا : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) ، وأما إن كان الحرب في الحضر في بلد الإقامة فإنه يصلي أربعا كسائر المقيمين ، ولا يصلي ثنتين، إنما هذا في السفر خاصة " .
انتهى باختصار من "فتاوى نور على الدرب" (13/ 130-132) .
ثانيا :
تقدم في جواب السؤال رقم : (36896) بيان صفة صلاة الخوف عند لقاء العدو .
فمن كان في أرض المعركة بمواجهة العدو فالمشروع في حقه صلاة الخوف على ما هو مبين في وصفها ، فإن لم يستطع ، كأن يكون في حال المسايفة صلى بحسب حاله وقدرته كما تقدم ، ولا يؤخرها إلا عند الضرورة .
وقال الحافظ العراقي رحمه الله :
" قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : ... وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ صَلَاتُهَا عَلَى سُنَّتِهَا إذَا أَمْكَنَ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَلَا يُؤَخِّرُهَا .." .
وقال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (2/ 309) :
" إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ ؛ رِجَالًا وَرُكْبَانًا ، إلَى الْقِبْلَةِ إنْ أَمْكَنَهُمْ ، وَإِلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ ، يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ ، وَيَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ ، وَيَتَقَدَّمُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ ، وَيَضْرِبُونَ وَيَطْعَنُونَ ، وَيَكُرُّونَ وَيَفِرُّونَ ، وَلَا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا.
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ " انتهى .
ثالثا :
من فاتته صلاة فأكثر بسبب انشغاله بالجهاد ، ولم يستطع أن يصليها حتى فات وقتها فإنه يصليها بعد الوقت ، عند تمكنه من ذلك .
قال البخاري رحمه الله في "صحيحه" (2/ 15) :
" قَالَ الأَوْزَاعِيُّ : " إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ : صَلَّوْا إِيمَاءً ، كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ : أَخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ القِتَالُ ، أَوْ يَأْمَنُوا ، فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا : صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا لاَ يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ، وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا " وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ ، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: " حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ القِتَالِ ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" الخوف له حالات متنوعة ، وإذا اضطر إلى أن يؤخر الصلاة عن وقتها : فالصواب أنه لا حرج في ذلك ؛ لفعله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، وقد فعله الصحابة في قتال الفرس ، كما ذكر أنس رضي الله عنه أنهم في بعض الأيام التي لاقوا فيها العدو الفرس عند فتح تستر ، فتحوها عند طلوع الفجر في وقت صلاة الفجر ، وشغل الناس عن الصلاة ؛ لأن بعضهم صار على السور ، وبعضهم على الأبواب ، وبعضهم نزلوا في البلد ، فاشتد القتال والحصار ، فلم يتمكنوا من صلاة الفجر ، فأخروها حتى صلوها ضحى ، قال أنس رضي الله عنه : فما أحب أن أعطى بها كذا وكذا ، يعني لأنا أخرناها لأمر شرعي ، وحاجة شديدة وضرورة ، فلا حرج في هذا على الصحيح " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (7/ 87-88) .
رابعا :
روى الترمذي (179) ، والنسائي (662) عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " إِنَّ المُشْرِكِينَ شَغَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الخَنْدَقِ ، حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى المَغْرِبَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العِشَاءَ" .
قال الترمذي عقبه : " وَفِي البَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَجَابِرٍ، وحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ " .
وله شاهد عند النسائي (661) من حديث أبي سعيد الخدري قال : " شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس ، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل ، فأنزل الله عز وجل ( وكفى الله المؤمنين القتال) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا : فأقام لصلاة الظهر ، فصلاها كما كان يصليها لوقتها ، ثم أقام للعصر فصلاها كما كان يصليها في وقتها ، ثم أذن للمغرب فصلاها كما كان يصليها في وقتها " وصححه الألباني في "صحيح النسائي" .
وروى البخاري (2931) ، ومسلم (627) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحْزَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا ، شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ ) .
قال النووي رحمه الله :
" وَأَمَّا تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، فَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَّرَهَا نِسْيَانًا لَا عَمْدًا ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي النِّسْيَانِ الِاشْتِغَالُ بِأَمْرِ الْعَدُوِّ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَّرَهَا عَمْدًا لِلِاشْتِغَالِ بِالْعَدُوِّ ، وَكَانَ هَذَا عُذْرًا فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا بِسَبَبِ الْعَدُوِّ وَالْقِتَالِ ؛ بَلْ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى حَسَبِ الْحَالِ ، وَلَهَا أَنْوَاعٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ الصَّلَاةَ الْفَائِتَةَ كَانَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَفُتْ غَيْرُهَا ، وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ ، وَفِي غَيْرِهِ أَنَّهُ أَخَّرَ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ حَتَّى ذَهَبَ هُوِيٌ مِنَ اللَّيْلِ ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ : أَنَّ وَقْعَةَ الْخَنْدَقِ بَقِيَتْ أَيَّامًا فَكَانَ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ، وَهَذَا فِي بَعْضِهَا " انتهى من "شرح النووي على مسلم" (5/ 130) .
والخلاصة :
أن المجاهدين إذا كانوا بمأمن من العدو ، ولم يكونوا في حال المصافة : فإنهم يصلون الصلاة بهيئتها العادية ، كأنهم ليسوا في الحرب .
أما إذا صافوا العدو ، أو خشوا فجأته : فإنهم يصلون صلاة الخوف جماعة .
فإن اشتد القتال ، وعجزوا عن الصلاة : صلى كل منهم بحسب حاله .
فإن عجزوا عن ذلك أيضا ، واضطروا إلى تأخير الصلاة عن وقتها ، فإنهم يصلون بعد الوقت عند الاستطاعة ، ولا شيء عليهم ، لكن ليس هذا من سنة صلاة الخوف الراتبة ، بل هذا لمن نسي ، أو شغل فتعذر عليه الصلاة على وقتها.
والله تعالى أعلم
أولا :
إذا كان الجنود بأرض المعركة وليس ثمة قتال ، ولا يخافون بغتة العدو فإنهم يصلون الصلاة بهيئتها المعروفة ؛ فإن كانوا مسافرين صلوا صلاة مسافر ، وإن كانوا في بلدهم صلوا صلاة مقيم ، فإن صافوا العدو أو خافوا بغتته صلوا صلاة الخوف .
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله :
هل يشرع لبعض الجنود الذين يعملون على بعض الأسلحة في الجبهة : أن يصلوا صلاة الخوف ، وكيف يكون ذلك رغم عدم قيام الحرب ؟
فأجاب : " ليس لهم صلاة الخوف إلا إذا كانوا مصافي العدو ، أو يخافون هجومه " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (30/ 227) .
وقال أيضا رحمه الله :
" صلاة الحرب مختلفة ، إن كان مسافرا ليس في بلده فإنه يصلي صلاة قصر، يصلي ثنتين ، الظهر ثنتين ، والعصر ثنتين ، والعشاء ثنتين كسائر المسافرين ، والسنة لهم أن يصلوها كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم ، يصلونها جماعة ، والواجب أن يصلوها جماعة مع القدرة بإمام ، فيصلي بهم ركعتين ، وإذا كان العدو في القبلة يصلي بهم جميعا ويركع بهم جميعا ، ثم يسجد بالصف الأول ، ويبقى الصف الثاني يراقب لئلا يهجم العدو، فإذا قام الصف الأول من السجود ، سجد الصف الثاني ، كما فعله الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد ذلك يتقدم الصف الثاني ويتأخر الصف الأول ، ويصلي بهم جميعا ويركع بهم جميعا، ثم يسجد بالصف الأول الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى، ويقف الصف الثاني الذي هو مقدم في الأولى ، يقف ينتظر وينظر ويحرس ، فإذا قام الصف الأول من سجوده سجد الصف الثاني، ثم سلم بهم جميعا. هذا نوع من صلاة الخوف ، وهناك أنواع أخرى .
فإذا لم يستطيعوا صارت الحرب شديدة ، والاختلاط بين العدو وخصمه ، فإنهم يصلون رجالا وركبانا ولو بالإيماء ، كل يصلي لنفسه مستقبل القبلة ، وغير مستقبلها عند الضرورة كما قال الله جل وعلا : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) ، وأما إن كان الحرب في الحضر في بلد الإقامة فإنه يصلي أربعا كسائر المقيمين ، ولا يصلي ثنتين، إنما هذا في السفر خاصة " .
انتهى باختصار من "فتاوى نور على الدرب" (13/ 130-132) .
ثانيا :
تقدم في جواب السؤال رقم : (36896) بيان صفة صلاة الخوف عند لقاء العدو .
فمن كان في أرض المعركة بمواجهة العدو فالمشروع في حقه صلاة الخوف على ما هو مبين في وصفها ، فإن لم يستطع ، كأن يكون في حال المسايفة صلى بحسب حاله وقدرته كما تقدم ، ولا يؤخرها إلا عند الضرورة .
وقال الحافظ العراقي رحمه الله :
" قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : ... وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ صَلَاتُهَا عَلَى سُنَّتِهَا إذَا أَمْكَنَ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَلَا يُؤَخِّرُهَا .." .
وقال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (2/ 309) :
" إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ ؛ رِجَالًا وَرُكْبَانًا ، إلَى الْقِبْلَةِ إنْ أَمْكَنَهُمْ ، وَإِلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ ، يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ ، وَيَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ ، وَيَتَقَدَّمُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ ، وَيَضْرِبُونَ وَيَطْعَنُونَ ، وَيَكُرُّونَ وَيَفِرُّونَ ، وَلَا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا.
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ " انتهى .
ثالثا :
من فاتته صلاة فأكثر بسبب انشغاله بالجهاد ، ولم يستطع أن يصليها حتى فات وقتها فإنه يصليها بعد الوقت ، عند تمكنه من ذلك .
قال البخاري رحمه الله في "صحيحه" (2/ 15) :
" قَالَ الأَوْزَاعِيُّ : " إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ : صَلَّوْا إِيمَاءً ، كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ : أَخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ القِتَالُ ، أَوْ يَأْمَنُوا ، فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا : صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا لاَ يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ، وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا " وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ ، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: " حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ القِتَالِ ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" الخوف له حالات متنوعة ، وإذا اضطر إلى أن يؤخر الصلاة عن وقتها : فالصواب أنه لا حرج في ذلك ؛ لفعله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، وقد فعله الصحابة في قتال الفرس ، كما ذكر أنس رضي الله عنه أنهم في بعض الأيام التي لاقوا فيها العدو الفرس عند فتح تستر ، فتحوها عند طلوع الفجر في وقت صلاة الفجر ، وشغل الناس عن الصلاة ؛ لأن بعضهم صار على السور ، وبعضهم على الأبواب ، وبعضهم نزلوا في البلد ، فاشتد القتال والحصار ، فلم يتمكنوا من صلاة الفجر ، فأخروها حتى صلوها ضحى ، قال أنس رضي الله عنه : فما أحب أن أعطى بها كذا وكذا ، يعني لأنا أخرناها لأمر شرعي ، وحاجة شديدة وضرورة ، فلا حرج في هذا على الصحيح " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (7/ 87-88) .
رابعا :
روى الترمذي (179) ، والنسائي (662) عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " إِنَّ المُشْرِكِينَ شَغَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الخَنْدَقِ ، حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى المَغْرِبَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العِشَاءَ" .
قال الترمذي عقبه : " وَفِي البَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَجَابِرٍ، وحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ " .
وله شاهد عند النسائي (661) من حديث أبي سعيد الخدري قال : " شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس ، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل ، فأنزل الله عز وجل ( وكفى الله المؤمنين القتال) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا : فأقام لصلاة الظهر ، فصلاها كما كان يصليها لوقتها ، ثم أقام للعصر فصلاها كما كان يصليها في وقتها ، ثم أذن للمغرب فصلاها كما كان يصليها في وقتها " وصححه الألباني في "صحيح النسائي" .
وروى البخاري (2931) ، ومسلم (627) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحْزَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا ، شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ ) .
قال النووي رحمه الله :
" وَأَمَّا تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، فَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَّرَهَا نِسْيَانًا لَا عَمْدًا ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي النِّسْيَانِ الِاشْتِغَالُ بِأَمْرِ الْعَدُوِّ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَّرَهَا عَمْدًا لِلِاشْتِغَالِ بِالْعَدُوِّ ، وَكَانَ هَذَا عُذْرًا فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا بِسَبَبِ الْعَدُوِّ وَالْقِتَالِ ؛ بَلْ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى حَسَبِ الْحَالِ ، وَلَهَا أَنْوَاعٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ الصَّلَاةَ الْفَائِتَةَ كَانَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَفُتْ غَيْرُهَا ، وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ ، وَفِي غَيْرِهِ أَنَّهُ أَخَّرَ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ حَتَّى ذَهَبَ هُوِيٌ مِنَ اللَّيْلِ ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ : أَنَّ وَقْعَةَ الْخَنْدَقِ بَقِيَتْ أَيَّامًا فَكَانَ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ، وَهَذَا فِي بَعْضِهَا " انتهى من "شرح النووي على مسلم" (5/ 130) .
والخلاصة :
أن المجاهدين إذا كانوا بمأمن من العدو ، ولم يكونوا في حال المصافة : فإنهم يصلون الصلاة بهيئتها العادية ، كأنهم ليسوا في الحرب .
أما إذا صافوا العدو ، أو خشوا فجأته : فإنهم يصلون صلاة الخوف جماعة .
فإن اشتد القتال ، وعجزوا عن الصلاة : صلى كل منهم بحسب حاله .
فإن عجزوا عن ذلك أيضا ، واضطروا إلى تأخير الصلاة عن وقتها ، فإنهم يصلون بعد الوقت عند الاستطاعة ، ولا شيء عليهم ، لكن ليس هذا من سنة صلاة الخوف الراتبة ، بل هذا لمن نسي ، أو شغل فتعذر عليه الصلاة على وقتها.
والله تعالى أعلم