خالد بن سليمان العضاض ♦
لطالما استشهد رموز الإخوان وقياداتهم على مدى العقود الماضية، بمقولة مشتهرة لحسن البنا: (كم منا، وليس معنا)، كناية عن شعبية التنظيم الإرهابي المحظور، وتعاطف كثير من الناس معهم، غير أن الانشقاقات التنظيمية والتي بدأت في وقت مبكر من تاريخ الجماعة، تثبت أن المقولة الصحيحة هي: (كم معنا، وليس منا)؛ بسبب ثقل الشخصيات التي تترجل عن مسيرة الإخوان المسلمين.
والانشقاقات التنظيمية التي طالت جسد الإخوان كجماعة، لم تقتصر على الأفراد فحسب، بل وصل الأمر إلى انشقاق فصائل شكَّلت جماعات وأحزابًا، رأت خللًا منهجيًّا في الجماعة أو تخاذلًا عن تحقيق الأهداف والغايات؛ مثل “حزب التحرير”[1] (1952)[2]، و”جماعة المسلمين” أو ما يطلق عليها “جماعة التكفير والهجرة” (1965)[3]، وغيرها.
مكمن هشاشة الجماعة في الانشقاقات
وتكمن كارثية الانشقاق التنظيمي للأفراد عن الجماعة، حسب أهمية المنشق داخل الجماعة، والذي غالبًا ما يُدلي بمعلومات تكشف الجوانب المظلمة والمعماة داخل دهاليز التنظيم السياسي السري الأقدم والأبرز في العالم العربي؛ سواء بتفسير أحداث تاريخية غامضة وتحديد مسؤولية الجماعة عنها وعن التدبير لها، أو كشف اللوائح الداخلية السرية التي يقوم عليها التنظيم، كما حدث في قضية التنظيم السري، وكشف علي عشماوي لكل الدهاليز الخاصة به.
وحسب الفكر العقدي السني الذي ينتمي إليه الإخوان المسلمون، فإن الأدبيات السنية تميل إلى عدم القبول المطلق بتوبة المبتدع ابتداعًا عقديًّا، مخرجًا من الملة، حسب تعبيرهم، ويمكن سحب هذه النظرة على منشقي الإخوان المسلمين، الذين عهد عنهم استسهال الكذب والخداع في سبيل تحقيق الغايات، ولكن يبقى المعيار في أهمية المراجعات، والمعلومات التي يقدمها العضو المنشق عن الجماعة، أما الخلاف الناعم، وحفظ العشرة، كما حدث مع محمد حبيب، حينما عطله صقور مكتب الإرشاد عن تولي المرشدية، فهذا يتوخى منه الحذر والحيطة في أخذ المعلومة والرأي أو التحليل، حسب وجهة نظري.
ويمكن تصنيف المنشقين كأفراد عن الجماعة إلى عدة أصناف؛ فمنهم مَن انشق بسبب عدم تمكينه من بعض المناصب أو المصالح، ومنهم مَن فصل من الجماعة، ثم أصبح منشقًّا عنها، وكاشفًا لما يعلم من ألاعيبها، ومنهم مَن انشق بسبب الخلافات والتي غالبًا ما تكون على الأمور التكتيكية والخطط قصيرة المدى، لا الاستراتيجيات، والخطوط العريضة العامة للجماعة، وهذا منسحب على المجموعات التي تخرج دفعة واحدة، أو على الأفراد.
الانشقاقات في تاريخ الجماعة
وحسب ما أشار إليه حسن البنا في مذكراته[، فإن أول انشقاق في الجماعة كان في عام 1932، وكان قبل انتقال البنا إلى القاهرة، بفترة وجيزة، وهو تطلع أحد الأشخاص إلى رئاسة الجماعة في الإسماعيلية بعد انتقال البنا إلى القاهرة، غير أن البنا اختار علي الجداوي لهذه المهمة، وفرغه للعمل على إدارة الجماعة، وصرف له مرتبًا ماليًّا من ميزانية الجماعة؛ مما أثار هذا الشخص -الذي لم يذكر اسمه البنا في مذكراته- ودعاه إلى المعارضة هو وثلة معه من أعضاء الجماعة، واستمرت هذه المجموعة في التأليب على البنا، إلى درجة رفع شكوى ضده في النيابة العامة بدعوى تبديد أموال الجماعة، وانتهى الأمر باستقالتهم من الجماعة، واستمرار التأليب على البنا، وجماعته.
ورغم ضعف هذا الانشقاق؛ فإنه لفت الانتباه إلى مسألة إدارة الجماعة كمنهجية وأسلوب أداء وعمل، حيث يطغى عليها الاستبداد وعدم فتح مجال للآراء المخالفة أو المعارضة.
أما الانشقاق الثاني، وهو أكبر، فقد كان انشقاق المجموعة التي كونت جماعة “شباب محمد” عام 1940[5].
ثم تلاه انشقاق أحمد السكري، والذي يعد المؤسس الحقيقي للإخوان قبل نشوء الإخوان بثماني سنوات على الأقل.
ربما هذه أبرز الانشقاقات في حياة البنا، أما ما جاء بعد ففي كل عام يحدث انشقاقات وانقلاب على منهج الإخوان؛ بسبب الممارسات الاستبدادية لإدارة الجماعة، أو تطلعات المنشقين والتي تصطدم بجدار المتنفذين في مكتب الإرشاد غالبًا، أو لمراجعات وتأمل في سيرة ومسيرة الجماعة.
ثم كان الانشقاق الأبرز الذي كاد يودي بالجماعة، وهو انشقاق النظام الخاص بقيادة عبد الرحمن السندي على المرشد الثاني حسن الهضيبي[6].
ثم تلى ذلك، انشقاق مجموعة بقيادة شيخ أزهري هو محمد رشدي، احتجاجًا على انحراف الجماعة[7]، وكان ذلك في عهد المرشد عمر التلمساني، في عهد السادات.
ثم أعقب ذلك الانشقاق الأشهر في منتصف التسعينيات، والذي نتج عنه تأسيس حزب الوسط، بقيادة أو العلا ماضي وعصام سلطان
اقرأ أيضًا:
جماعة “الإخوان” وبريطانيا.. علاقات ملتبسة ومصالح متبادلة
أبرز الانشقاقات على مستوى الأفراد
لعل من أبرز المنشقين من الأفراد عن الجماعة: محمد حبيب نائب أول المرشد قبل انشقاقه، وكمال الهلباوي أحد أبرز قيادات التنظيم الدولي، ويطلق عليه سفير الجماعة، ومختار نوح، وعبد المنعم أبو الفتوح، والسيد عبد الستار المليجي.. وغيرهم الكثير.
التنظيم الدولي للإخوان يتضعضع عامًا بعد عام
التنظيم الدولي للحماعة الإخوان المسلمين:
هو حركة عالمية تعطي الفرصة لأعضاء الجماعة بالتفاعل بعضهم مع بعض، عن طريق شبكة دولية غير رسمية، ذات هيكلية معقدة للتواصل على المستوى الشخصي والتمويلي والتنظيمي، وتعتبر بريطانيا مركزًا للتنظيم الدولي.
ووفقًا للباحثة البريطانية كورتني فرير، جاءت بداية التنظيم الدولي للجماعة بعد الفترة التي شهدت الصدام بين الجماعة والحكم الناصري، عقب محاولة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في المنشية بالإسكندرية عام 1954، وبدأ الميلاد الحقيقي للتنظيم العالمي، بعد أن أسس سعيد رمضان، زوج ابنة حسن البنا، “المركز الإسلامي بميونخ” بعد هجرته إلى ألمانيا، والذي بدأت فكرته عام 1960 وتم افتتاحه عام 1973. وتقول “فرير”: إن الكثير من كوادر الإخوان الذين ينتمون إلى دول عربية وإفريقية وآسيوية خرجوا من هذا المركز الضخم، ومن بينهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي انضم إلى الإخوان، وتتلمذ في المركز خلال دراسته الهندسة في ألمانيا.
ومنذ نهاية السبعينيات لعب مصطفى مشهور بشكل خاص دورًا متميزًا في تنظيم وإعادة هيكلة وتقوية التنظيم العالمي، وكان يتنقل بين لندن وعواصم أوروبية في يوليو 1982، أصدر اللائحة الداخلية الجديدة للتنظيم العالمي التي حرصت على استمرار هيمنة إخوان مصر، وفى ذات الوقت منحت بعضًا من الاستقلالية والمرونة للتنظيمات القُطرية.
وترجع بدايات التنظيم في بريطانيا إلى عام 1961، حيث تأسست “جماعة الطلبة المسلمين” للطلاب المصريين والعرب الذين انتموا إلى جماعة “الإخوان”، واستمر أعضاء الجماعة في إنشاء كيانات ومنظمات إخوانية؛ حتى تم تأسيس “الرابطة الإسلامية في بريطانيا” عام 1997، ورأسها الدكتور كمال الهلباوي، مؤسس الرابطة الذي شغل منصب المتحدث الرسمي باسم التنظيم العالمي للإخوان في الغرب، ثم تولى إدارة الرابطة بعد ذلك أنس التكريتي عام 2005، وخلفه الآن إبراهيم منير أحمد، الأمين العام للتنظيم الدولي للجماعة، والمتحدث باسم الإخوان بأوروبا، المشرف العام على موقع “رسالة الإخوان”، والمقيم في لندن، وهو أحد مؤسسي منتدى الوحدة الإسلامية بلندن.
وعودة على وضع التنظيم الدولي للجماعة الآن،
يرى الباحث سامح عيد
، أحد المنشقين عن الجماعة، أن القبض على بعض عناصر الجماعة الإرهابية الفارين إلى تركيا وماليزيا وتسليمهم إلى السلطات المصرية، دون تدخل قيادات الجماعة بالخارج، أدَّى إلى زيادة الانشقاقات داخل صفوفها. ويؤكد عيد أن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان الإرهابية سينتهي قريبًا بلا رجعة.
ويسعى النظام القطري بكل ما أوتي من قوة لمحاولة لملمة الخلافات الإخوانية، والانشقاقات التنظيمية التي باتت تضرب الجماعة من كل حدب وصوب، بسعيها إلى التطمينات والإغراءات المالية، والتسهيلات التي تقدمها إلى التنظيم الدولي للجماعة.
يقول الصحفي الفرنسي كريستيان شينو
المهتم بالشؤون العربية: “إن جماعة الإخوان المسلمين أصبحت بمثابة الحمض النووي لدولة قطر؛ حيث أسهم القرضاوي في تغييب الوعي القطري، بترسيخ أن الجماعة هي مستقبل العالم العربي، وذلك هو الدافع الذي جعل قطر تساند جماعة الإخوان في أثناء ما يُسمى بـ(ـثورات الربيع العربي)”.
وتأوي قطر العديد من قيادات جماعة الإخوان الإرهابية، وتقدم لهم التمويل والحماية، واستمرت قطر في دعمها تلك الجماعة وغيرها من التنظيمات الإرهابية الأخرى في المنطقة العربية، حتى تم عزلها عن محيطها الخليجي والعربي في يونيو 2017؛ لتبدأ الدولة القطرية والتنظيم الإخواني يتشاركان الشعور بالمظلومية المزيفة.
تركيا الملاذ الأول
باتت تركيا هي الملاذ الأول للجماعة الإرهابية
ويمكن فهم ذلك في ضوء الماضوية الشديدة التي يقوم عليها فكر أردوغان، وكذلك فكر الإخوان، فكلاهما مُغرق في تمجيد الماضي البعيد المتمثل في تمنيّات عودة دولة الخلافة المزعومة رغم تغيُّر التاريخ باختلاف السياقات الزمنية وتبدُّل الجغرافيا ببروز الدول الوطنية.
ومؤخرًا فشل الحصن الأردوغاني في حماية التنظيم الإرهابي، عندما قامت السلطات التركية في وقت سابق من هذا العام 2019، بتسليم شاب إخواني إلى مصر مُدان بقتل النائب العام المصري المستشار هشام بركات، بعد أن منعته السلطات التركية من الدخول إلى إسطنبول فعاد إلى القاهرة.
ولقد أدت تلك الواقعة إلى استنفار الإخوان رعبًا من المصير نفسه، لأن تركيا تحتضن الكثير من شباب وقيادات الجماعة المتهمين في قضايا إرهابية والمحكوم عليهم بأحكام متعددة، وخرجت القيادات الإخوانية لتهدئة شباب الإخوان المفزوع، وكذلك أعلن ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي، عن فتح تحقيق في الأمر؛ من أجل طمأنة الجماعة الإرهابية القلقة.
إجمالًا يمكن القول إن الإخوان يعيشون أسوأ مراحلهم التاريخية على الإطلاق بين مطرقة الشتات وسندان الانشقاق؛ فالجماعة تواجه عمليات طرد وترحيل مستمرة من جانب بعض الدول، إلى جانب قيام الكثير من أفراد الجماعة بالخروج عن الجماعة والانشقاق عنها في ظل سياساتها النفعية ومنهجها الفاشل.