الاقتصاد المصري بعد 2013: قراءة تحليلية

الاقتصاد المصري بعد 2013: قراءة تحليلية

thumb-egyptian-flag-4k-grunge-asia-flag-of-egypt.jpg

الآثار الاجتماعية للسياسات الاقتصادية

باعتبار المواطن هو المحور الرئيسي لعمليه التنمية يجب النظر دائما إلى النتائج الاجتماعية للسياسات الاقتصادية المتمثلة في معدلات الفقر ونسب البطالة من أجل الحكم على نجاح وفشل تلك السياسيات وهو ما سنستعرضه في هذا الجزء من التقرير.

الفقر

تعد مؤشرات الفقر والبطالة الانعكاس الحقيقي الذي يجب النظر إليه لتقييم عملية التنمية الاقتصادية وما إذا كانت النتائج الإيجابية على مستوى الاقتصاد الكلي، إن صحت، أدت إلى نتائج حقيقية على مستوى معيشة المواطن. في آخر إحصائية صادرة عن المركز القومي للتعبئة والاحصاء في يوليو 2019 ذكرت أن نسبة الفقراء في مصر ارتفعت إلى 32.5% بعد أن كانت 28% في آخر تقرير لها في 2015 أي أن ثلث المصريين يقعون تحت خط الفقر بإضافة ما يزيد عن 5 ملايين مواطن خلال 3 سنوات فقط.

طبقا للتعريف الرسمي المصري، بلغ معدل خط الفقر للفرد في السنة المالية 2017/2018 حوالي 8827 جنيها سنويا (533 دولار تقريبا)، أو 736 جنيها شهريا، فيما بلغ خط الفقر المدقع في نفس الفترة 5890 جنيها سنويا، أو 491 جنيها شهريا، وكان خط الفقر، حسب آخر بحث للدخل والإنفاق عام 2015، هو 482 جنيها شهريا للفرد. وفي حين ارتفع دخل الأسرة إلى 58.9 ألف جنيه سنويا (نحو 3550 دولارا) مقارنة بـ 44.2 ألف جنيه في عام 2015 (نحو 5357 دولار) إلا أن حقيقة الدخل انخفضت بنسبة 20% بعد حساب معدلات التضخم حسب بلومبيرج [45] وانخفضت أيضا عند تقويمها بالدولار.

من المهم أيضا الإشارة إلى أن بيانات البحث الصادر من المركز القومي للتعبئة والإحصاء تشير إلى تقديرات الفقر في عام 2017/2018، وذلك يعني عدم الأخذ في الاعتبار رفع أسعار المحروقات لمرتين بعدها، واعتمدت آلية التسعير التلقائي للبنزين، ورفع أسعار الكهرباء، وأسعار غاز المنازل، ورفعت أسعار المواصلات، وسعر أنبوبة البوتاجاز وغيرها، بما يعني أن هذه النسبة قد ارتفعت في العام الأخير ولا تعبر عن الواقع الحالي. يعني ذلك أن الكثيرين ممن كانوا عرضة للفقر قد وقعوا أسفل خطه بالفعل، وأن إجراءات رفع الحد الأدنى للأجور السابق الإشارة اليها، ستعمل فقط على أفضل الفروض على تثبيت بعض الشرائح على وضعها الحالي.

إضافة إلى ذلك فإن مساله تحديد خط الفقر يشوبها إشكالات تطعن في مصداقية البيانات الرسمية، حيث حدد الجهاز في بياناته الأخيرة خط الفقر بحوالي 735.5 جنيه شهريا، والذي يكافئ حوالي44.5 دولار شهريا، أي بما يعادل 1.5 دولار تقريبا يوميا، مقارنة بحوالي 1.9دولار يوميا محددة من البنك الدولي كخط للفقر (وهو الحد الذي كان معتمدا أيضا في أرقام الجهاز في مصر في عام 2015)، وذلك يعني أن نسبة الفقر الحقيقية أكبر من المعلنة بكثير، وأن زيادة عدد الفقراء في خلال ثلاثة أعوام منذ 2015 قد يفوق الخمسة ملايين بكثير، لا سيما في ظل توجه الدولة في احتساب ومقارنة أسعار كل سلعها وخدماتها بالأسعار العالمية.

أشار التقرير إلى تحرك خط الفقر المدقع والذي حدده الجهاز بحوالي 491 جنيها شهريا (28.5 دولار تقريبا)، أي بما يعادل 95 سنتا يوميا، في مقابل482 جنيها شهريا عام 2015، هذا التحرك لخط الفقر المدقع بقيمة 9 جنيهات، ما بين عامي 2015 وحتى 2018، لا يمكن التسليم به، لا سيما في ظل معدلات التضخم التي حدثت. في حين أن خط الفقر المدقع عالميا 1.25 دولار يومياً، بما يعني أن هناك عددا أكبر من المصريين يقعون تحت خط الفقر المدقع مقارنة بما قدره جهاز الاحصاء.

إذا حتى في حال التسليم بالأرقام المصرية الرسمية لحد الفقر فقد نزل نحو 5 ملايين مواطن إضافي على الأقل تحت خط الفقر في 3 سنوات فقط، إضافة إلى ما يقارب المليون مصري وقعوا فريسة للفقر المدقع.

الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-13


المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. [46]

أما عن التقارير الدولية فيما يخص معدلات الفقر فقد أعلن البنك الدولي في بداية مايو 2019، أن نسبة الفقر بين المصريين قد ارتفعت من ٢٤% عام ٢٠١٠ إلى ٣٠% عام ٢٠١٥ ثم قفزت إلى نحو ٦٠% عام ٢٠١٩، وحول النسبة الأخيرة أشار البنك إلى أن حوالي ٦٠% من شعب مصر يعاني إما من الفقر أو مهدد به[47]، وهو نفس التعبير الذي استخدمه جهاز الإحصاء سابقا في البيان الصحفي الصادر في فبراير 2019 حول بحث الدخل والإنفاق، وقد تم حذف هذا التعبير من البيان الصحفي الصادر في أواخر أغسطس. وهو ما يعني أن عدد الفقراء في مصر يقترب من 14.2 مليون أسرة، بمتوسط عدد 58.9 مليون نسمة تقريبا.

عموماً حدوث هذه القفزة الأخيرة في نسبة الفقراء في مصر لتقارب ثلث السكان طبقا لبيانات الدولة المصرية (أو الثلثين طبقا لتقديرات العديد من الخبراء) خلال السنوات المعدودة التي جرى فيها تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي برعاية صندوق النقد والبنك الدوليين، و ذلك يؤكد على أن البرنامج لم يحقق تحسنا في معيشة المواطنين بل عرضهم لغلاء شديد وانخفاض في القيمة الشرائية لدخولهم وتدهور في الخدمات العامة، على نحو أثر على المجتمع كله وبخاصة طبقته الوسطى، وذلك بسبب عدم نمو الاستثمار في المجالات الإنتاجية، وبالتالي عدم استحداث فرص عمل مستدامة ولا زيادة كافية في الدخول فضلا عن خفض الدعم وارتفاع الضرائب.

من الواضح أن عدم تعديل المسار والمنهج الحالي، نحو الإنتاجية والعدالة التوزيعية لا يعنى فقط استمرار معدل الفقر الحالي، بل يهدد بوقوع نسبة جديدة تحت خط الفقر. حيث دائما ما تلجأ الحكومة إلى علاج أزمة العجز المالي باتخاذ تدابير تقشفية مما أدى إلى خفض الإنفاق العام ورفع الضرائب غير المباشرة على الاستهلاك وقد أدى كلا الإجراءين إلى إلقاء وطأة إدارة الأزمة المالية بشكل غير متساو على أكتاف السكان الأكثر فقراً والأكثر ضعفا[48].

في المقابل حاولت الحكومة زيادة الحد الأدنى من الأجور لتعويض أثر التضخم إلا أن النتيجة ليست إيجابية على الإطلاق. ويشير الشكل التالي إلى معدلات الارتفاع في موازنة الأجور سنوياً خلال الفترة من 2010/2011-2019/2020

الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-14


المصدر: الاقتصاد المصري بعد 2013 السياسات والتحديات[49].

يتضح من الشكل (14) أن زيادة الحد الأدنى للأجور مع مجموع معدلات التضخم خلال الفترة من 2014 حتى 2019 نتج عنه تراجعا في القيمة الحقيقية للأجور، فقد شكل الارتفاع في الحد الأدنى للأجور 66% (في الفترة من مطلع 2014 حين طبق 1200 جنيه حد أدنى، وحتى الحد الأدنى الجديد 2000 جنيه)، في مقابل زيادة معدل التضخم بنحو 107% تقريباً خلال نفس الفترة.

إضافة إلى ذلك فإن الفترة التي شهدت ذروة الانخفاض في معدلات ارتفاع مخصصات الأجور، بداية من 215/2016 حتى نهاية 2017/2018 بمعدلات (11.1%، 7.6% ،5.5%، 6.4%) على الترتيب، في مقابل 25.77% قبلها هي نفس التي شهدت في المقابل ذروة ارتفاع معدلات التضخم في مصر وانخفاض قيمة الجنيه.


أهم مظاهر الفقر بين المصريين

كان من الطبيعي بعد وقوع أعداد متزايدة من المصريين تحت خط الفقر، أن تتجلى مجموعة من المظاهر المرتبطة بالفقر، وستتعرض هذه الفقرة لأهم مظاهر الفقر كنقاط مجملة ودون التوغل إلى التفاصيل، وذلك كما يلي:

  • رصد تقرير للغرفة التجارية بالقاهرة عن شهر يناير 2019 تطور حجم التجارة الخارجية من الملابس المستعملة “البالة” وبلغ أدنى انخفاض في عام 2014 بنسبة 23.4%، مقارنة بعام 2017 الذي شهد ارتفاعًا بنسبة 273.8% [50].
  • أصدر المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، تقريرا يؤكد فيه أن 20% من أطفال مصر يعانون التقزم الناتج عن سوء التغذية، وأن 27% من الأطفال تحت 5 سنوات مصابون بالأنيميا، وأن 11% من وفيات الأطفال ترجع لسوء التغذية، والمثير أن وزارة الصحة اعترفت بالأزمة كاشفة أن النسبة تبلغ 40%، ومشيرة إلى أن 17% منهم يعانون التقزم الشديد [51].
كما أشارت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة «فاو» في تقرير أصدرته عام ٢٠١٤ أن واحدًا من بين كل ٣ أطفال في مصر يعاني من «التقزم»، أعربت فيه عن مخاوفها من ارتفاع معدلات المرض، والذي يتلخص في عدم الوصول إلى الطول المناسب خلال المرحلة العمرية للطفل، وربطت خلاله بين سوء التغذية وزيادة معدلات المرض [52]. – كما أعلنت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو” أن مصر تعاني من مشكلة مزمنة في سوء التغذية لدى الأطفال دون الخامسة، ما أصاب 30% من الأطفال بمرض التقزم [53].

  • تزايد عدد وفيات الأطفال الرضع الأقل من سنة ليبلغ 15.1% عام 2016 في مقابل 14.6% عام 2015، كما بلغ معدل وفيات الأطفال الأقل من 5 سنوات حوالي 19.6% لإجمالي الجمهورية [54].
  • التسرب من التعليم: تشير الإحصاءات إلى أن عدد المتسربين من التعليم بعد التحاقهم به بلغت 6.143 ملايين طفل [55].
  • تبلغ نسبة الأمية في مصر 25.8%من عدد السكان [56]، يضاف إليهم نسبة 10.4% من السكان يقرأون ويكتبون فقط من تعليم محو الأمية [57] دون القدرة على اعتبارهم قد تلقوا تعليما حقيقيا.
  • يبلغ عدد المصريين في الفئة العمرية فوق 18 سنة 56.9 مليون نسمة، منهم 24% لم يتزوجوا أبداً (13.6 مليون نسمة)، بينما تبلغ نسبة المطلقين منهم 12% (6.8 ملايين نسمة) [58].

البطالة

يعبر معدل البطالة عن جدوى الإجراءات الاقتصادية التي تبنتها الدولة، وعن دور معدل النمو في خلق فرص العمل، ووصوله إلى طبقات المجتمع المختلفة. وفي هذا الإطار أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء بياناً صحفياً في منتصف أغسطس 2019([59])، ذكر فيه تراجع معدلات البطالة في مصر بوتيرة متسارعة بدايةً من الربع الأول للعام الماضي، لتنخفض أكثر من 3.8% خلال 18 شهرًا من 11.3% في ديسمبر 2017، إلى 7.5% في يونيو الماضي.

تراجع معدلات البطالة في مصر لا يعني أن سوق العمل استفاد بشكل كامل من زيادة النمو الاقتصادي، حيث انخفضت نسبة المشتغلين، لتسجل 38.5% من جملة السكان مقابل 40.4% في الربع الأول من العام المالي 2017، بالتزامن مع انخفاض قوة العمل إلى 41.6% من جملة السكان مقابل 46.3% خلال الفترة نفسها، فوفقًا لمسح القوة العاملة فإن 621 ألف عاطل أصبحوا غير عاطلين حتى ديسمبر 2018 مقارنة مع نهاية 2017، كما خرج 147 ألفا من قوة العمل.

كما أشار البيان إلى عدم اتساع قوة العمل والتي تعبر عن كافة الأفراد القادرين والراغبين في العمل مع دفعات الخريجين الجدد من الجامعات، بل انكمشت إلى 28.06 مليون فرد في يونيو الماضي مقابل 29.04 مليون فرد في يونيو 2018، و29.18 مليون فرد يونيو 2017، مما يعني تراجع قوة العمل بنحو 1.12 مليون عامل خلال عامين، وبنحو 980 ألف فرد خلال 12 شهرًا فقط.

هذا التراجع غير مفهوم، خاصة مع معدل النمو السنوي في أعداد السكان الذي يصل إلى 2.5% تقريباً، لا سيما في ظل استحواذ الشباب على الجزء الأكبر منه، وغير مبرر في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية في مصر. كما أن انخفاض قوة العمل في بلد يمثل الشباب النسبة الأكبر من سكانه وارتفاع معدلات الزيادة السكانية لديه كان أمراً مفاجئا، بل ويحتاج إلى تفسير مقنع.

إضافة إلى ذلك أشار البيان أن نسبة مشاركة النساء في قوة العمل تراجعت خلال 2018 إلى 16.7% من قوة العمل مقابل 23% في 2017، وهي واحدة من أقل المعدلات عالميًا، ما يعكس عدة عوائق أمام استمرار النساء في سوق العمل، أو عوائق في الدخول إلى القطاعات المولدة لمعدل النمو الاقتصادي، كما أن تراجع أعداد المشتغلات يوضح خللا كبيرا إما في سوق العمل أو في المنهجية الإحصائية، خاصة أن أعداد المشتغلات ترتفع في الأوقات التي يرتفع فيها التضخم وتتآكل فيها الدخول الحقيقية، لذلك من غير المنطقي تراجع أعداد المشتغلات في الوقت الذي زادت فيه أعداد المشتغلين من الرجال.

كما أن تصريحات الدولة متناقضة في ذلك الملف أيضا، ففي الوقت الذي تروج لتكثيف مبادرات تمكين المرأة اقتصاديًا وإتاحة الجهات المختلفة تمويلات للنساء لبدء مشاريعهن الخاصة يحدث هذا التراجع الكبير لأعداد المشتغلات، فمن غير المفهوم التدهور الحادث في سوق العمل ليخرج منه هذا العدد الكبير.

أخيراً يمكن القول أن تراجع معدل البطالة – إن كان صحيحاً – يعود إلى نقص عدد المشتغلات، وخلق المشروعات القومية لفرص العمل، والأخيرة لا يمكن وصفها بالاستدامة بالإضافة إلى فشلها في استيعاب كافة فئات الشباب، خاصة في ظل الاعتماد على قطاع الإنشاءات كحجر زاوية.

مما سبق يتضح الارتفاع غير المسبوق في معدلات الفقر مما يجعل الطبقة المتوسطة تتلاشى على حساب زيادة رقعه الطبقة الفقيرة بنسب غير مسبوقة. إضافة إلى ذلك فإن انخفاض نسبة المشتغلين وتراجع قوة العمل قد يعزى إلى الاتجاه نحو السوق الغير رسمي بما ينتج عنه من تبعات سلبية لعدم توافر التأمين والرعاية الصحية وحقوق العمل الموائمة إضافة إلى عدم دفع الضرائب الخاصة به. كل ذلك يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية وتحديات حقيقية أمام الاقتصاد المصري.


توغل الجيش في النشاط الاقتصادي

تخرج الدراسة التفصيلية لاقتصاد القوات المسلحة عن نطاق هذا التقرير إلا أنه نظرا للأثر البالغ لتنامي نفوذ الجيش في الاقتصاد المصري فإنه يجب الإشارة إلى بعض الملامح الرئيسية لهذا التنامي.

يبدو التوسع المحموم والغير مسبوق للجيش في النشاط الاقتصادي، كردة فعل عنيفة، ليس فقط لثورة 25 يناير وما تبعها من احتمالية تقليص لبعض المغانم الاقتصادية لكبار قادته، بل أيضا لما سبقها مما قيل عن نية خصخصة بعض مشروعاته بنهاية عصر مبارك.

عموماً يمكن القول إن السيطرة على أراضي الدولة هي أخطر الأدوات التي يمتلكها الجيش، ويستخدمها لمزيد من التغول على الاقتصاد المصري. لا تتوقف أهداف مشروعات الجيش عند الربحية، والمغانم، والتي كانت تشكل فيما مضي الهدف الرئيس لتلك المشروعات، بل تتعداها إلى مجموعة أخرى من الأهداف، ومنها:


  • استغلال وضع التجاذب السياسي، للتوسع والتمدد على أكبر مساحة اقتصادية ممكنة، وهو ما قد يفسر الاستعجال بإنشاء مشروعات كبري في قطاعات تعاني، مثل مصنع أسمنت بني سويف.
  • السيطرة على الطرق الرئيسية، والتي تشكل منافذ الإمداد والتموين، للسلع الرئيسية، سواء بين الموانئ والمطارات وبين مناطق الجمهورية المختلفة، أو بين المحافظات وبعضها البعض.
  • السيطرة على إنتاج بعض السلع الاستراتيجية، مثل أدوية الأنسولين، ولبن الأطفال، وغيرها، للظهور بدور المنقذ في أوقات الأزمات، والتحكم العقابي في حال الانفلات.
  • استخدام مشاريع الدولة (طرق كباري وغيرها) لرفع قيمة أراض يسيطر عليها الجيش، والدخول بقيمتها كشريك في مشروع.
  • السيطرة على النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص، الذي نشأ وازدهر ويدين بالولاء للحزب الوطني، بإيجاد منافس أو بديل.
  • توسيع شريحة المتربحين من مشروعات الجيش إلى الرتب الصغرى والمتوسطة، بعد أن كانت حكرا على الرتب الكبرى، بما يضمن استمرار ولاء القيادات العسكرية الصغرى والمتوسطة بالإضافة إلى الكبرى، للسلطة الحالية.
لذلك توغل الجيش إلى عدد كبير من المشروعات بعد يونيو 2013، فبالإضافة إلى إرساء عشرات مشروعات الطرق والكباري إليه بصورة مباشرة، أشرف على كل المشروعات الممولة من الموازنة العامة، تحت شعار محاربة فساد القطاع الخاص وضمان الجدية والالتزام، وضبط المواعيد. وبالطبع لم يعلن عن حصة هذا الإشراف من قيمة تلك المشروعات. كما استولى الجيش على قطاع إعلانات الطرق، وكذلك على تغذية المدارس والجامعات، وامتياز إدارة وتشغيل محطات تحصيل رسوم موازين وطرق الخدمة في الكثير من الطرق.

كما توغل الجيش في إدارة ملف المقاولات وحسب ما أعلن عنه المتحدث العسكري أن الهيئة الهندسية التابعة للجيش تشرف على نحو 2300 مشروع يعمل بها 5 ملايين مصري[60]. تبلغ القوى التشغيلية في مصر 26 مليون مواطن وإن صح تصريح المتحدث العسكري فإن ما يقارب من 20% من المواطنين يعملون تحت إدارة القوات المسلحة. وتعتمد الهيئة على المقاولة من الباطن بسبب عدم وجود قدرة بشرية كافية من مهندسين وعمال.

ومع امتداد ذلك إلى قطاعات أخرى أصبح الجيش هو الوجهة الأساسية لإدارة مشاريع في قطاعات أخرى كوزارة الصحة وعدد آخر من المشروعات مثل مجمع أسمنت بني سويف (أكبر مصنع في العالم)، ومشروع الاستزراع السمكي ببركة غليون، ومصنع للحقن الطبية، ومصنع لمكيفات الهواء، وإنشاء سلاسل بيع منتجات غذائية في المحافظات، وشركة مساهمة لصناعة الأدوية تحمل اسم “الشركة المصرية الوطنية للمستحضرات الدوائية”، وشركة لصناعة الحديد حيث استحوذ جهاز الخدمة الوطنية التابع للجيش المصري على 40% من مجموعة شركات “صلب مصر”، والتي تبلغ طاقتها الإنتاجية نحو 2.2 مليون طن وتعد ثاني أكبر طاقة إنتاجية بالسوق بعد مجموعة شركات عز.

التعاقد عن طريق الباطن له اشكال عديدة كشفت الفيديوهات الأخيرة للمقاول محمد علي عن أحد صورها في مجال المقاولات. أشار المقاول محمد علي إلى أن وسيلة التعاقد تتم عن طريق الإسناد المباشر عن طريق علاقات المقاول باللواءات والضباط داخل الجيش. بعد الإسناد يتجه المقاول للحصول على قرض من البنك للبدء في التنفيذ وبعد انتهاء المشروع تقوم الهيئة الهندسية بدفع المبلغ مع أرباح 5-7%. بهذا الشكل لا يتمكن المقاول من اللجوء إلى جهة تحميه في حالة حصول خلاف مع الجيش أو تأخير في سداد المستحقات، كما أن أموال البنوك التي تم اقتراضها تكون بالتبعية عرضة للضياع.

أكدت العديد من الدراسات على خطورة ومدى تدخل الجيش في الاقتصاد المصري وهو ما سنكتفي بالإشارة إليه باختصار في هذا التقرير. أشارت شانا مرشال إلى أن القوات المسلحة أصبحت المشرف والمراقب الأول على الاقتصاد المصري من خلال “حماية الأصول الاستراتيجية لشركائها الاستثماريين الأساسيين في حقبات الاضطراب، والسيطرة على عملية مناقصات المشتريات الحكومية الأساسية” [61]. وكما أشار يزيد صايغ إلى أن الشركات التابعة للقوات المسلحة الآن تعمل بمبدأ جماعات المصالح التي تنافس بعضها من أجل الحصول على تنفيذ المشاريع[62] وهو الأمر الذي يحول اقتصاد الجيش إلى ما يشبه الاقتصاد الحر ينافس فيه الجيش مع القطاع الخاص. ومع غياب الشفافية المحاسبية فإن سيطرة الجيش على الاقتصاد تعطي مساحة ضعيفة جدا لمنافسة حرة للقطاع الخاص مما يجعل الجيش المتحكم الوحيد في إدارة المشاريع الاقتصادية المختلفة. وأشار صايغ في دراسة أخرى إلى مدى توغل الجيش في كل مجال تقريبا من مجالات نظام حسني مبارك القائم بالأساس على المحسوبية وكيف جرى استمالة عدد من الضباط في مناصب رئيسة في الوزارات والمصالح الحكومية وحصولهم على امتيازات مادية ومعنوية مقابل ولائهم[63] وهو الأمر الذي لا يزال مطبقا من قبل نظام السيسي حتى الآن.


تجميد دورة الاقتصاد المصري

عانى الاقتصاد المصري قبل عام 2011 من مجموعة من الاختلالات الهيكلية، والتي لا يزال حتى وقتنا الحالي رهينة لها، بل زاده انفلات معدلات القروض الداخلية والخارجية اختلالاً، كما ساهم التدخل السياسي في توجيه المشروعات الاقتصادية في تشكل وضع اقتصادي ينذر بخطر شديد، وسنحاول في الفقرات التالية تناول هذا الوضع والذي يؤدي إلى تجميد الدورة الاقتصادية في مصر.

يمكن أن نستعرض هذا التجميد من خلال مقارنة عوامل التسرب خارج دائرة النشاط الاقتصادي، وعوامل الحقن فيه، وذلك كما يلي:


أ – عوامل التسرب

وجهت السلطة الحكومة لتنفيذ مجموعة من المشروعات، تكلفت مبالغ ضخمة، حمل تمويلها على الموازنة العامة أو على القروض الأجنبية، أو عن طريق أموال المواطنين.

غابت الموضوعية والرشد الاقتصادي ومنهج الأولويات عن طريقة الاختيار، فجمدت أموال تلك المشروعات، ولم ينتج عنها عائد يذكر لا لتعويض رأس المال، ولا أقساط القروض، وتسربت بذلك الأموال المستخدمة خارج دائرة النشاط الاقتصادي. ومن أهم أمثلة تلك المشروعات ما يلي:


تفريعة قناة السويس

أعلنت هيئة قناة السويس، أن تكلفة الحفر بالقناة ستبلغ 8 مليارات دولار، 4 مليارات دولار لحفر قناة موازية للمجرى المائي الحالي لقناة السويس، 4 مليارات أخرى لحفر 6 أنفاق تعبر أسفل قناة السويس، قامت الحكومة بطرح شهادات استثمار على المواطنين، بعائد 12% -أكبر من العائد السائد آنذاك (8.7%)، ولمدة 5 سنوات، فجمعت 64 مليار جنيه بما يعادل 8.5 مليار دولار في أيام معدودة، سحب معظمها من ودائع مصرفية.

وبجانب نقاش جدوى حفر الأنفاق والتفريعة الجديدة إلا أن النتائج لا تشير إلى أي زيادة في الإيرادات، بل ورط التسرع في الحفر هيئة القناة نفسها في قروض متتالية – للمرة الأولى في تاريخها- بلغت حوالي ملياري دولار. إضافة إلى أن تكلفة الأنفاق سواء لعبور السيارات أو لنقل المياه إلى سيناء، لا تزال الاستفادة منها محدودة، ولم تطرأ طفرات في مساحات الأراضي المستصلحة اعتمادا على هذه المياه حتى الآن.

الخلاصة تم تسريب حوالي 6 مليارات دولار-لرفع الروح المعنوية للمصريين حسب تعبير السيسي- يضاف إليهم الاقتراض الداخلي والخارجي بقيمة 2 مليار دولار.


العاصمة الإدارية الجديدة

انسحبت الشركات الأجنبية تباعا من تمويل العاصمة الإدارية الجديدة بداية من محمد العبار ومرورا بالشركات الصينية، فتم الاعتماد على التمويل المحلي وشراء الأراضي من الشركات العقارية المحلية، ومؤخرا تم العودة إلى الصين مرة أخرى، رغم التحذيرات العديدة من القروض الصينية، إلا أنه من الواضح أنها الملجأ التمويلي الأخير.

نتيجة لذلك سربت مشروعات العاصمة الإدارية جزءا كبيرا من السيولة المحلية، وأخرجتها خارج دائرة النشاط الاقتصادي، وحتى مع بدء الاستخدام فهل من المتوقع أن يمتلئ المسجد أو الكنسية أو حتى الفندق بالرواد قبل مرور أعوام طويلة، بل حتى المشروعات العقارية للقطاع الخاص وإن بيعت بعض وحداتها، فستظل مغلقة لسنوات طويلة، تبدو طبيعية على الأقل لأي مدينة جديدة، وستقتصر الاستفادة على بعض المباني الإدارية ونسبة قليلة من جملة الإنشاءات لفترة طويلة من الزمن.


مشروع القطار السريع

وقعت الهيئة القومية للأنفاق اتفاقية عقد تصميم وإنشاء وتشغيل وصيانة مشروع خطى مونوريل العاصمة الإدارية الجديدة، ومونوريل السادس من أكتوبر مع تحالف بومباردييه ترانسبورتيشن والمقاولون العرب وأوراسكوم كونستراكشون ليميتد بتكلفة تصل 4.5 مليارات دولار.

كما تبلغ القيمة المحتملة للعطاء بالنسبة لشركة بومباردييه ترانسبورتيشن نحو 1.4 مليار يورو للمشتريات الهندسية والبناء، بالإضافة إلى ذلك، هناك اتفاق على عقد لمدة 30 عامًا للتشغيل والصيانة بقيمة محتملة تبلغ حوالي 1.6 مليار يورو وسيتم تطوير وبناء العربات والقاطرات في مدينة ديربى بالمملكة المتحدة.

يهدف خط مونوريل 6 أكتوبر إلى ربط محافظة الجيزة بداية من محطة جامعة الدول بالخط الثالث لمترو الأنفاق بمدن السادس من أكتوبر والشيخ زايد والتوسعات الجديدة بمدينة السادس من أكتوبر بطول تقريبي 42 كم و12 محطة وتبلغ السعة القصوى للنقل 45 ألف راكب / ساعة /اتجاه، وتبلغ المدة الإجمالية لتنفيذ خط مونوريل مدينة 6 أكتوبر 42 شهراً اعتباراً من يناير 2020.

عموماً اقتراض هذا المبلغ الضخم-خاصة من الصين-سيفرض صعوبات سداد على الاقتصاد المصري، إذا ما أضيفت إلى صعوبات الإفراط في الاقتراض، لوضحت صورة التجميد والنزح خارج دائرة النشاط الاقتصادي والتي ربما تحدث آثاراً كارثية خلال الفترة المقبلة.


المشروع القومي للطرق والكباري

يبلغ إجمالي استثمارات مشروعات الطرق 253 مليار جنيه حتى يونيو 2020، تم حتى الآن تنفيذ «113» مشروعاً على الطرق بتكلفة «115» مليار جنيه، قفزت بها مصر 43 مركزًا في التصنيف العالمي لتحتل المركز 75 على مستوى العالم بعد أن كانت في المرتبة 118. كما نفذت الدولة حتى بداية 2019 عدد 334 كوبري ونفقا، منها 4 كباري على النيل.

لا شك أن الطرق والكباري هي شريان الحياة الاقتصادية، ولكن السؤال هل كانت مصر بحاجة إلى كل تلك الطرق والكباري، وهل بنيت بناء على دراسات تعكس خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتلبية لحاجات توسعية؟ عموماً لم تنشر الدولة أي مخطط تنموي يبرر أي سبب اقتصادي لكل تلك الطرق والمحاور. يمكن تفسير الإصرار على تنفيذ بعض من تلك المشروعات بغرض رفع قيمة الأراضي على جانبي الطرق والتي يمتلكها الجيش بموجب القانون، والتي يستخدمها فيما بعد كحصة في الشراكة مع مستثمرين محليين أو أجانب في المشروعات المختلفة.

عموماً يمكن القول إن جزءا لا يستهان به من تلك الشبكة ستؤجل الاستفادة القصوى من الإنفاق العام عليه لسنوات قادمة، مما يعني تسرب جزء لا يستهان به من تلك الأموال خارج دائرة الدخل القومي.


المطارات الجديدة

المطارات الجديدة هي المثال الأبرز على إهدار وتجميد الأموال، فالعديد من المطارات أنشئت أو تحت الإنشاء في دائرة نصف قطرها 75 كيلو متر، ومنها مطار العاصمة الإدارية، مطار رأس سدر، مطار المليز، وأبعد منه قليلا إعادة تشغيل مطار الطور، كل هذا في ظل وجود مطار الإسماعيلية ومطار القاهرة، مع ملاحظة غياب الصعيد عن تلك الخطة مما يؤكد غياب البعد التنموي.

بالطبع لا يوجد تفسير مقنع لمثل تلك الإنشاءات، والغريب التصميم على استكمال المخطط بالكامل، مما أدى إلى تجميد جزء لا يستهان به من التكاليف-بفرض الاستفادة الجزئية-وبالتالي التسرب خارج دائرة الدخل القومي.


المصانع الجديدة

تعتزم الدولة إنشاء 7 مناطق استثمارية جديدة لإنشاء مصانع إنتاجية، وتتضمن الخريطة الصناعية إنشاء 13 تجمعا صناعيا في 13 محافظة، وصلت معدلات تنفيذه إلى 90%، وتم الانتهاء من بعضه بالفعل، طبقاً للتصريحات الرسمية.

هذه المصانع كاملة المرافق، بل ويقال إن بعضا منها جاهز بالمعدات والآلات، وبذلك يبقى السؤال الأهم من سيشغل تلك المشروعات؟ فمن المعروف حال المستثمر المحلي، الذي يئن من الإجراءات الاقتصادية المتبعة-خاصة ارتفاع معدل الفائدة-، وكذلك في ظل تراجع كبير للاستثمار الأجنبي خلال الثلاثة أعوام الماضية.

وبعيدا عن غياب الروابط التنموية والتكاملية بين تلك الصناعات، من الواضح أن معظم تلك المصانع ستبقى فارغة لفترة، ليست بالقصيرة، ريثما يستعيد المستهلك المحلي بعضا من قوته الشرائية المهدورة، أو يستعيد الاستثمار الأجنبي ثقته في المناخ الاقتصادي المصري.

بالإضافة إلى ذلك ألم يكن من الأجدر ضخ الاستثمارات لتشغيل المصانع المتوقفة بالفعل والتي تقدر بـ 7000 مصنع[64] بدلا من إنشاء وتشغيل 66 مصنعا جديدا؟

كان ما سبق أمثلة على مشروعات تسرعت السلطة في إنجازها دونما جدوى مدروسة، وترتب عليها تجميد وتسريب أموال، كان يمكن أن تساهم في تدوير عجلة النشاط الإنتاجي، بدلا من خلق حالة وهمية من النمو غير المستدام.

إضافة إلى ذلك توجد تكلفة سلبية غير مباشرة لتسرب تلك الأموال ومنها تحجيم قدرة البنوك على خلق الائتمان، وتقليص القدرة الشرائية الاستهلاكية للمواطنين، والمساهمة في الركود، بالإضافة إلى مزاحمة القطاع الخاص على الأموال، ومزاحمة القطاع الإنتاجي بصفة عامة.


أقساط القروض والفوائد

تشير بيانات البنك المركزي إلى ارتفاع تقديرات خدمة الدين متوسط وطويل الأجل خلال 2019 إلى 16.9 مليار دولار بنهاية سبتمبر 2018 مقابل 14.7 مليار دولار في تقديراته السابقة بنهاية يونيو 2018، وذلك بخلاف 2.08 مليار دولار ديون قصيرة الأجل منتظر سدادها في الشهور التسعة الأولى من العام الحالي، ليصبح مجموع الالتزامات المستحقة خلال عام 2019 حوالي 18.9 مليار دولار.

كما أوضحت البيانات أن البنك المركزي المصري نجح في سداد أكثر من 36 مليار دولار ديونا والتزامات خارجية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ولا شك أن نزح تلك الأموال إلى الخارج، يمثل تسرباً خارج دائرة النشاط الاقتصادي وتجفيفا إضافيا لموارده.


تسريبات أخرى (النشاط العسكري)

يشكل اقتصاد الجيش نوعا آخر من التسريبات خارج دائرة النشاط الاقتصادي، فالمشروعات تعطى بالأمر المباشر، وتعفى من الضرائب والجمارك ولا يوجد من يعرف كيف توزع الأرباح، وأين تذهب الأنصبة الكبرى، علاوة على عدم الاستخدام الأمثل للموارد والمشروعات التي يديرها الجيش بشكل مباشر وهو ما يمثل وجها للتسرب خارج دائرة النشاط.

أيضا تمثل مصانع الجيش التي نفذت دونما دراسة سوقية، أو تلك التي أسهمت في تعطل القطاع الخاص أو العام، وتوقف إنتاج بعض مشروعاتهم جزئياً أو كلياً، أحد أوجه التسرب خارج دائرة النشاط الاقتصادي.


هجرة بعض رؤوس الأموال الوطنية

ساهم التوسع في الاستيلاء على أموال ممارسي العمل السياسي، سواء من الإسلاميين أو الليبراليين، إضافة إلى الصلاحيات الواسعة للجهات السيادية في العمل الاقتصادي، وحالة عدم التأكد السياسي السائدة إلى هجرة بعض رجال الأعمال المصريين من متوسطي الحجم إلى خارج البلاد.

يتم تحويل أموال هؤلاء إما بطرق غير رسمية عن طريق سماسرة، أو عن طريق رسمي بشراء شهادات إيداع دولية من بورصة لندن، ومؤخرا عن طريق النقود الإلكترونية، ومهما كان أسلوب التحويل فالمحصلة هي نزح تلك الأموال وتسربها خارج دائرة النشاط الاقتصادي.


ب- مصادر الحقن

يعتمد الاقتصاد القومي المصري تاريخياً على مجموعة من مصادر الحقن الخارجي، والتي تتحمل عبء سد فجوة العملة الأجنبية الناتجة عن عجز الميزان التجاري، إضافة إلى سد الفجوة التمويلية الناتجة عن عجز الموازنة العامة، ويمكن تحليل مصادر الحقن كما يلي:

القروض الخارجية

تزايدت وتيرة الاقتراض الخارجي لمصر بشدة منذ عام 2013، حيث بلغت حوالي 39 مليار دولار في نهايته، لتصبح 106 مليارات دولار بنهاية مارس 2019 طبقا لتصريح وزيرة التخطيط مؤخراً. وكانت استجابة المؤسسات الدولية والاقليمية لطلبات الاقتراض المصرية طبيعية بعد إقرار الحكومة المصرية لبرنامج صندوق النقد الدولي، وبعض الترتيبات السياسية المتعلقة بالأدوار التي يقوم بها النظام المصري وتحالفاته الإقليمية والدولية.

إضافة إلى ذلك لجأت مصر إلى إصدار سندات دولاريه أكثر من مرة خلال العامين الماضيين، ولا يزال إقبال الأسواق الدولية عليها كبيراً نظرا لارتفاع سعر الفائدة عليها واستقرار سعر الجنيه بما يسمح بتحقيق ارباح ساخنه كبيرة، لاسيما بعد إشادة البنك الدولي وصندوق النقد بالإصلاحات الاقتصادية، وهو ما مثل باباً رخيصاً نسبياً للاقتراض مقارنة بمعدل الفائدة بالسوق المحلي.

يعتقد الكثير من الخبراء أن الإدارة المصرية استهلكت معظم الأبواب المتاحة للاقتراض-قد يكون العودة إلى قانون الصكوك الإسلامية المتجاهل منذ 2013 إقرارا باقتراب جفاف مصادر الاقتراض-، بل وصلت لحدودها القصوى مع بعض الجهات الإقليمية، ويعني ذلك تناقص وتيرة الحقن من خلال الاقتراض الخارجي خلال العامين القادمين، بل إن التحويل سينعكس ليكون للخارج في إطار عملية السداد للقروض والفوائد.


تحويلات العاملين في الخارج

ارتفعت تحويلات العاملين المصريين في الخارج بمقدار 778.2 مليون دولار، إلى 25.5 مليار دولار في 2018، مقابل 24.7 مليار دولار خلال 2017، وبرر الخبراء تلك الزيادة بعودة آلاف المصريين العاملين في منطقة الخليج، خاصة السعودية، إلى وطنهم بشكل نهائي بسبب سياسات “التفنيشات” والاستغناءات عن الأجانب وإحلال العمالة المحلية بدلاً من الوافدة التي طبقتها هذه الدول، وزيادة رسوم الإقامات، وغلاء الأسعار، حيث عاد المصريين ومعهم مكافآت نهاية الخدمة وما جمعوه من أموال خلال السنوات التي قضوها في الخارج.

ثم أظهرت بيانات أصدرها البنك المركزي المصري في مارس 2019، تراجع تحويلات المصريين العاملين بالخارج خلال الشهور التسعة الأولى من العام المالي 2018 / 2019 بنسبة 6.1% على أساس سنوي، وذلك يوضح الاتجاه العام المتراجع لتلك التحويلات، وإن ما حدث من زيادات عقب التعويم، كان لسد حاجات الأسر المعيشية نتيجة ارتفاعات الأسعار المتتالية، وكذلك للعودة النهائية لجزء لا يستهان به من العاملين، نتيجة الظروف سالفة الذكر، وعموماً يمكن القول إن التراجع المشار إليه سابقا هو بداية لانخفاضات متتالية متوقعة لتحويلات العاملين خلال الفترة القادمة، وهو ما يمثل انخفاضا لحقن، طالما اعتمدت عليه مصر منذ طفرة أسعار البترول في السبعينيات وحتي الآن.


الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر

ناقش التقرير في فقرة سابقة بالتفصيل تراجع الاستثمارات الأجنبية إلى مصر خلال العامين الماضيين، ولكن يبقى الاستثمار المباشر في التنقيب عن الغاز والبترول أحد أهم مصادر الحقن في الاقتصاد، ولكن يعاب عليه، أن جزءا ليس باليسير منه يذهب لحساب معدات وآلات وخبرات أجنبية، أي سرعان ما يتسرب إلى الخارج مرة أخرى فضلا عن حصة الشريك الأجنبي من العائدات الناتجة.

أما الاستثمار في أدوات الدين المحلية فلا يمكن الاعتماد عليه كأداة للحقن في الاقتصاد المصري، فالأموال الساخنة تلهث وراء معدلات الفائدة المرتفعة، وتنتقل بسهولة بين البلدان، والتعويل عليها يجب أن يكون مرحلياً فقط.


عائدات السياحة

حقق قطاع السياحة معدل نمو قدر بحوالي ١٦.٥% في عام 2018، وهو الأفضل منذ عام ٢٠١٠، وساهمت السياحة بنسبة 11.9٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وفي توفير 2.5 مليون فرصة عمل، أي ما يعادل 9.5٪ من إجمالي عدد الوظائف في مصر.

بحسب بيانات للمجلس العالمي للسياحة والسفر، فإن إجمالي قيمة ما أنفقه السياح في مصر خلال العام الماضي بـ 12.2 مليار دولار، وتوقع أن يصل عدد السياح القادمين لمصر خلال العام الجاري إلى 11.7 مليون سائح.

بالطبع يرتبط استمرار حقن السياحة في الدخل القومي بمجموعة من العوامل، رغم أنها في الغالب خارج نموذج الاقتصاد المصري، إلا أنها تبدو مستقرة نسبيا خلال العام القادم، مما يرجح ثبات مساهمة ذلك القطاع خلال الفترة القادمة.


عائدات قناة السويس

رغم عدم تحقيق قفزات بعد حفر التفريعة الجديدة، إلا أن معدل حقن القناة في الاقتصاد لا يزال مستمرا، وإن كان من المتوقع أن يتأثر بالتباطؤ المتوقع في النمو والتجارة العالميين، وإن كان في الحدود العادية.

يبدو أن التأثير الكبير سيكون هو سداد الديون المستحقة على هيئة القناة، وحتى لو دورت من خلال القروض الجديدة، فسيعني ذلك تسربا قد يساوي أو يقل عن الحقن الجديد، وعموما يمكن القول إن معدل حقن القناة في الاقتصاد القومي يغلب عليه الثبات والاستدامة.


ج-المقارنة بين الحقن والتسرب في الاقتصاد المصري

يشير التحليل السابق لعناصر الحقن والتسرب من وإلى دائرة النشاط والدخل القومي، إلى غلبة ظاهرة لعناصر التسرب بشكل كبير، وللأسف فإن معظم تلك الغلبة ناتج عن مشروعات الدولة، والتي أدت إلى تجميد جزء كبير من الأموال المحلية والمقترضة في أشكال مختلفة، لن تدر أي عوائد ملحوظة، وفي هذا الإطار فشلت الإدارة المصرية في التحول نحو الإنتاج، بما يخلق قيمة مضافة تتسبب في المزيد من الحقن إلى الداخل.

ونحن نرى أنه بعد العامين القادمين، والتي سيتصاعد فيها سداد القروض والفوائد ويخف تدفق القروض والودائع، وتنجز فيها ما تبقى من مشروعات الطرق والعاصمة الجديدة، سيتراجع معدل النمو الحالي، وسيتعرض الاقتصاد لمزيد من الانكماش-خاصة في ظل خطة إعادة هيكلة القطاع الإداري المزمع تنفيذها-، ولكنه قد لا يدخل بالضرورة في نفق الكساد لوجود بعضا من عوامل الحقن المستدامة، وسيتأثر المواطن المصري بشدة وترتفع نسب الفقر بشكل أكبر، بما يعني أن الأعوام ما بعد 2020 أعوام صعبة على الاقتصاد المصري، إلا إذا حدثت تغيرات جذرية، تتعلق جميعها بعوامل من خارج الإطار الاقتصادي الحالي.


خاتمة وتوصيات

استعرض التقرير نتائج السياسيات الاقتصادية المتبعة من قبل نظام السيسي وانتهي إلى أن السياسات الحالية لا تستهدف مصلحة المواطنين وإنما تعمل على تحسين أرقام الاقتصاد الكلي وهو الأمر الذي، حسب ما استعرضنا، لم يسفر عن نتائج إيجابية حقيقية. فعلى الرغم من ارتفاع النمو في الناتج المحلي إلا أن القطاعات المساهمة في ذلك النمو ليست قطاعات إنتاجية مثل الصناعة والزراعة وإنما قطاعات ريعية كقطاعات الاستخراجات وتحويلات العاملين بالخارج والسياحة. إضافة إلى ذلك لا تعكس الزيادة الضخمة في قيمة الناتج المحلي الإجمالي في مصر زيادة في حجم السلع والخدمات وإنما تعود إلى ارتفاع معدلات التضخم بصورة كبيرة والدليل على ذلك هو أن قيمة الناتج المحلي تنخفض في حال تقويمها بالدولار. كنتيجة لذلك، لم يشعر المواطن المصري بتحسن في مستويات المعيشة ولم يستشعر أي نتائج إيجابية نتيجة لذلك النمو.

كما استعرض التقرير مشروع الموازنة العامة للعام 2019/2020 والذي تشكل فوائد القروض ما يقارب 50% من إجمالي إيراداتها، وما يقرب من 40% من إجمالي نفقاتها، وتبتلع أي إمكانية لزيادة الاستثمارات الحكومية في الصحة والتعليم والبنية الأساسية. كما أدى ذلك إلى عجز مزمن يصيب الموازنة المصرية بصورة مستمرة مما يدفع الحكومة إلى رفع الضرائب وخفض الدعم والاستدانة من أجل سد العجز الأمر الذي ينعكس بصورة مباشرة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تقوم فعليا بدفع ضريبة السياسات الاقتصادية الحالية دون أن تشعر بأي تحسن.

وأما فيما يتعلق بنتائج السياسات النقدية فقد ارتفع الدين المحلي والخارجي إلى مستويات غير مسبوقة مما قد يزيد العبء على قدرة مصر للاستدانة مستقبلا. كما أن أثقال الموازنة العامة بالارتفاع المتزايد بأعباء فوائد الدين يقلل من قدرة الدولة على توجيه تلك الأموال إلى مشاريع تنمية حقيقية.

أما عن التضخم فعلى الرغم من اتجاه مؤشره إلى الانخفاض خلال الأشهر الأخيرة إلا أن معدل زيادة التضخم خلال السنوات الماضية نتج عنها انخفاض القيمة الحقيقية للأجور بما يعادل 20% في حين الأخذ بالاعتبار معدلات التضخم. كما يرجع التراجع في معدلات التضخم الحالية إلى تراجع الطلب في السوق المصرية نتيجة ارتفاع معدلات الفقر والأعباء الحياتية المتزايدة بارتفاع الأسعار خلال السنوات الماضية مما نتج عنه عدم وجود قدرة شرائية لدى المواطنين وبالتالي عدم قدرة البائعين على رفع الأسعار على الرغم من زيادة اسعار الوقود الاخيرة.

أما في ملف الاستثمارات فلا تزال معدلات الاستثمار في مصر متواضعة ولا تؤدي إلى نتائج إيجابية على مستويات التنافسية العالمية أو على قدرتها على استيعاب الأيدي العاملة الجديدة كل عام. كما يمكن القول إن القطاع الخاص–والطبقة المتوسطة والفقيرة-تحمل عبء برنامج صندوق النقد الدولي، وسيظل على الأرجح تحت ضغط، خاصة بعد الرفع الأخير لأسعار المحروقات، وكل ذلك يعني أن الظروف لا تزال صعبة أمام الشركات الخاصة.

انعكست نتائج تلك السياسات على الفقر بصورة كبيرة حيث دخل 5 ملايين مصري جديد على الأقل تحت خط الفقر لتصل النسبة إلى 32.5% في التقرير الأخير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن نتائج 2017 مقارنة ب 28% في 2015. ينتج عن ذلك تلاشي الطبقة المتوسطة بصورة متسارعة على حساب زيادة رقعه الطبقة الفقيرة.

جانب آخر من النتائج هو أرقام البطالة والتي على الرغم من الأرقام الرسمية تشير إلى تراجع معدلات البطالة إلا أن ذلك يعود بالأساس لنقص عدد المشتغلات وخلق فرص عمل غير مستدامة في المشاريع القومية. انخفاض نسبة المشتغلين وتراجع قوة العمل قد يعزى إلى الاتجاه نحو السوق غير الرسمي بما ينتج عنه من تبعات سلبية لعدم توافر التأمين والرعاية الصحية وحقوق العمل الموائمة إضافة إلى عدم دفع الضرائب الخاصة به. كل ذلك يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية وتحديات حقيقية أمام الاقتصاد المصري.

يمكن الوصول إلى استنتاج ان السياسات الاقتصادية المتبعة حاليا لا تؤدي إلى عملية تنموية حقيقة على المدى القريب والمتوسط. يحتاج الاقتصاد المصري إلى تغيير في هيكل الاقتصاد ذاته وينتج ذلك عن وجود رؤية تنموية بعيدة المدى تهتم بإنجاز نتائج حقيقية على الأرض يكون المواطن فيها هو المحور الأساس.

استعرض التقرير النهج المستمر للنظام المصري باعتماد سياسات اقتصادية تقشفية لا تؤدي في النهاية إلى الاستثمار في البنية الأساسية البشرية كالتعليم والصحة بل على العكس زادت معدلات الفقر بنسب غير مسبوقة وتحميل تكاليف التقشف الاقتصادي على المواطن والقطاع الخاص.

ومن الواضح في ظل كل ما سبق أن مستقبل الاقتصاد المصري سيكون سلبيا للغاية إذا ما استمرت السياسات المتبعة على النهج السائد حاليا.

thumb-egyptian-flag-4k-grunge-asia-flag-of-egypt.jpg

التضخم

يشير الشكل (7) والشكل (8) إلى تطور معدلات التضخم السنوية والشهرية في مصر خلال الفترة من يونيو 2017 وحتى يونيو 2019.

الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-7


المصدر: صندوق النقد الدولي[23]

التضخم


المصدر: البنك المركزي[24]

يرجع القدر الأكبر من ارتفاع معدلات التضخم إلى قرار تعويم الجنيه وما تلاه من إجراءات اقتصادية. ويوضح شكل (8) معدلات التضخم الشهرية منذ يونيو 2015 وحتى اغسطس 2019 حيث ارتفع معدل التضخم ليسجل ذروته 34.2% في شهر 7/2017، مقارنة بحوالي 24.3% في شهر 12/2016. توالى انخفاض معدل التضخم بعد ذلك ليصل إلى 13% في شهر 7/2018. عاود التضخم الارتفاع حتى بلغ 17.5% في 10/2018، ثم تراجع حتى بلغ 7.46% تقريبا في 8/2019 وقت إعداد هذا التقرير. ويمكن فهم تراجع معدلات التضخم خاصة بعد رفع الدعم عن المحروقات في يوليو الماضي إلى ضعف الطلب في السوق المصرية نتيجة لضعف القوة الشرائية لدى المواطنين مما دفع التجار والمنتجين إلى عدم رفع كلفة الزيادة على المواطن وتحمله هو لتلك التكلفة في ظل انخفاض الطلب مع وفرة العرض.

كما يمكن فهم هذا التراجع أيضا بأن المسألة نسبية والمقارنة بقيم مرتفعة جدا للتضخم حدثت في 2017، حيث يجدر الإشارة إلى أن معدل التضخم السنوي هو النسبة بين أسعار السنة الحالية والسابقة، فعلي سبيل المثال بلغ معدل التضخم ذروته 34.2% في شهر يوليو 2017، ثم تناقص إلى 17.55% في شهر 10/2017، فذلك مقارنة فقط بالعام السابق، ولا يعني بحال مثلا تراجع الأسعار إلى مستواها قبل بداية برنامج الصندوق بل إن الأسعار لا زالت في ارتفاع لكن بنسبة أقل. بالتالي من أجل حساب معدل التضخم في مصر خلال الأعوام من 2012 وحتى الآن يجب جمع الفروق التضخمية بين تلك السنوات، والتي توضح أن مجموع معدلات التضخم في مصر يتجاوز 150% خلال السنوات الست الأخيرة.

تضافرت الكثير من العوامل لزيادة معدلات التضخم خلال الفترة الماضية ومنها:


  1. الإفراط في طبع النقود لتمويل عجز الموازنة العامة للدولة، وهو ما أعلن محافظ البنك المركزي عن التوقف عن الاعتماد عليه في مايو 2018 ([25]).
  2. تعويم الجنيه وهو القرار الذي ساهم بصورة أساسية في رفع معدلات التضخم. كان قرار التعويم ضروريا من أجل إنهاء السوق السوداء كما كان شرطا أساسيا لإتمام اتفاق صندوق النقد الدولي. إلا أن انعكاسات التعويم على التضخم فاقت التوقعات. حيث توقع صندوق النقد أن يساهم التعويم وتطبيق القيمة المضافة ورفع الدعم عن الطاقة قد يرفع التضخم بحد أقصى إلى 18% خلال العام 2016/2017[26]. إلا أن النتائج كانت مخالفة حيث بلغ التضخم نسبة 34.2% في يوليو 2017 بصورة فاقت التوقعات.
  3. رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء: بناء على اتفاق الصندوق قامت الحكومة بإعادة الهيكلة السعرية لأسعار المحروقات والكهرباء، وهو ما أثر بالتبعية على أسعار المنتجات النهائية لاسيما التي تدخل المحروقات في مستلزمات إنتاجها، أو عبر زيادة تكلفة النقل لمستلزمات الإنتاج أو المنتج النهائي. جدير بالذكر أن مشروع الموازنة العامة لمصر للعام 2019/2020، هو أول مشروع يحمل الخفض قبل الأخير لدعم المحروقات، بجانب أنها تأتي بعد إقرار الحكومة رفع أسعار الكهرباء للمرة الخامسة منذ عام 2014.
  4. فرض ضريبة القيمة المضافة: مع نهاية اغسطس 2016 أقرت الحكومة فرض ضريبة القيمة المضافة. طبقا لتوقعات وزير المالية فإن تطبيق الضريبة سيزيد من معدلات التضخم مره واحدة فقط بنسبة تتراوح بين 2.3 و2.6% ([27]). كان إثر تطبيق الضريبة على حصيلة الإيرادات الضريبية ضخم. حيث تشير المراجعة السريعة للإيرادات الضريبية في الموازنة العامة إلى أن الإيرادات الضريبية من 352 مليار جنيه في العام المالي 2015/2016 إلى 856 مليار جنيه في مشروع موازنة 2019/2020، (243% تقريباً).
  5. زيادة الجمارك ثلاث مرات متوالية: ساهمت زيادة الجمارك لأكثر من مرة في رفع معدلات التضخم، حيث صدر القرار الجمهوري رقم 419 لسنة 2018، بزيادة التعريفة (الرسوم) الجمركية على المئات من السلع الغذائية، وألبان الأطفال، والأجهزة الكهربائية، والآلات والمعدات، بنسب تصل إلى 40% في المتوسط ([28])، وذلك للمرة الثالثة على التوالي، حيث عدلت الرسوم الجمركية على مجموعة كبيرة من الواردات في ظل أزمة عملة عنيفة كانت تواجهها مصر في 2013، ثم عدلت مجددا في يناير 2016، حيث تغير مصر التعريفة الجمركية كل خمس سنوات.
كنتيجة لذلك ارتفعت الإيرادات الجمركية الداخلة إلى الموازنة العامة للدولة من 17.7 مليار جنيه عام 2013/2014 إلى 34.3 مليار عام 2016/2017 وتقدر في موازنة العام الحالي بنحو 45.3 مليار جنيه، لتبلغ51.7 مليار جنيه حصيلة مستهدفة في موازنة 2019/2020. ترجع تلك لزيادة إلى الاعتماد المتزايد على الواردات للسلع الأساسية والتنموية والتي تجاوزت 60 مليار دولار بنهاية عام 2018[29] الأمر الذي يتحمل تكاليفه المستهلك النهائي وهو ما ساهم في رفع معدلات التضخم.

  1. رفع أسعار المواصلات العامة: ساهم رفع أسعار المواصلات العامة في المزيد من الارتفاع لمعدلات التضخم، حيث زادت أسعار تذاكر هيئة النقل العام بالقاهرة، للأتوبيسات التي تسير مسافة 30 كيلو مترا فأقل، 3 جنيهات، وتحدد سعر 4 جنيهات لتذكرة الأتوبيسات التي تسير 31 كيلو مترا وحتى 40 كيلو مترا، و5 جنيهات للأتوبيسات التي تسير من 41 كيلو مترا وحتى 60 كيلو مترا، ووصل سعر تذكرة الأتوبيس «دورين» المكيف والمزود بخاصية «واي فاي» إلى 7 جنيهات. إضافة إلى رفع أسعار تذاكر قطارات الإنفاق (المترو) بنسبة 250% في مايو 2018 وكان ذلك للمرة الثانية بعد رفع السعر بنسبة 100% في فبراير من نفس العام، وفي يونيو الماضي أعلنت وزارة النقل المصرية، رفع أسعار تذاكر الخط الثالث لمترو الإنفاق إلى ما يصل إلى 10 جنيهات.
كما شهدت قطارات السكة الحديد بين “أسوان والقاهرة”، ارتفاعا في أسعار التذاكر على المسافرين، بنسبة تصل 100%، بدأت من أول أبريل 2016، وكان من المقرر زيادة أسعار تذاكر القطارات المكيفة والعادية، بنسب تتراوح بين 20 و150%، ولكن بعد حادثة محطة مصر الشهيرة أعلنت الوزارة تأجيل الزيادة حتى تحسن مستويات الخدمة.

ولا شك أن رفع أسعار المواصلات العامة الحكومية أدى إلى ارتفاع أسعار المواصلات الخاصة بأنواعها المختلفة، تحت دعاوى ارتفاع أسعار المحروقات وغيرها، كما ساهمت رسوم عبور الطرق والكباري الجديدة في انفلات تلك الأسعار، بالإضافة إلى رسوم عبور الطرق والإنفاق التي يسيطر عليها الجيش، والتي تخضع لتقدير الضباط، لنوعية المنقول، مما يفتح باباً واسعاً لاستغلال المواطنين، وهو ما يتحمله المستهلك النهائي في شكل ارتفاع في معدل التضخم.

بالطبع كل تلك القرارات والقوانين أدت إلى تأجيج معدلات التضخم، ولم يقابلها زيادة تذكر في الأجور، إلا من خلال زيادة الحد الأدنى الأخيرة، والتي لا تقارن بما حدث من زيادات، مما ساهم في وقوع فئات جديدة من المصريين تحت خط الفقر.


الاستثمار

يتفق الاقتصاديون على أهمية ودور الاستثمار في عملية التنمية نظرا لكونه أحد المكونات الرئيسية لحساب الناتج المحلي الذي يتكون من مجموع الاستهلاك والاستثمارات والإنفاق الحكومي والاستثمار الحكومي والفارق بين الصادرات والواردات. يتم إدراج الاستثمار العام الذي تقوم به الحكومة تحت بند الاستثمار الحكومي بينما يتكون بند الاستثمارات من الاستثمار الخاص الداخلي والاستثمار الأجنبي المباشر. في هذه الفقرة سنستعرض هيكل الاستثمار الأجنبي والخاص في مصر.

الاستثمار الأجنبي المباشر

تعد الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر أحد أهم مصادر العملة الصعبة للبلاد، وقد شكل السعي إلى جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية العامين الماضين اهتماما كبيرا، وذلك ضمن إجراءات الإصلاح الاقتصادي الذي تنفذه بالاتفاق مع صندوق النقد، وأبرزها تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016 والتراجع الحاد في الجنيه والذي كان من المفترض أن يساهم في جذب الاستثمار، إلى جانب القضاء على مشكلة نقص العملات الأجنبية. إضافة إلى إصدار قانون جديد للاستثمار، وآخر لتسهيل الحصول على التراخيص الصناعية، وثالثا للإفلاس، وتم تعديل قانون الشركات، كما طورت الحكومة مراكز خدمة المستثمرين، من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية، وأصدرت خريطة بالفرص الاستثمارية في مصر.

الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-9


المصدر: البنك المركزي المصري

يساهم الاستثمار الخارجي في عملية التنمية في حال كان يشكل قيمة مضافة إلى الاقتصاد. وينتج النمو الاقتصادي من تضافر عدد من العناصر هي كفاءة القوى العاملة وتدفقات رأس المال والتطور التكنولوجي. أشار عدد من الدراسات إلى أن الاستثمار الخارجي يكون مهما للاقتصاد في حال كونه عامل إضافة لكل من التطور التكنولوجي وتدفقات رأس المال. حيث يرى بعض الباحثين مثل بورنزشتين وآخرين[30]، أن الاستثمار الخارجي يعمل عمل الناقل للمعرفة والتكنولوجيا ويساهم بصورة أكبر في معدلات النمو، إضافة إلى ذلك وجدت الدراسة أن هناك علاقة إيجابية قوية بين الاستثمار الخارجي ورأس المال البشري حيث ترتفع مساهمه الاستثمار الخارجي في معدلات النمو في حال وجود رأس مال بشري وفير ومدرب جيدا في الدولة المضيفة. إلا أن تلك النتائج تتحقق فقط في حالة وجود رأس مال بشري مجهز ومدرب لاستيعاب التقنيات والتكنولوجيا الواردة.

الشكل (9) يوضح هيكل الاستثمار الخارجي في مصر. يستحوذ قطاع البترول على الغالبية العظمى من الاستثمارات وهو قطاع يتسم بالريعية وعدم المساهمة في نقل تكنولوجيا جديدة لسوق العمل إضافة إلى كونه قطاع كثيف رأس المال، ولا يوفر فرص عمل تتناسب مع ما ينفق من استثمارات، والجانب الثاني أن استفادة الشريك الأجنبي عالية، والأمر الثالث أن مصر لم تستفد من تلك الاستثمارات على مدار العقود الماضية في توطين تكنولوجيا هذا القطاع، أو محاولة إنتاج متطلبات الاستثمار به من الناحية التكنولوجية، وإن كانت مصر تمتلك موارد وكوادر بشرية قادرة على إنجاز هذه المهمة، بدليل هذا التواجد الكبير للمصريين في قطاع البترول بدول الخليج وغيرها من شركات البترول العالمية [31]. يلي قطاع البترول وبفارق كبير قطاع الخدمات بنسبة 11.8%، ثم القطاع الصناعي بنسبة 10.2%، ثم قطاع الإنشاءات بنسبة 4.3%، ثم القطاع الزراعي بنسبة 0.1% [32]. ومن الواضح من هذا التوزيع أن قدرا قليلا جدا من الاستثمارات الخارجية يتجه إلى أنشطة إنتاجية تفرز نموا حقيقيا وفرص عمل تحد من مستويات البطالة.

يشير الشكل (10) إلى إجمالي الاستثمارات الخارجية في مصر منذ 2013/2014. يتضح من الشكل أن أكبر رقم حصلت عليه مصر كان في2016/2017 بمقدار 7.93 مليار دولار وهو رقم هزيل جدا خاصة وأنه لا يتم توجيهه إلى قطاعات إنتاجية كما أشرنا سابقا.

الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-10


يرجع الانخفاض في صافي الاستثمار الأجنبي المباشر بصورة مجملة إلى عدم تهيئة المناخ العام للاستثمار. يقصد بالمناخ العام عدة مستويات وهي المستوى الاقتصادي والمستوى التشريعي والمستوى السياسي والمستوى المؤسسي. على المستوى الاقتصادي لا يزال استمرار أسعار الفائدة عند مستوى مرتفع يؤثر سلبا على جذب الاستثمارات الحقيقية إضافة إلى تراجع حجم الطلب في السوق المصرية بعد إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي أثرت على القوة الشرائية للمواطنين، إلى جانب ضعف الترويج للجهود التي بذلتها الدولة خلال الفترة الأخيرة، بالإضافة إلى التأثر بما يحدث من تطورات في الأسواق الناشئة، والازدياد المضطرد للأنشطة الاقتصادية للجيش والمخابرات.

على المستوى التشريعي حاولت الحكومة تطوير قوانين الاستثمار وهو الذي انعكس إيجابيا في تصنيف مصر في تقرير “سهولة القيام بالأعمال” والذي أحرزت فيه تقدم بـ 8 مراكز لتصبح الـ 120 في 2018 رغم أنه في حد ذاته مركزاً متأخراً. إلا أن الإصلاح التشريعي لا يزال بعيدا عن كونه إصلاحا هيكليا إجماليا للبنية التشريعية حيث تعتمد الحكومة مسار تصحيح خاص لكل قطعه من القانون على حدة عن طريق تحديد مجموعة معينة من الأنشطة الاقتصادية التي تسعى الدولة لتحفيزها، ومنح المستثمرين فيها مجموعة محددة من المزايا والحوافز والضمانات والإعفاءات التي تميزها عن سائر المشروعات العاملة في ظل الإطار القانوني العام للبلد.

إن استراتيجية الحوافز تعد وسيلة فعالة إذا كانت النتيجة جذب حجم كبير من الاستثمارات الخارجية مما يعوض الخسارة الحاصلة نتيجة الحوافز. والعكس كذلك فإن فشل تلك الاستراتيجية يؤدي إلى ضياع فرصة إيرادات جديدة على الموازنة العامة للدولة إضافة إلى آثار سلبية قد تضر بالمنافسة مع المنتج المحلي. في دراسة لندى مسعود (2003)[33] قامت بدراسة تأثير تلك الاستراتيجية على الحالة المصرية. انتهت الدراسة إلى أن تلك الاستراتيجية لم يكن لها أي تأثير واضح على جذب الاستثمارات الخارجية بل على العكس فإنها وضعت عبء الموازنة على دافعي الضرائب دون أن تنتفع من الاستثمارات الخارجية. ومن الواضح أن هذه السياسات لم تتغير منذ زمن الدراسة أي عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك ولم يحدث أي تحسن يذكر في هذا الصدد.

إذا يجب على المناخ التشريعي في مصر أن يعمل من أجل الاستفادة من دور الاستثمار الخارجي بما يعود بالنفع على الاقتصاد الكلي. كان ولا يزال التركيز في مصر الآن على السؤال الخاطئ وهو كيفية جذب الاستثمار الخارجي وليس توظيف الاستثمار الخارجي في عملية التنمية. حيث إن السؤال الأول حاولت مصر الإجابة عليه عن طريق منح حوافز لجذب الاستثمار الخارجي وليس تهيئة المناخ العام الخاص بالاستثمار بما في ذلك رفع كفاءة التعليم أو القوى العاملة أو إنشاء مؤسسات وتشريعات قانونية صلبة منافسة. في حال التركيز على تهيئة المناخ التشريعي فإن الاستثمار الخارجي سيأتي كنتيجة لذلك وليس كما تحاول الحكومة الآن بجذب الاستثمار الخارجي كهدف في ذاته.

أما على المستوى المؤسسي ذكر التقرير الأخير للتنافسية العالمية في 2018 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي أن أبرز المشكلات التي تواجه المستثمرين في مصر هي عدم استقرار السياسات (بنسبة 15.2% من المشاركين)، والتضخم (بنسبة 14.2% من المشاركين)، والفساد (بنسبة 9.8% من المشاركين) والبيروقراطية (بنسبة 9% من المشاركين) وعدم كفاءة القوى العاملة (بنسبة 7.9% من المشاركين)[34].

على المستوى السياسي يعد تدخل الجيش في العملية الاقتصادية أحد اهم العوامل التي تؤثر سلبا على جذب الاستثمارات حيث ذكر بعض المستثمرين أن جانب رئيسي من قلقهم من الدخول إلى السوق المصري هو منافسة الجيش في العملية الاقتصادية (Momani, 2018)[35]. وسيناقش التقرير توغل الجيش في العملية الاقتصادية في فقرة مستقلة لاحقا.

إضافة إلى تلك المستويات الداخلية أشارت بعض التقارير الصادرة عن بنوك الاستثمار أن تراجع الاستثمارات المباشرة ليس ظاهرة محلية، ففي النصف الأول من عام 2018، تراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة العالمية بنسبة 41% لتصل إلى 470 مليار دولار، حسب ما ورد في تقرير مجلس التجارة والتنمية التابع للأمم المتحدة “الأونكتاد”[36]. حيث تراجع الاستثمار العالمي بسبب عوامل معقدة منها مخاوف الحرب التجارية، والأهم من ذلك الإصلاحات الضريبية التي تم تنفيذها في الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية 2018، والتي شجعت المزيد من الشركات على إعادة توطين أعمالها وإعادة رأس المال إلى الولايات المتحدة، الدولة ذات الاستثمارات الضخمة حول العالم[37].

على الجانب الاخر نجد أن تدفق الاستثمار الأجنبي في مصر يتجه بصورة كبيرة إلى أدوات الدين من سندات وأذون خزانة. حيث ساهم قرار البنك المركزي المصري، لتحرير سعر صرف العملة المحلية، في نوفمبر 2016، والذي نتج عنه فقدان الجنيه لنصف قيمته تقريباً، في إنعاش التدفقات الأجنبية على السندات وأذون الخزانة الحكومية. والتي بلغت ذروتها بنهاية مارس 2018 حيث قدرت بنحو 23.1 مليار دولار، ثم عادت للتراجع، لتسجل 17.5 مليار دولار نهاية يونيو 2018[38]، وبلغت 16.8 مليار دولار ببداية مايو 2019[39].

ذلك الاستثمار إنما هو إضافة إلى بنود الديون الخارجية ولا يعكس استثمارا حقيقيا، والنظر إلى حجم الاستثمار في الأموال الساخنة في 2018 نجد أنها وصلت إلى أكثر من ثلاثة أضعاف إجمالي الاستثمار الأجنبي وهو ما يعكس عدم ثقة المستثمرين في السوق المصرية حيث يتسم الاستثمار في الأموال الساخنة بسرعه تقلبات السوق وقدرة المستثمرين على سحب أموالهم بصورة سريعة مما يعكس عدم ثقة في السوق المحلية.

الاستثمار الخاص

شكل مجمل الأوضاع الاقتصادية في مصر خاصة بعد قرار التعويم ورفع شرائح الدعم عن المحروقات والكهرباء، وتغول الجيش على النشاط الاقتصادي، وانفراده بالكثير من المزايا والإعفاءات القانونية، ضربات موجعة للقطاع الخاص المصري. حيث توجد العديد من الدلائل على أن نشاط القطاع الخاص مكبل ببيئة الأعمال المرهقة، وحركة التجارة المقيدة، وبالتالي، لم يقم القطاع بدوره المأمول، خاصة في ظل انتهاج السلطة منهجاً ليبرالياً، كان من المفترض أن يكون القطاع الخاص عماده الرئيس.
يشير هبوط مؤشر مديري المشتريات (PMI) التابع لبنك الإمارات دبي الوطني، الذي يقيس نشاط القطاع الخاص في مصر غير المنتج للنفط، إلى تراجع نشاط القطاع الخاص في مصر خلال فترة ما بعد التعويم بصورة مستمرة، ولم يتحسن إلا كحالة استثنائية في بعض الأشهر، سرعان ما يعود للهبوط بعدها حيث انخفض إلى 49.4 وبذلك يكون انخفض عن 50 وهو الحد الفاصل بين النمو والانكماش[40].

كما يبين شكل 11 نسب الاستثمار العام والخاص منذ 2002 وحتى 2018 والتي تتسم بانخفاض معدلات الاستثمار الخاص والعام. يعود جزء من ذلك إلى الأزمة العالمية في أعقاب 2008 ومن ثم توالي الأحداث السياسية في 2011 و2013.
إضافة إلى ذلك فإن تنافس الدولة مع القطاع الخاص في الحصول على الودائع المصرفية أدى إلى انخفاض معدلات تمويل الاستثمار الخاص، وهو ما تسبب-بالطبع مع ارتفاع معدل التضخم-في ارتفاع أسعار الفائدة المحلية، والتي شكلت ولا تزال عائقاً تمويلياً هاماً، مما أدى أنه خلال العام المالي الماضي حصل القطاع الخاص والعائلي 23% و8% على الترتيب من إجمالي تمويلات القطاع المصرفي، في حين أن القطاع العام استحوذ على 69%.
كذلك يعاني القطاع الخاص من التحديات التي تواجه الاستثمار الأجنبي التي ذكرناها في الفقرة السابقة حيث لا يزال نشاط القطاع الخاص يعوقه إطار تنظيمي مرهق ولا يمكن التنبؤ به، ويعاني صعوبة الوصول إلى العوامل الرئيسية في السوق (الأراضي-يسيطر عليها الجيش-والعمالة الماهرة) والحواجز غير الجمركية أمام التجارة.
الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-11

المصدر: البنك المركزي[41]
إجمالا لا تزال معدلات الاستثمار في مصر متواضعة ولا تؤدي إلى نتائج إيجابية على مستويات التنافسية العالمية أو على قدرتها على استيعاب الأيدي العاملة الجديدة كل عام. كما يمكن القول إن القطاع الخاص – والطبقة المتوسطة والفقيرة-تحمل عبء برنامج صندوق النقد الدولي، وسيظل على الأرجح تحت ضغط، خاصة بعد الرفع الأخير لأسعار المحروقات، وكل ذلك مؤداه أن الظروف لا تزال صعبة أمام الشركات الخاصة.

تطور الصادرات والواردات

مثلت زيادة الصادرات والحد من الواردات أحد الأركان الأساسية لبرنامج صندوق النقد الدولي، ومع بلوغ البرنامج مرحلته النهائية، تشير البيانات إلى استمرار الأوضاع السابقة على تنفيذه تقريبا، وذلك ما توضحه بيانات الشكل (12) والتي تشير إلى تطور حركة الصادرات والواردات في مصر منذ عام 2014وحتي 2018. حيث بلغ حجم الصادرات المصرية خلال عام 2018 نحو 24.8 مليار دولار، مقابل 22.6 مليار دولار خلال 2017، و20.4 مليار دولار عام 2016، مسجلة زيادة بلغت نسبتها نحو 11.6% مقارنة بعام 2017. كما بلغت الواردات المصرية 69.9 مليار دولار بنهاية عام 2018، في مقابل 59.1 مليار دولار عام 2017 بزيادة حوالي 10 مليارات دولار أي بنسبة زيادة تزيد عن 15%.
الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-12

تُمثل الفجوة الكبيرة بين صادرات وواردات مصر السلعية، واحدة من المشكلات المزمنة، ولا يظهر أن هناك سياسات جديدة لسد هذه الفجوة، ولو في الأجل المتوسط، وحسب أرقام ميزان المدفوعات للعام 2018 يتبين أن العجز التجاري بحدود 45 مليار دولار في مقابل 37 مليار في 2017 [42]. هذا فضلًا عن أن الصادرات النفطية تمثل نحو 33.7% من إجمالي الصادرات السلعية. ولا تمثل الصادرات السلعية النفطية إيراد صاف لإيرادات الدولة المصرية، ولكنها تتضمن حصة الشريك الأجنبي، والتي تصل إلى حوالي 40% من الصادرات النفطية المصرية [43]. وفي ضوء تصرفات الإدارة الاقتصادية بمصر، نجد أن توظيف الموارد المالية المحدودة، يتم بطريق الخطأ عبر توجه هذه الموارد لمشروعات غير ضرورية من ناحية، وغير إنتاجية من ناحية أخرى، مما يعني أن مصر سوف تستمر في التبعية للخارج في استيراد الغذاء والعدد والآلات ووسائل المواصلات، وكذلك استيراد التكنولوجيا، ومن هنا سوف تتعمق الفجوة الإنتاجية لمصر على مدار الأجلين القصير والمتوسط [44].

إجمالا لا تزال معدلات الاستثمار في مصر متواضعة ولا تؤدي إلى نتائج إيجابية على مستويات التنافسية العالمية أو على قدرتها على استيعاب الأيدي العاملة الجديدة كل عام. كما يمكن القول إن القطاع الخاص – والطبقة المتوسطة والفقيرة-تحمل عبء برنامج صندوق النقد الدولي، وسيظل على الأرجح تحت ضغط، خاصة بعد الرفع الأخير لأسعار المحروقات، وكل ذلك يعني أن الظروف لا تزال صعبة أمام الشركات الخاصة. كما أن ارتفاع عجز الميزان التجاري سيشكل في المستقبل ضغطا كبيرا على العملة مما قد ينتج عنه انخفاض قيمة الجنيه.

thumb-egyptian-flag-4k-grunge-asia-flag-of-egypt.jpg

الموازنة العامة​

يتكون ملف الموازنة العامة من إجمالي النفقات والإيرادات الحكومية. يتم طرح مشروع الموازنة للعام المالي الجديد مع بداية السنة المالية في مصر في يوليو. وقد وافق البرلمان على الموازنة العامة للدولة لعام 2019/2020 والتي تم وصفها بالموازنة الأضخم في تاريخ مصر مما يدفعنا إلى قراءة وفهم أهم بنودها

قراءة في مشروع موازنة العام المالي 2019/2020​

قدرت إيرادات الموازنة لعام 2019/2020 بنحو 1134.4 مليار جنيه بزيادة قدرها 145 مليار جنيه عن العام المالي السابق. بينما بلغت قيمة المصروفات 1575 مليار جنيه بزيادة قدرها 151 مليار جنيه عن العام المالي السابق. حيث أدت زيادة الحد الأدنى للأجور للعاملين بالدولة في 30 مارس 2019 إلى رفع مصروفات الأجور بمقدار 30 مليار جنيه.

يتكون هيكل الإنفاق من بنود رئيسية لا يمكن للحكومة التملص منها مثل فوائد الديون المقدرة بنحو 569 مليار جنيه ومخصصات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية بنحو 327 مليار جنيه ومخصصات أجور بنحو 301 مليار جنيه ومخصصات استثمار بنحو 211 مليار جنيه.

وعلى الرغم من أن بند الاستثمار قد زاد بمقدار 63 مليار جنيه إلا أن معظم تلك النفقات تتجه نحو البنية الأساسية والعقارات الحكومية وهي مجالات تفتقد للقيمة المضافة كما أنها لا تؤدي إلى خلق وظائف بصورة مستدامة. حيث أظهر البيان التحليلي للموازنة السابقة أن أكبر مخصص في بند الاستثمارات هو بند الأصول الثابتة وقدرت قيمته بحوالي 192 مليار جنيه. تتكون تلك الأصول من مبان سكنية بقيمة 24 مليار وغير سكنية 33 مليار وتشييدات بقيمة 76 مليار بإجمالي 133 مليار جنيه موجهه لقطاع العقارات فقط أي أكثر من 50% من مخصصات الاستثمار متجهة إلى استثمار عقاري وهو استثمار يتسم بالريعية وعدم توفير قيمة مضافة حقيقية للسوق.

بند آخر مهم تحت بند الإنفاق وهو ملف الدعم. حيث انخفض دعم المواد البترولية والكهرباء عن العام الماضي بمقدار 36.1 و12 مليار جنيه على الترتيب نتيجة لاتفاق صندوق النقد الدولي، وهو ما يعني بالتبعية ارتفاع معدل التضخم وزيادة الأسعار إضافة إلى زيادة تكاليف الإنتاج والأثر السلبي المتوقع على الصادرات.

إضافة إلى ذلك فإن الدستور المصري ينص على أن الحكومة المصرية ملتزمة بأن لا تقل مخصصات بندي التعليم والصحة عن 7% من الناتج المحلي، على الرغم من ذلك لم تلتزم الحكومة بذلك النص الدستوري للمرة الخامسة على التوالي وبلغ الإنفاق على كل من التعليم والصحة في مشروع الموازنة الجديدة قيمة 205 مليار جنيه أي 3.6% فقط من الناتج الإجمالي لعام 2019/2020.

يظهر من هيكل النفقات عدم وجود رؤية واضحة تستهدف نموذج تنموي حقيقي على المدى الطويل. حيث لا تزال الحكومة تسعى إلى خفض نفقاتها عن طريق رفع الدعم وخفض فاتورة الأجور دون توجيه نفقات الاستثمار نحو قطاعات أكثر انتاجا ونقلا للمعرفة أو توجيه الاستثمارات نحو تهيئة البنية الأساسية المادية التي تحفز الاستثمار لدى القطاع الخاص أو حتى الالتزام بالنصوص الدستورية بالإنفاق على البنية الأساسية البشرية المتمثلة في الإنفاق على التعليم والصحة الذي ينتج عنه رفع كفاءة رأس المال البشري على المدى الطويل.

أما على جانب الإيرادات تشكل الحصيلة الضريبية من 70 إلى 75% من إجمالي الإيرادات العامة للدولة، تثير هذه النسبة المرتفعة مجموعة من التساؤلات حول باقي إيرادات الدولة والتي لا تشكل إلا 25% فقط. يعرّض الاعتماد على الإيراد الضريبي كمصدر وحيد الإيرادات لخطر الركود الاقتصادي والذي سينسحب على انخفاضه، ولايزال هناك الكثير من التعديلات الممكنة التي تضبط جانبي الإيرادات والنفقات في الموازنة العامة.

إضافة إلى ذلك هناك أرقام ضعيفة تدخل الموازنة العامة للدولة من مؤسسات هامة، فكما يوضح الشكل رقم (3) أن حصيلة الخزانة العامة من قناة السويس هي 36 مليار جنيه، أي حوالي 2.2 مليار دولار فأين تذهب باقي إيرادات القناة والبالغة ما يزيد عن 5 مليارات دولار عام 2018؟ كما بلغت إيرادات المناجم والمحاجر الداخلة إلى الموازنة العامة 1.6 مليار جنيه فقط، إضافة إلى الإيرادات المقدر دخولها من الصناديق الخاصة التي تبلغ 5.5 مليارات جنيه، وهي نسبة 25% المفروض على الصناديق توريدها، وبذلك فإن إجمالي إيرادات تلك الصناديق 22 مليار جنيه، وهو ما يفرض التساؤل أين تذهب بقية الحصيلة؟ وكيف تنفق ومن يراقب على الإنفاق؟ ولماذا تتعنت الدولة في زيادة النسبة المفروضة لصالح الموازنة في ظل ما تعانيه من فجوة تمويلية، وأعباء خدمة الدين؟

شكل (3) أهم بنود الإيرادات غير الضريبية بمشروع موازنة 2019/2020

الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-3


نتيجة لغياب الرؤية الاستراتيجية التي تهدف إلى تغيير هيكل الاقتصاد المصري، لا تزال الحكومة تعتمد على الاقتراض لتمويل الفجوة التمويلية للموازنة وهو ما سنستعرضه في الفقرة التالية.

عجز الموازنة​

يرجع الاحتياج إلى توفير مصادر التمويل نظرا لزيادة النفقات بصورة أكبر من الإيرادات فيما يعرف بعجز الموازنة. تم تقدير العجز في موازنة 2019/2020 بـ 445 مليار جنيه بنسبة 8.4% من الناتج المحلي. لسد العجز تلجأ الحكومة إلى الاقتراض الداخلي والخارجي ومن ثم ترتفع نسبة أعباء الدين والتي بلغت 569 مليار جنيه (تمثل نسبتها 50% من إجمالي الإيرادات العامة بالموازنة) مما يجعل مشكلة العجز مزمنة في الحالة المصرية. كما أن نسبة فوائد الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بلغت نحو 9% هذا العام مقارنة بأقل من 4% منذ عشر سنوات، وهي أعلى نسبة بمراحل على مستوى الأسواق الناشئة والمتقدمة على حد سواء (شكل 4). أي أن الحكومة دائما ما تلجأ إلى الاقتراض من أجل سد الفجوة التمويلية وبالتالي ترتفع فاتورة الأقساط والفوائد في العام المالي التالي مما يدفعها إلى الاقتراض مره أخرى وهكذا. كما يعرض الشكل (5) تطور العجز في الموازنة منذ 2012 وحتى 2020 وعلى الرغم من أن المنحنى يأخذ شكل أخذ في الانخفاض إلا أن مشكلة التمويل عن طريق الاقتراض لا تزال هي السياسة المتبعة.

شكل (4) نسبة فوائد الديون إلى الناتج المحلي

الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-4


المصدر: Financial Times[14]

لا تتوقف مشكلة التمويل عن طريق الاقتراض على زيادة العجز فقط وإنما تؤثر أيضا على قضية الاستثمار الخاص. تقوم الحكومة بالاقتراض الداخلي عن طريق البنك المركزي الذي يقوم بطرح سندات وأذونات خزانة ذات عائد مرتفع من أجل ضمان بيع تلك السندات. تقوم البنوك المحلية بشراء تلك السندات مقابل العائد المالي الأعلى والأكثر ضمانا من تمويل المشروعات في القطاع الخاص والذي تتسم بارتفاع المخاطر إضافة إلى تقارب العائد المتوقع من السندات. وبالتالي ترتفع فاتورة الاقتراض الحكومي الداخلي من حيث التزامها بسداد الديون وأقساطها إضافة إلى تثبيط القطاع الخاص لإقامة مشاريع جديدة عن طريق الاقتراض من البنوك.

الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-5


كذلك تتزايد خطورة زيادة معدل الاقتراض في ظل غياب عوائد استثمارية حقيقية لما تم إنفاقه خلال السنوات الـ 5 الماضية مع عدم وجود رؤية واضحة لكيفية إعادة هيكلة الاقتصاد إضافة إلى ضعف الدولة في مراقبة الأجهزة التنفيذية والأمنية التي تمارس الوصاية على نفقات الدولة وواردتها في شكل وساطات مالية مع عدم وجود رقابة برلمانية وشعبية. تؤدي تلك العوامل مجتمعه إلى تفاقم مشكلة العجز وجعلها أكثر صعوبة لحلها مع مرور الوقت. ينقلنا ذلك للحديث عن ملف الديون في مصر

يتضح من العرض السابق أن فوائد القروض، والتي تشكل ما يقارب 50% من إجمالي الإيرادات الموازنة، وتقترب من نحو 40% من إجمالي النفقات، تبتلع أي إمكانية لزيادة الاستثمارات الحكومية في الصحة والتعليم والبنية الأساسية. كما أدى ذلك إلى عجز مزمن يصيب الموازنة المصرية بصورة مستمرة مما يدفع الحكومة إلى رفع الضرائب وخفض الدعم والاستدانة وطبع النقود من أجل سد العجز؛ الأمر الذي ينعكس بصورة مباشرة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تقوم فعليا بدفع ضريبة السياسات الاقتصادية الحالية دون أن تشعر بأي تحسن.

السياسة النقدية​

تعني السياسة النقدية بقدرة البنك المركزي على ضبط معدلات الفائدة وعمليات طبع الأموال لتمويل العجز من أجل التحكم في معدلات التضخم بهدف الوصول إلى استقرار في أسعار البضائع والمنتجات. قام البنك المركزي في مصر باتباع عدد من السياسيات التي أسفرت عن التالي:

أولا: زيادة الاحتياطي النقدي: ساهمت السياسة النقدية التي تم تنفيذها خلال المرحلة الماضية، لأن يتجاوز رصيد الاحتياطي النقدي الأجنبي بالبنك المركزي الـ 44.274 مليار دولار مع نهاية شهر مايو 2019[15]، مقارنة بـ 44.218 مليار دولار في نهاية شهر أبريل 2019، بزيادة قدرها 57 مليون دولار، بما يغطي نحو 8 أشهر من الواردات السلعية لمصر التي تتكلف في حدود 55 مليار دولار.

ثانيا: انخفاض معدل التضخم والذي شهد ارتفاعات متتالية منذ تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016، وحتى شهر سبتمبر 2017، لقرابة عام تقريباً، حيث بلغ 31.7% في شهر فبراير 2017، ثم سجل 34.2% خلال شهر يوليو 2017، ثم بدأ بالتراجع فانخفض إلى 11.1% في ديسمبر 2018، مقابل 22.3% خلال الشهر المماثل من عام2017 [16]. كما سجل معدل التضخم السنوي لشهر مايو 2019 سجل 13.2% مقابل 11.5% خلال الشهر المماثل من عام 2018[17].

ثالثا: تدفق الاستثمارات في أموال الدين المحلية (الأموال الساخنة)

ساهم قرار البنك المركزي المصري، لتحرير سعر صرف العملة المحلية، في نوفمبر 2016، والذي نتج عنه فقدان الجنيه لنصف قيمته تقريباً، في إنعاش التدفقات الأجنبية على السندات وأذون الخزانة الحكومية. والتي بلغت ذروتها بنهاية مارس 2018 حيث قدرت بنحو 23.1 مليار دولار، ثم عادت للتراجع، لتسجل 17.5 مليار دولار نهاية يونيو 2018[18]، ثم عاودت استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية الارتفاع مرة أخرى حتى بلغت 16.8 مليار دولار ببداية مايو 2019[19].

أثرت تلك السياسيات سلبا على ملفين مهمين وهما الديون (المحلية والخارجية) والاستثمار. إضافة إلى ذلك فإن معدلات التضخم التي تتحدث عنها الحكومة لها قراءة أخرى سيتم مناقشتها في هذه الفقرة.

الدين المحلي​

ارتفعت نسبة الدين الداخلي إلى 4.1 تريليونات جنيه في 2019 أي بنسبة 95% من الناتج المحلي الإجمالي[20]. كما يجب على الحكومة دفع فوائد الديون بصورة دورية والتي بلغ إجمالها 596 مليار جنيه في موازنة 2019/2020. إضافة إلى أقساط الدين التي يدفعها البنك المركزي والتي بلغت 375 مليار جنيه لنفس العام المالي.

تتمثل خطورة الدين المحلي في عدة نقاط:

  • أن الدول التي تعاني من ارتفاع في الدين المحلي يكون من الصعب عليها الدخول إلى أسواق المال العالمية على المستوى قصير الأجل وقد يتسبب ذلك في مشاكل حقيقية متعلقة باستدامة الدين على المستوى متوسط الأجل.
  • يؤدي تزايد الدين الداخلي إما إلى إعلان الدولة عدم قدرتها على السداد “default” أو التحول إلى اقتصاد تضخمي. يؤدي إعلان الدولة عدم قدرتها على السداد إلى أزمة اقتصادية حرجة كما حدث في اليونان ما قد يؤدي بالتبعية إلى إفلاس الدولة. على المقابل فإن التضخم قد يقلل من التكلفة الحقيقية للدين الداخلي حيث يمكن للدولة تسديد ديونها مع انخفاض القيمة الحقيقية للجنيه إلا أنه في المقابل يتوجب مع ذلك ارتفاع نسبة الفائدة في السندات وأذونات الخزانة المستقبلية التي سيتم طرحها من قبل الحكومة من أجل أن تجد رواجا وقبولا لدى الدائنين مما يعني ارتفاع خدمة الدين مجددا على المدى المتوسط وطويل الأجل.
  • ارتفاع الدين المحلي يرفع تكلفة الائتمان على القطاعات الإنتاجية في القطاع الخاص وبالتالي يؤدي إلى انخفاض معدلات الاستثمار الخاص.
  • التكلفة الأكبر للدين العام في مصر تتعلق بهيكل الإنفاق العام الذي يذهب لتمويله، حيث شكل إجمالي الفوائد والأقساط الذي يبلغ 971 مليار بدون أية مصاريف عامة أخرى نسبة 86% من إيرادات الدولة المتوقعة (حوالي ترليون و134 مليار جنيه) في موازنة 2019/ 2020. يعني ذلك أن الحكومة تستخدم المدخرات لتمويل نفقاتها الجارية بدلا من تمويل الاستثمار، وبالتالي فإن هذه المصروفات لا تحقق عائدا، ولا تسهم في زيادة قدرة الاقتصاد المستقبلية على الإنتاج أو على خلق فرص عمل بل وتزاحم القطاعات الإنتاجية الراغبة في الاستثمار برفع أسعار الفائدة وبتوفير فرص إقراض أقل مخاطرة للجهاز المصرفي.
  • ارتفاع الدين المحلي قد يؤدي إلى حالة ما يعرف بتراكم الديون “debt overhang” وهو تراكم حجم الدين المحلي بدرجة يصعب على الدولة بعدها الاستدانة حتى وان كانت الاستدانة ستوجه إلى مشاريع استثمارية حقيقية.

الدين الخارجي​

كشف البنك المركزي عن ارتفاع الدين الخارجي ليبلغ 106.2 مليارات دولار بنهاية مارس 2019[21]. بارتفاع نحو 10 مليارات دولار من ديسمبر الماضي والذي بلغ آنذاك 96.612 مليار دولار بزيادة نسبتها 9.9%. يمثل شكل (6) ارتفاع قيمة الدين الخارجي المستمر منذ 2014 لمستويات غير مسبوقة. جدير بالذكر أن مقدار الاستدانة الحاصل منذ الانقلاب العسكري على مدار 5 سنوات فقط والبالغ نحو 60 مليار دولار فاق مقدار الاستدانة التي قامت بها الحكومات المصرية المتعاقبة على مدار ثلاثة عقود.

وعلى الرغم من اختلاف الجدل حول الحد الآمن للاستدانة من الخارج، حيث اعتبر البعض أن الدين الخارجي إذا تجاوز نسبة الـ 60% من الناتج المحلي فإن ذلك يعد خطرا على الاقتصاد. بلغت نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي في مصر نحو 37%. في المقابل ذهب البعض إلى أن العبرة دائما بما يعرف باستدامة الدين وقدرة الدولة على سداد الأقساط والفوائد دون الاحتياج إلى إعادة هيكلة للدين. وبعيدا عن وجهات النظر تلك إلا أن المهم في النقاش هو مدى استفادة الدولة من الاستدانة فيما يخدم عملية التنمية وهو الأمر البعيد عن الحالة المصرية.

الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-6


المصدر: البنك المركزي.

فعلى الرغم من أن الاستدانة تمت تحت شعار تمويل التنمية، ولكنها انفقت على مشروعات لا تفيد العملية التنموية، وأغلبها لأهداف سياسية غابت عنها الجدوى الاقتصادية، أو لصالح جهات سيادية. حيث تدفقت على مصر في السنوات الست الأخيرة ودائع أجنبية بقيمة 18 مليار دولار، وما يقترب من 50 مليار دولار قروضا أجنبية، فضلا عن المساعدات الخليجية النقدية والبترولية الضخمة، وهو ما كان كفيلاً بإحداث نهضة تنموية حقيقية، ولكن للأسف انفقت القروض والمساعدات ولم يتبقَ إلا السداد.

إن حل الاستدانة ليس بجديد على النظام المصري لكن بينما كانت الحكومة في السابق تهتم بالاقتراض من الداخل وبالعملة المحلية وهي إحدى الوسائل قليلة المخاطر في الاقتراض، فإنها مؤخرا بدأت بالتوسع في الاقتراض من الخارج وبالعملة الأجنبية، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسبة الدين الخارجي بالنسبة إلى إجمالي الدين العام، هذا التوجه الجديد يجعل أعباء هذه الديون الخارجية عرضه لأي تغيير سلبي في أسعار العملة المصرية، كما يهدد قدرة مصر على تحمل عبء الديون كما ذكرت وكالة موديز في بيانها الأخير[22]، حيث استعرض البيان الوضع الائتماني لمصر والذي انتهت إلى أنه يعكس موقفا ماليا ضعيفا للحكومة مع توقعات ببلوغ الدين الخارجي 115.7 مليار دولار بنهاية 2020، وهو الأمر الذي تعاني منه دول نامية مثل تركيا والأرجنتين على سبيل المثال وقد يسبب خطورة مستقبلا. الأمر الأخطر، أن أغلب هذه الديون لا تذهب من أجل الاستثمار الحكومي أو مشروعات تنموية بل تذهب بالأساس إلى تسديد العجز في الموازنة خاصة على بنود الأجور والمرتبات، مما يعني أن هذه الديون لا تساهم في عملية التنمية أو زيادة معدلات النمو، وهو الوضع الذي يضعف من القدرة المستقبلية لمصر مستقبلا على تسديد هذه الديون. وفي نفس الوقت، فإن هذه الزيادة في الديون تحدث في الوقت التي تقوم به الحكومة بسياسات مالية تقشفية، الأمر الذي من المفترض أن يؤدي إلى تقليل الإنفاق الحكومي وتقليل العجز في الموازنة، وبالتالي تقليل معدل الديون، لكن ما يحدث هو عكس ذلك، فبينما تقوم الحكومة بسياسيات مالية تقشفية فإن معدل الاستدانة يتصاعد.

الموازنة العامة

يتكون ملف الموازنة العامة من إجمالي النفقات والإيرادات الحكومية. يتم طرح مشروع الموازنة للعام المالي الجديد مع بداية السنة المالية في مصر في يوليو. وقد وافق البرلمان على الموازنة العامة للدولة لعام 2019/2020 والتي تم وصفها بالموازنة الأضخم في تاريخ مصر مما يدفعنا إلى قراءة وفهم أهم بنودها

قراءة في مشروع موازنة العام المالي 2019/2020

قدرت إيرادات الموازنة لعام 2019/2020 بنحو 1134.4 مليار جنيه بزيادة قدرها 145 مليار جنيه عن العام المالي السابق. بينما بلغت قيمة المصروفات 1575 مليار جنيه بزيادة قدرها 151 مليار جنيه عن العام المالي السابق. حيث أدت زيادة الحد الأدنى للأجور للعاملين بالدولة في 30 مارس 2019 إلى رفع مصروفات الأجور بمقدار 30 مليار جنيه.
يتكون هيكل الإنفاق من بنود رئيسية لا يمكن للحكومة التملص منها مثل فوائد الديون المقدرة بنحو 569 مليار جنيه ومخصصات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية بنحو 327 مليار جنيه ومخصصات أجور بنحو 301 مليار جنيه ومخصصات استثمار بنحو 211 مليار جنيه.
وعلى الرغم من أن بند الاستثمار قد زاد بمقدار 63 مليار جنيه إلا أن معظم تلك النفقات تتجه نحو البنية الأساسية والعقارات الحكومية وهي مجالات تفتقد للقيمة المضافة كما أنها لا تؤدي إلى خلق وظائف بصورة مستدامة. حيث أظهر البيان التحليلي للموازنة السابقة أن أكبر مخصص في بند الاستثمارات هو بند الأصول الثابتة وقدرت قيمته بحوالي 192 مليار جنيه. تتكون تلك الأصول من مبان سكنية بقيمة 24 مليار وغير سكنية 33 مليار وتشييدات بقيمة 76 مليار بإجمالي 133 مليار جنيه موجهه لقطاع العقارات فقط أي أكثر من 50% من مخصصات الاستثمار متجهة إلى استثمار عقاري وهو استثمار يتسم بالريعية وعدم توفير قيمة مضافة حقيقية للسوق.
بند آخر مهم تحت بند الإنفاق وهو ملف الدعم. حيث انخفض دعم المواد البترولية والكهرباء عن العام الماضي بمقدار 36.1 و12 مليار جنيه على الترتيب نتيجة لاتفاق صندوق النقد الدولي، وهو ما يعني بالتبعية ارتفاع معدل التضخم وزيادة الأسعار إضافة إلى زيادة تكاليف الإنتاج والأثر السلبي المتوقع على الصادرات.
إضافة إلى ذلك فإن الدستور المصري ينص على أن الحكومة المصرية ملتزمة بأن لا تقل مخصصات بندي التعليم والصحة عن 7% من الناتج المحلي، على الرغم من ذلك لم تلتزم الحكومة بذلك النص الدستوري للمرة الخامسة على التوالي وبلغ الإنفاق على كل من التعليم والصحة في مشروع الموازنة الجديدة قيمة 205 مليار جنيه أي 3.6% فقط من الناتج الإجمالي لعام 2019/2020.
يظهر من هيكل النفقات عدم وجود رؤية واضحة تستهدف نموذج تنموي حقيقي على المدى الطويل. حيث لا تزال الحكومة تسعى إلى خفض نفقاتها عن طريق رفع الدعم وخفض فاتورة الأجور دون توجيه نفقات الاستثمار نحو قطاعات أكثر انتاجا ونقلا للمعرفة أو توجيه الاستثمارات نحو تهيئة البنية الأساسية المادية التي تحفز الاستثمار لدى القطاع الخاص أو حتى الالتزام بالنصوص الدستورية بالإنفاق على البنية الأساسية البشرية المتمثلة في الإنفاق على التعليم والصحة الذي ينتج عنه رفع كفاءة رأس المال البشري على المدى الطويل.
أما على جانب الإيرادات تشكل الحصيلة الضريبية من 70 إلى 75% من إجمالي الإيرادات العامة للدولة، تثير هذه النسبة المرتفعة مجموعة من التساؤلات حول باقي إيرادات الدولة والتي لا تشكل إلا 25% فقط. يعرّض الاعتماد على الإيراد الضريبي كمصدر وحيد الإيرادات لخطر الركود الاقتصادي والذي سينسحب على انخفاضه، ولايزال هناك الكثير من التعديلات الممكنة التي تضبط جانبي الإيرادات والنفقات في الموازنة العامة.
إضافة إلى ذلك هناك أرقام ضعيفة تدخل الموازنة العامة للدولة من مؤسسات هامة، فكما يوضح الشكل رقم (3) أن حصيلة الخزانة العامة من قناة السويس هي 36 مليار جنيه، أي حوالي 2.2 مليار دولار فأين تذهب باقي إيرادات القناة والبالغة ما يزيد عن 5 مليارات دولار عام 2018؟ كما بلغت إيرادات المناجم والمحاجر الداخلة إلى الموازنة العامة 1.6 مليار جنيه فقط، إضافة إلى الإيرادات المقدر دخولها من الصناديق الخاصة التي تبلغ 5.5 مليارات جنيه، وهي نسبة 25% المفروض على الصناديق توريدها، وبذلك فإن إجمالي إيرادات تلك الصناديق 22 مليار جنيه، وهو ما يفرض التساؤل أين تذهب بقية الحصيلة؟ وكيف تنفق ومن يراقب على الإنفاق؟ ولماذا تتعنت الدولة في زيادة النسبة المفروضة لصالح الموازنة في ظل ما تعانيه من فجوة تمويلية، وأعباء خدمة الدين؟
شكل (3) أهم بنود الإيرادات غير الضريبية بمشروع موازنة 2019/2020
الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-3

نتيجة لغياب الرؤية الاستراتيجية التي تهدف إلى تغيير هيكل الاقتصاد المصري، لا تزال الحكومة تعتمد على الاقتراض لتمويل الفجوة التمويلية للموازنة وهو ما سنستعرضه في الفقرة التالية.

عجز الموازنة

يرجع الاحتياج إلى توفير مصادر التمويل نظرا لزيادة النفقات بصورة أكبر من الإيرادات فيما يعرف بعجز الموازنة. تم تقدير العجز في موازنة 2019/2020 بـ 445 مليار جنيه بنسبة 8.4% من الناتج المحلي. لسد العجز تلجأ الحكومة إلى الاقتراض الداخلي والخارجي ومن ثم ترتفع نسبة أعباء الدين والتي بلغت 569 مليار جنيه (تمثل نسبتها 50% من إجمالي الإيرادات العامة بالموازنة) مما يجعل مشكلة العجز مزمنة في الحالة المصرية. كما أن نسبة فوائد الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بلغت نحو 9% هذا العام مقارنة بأقل من 4% منذ عشر سنوات، وهي أعلى نسبة بمراحل على مستوى الأسواق الناشئة والمتقدمة على حد سواء (شكل 4). أي أن الحكومة دائما ما تلجأ إلى الاقتراض من أجل سد الفجوة التمويلية وبالتالي ترتفع فاتورة الأقساط والفوائد في العام المالي التالي مما يدفعها إلى الاقتراض مره أخرى وهكذا. كما يعرض الشكل (5) تطور العجز في الموازنة منذ 2012 وحتى 2020 وعلى الرغم من أن المنحنى يأخذ شكل أخذ في الانخفاض إلا أن مشكلة التمويل عن طريق الاقتراض لا تزال هي السياسة المتبعة.
شكل (4) نسبة فوائد الديون إلى الناتج المحلي
الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-4

المصدر: Financial Times[14]
لا تتوقف مشكلة التمويل عن طريق الاقتراض على زيادة العجز فقط وإنما تؤثر أيضا على قضية الاستثمار الخاص. تقوم الحكومة بالاقتراض الداخلي عن طريق البنك المركزي الذي يقوم بطرح سندات وأذونات خزانة ذات عائد مرتفع من أجل ضمان بيع تلك السندات. تقوم البنوك المحلية بشراء تلك السندات مقابل العائد المالي الأعلى والأكثر ضمانا من تمويل المشروعات في القطاع الخاص والذي تتسم بارتفاع المخاطر إضافة إلى تقارب العائد المتوقع من السندات. وبالتالي ترتفع فاتورة الاقتراض الحكومي الداخلي من حيث التزامها بسداد الديون وأقساطها إضافة إلى تثبيط القطاع الخاص لإقامة مشاريع جديدة عن طريق الاقتراض من البنوك.
الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-5

كذلك تتزايد خطورة زيادة معدل الاقتراض في ظل غياب عوائد استثمارية حقيقية لما تم إنفاقه خلال السنوات الـ 5 الماضية مع عدم وجود رؤية واضحة لكيفية إعادة هيكلة الاقتصاد إضافة إلى ضعف الدولة في مراقبة الأجهزة التنفيذية والأمنية التي تمارس الوصاية على نفقات الدولة وواردتها في شكل وساطات مالية مع عدم وجود رقابة برلمانية وشعبية. تؤدي تلك العوامل مجتمعه إلى تفاقم مشكلة العجز وجعلها أكثر صعوبة لحلها مع مرور الوقت. ينقلنا ذلك للحديث عن ملف الديون في مصر
يتضح من العرض السابق أن فوائد القروض، والتي تشكل ما يقارب 50% من إجمالي الإيرادات الموازنة، وتقترب من نحو 40% من إجمالي النفقات، تبتلع أي إمكانية لزيادة الاستثمارات الحكومية في الصحة والتعليم والبنية الأساسية. كما أدى ذلك إلى عجز مزمن يصيب الموازنة المصرية بصورة مستمرة مما يدفع الحكومة إلى رفع الضرائب وخفض الدعم والاستدانة وطبع النقود من أجل سد العجز؛ الأمر الذي ينعكس بصورة مباشرة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تقوم فعليا بدفع ضريبة السياسات الاقتصادية الحالية دون أن تشعر بأي تحسن.

السياسة النقدية

تعني السياسة النقدية بقدرة البنك المركزي على ضبط معدلات الفائدة وعمليات طبع الأموال لتمويل العجز من أجل التحكم في معدلات التضخم بهدف الوصول إلى استقرار في أسعار البضائع والمنتجات. قام البنك المركزي في مصر باتباع عدد من السياسيات التي أسفرت عن التالي:
أولا: زيادة الاحتياطي النقدي: ساهمت السياسة النقدية التي تم تنفيذها خلال المرحلة الماضية، لأن يتجاوز رصيد الاحتياطي النقدي الأجنبي بالبنك المركزي الـ 44.274 مليار دولار مع نهاية شهر مايو 2019[15]، مقارنة بـ 44.218 مليار دولار في نهاية شهر أبريل 2019، بزيادة قدرها 57 مليون دولار، بما يغطي نحو 8 أشهر من الواردات السلعية لمصر التي تتكلف في حدود 55 مليار دولار.

ثانيا: انخفاض معدل التضخم والذي شهد ارتفاعات متتالية منذ تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016، وحتى شهر سبتمبر 2017، لقرابة عام تقريباً، حيث بلغ 31.7% في شهر فبراير 2017، ثم سجل 34.2% خلال شهر يوليو 2017، ثم بدأ بالتراجع فانخفض إلى 11.1% في ديسمبر 2018، مقابل 22.3% خلال الشهر المماثل من عام2017 [16]. كما سجل معدل التضخم السنوي لشهر مايو 2019 سجل 13.2% مقابل 11.5% خلال الشهر المماثل من عام 2018[17].
ثالثا: تدفق الاستثمارات في أموال الدين المحلية (الأموال الساخنة)
ساهم قرار البنك المركزي المصري، لتحرير سعر صرف العملة المحلية، في نوفمبر 2016، والذي نتج عنه فقدان الجنيه لنصف قيمته تقريباً، في إنعاش التدفقات الأجنبية على السندات وأذون الخزانة الحكومية. والتي بلغت ذروتها بنهاية مارس 2018 حيث قدرت بنحو 23.1 مليار دولار، ثم عادت للتراجع، لتسجل 17.5 مليار دولار نهاية يونيو 2018[18]، ثم عاودت استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية الارتفاع مرة أخرى حتى بلغت 16.8 مليار دولار ببداية مايو 2019[19].

أثرت تلك السياسيات سلبا على ملفين مهمين وهما الديون (المحلية والخارجية) والاستثمار. إضافة إلى ذلك فإن معدلات التضخم التي تتحدث عنها الحكومة لها قراءة أخرى سيتم مناقشتها في هذه الفقرة.

الدين المحلي

ارتفعت نسبة الدين الداخلي إلى 4.1 تريليونات جنيه في 2019 أي بنسبة 95% من الناتج المحلي الإجمالي[20]. كما يجب على الحكومة دفع فوائد الديون بصورة دورية والتي بلغ إجمالها 596 مليار جنيه في موازنة 2019/2020. إضافة إلى أقساط الدين التي يدفعها البنك المركزي والتي بلغت 375 مليار جنيه لنفس العام المالي.
تتمثل خطورة الدين المحلي في عدة نقاط:
  • أن الدول التي تعاني من ارتفاع في الدين المحلي يكون من الصعب عليها الدخول إلى أسواق المال العالمية على المستوى قصير الأجل وقد يتسبب ذلك في مشاكل حقيقية متعلقة باستدامة الدين على المستوى متوسط الأجل.
  • يؤدي تزايد الدين الداخلي إما إلى إعلان الدولة عدم قدرتها على السداد “default” أو التحول إلى اقتصاد تضخمي. يؤدي إعلان الدولة عدم قدرتها على السداد إلى أزمة اقتصادية حرجة كما حدث في اليونان ما قد يؤدي بالتبعية إلى إفلاس الدولة. على المقابل فإن التضخم قد يقلل من التكلفة الحقيقية للدين الداخلي حيث يمكن للدولة تسديد ديونها مع انخفاض القيمة الحقيقية للجنيه إلا أنه في المقابل يتوجب مع ذلك ارتفاع نسبة الفائدة في السندات وأذونات الخزانة المستقبلية التي سيتم طرحها من قبل الحكومة من أجل أن تجد رواجا وقبولا لدى الدائنين مما يعني ارتفاع خدمة الدين مجددا على المدى المتوسط وطويل الأجل.
  • ارتفاع الدين المحلي يرفع تكلفة الائتمان على القطاعات الإنتاجية في القطاع الخاص وبالتالي يؤدي إلى انخفاض معدلات الاستثمار الخاص.
  • التكلفة الأكبر للدين العام في مصر تتعلق بهيكل الإنفاق العام الذي يذهب لتمويله، حيث شكل إجمالي الفوائد والأقساط الذي يبلغ 971 مليار بدون أية مصاريف عامة أخرى نسبة 86% من إيرادات الدولة المتوقعة (حوالي ترليون و134 مليار جنيه) في موازنة 2019/ 2020. يعني ذلك أن الحكومة تستخدم المدخرات لتمويل نفقاتها الجارية بدلا من تمويل الاستثمار، وبالتالي فإن هذه المصروفات لا تحقق عائدا، ولا تسهم في زيادة قدرة الاقتصاد المستقبلية على الإنتاج أو على خلق فرص عمل بل وتزاحم القطاعات الإنتاجية الراغبة في الاستثمار برفع أسعار الفائدة وبتوفير فرص إقراض أقل مخاطرة للجهاز المصرفي.
  • ارتفاع الدين المحلي قد يؤدي إلى حالة ما يعرف بتراكم الديون “debt overhang” وهو تراكم حجم الدين المحلي بدرجة يصعب على الدولة بعدها الاستدانة حتى وان كانت الاستدانة ستوجه إلى مشاريع استثمارية حقيقية.

الدين الخارجي

كشف البنك المركزي عن ارتفاع الدين الخارجي ليبلغ 106.2 مليارات دولار بنهاية مارس 2019[21]. بارتفاع نحو 10 مليارات دولار من ديسمبر الماضي والذي بلغ آنذاك 96.612 مليار دولار بزيادة نسبتها 9.9%. يمثل شكل (6) ارتفاع قيمة الدين الخارجي المستمر منذ 2014 لمستويات غير مسبوقة. جدير بالذكر أن مقدار الاستدانة الحاصل منذ الانقلاب العسكري على مدار 5 سنوات فقط والبالغ نحو 60 مليار دولار فاق مقدار الاستدانة التي قامت بها الحكومات المصرية المتعاقبة على مدار ثلاثة عقود.
وعلى الرغم من اختلاف الجدل حول الحد الآمن للاستدانة من الخارج، حيث اعتبر البعض أن الدين الخارجي إذا تجاوز نسبة الـ 60% من الناتج المحلي فإن ذلك يعد خطرا على الاقتصاد. بلغت نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي في مصر نحو 37%. في المقابل ذهب البعض إلى أن العبرة دائما بما يعرف باستدامة الدين وقدرة الدولة على سداد الأقساط والفوائد دون الاحتياج إلى إعادة هيكلة للدين. وبعيدا عن وجهات النظر تلك إلا أن المهم في النقاش هو مدى استفادة الدولة من الاستدانة فيما يخدم عملية التنمية وهو الأمر البعيد عن الحالة المصرية.
الاقتصاد المصري بعد 2013 قراءة تحليلية-6

المصدر: البنك المركزي.
فعلى الرغم من أن الاستدانة تمت تحت شعار تمويل التنمية، ولكنها انفقت على مشروعات لا تفيد العملية التنموية، وأغلبها لأهداف سياسية غابت عنها الجدوى الاقتصادية، أو لصالح جهات سيادية. حيث تدفقت على مصر في السنوات الست الأخيرة ودائع أجنبية بقيمة 18 مليار دولار، وما يقترب من 50 مليار دولار قروضا أجنبية، فضلا عن المساعدات الخليجية النقدية والبترولية الضخمة، وهو ما كان كفيلاً بإحداث نهضة تنموية حقيقية، ولكن للأسف انفقت القروض والمساعدات ولم يتبقَ إلا السداد.
إن حل الاستدانة ليس بجديد على النظام المصري لكن بينما كانت الحكومة في السابق تهتم بالاقتراض من الداخل وبالعملة المحلية وهي إحدى الوسائل قليلة المخاطر في الاقتراض، فإنها مؤخرا بدأت بالتوسع في الاقتراض من الخارج وبالعملة الأجنبية، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسبة الدين الخارجي بالنسبة إلى إجمالي الدين العام، هذا التوجه الجديد يجعل أعباء هذه الديون الخارجية عرضه لأي تغيير سلبي في أسعار العملة المصرية، كما يهدد قدرة مصر على تحمل عبء الديون كما ذكرت وكالة موديز في بيانها الأخير[22]، حيث استعرض البيان الوضع الائتماني لمصر والذي انتهت إلى أنه يعكس موقفا ماليا ضعيفا للحكومة مع توقعات ببلوغ الدين الخارجي 115.7 مليار دولار بنهاية 2020، وهو الأمر الذي تعاني منه دول نامية مثل تركيا والأرجنتين على سبيل المثال وقد يسبب خطورة مستقبلا. الأمر الأخطر، أن أغلب هذه الديون لا تذهب من أجل الاستثمار الحكومي أو مشروعات تنموية بل تذهب بالأساس إلى تسديد العجز في الموازنة خاصة على بنود الأجور والمرتبات، مما يعني أن هذه الديون لا تساهم في عملية التنمية أو زيادة معدلات النمو، وهو الوضع الذي يضعف من القدرة المستقبلية لمصر مستقبلا على تسديد هذه الديون. وفي نفس الوقت، فإن هذه الزيادة في الديون تحدث في الوقت التي تقوم به الحكومة بسياسات مالية تقشفية، الأمر الذي من المفترض أن يؤدي إلى تقليل الإنفاق الحكومي وتقليل العجز في الموازنة، وبالتالي تقليل معدل الديون، لكن ما يحدث هو عكس ذلك، فبينما تقوم الحكومة بسياسيات مالية تقشفية فإن معدل الاستدانة يتصاعد.
عودة
أعلى