الفلسفة والتسامح في عالم مضطرب
فهد بن سليمان الشقيران
في فضاء زمني متقارب مرّ علينا يومان عالميان لـ«الفلسفة»، و«التسامح». وهما حدثان لهما ارتباط وثيق بالأسئلة الحيوية التي تعصف بالعالم اليوم.
في السعودية تصدرت أخبار فلسفية؛ تأسيس «الجمعية الفلسفية»، والتأكيد على إقرار تدريس الطلبة للفلسفة ومهارات التفكير. وزير التعليم السعودي حمد آل الشيخ ربط بين الدور الفلسفي وتحقيق قيم التسامح والحوار.
أما في الإمارات، وبعد إقرار تدريس الفلسفة بالثانويات، أعلن عن تأسيس جامعة الشيخ محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، والتي تتضمن بالطبع قسماً خاصاً بالفلسفة، وحول التسامح لدى الإمارات مبادرات كبرى منذ سنوات لغرض تحقيقه ونبذ التعصب، وسنت مبكراً قوانين لتجريم الكراهية.
ومجال الفلسفة بما يتضمنه من مفاهيم ونظريات ومناهج يؤسس لمستوى من الاحتمال والنقاش لما نعتبره حقائق ومطلقات، هنا عنصر غنى للتسامح. الأستاذ تركي الدخيل في كتابه المهم «التسامح - زينة الدنيا والدين» يقول: «الحديث عن التسامح بوصفه العفو صار ماضياً لدى الحضارات الغربية (زمن فولتير ولوك) بسبب تقنين التسامح.. لهذا اعترض الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا على المعنى السطحي التاريخي للتسامح، حتى شكل الدولة الحديث أخذ فضاءاته نحو التسامح، بحيث بات من وظيفة الدولة رعاية الفضاء العمومي الذي يتحرك التسامح داخله». ثم ينقل الدخيل عن دريدا قوله: «ما أحلم به وأحاول التفكير فيه كنقاء صفحٍ جدير بهذا الاسم هو صفح بلا سلطة، لا مشروط، ولكنه بلا سيادة، تبقى المهمة الأكثر صعوبةً إذن، الضرورية والمستحيلة فيما يبدو لي، هي فك الارتباط بين اللامشروطية والسيادة، فهل سننجز ذلك في يوم من الأيام؟! الظاهر أن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت».
والتسامح يحتاج إلى المدد الفلسفي المستمر، وخاصة ضمن مفهوم الدين في عالمنا (جاك دريدا) أو الدين في المجال العام (هابرماس) أو مفهوم الآخر (ليفيناس، بول ريكور) وسواهما.
وأُذكّر هنا بملمح ارتباطٍ بين الفلسفة والتسامح في تراثنا، رسمه محمد عابد الجابري في كتابه «قضايا في الفكر المعاصر» وخلاصة شرحه أن الفلسفة بما أنها منهاج للبحث في الحقيقة وعن الحقيقة، وبما أن التسامح هو تفهم لآراء الغير، فـ«إذا نحن نظرنا إلى العلاقة بين الفلسفة والتسامح فقط من خلال هذين التعريفين فإننا سنحكم بسهولة ويسر بأن الفلسفة هي أكثر المجالات استعداداً لقبول التسامح والعمل به».
ثم يستطرد الجابري قائلاً: «إن تاريخ الفلسفة يدلنا على أن التسامح كان دائماً مقوماً أساسياً من مقومات التفلسف، أعني البحث عن الحقيقة، حتى إذا ترك الشك المنهجي مكانه لليقين المذهبي وحل تعميم الأفكار محل تحليلها، ونقدها، انقلبت الفلسفة إلى آيديولوجيا، أي تقريراً للحقيقة التي تقدم نفسها كاملة واحدة لا حقيقة بعدها، وزال التسامح وحل محله اللاتسامح، أعني اللجوء إلى القوة والعنف فكراً وسلوكاً. والسؤال الآن؛
متى ولماذا تتحول الفلسفة إلى آيديولوجيا، من مجال حيوي للتسامح إلى مجال يغلق الباب بقوة في وجه التسامح؟ تتحول الفلسفة في نظرنا إلى آيديولوجيا كلما تخلت عن مهمتها النقدية، واستسلمت للأمر الواقع تعكسه بوصفه الحقيقة، أو انساقت مع إغراء أمر واقع آخر يشيده الخيال - والخيال الفلسفي نفسه - مثالاً ونموذجاً وبديلاً عن الوضع السائد. هنا يسود منطق صراع المصالح على منطق البحث عن الحقيقة، فتحل مقولة الصراع محل مقولة التسامح».
والفلسفة والتسامح لا يمكن الاكتفاء بتعليمهما بالمعنى التقني. صحيح أن فضاءات التدريس ضرورية للتغذية العقلية والتماس الشخصي مع الموضوع والالتقاء بأسئلته، غير أن الأهم والأعم من التعاطي التقني مع هذين المجالين ما يمكن وصفه بالتداول الفكري لهذا الموضوع أو ذاك. الفلسفة لا يمكن تعليمها وإنما هي مجال رحب، الأساس بالفلسفة تربية الأسئلة ومن ثم لاحقاً صداقة المفاهيم (عبارة جيل دلوز) وبعد ذلك كل فيلسوف يضع رؤيته الخاصة حول الأسئلة التي يواجهها. والفلسفة بحر لا ساحل له، مَوجُه يضرب بعضه ببعض، وكل فلسفة تنتقد أختها أو تلتقي معها أو تحاججها أو تلعنها.
المهم لنا نحن في مجتمعاتنا الحديثة والناشئة وبطاقة القوى الشابة التركيز على النصوص الفلسفية والتمرن على مناقشتها. يمكن اعتبار تعليم الفلسفة تمريناً حيوياً مفيداً بشرط اقترانه بحرية التعليم من حيث طرح الأسئلة، وإتاحة المجال للطالب بأن يعبر عن رأيه بكامل الحرية.
والفلسفة تمد قارئها بترسانة من المفاهيم القوية، والمحاججات المتكافئة أحياناً، والمقولات اللامعة، والمناهج البديعة، ولذلك فإن إدمان النظر بالمتون الأساسية للفلسفة، والتحاور الدائم مع الفلاسفة وأفكارهم ومقولاتهم، يجعل هذا المجال مفيداً ليس لمجرد التنظير والكتابة، وإنما يفيد ويثمر في تقوية علاقة الفرد بأشيائه وعالمه ومجاله العام. وكما أن تعلم الرياضات لا يعني تخريج 30 مليون رياضي، فإن تعليم الفلسفة كذلك ليس الهدف منه تخريج ملايين المتخصصين بمتونها ومقولاتها، بل تدريب الإنسان على خلق فضاء مختلف مع حقائقه وأسئلته، تقوي لديه معنى التفكير، والمناقشة والاعتراض، وتجعل ما يستقر عليه من أفكار لاحقاً إنما اقتنع بها بفكره، ولم يُحش بها رغم أنفه.
والفلسفة تمد قارئها بترسانة من المفاهيم القوية، والمحاججات المتكافئة أحياناً، والمقولات اللامعة، والمناهج البديعة، ولذلك فإن إدمان النظر بالمتون الأساسية للفلسفة، والتحاور الدائم مع الفلاسفة وأفكارهم ومقولاتهم، يجعل هذا المجال مفيداً ليس لمجرد التنظير والكتابة، وإنما يفيد ويثمر في تقوية علاقة الفرد بأشيائه وعالمه ومجاله العام. وكما أن تعلم الرياضات لا يعني تخريج 30 مليون رياضي، فإن تعليم الفلسفة كذلك ليس الهدف منه تخريج ملايين المتخصصين بمتونها ومقولاتها، بل تدريب الإنسان على خلق فضاء مختلف مع حقائقه وأسئلته، تقوي لديه معنى التفكير، والمناقشة والاعتراض، وتجعل ما يستقر عليه من أفكار لاحقاً إنما اقتنع بها بفكره، ولم يُحش بها رغم أنفه.
بالفلسفة يمكن صقل التسامح، فهي المحتوى النظري الذي لا يستغني عنه أي منظّر حقيقي حول التسامح ومعانيه وتطبيقاته. والتطور المدهش لدى المؤسسات في السعودية والإمارات للعناية بهذين المجالين يجعل فرص التغلب على الأفكار المتوحشة، ومشاعر الكراهية الموبوءة أكبر، وهذا كله مرهون بمدى نجاح وسائل هذا التوجه بغية تخفيف العنف والكراهية في هذا العالم. يقول الفيلسوف إدغار موران: «الصفح مقاومة لبشاعة العالم.