رقمنة القوات البرية
1 مايو 2024
دائماً ما كانت الجيوش في طليعة من يستخدم ويبتكر التكنولوجيا وخصوصاً الرقمية منها، ولهذا عادة ما تخصص ميزانيات كبيرة للإنفاق على البحث والتطوير في هذا المجال. ليس من المستغرب إذاً تكاثر الاختراعات الرقمية الرائدة داخل القطاع العسكري قبل وصولها للمجتمع المدني. والقائمة التي تدل على ذلك طويلة: الإنترنت، والواي فاي (WiFi)، ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS).
قد يعتقد البعض بأن الرقمنة المتزايدة للجيوش قد تؤثر بالسلب على الدور التقليدي للقوات البرية وهو الحسم في ربح المعارك. ولكن رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال راي أوديرنو، في كلمة ألقاها أمام المؤتمر السنوي لرابطة الجيش الأمريكي وهي جماعة دعم عسكرية نهاية أكتوبر من العام الماضي 2023، قال: «حتى مع استخدام الطائرات بلا طيار، والقنابل الذكية، تظل الحروب صداماً بين إرادات البشر، تتطلب في نهاية الأمر اللجوء إلى استخدام القوات البرية على أرض المعارك.. فالتكنولوجيا لن تحل المشكلة وحدها.. هناك رأي يقول إنه إذا وقفنا على بعد، واستخدمنا صواريخ شديدة الدقة، سيؤدي هذا إلى استسلام العدو… وفي رأيي هذا افتراض خاطئ».
في هذا السياق، لا غرابة إذاً في لجوء الجيوش لرقمنة قطاعاتها التقليدية، وعلى رأسها قطاع القوات البرية، وذلك بهدف:
ضمان التفوق العملياتي والسيطرة على المعلومات في مسارح العمليات.
تعزيز كفاءة الدعم وتسهيل الحياة اليومية للموظفين.
تحسين العلاقة مع المتعاملين معه وجاذبية القطاع.
تطوير نظام بيئي للابتكار بالإضافة إلى استخدام التقنيات الناشئة لصالح أنظمة الوزارة وتطبيقاتها.
التحول إلى لاعب رقمي رائد.
ومن جانبه، مثله مثل بقية أفرع الجيوش، لا يتوقف قطاع القوات البرية عن مسيرة تحوله الرقمي، بهدف تحسين عملياته، باستثمار الفرص التي تتيحها له الرقمنة، وتقديم أحدث الخدمات الرقمية لجميع موظفيه.
تهدف هذه الدراسة لعرض وتحليل أهم أدوات جديد رقمنة قطاع القوات البرية.
أولاً: تزايد استخدام البلوكشين Blockchain
أطلقت العديد من الجيوش مشاريع مبتكرة تدمج التقنيات الرقمية المتطورة مثل blockchain، فالجيش الصيني استخدم تقنية «بلوك تشين» لتحسين العمليات داخل كافة أفرعه، بما فيها القوات البرية. فمن خلال تلك التقنيات يمكن عمل ملفات لتخزين بيانات الأفراد العسكريين، مثل المعلومات الأساسية، والتوقعات المهنية المستقبلية الخاصة بهم، والدورات التدريبية التي توجب عليه تخطيها، مما يجعل من تقييم وترقية الجنود بناءً على أدائهم أمراً أكثر يسراً. ومن أهم ما تمتاز به تقنية Blockchain قدراتها الهائلة في المجالات التالية:
1. معالجة الثغرات المعلوماتية: نظراً لأن تقنية «بلوك تشين» هي تقنية لتخزين ونقل المعلومات، ونظراً لأن القوات البرية مثلها مثل بقية أفرع الجيش تنتج وتنقل وتعتمد على كمية هائلة من البيانات، فإن من الجلي فهم الفائدة التي يمكن أن تجنيها من اللجوء لتلك التقنية، مثل معالجة الثغرات المعلوماتية بتقنيات «بلوك تشين»، والتي تتميز بالأمان بسجل موزع للبيانات بدلاً من استخدام خادم مركزي أكثر عرضة للهجمات، كما تتميز أيضاً بالثبات للحفاظ على سلامة المعلومات على جميع المستويات وحماية البيانات شديدة السرية.
2. ترشيد التواصل بين المؤسسات والحفاظ على سيولة المعلومات: من جانب آخر، من المتعارف عليه أن تعقيد مشاركة المعلومات في الجيوش أمر بالغ الصعوبة، والتعقيد في مثل هذه المؤسسات المتعددة والمترامية الأطراف. فبشكل عام ينظم تشارك المعلومات حول عدة قيادات وخصوصاً رؤساء أركان الجيوش (القوات البرية والجوية، البحرية… إلخ) ومديري إدارات الجيش الأخرى والإدارة ذات الصلة بالدولة والقيادة السياسية. والتنسيق بين كل تلك الأطراف ليس بالأمر السهل، فكل من هذه الكيانات يتميز بثقافة داخلية متفردة سائدة، وتعمل وفق منطق معين، مما يجعل من «بلوك تشين» الحل المثالي لترشيد التواصل بينها والحفاظ على سيولة المعلومات وحمياتها من الاختراق.
3. حماية الاتصالات والمعلومات من الاختراق: من جانب آخر، أصبحت تقنية «بلوك تشين» الركن الأساسي لأمن أنظمة الاتصالات والمعلومات (CIS) المستخدمة في الكثير من الجيوش البرية لضمان سرية وأمن المعلومات والمصادقة على البيانات وتكاملها ومرونة الحصول عليها واستخدامها الاستخدام الأمثل، خصوصاً تلك المعلومات المتعلقة بيانات الخطط التشغيلية، وقواعد الاشتباك، وخطط الإمداد، وما إلى ذلك.
ولا تكف وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية DARPA عن تطوير منصات مراسلة آمنة بتقنيات «بلوك تشين» تتمتع رسائلها المشفرة بتقنيات يتعذر تمام التعرف على بياناتها الوصفية، ومعايير السرية فيها فائقة، كما أنها تتميز باستحالة التعرف على المرسل والمتلقي من قبل طرف ثالث.
4. تغيير وجه سلاسل التوريد والتسليح: يؤكد خبراء الدفاع أن تقنية «بلوك تشين» لديها القدرة على دفع عجلة النمو والكفاءة في كافة أفرع الجيوش، خصوصاً المؤسسات المسؤولة عن سلاسل التوريد والتسليح التي تشمل أطرافاً متعددة خصوصاً في القوات البرية، نظراً للخصائص التي تتميز بها تلك التقنيات، وعلى رأسها:
استحالة تغيير البيانات دون علم جميع الأشخاص المعنيين.
إمكانية تتبع جميع المعاملات.
عدم إمكانية التحكم في العمليات من أحد أطراف سلسلة التوريد دون الطرف الآخر.
تنسيق تفاعل المشاركين من الخارج ومن الداخل في سلسلة التوريد وتسليح القوات البرية والجيوش عموماً.
توفير سجل آمن يمكن التحقق منه، ويكون قابلاً للتتبع، وقابلاً للمشاركة بين الفاعلين.
توفير طريقة لرؤية كل جزء من سلسلة التوريد والتسليح في الوقت الفعلي له.
تحديد مشكلات التوريد ومعالجتها فورياً قبل أن تصبح منتشرة على نطاق واسع.
إضفاء اللامركزية على الإنتاج العسكري مع الحفاظ على سلامة وسرية البيانات.
السماح بمراقبة القوة العاملة أثناء التشغيل.
السماح ومراقبة آنية لكامل عمليات الإمدادات اللوجيستي.
ومن أحدث الأمثلة على تطبيقات blockchain في قطاع القوات البرية مشروع FIBR²EO للطباعة ثلاثية الأبعاد، للحفاظ على حالة تشغيل مواد القوات البرية (SIMMT) والقطاع الرقمي وتنسيق الابتكار (PNI) التابعين للجيش الفرنسي.
يهدف هذا المشروع إلى إتاحة إمكانيات الطباعة ثلاثية الأبعاد لسلسلة الصيانة والإنتاج المتعلق بقطع الغيار للمعدات الأرضية لصالح قطاع القوات البرية الفرنسية على التراب الوطني الفرنسي أو في مسرح العمليات الخارجية. وتتم مراقبة المطبوعات التي يتم إجراؤها عبر هذه الطابعات ثلاثية الأبعاد عبر نظام معلومات يعتمد أيضاً على تقنية blockchain والتي تتميز بـ:
1. إمكانية التتبع: تتبع كل استخدام لنموذج ثلاثي الأبعاد لإنتاج الطباعة.
2. النزاهة: التحقق من أن كل نموذج ثلاثي الأبعاد مطبوع يتوافق مع الملف الأصلي.
3. الثبات: الملفات المخزنة غير قابلة للتغيير.
4. الشفافية: إمكانية قيام كل جهة فاعلة بعرض جميع العمليات التي يتم تنفيذها.
ثانياً: تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي التفاعلي
في عام 2015 قامت شركة سامسونغ بتطوير روبوت نصف آلي ويتم التحكم فيه عن بعد، ليبدأ العمل على الحدود بين الكوريتين الشمالية والجنوبية. ويقوم الروبوت الذي سُمِّي «إس جي آر-آي1» بدوريات حدودية بين الكوريتين، ويمكنه التعرف على الهدف على بعد ميلين، وحين يلاحظ وجود شخص ما يطالبه أوتوماتيكياً برفع يديه، وتمت برمجته لإطلاق النار بعد ثلاثين ثانية من رصد نشاط المتسللين على الحدود.
وفي السنوات الأخيرة الماضية تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي التفاعلي في صناعة الروبوت العسكري. فعلى سبيل المثال، أثبتت مجموعة من التجارب المشتركة بين وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة U.S. Défense Advanced Research Projects Agency (DARPA) والجامعات الأمريكية قدرة الذكاء الاصطناعي التفاعلي على تعليم الروبوتات كيفية التفاعل والتكيف مع الظروف المتغيرة ذاتياً وآنياً، وسواء كانت المتغيرات متعلقة بالتضاريس، أو بالأحمال والأوزان المختلفة، أو بالإمساك بأشياء ذات الأشكال والأبعاد المتباينة، أثبتت الخوارزميات سرعتها في الاستجابة للمتغيرات كما أثبتت قدرتها على الاستمرار في التعلم الذاتي.
ولقد أثمر استخدام الذكاء الاصطناعي التفاعلي في صناعة الروبوت العسكري في فرنسا عن منتجات متميزة مثل:
- الروبوت القاطر PROBOT مع سلة يمكن استخدامها لقطر المصابين أو لنقل المواد والأسلحة. ويمكن تشغيل هذا الروبوت عن بُعد داخل وخارج مدى النظر، ويتمتع بقدرة تحميل تصل إلى 750 كجم.
- الروبوت المسلح PROBOT المدمج به برج FN Herstal مقاس 12.7 ملم الذي يتم تشغيله عن بعد. ويشكل الربوت ابتكاراً مهماً بفضل زيادة قدرة إطلاق النار ومداها، وللحماية الكاملة لمشغليها لاستحالة رؤيتهم من المستهدف.
- الروبوت NERVA المزود بكاميرا. ويتمتع بخفة الحركة والقدرة على التكيف والتخفي مما يسمح له بإنجاز مهام الاستطلاع والمراقبة والتشويش بكل يسر ونجاعة.
ثالثاً: تزايد الاعتماد على التطبيقات الخدمية الرقمية لمنتسبي قطاع القوات البرية
طور المكتب الرقمي (BNUM) التابع لمركز التنسيق الرقمي والابتكار (PNI) التابع للجيش الفرنسي متجر تطبيقات على الإنترنت تحت مسمى Milistore.
يجمع الروابط والتطبيقات الخاصة التي طورتها وزارة القوات المسلحة للعسكريين مثل خدمات التأمين وتطبيقات للاحتياجات اليومية لأعضائها. كما أنه يوفر حلاً أمنياً للمستخدم ويحذره من التهديدات الموجودة على هواتفه المحمولة. كما يسمح التطبيق بتوفير حقيقي للوقت والاستقلالية حتى في ميدان المعارك.
ومن أهم ما يمتاز به التطبيق أيضاً:
- حماية الهاتف من المخاطر المرتبطة بالتطبيقات أو الشبكات التي يستخدمها الجندي.
- الوصول إلى المعلومات حول الحياة في الوحدة العسكرية وأخبار الجيش.
- الوصول إلى خدمات الجيش في إجراءاته اليومية وخدماته المهنية.
رابعاً: تزايد تأسيس التشكيلات العسكرية المتخصصة في الرقمنة بالقوات البرية
على سبيل المثال، في عام 2024، قامت القوات البرية الفرنسية بتأسيس:
1. قيادة الدعم الرقمي والسيبراني للقوات البرية (CATNC): وهي القيادة المنوط بها الحفاظ على تماسك القوات البرية رقميا وسيبرانياً ومسؤولة عن الأداء العام والتوظيف والتطورات في مجالات الدعم الرقمي والسيبراني في مجال حرب الكمبيوتر الدفاعية.
وتم إنشاء CATNC في 1 يناير 2024 كجزء من تحول الجيش الفرنسي الرقمي، وهي تجسد التحول نحو «جيش قتالي» في المجالات الرقمية والسيبرانية وتساهم في تعزيز القدرة على العمل في عمليات متعددة المجالات.
وهي في وضع دائم لدعم العمليات في مجال التكنولوجيا الرقمية والمراقبة السيبرانية، وتدعم النشر التشغيلي للموارد البشرية والمادية لإجراء الإعداد التشغيلي للوحدات التابعة لها ومقر العمليات. كما أنه يساهم في سياسة الأمن الرقمي للجيش وتطوير العقيدة السيبرانية.
2. لواء الدعم الرقمي والسيبراني (BANC): والذي تم تأسيسه في 6 فبراير 2024، وتم إنشاء لواء الدعم الرقمي والسيبراني (ETNC)، استجابةً لـساحة المعركة الرقمية سريعة التطور. وتكمن مهمة لواء الدعم الرقمي والسيبراني في العمل في مناطق الصراع الجديدة مثل الفضاء السيبراني، أو البيئة الكهرومغناطيسية والمعلوماتية لترسيخ قدرة سيبرانية قوية ومنظمة ومرئية ومتكاملة لتأكيد الميزة التشغيلية والأفضلية للقوات البرية، وذلك من خلال رقمنة جميع المنصات القتالية، والجمع بين الإجراءات الحركية العملياتية والسيبرانية، وإنتاج سحابة قتالية حقيقية، بالإضافة إلى المعالجة المستقبلية للبيانات الضخمة وضمان القتال التعاوني.
كما كانت قد أسست القوات البرية الفرنسية MCO-Terre Lab عام 2019 وهو برنامج مخصص للابتكار في مجال صيانة المعدات الأرضية والحفاظ عليها في حالة تشغيلية من خلال رقمنة الصيانة وابتكار تطبيقات صيانة تنبئية.
الخاتمة
التحول الرقمي للقوات البرية يقوم على عدة عناصر، ستسمح لذلك القطاع بالمضي قدماً في تطوير المجالات التالية: تفسير البيانات (علم البيانات)، وتأمين البيانات (سلسلة الكتل)، وتوقع حالات الصراع (الذكاء الاصطناعي)، وأتمتة الإجراءات الحاسمة (الروبوتات المقاتلة)، إتاحة معلومات دعم القرار في جميع الأوقات وفي أي مكان (السحابة/5G )، وكل ذلك بهدف واحد: الحفاظ على التفوق التشغيلي. الشكل التوضيحي التالي يلقي الضوء على مجالات عمل التقنيات الرقمية التي ستشهد المزيد من الابتكار في قطاع القوات البرية في السنوات القليلة الماضية.
وبالرغم من كل هذا التقدم، يبدو أن رقمنة قطاع القوات البرية ليس بالأمر اليسير، فلقد تلقي الجيش الألماني صدمة جديدة تلقاها في سبتمبر من العام الماضي، بعد إخفاق تطوير مركبات القوات البرية، وتزويدها بأجهزة اتصالات رقمية بسبب مشاكل خاصة بتثبيتها على المركبات، ويعتقد الخبراء أن هذا الأمر قد يستغرق سنوات لحله، ما يعنى فشل الجيش الألماني في رقمنة القوات البرية رغم إنفاق المليارات في مشروع مهم ممول من الصندوق الخاص للجيش الألماني كان مخصصاً لتجهيز 34000 مركبة بأجهزة اتصالات رقمية تم تسلمها من الشركة المصنعة منذ يناير 2023، ولكن لا يمكن تثبيت بأجهزة الاتصالات الرقمية.
كما يبدو أن بعض التوقعات قد تكون مبالغاً فيها، فمنذ عشر سنوات تقريباً نقلت مجلة كمبيوتر ورلد عن سكوت هارتلي مهندس الأبحاث الأمريكي أنه «بعد عشرة سنوات من الآن، سيكون هناك على الأرجح عشرة روبوتات مقابل كل جندي في الجيش الأمريكي، وسوف يكون كل جندي محاطاً بعدد يتراوح ما بين واحد إلى خمسة روبوتات لحمايته والبحث عن الأعداء وإجراء عمليات مسح بحثاً عن الألغام الأرضية»، وذلك في سياق ذكر المجلة أن الجيش ومشاة البحرية الأمريكية اختبرا بالفعل روبوتات ذاتية الحركة في ميادين القتال.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح
)خبير بمركز تريندز للبحوث والاستشارات(
1 مايو 2024
دائماً ما كانت الجيوش في طليعة من يستخدم ويبتكر التكنولوجيا وخصوصاً الرقمية منها، ولهذا عادة ما تخصص ميزانيات كبيرة للإنفاق على البحث والتطوير في هذا المجال. ليس من المستغرب إذاً تكاثر الاختراعات الرقمية الرائدة داخل القطاع العسكري قبل وصولها للمجتمع المدني. والقائمة التي تدل على ذلك طويلة: الإنترنت، والواي فاي (WiFi)، ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS).
قد يعتقد البعض بأن الرقمنة المتزايدة للجيوش قد تؤثر بالسلب على الدور التقليدي للقوات البرية وهو الحسم في ربح المعارك. ولكن رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال راي أوديرنو، في كلمة ألقاها أمام المؤتمر السنوي لرابطة الجيش الأمريكي وهي جماعة دعم عسكرية نهاية أكتوبر من العام الماضي 2023، قال: «حتى مع استخدام الطائرات بلا طيار، والقنابل الذكية، تظل الحروب صداماً بين إرادات البشر، تتطلب في نهاية الأمر اللجوء إلى استخدام القوات البرية على أرض المعارك.. فالتكنولوجيا لن تحل المشكلة وحدها.. هناك رأي يقول إنه إذا وقفنا على بعد، واستخدمنا صواريخ شديدة الدقة، سيؤدي هذا إلى استسلام العدو… وفي رأيي هذا افتراض خاطئ».
في هذا السياق، لا غرابة إذاً في لجوء الجيوش لرقمنة قطاعاتها التقليدية، وعلى رأسها قطاع القوات البرية، وذلك بهدف:
ضمان التفوق العملياتي والسيطرة على المعلومات في مسارح العمليات.
تعزيز كفاءة الدعم وتسهيل الحياة اليومية للموظفين.
تحسين العلاقة مع المتعاملين معه وجاذبية القطاع.
تطوير نظام بيئي للابتكار بالإضافة إلى استخدام التقنيات الناشئة لصالح أنظمة الوزارة وتطبيقاتها.
التحول إلى لاعب رقمي رائد.
ومن جانبه، مثله مثل بقية أفرع الجيوش، لا يتوقف قطاع القوات البرية عن مسيرة تحوله الرقمي، بهدف تحسين عملياته، باستثمار الفرص التي تتيحها له الرقمنة، وتقديم أحدث الخدمات الرقمية لجميع موظفيه.
تهدف هذه الدراسة لعرض وتحليل أهم أدوات جديد رقمنة قطاع القوات البرية.
أولاً: تزايد استخدام البلوكشين Blockchain
أطلقت العديد من الجيوش مشاريع مبتكرة تدمج التقنيات الرقمية المتطورة مثل blockchain، فالجيش الصيني استخدم تقنية «بلوك تشين» لتحسين العمليات داخل كافة أفرعه، بما فيها القوات البرية. فمن خلال تلك التقنيات يمكن عمل ملفات لتخزين بيانات الأفراد العسكريين، مثل المعلومات الأساسية، والتوقعات المهنية المستقبلية الخاصة بهم، والدورات التدريبية التي توجب عليه تخطيها، مما يجعل من تقييم وترقية الجنود بناءً على أدائهم أمراً أكثر يسراً. ومن أهم ما تمتاز به تقنية Blockchain قدراتها الهائلة في المجالات التالية:
1. معالجة الثغرات المعلوماتية: نظراً لأن تقنية «بلوك تشين» هي تقنية لتخزين ونقل المعلومات، ونظراً لأن القوات البرية مثلها مثل بقية أفرع الجيش تنتج وتنقل وتعتمد على كمية هائلة من البيانات، فإن من الجلي فهم الفائدة التي يمكن أن تجنيها من اللجوء لتلك التقنية، مثل معالجة الثغرات المعلوماتية بتقنيات «بلوك تشين»، والتي تتميز بالأمان بسجل موزع للبيانات بدلاً من استخدام خادم مركزي أكثر عرضة للهجمات، كما تتميز أيضاً بالثبات للحفاظ على سلامة المعلومات على جميع المستويات وحماية البيانات شديدة السرية.
2. ترشيد التواصل بين المؤسسات والحفاظ على سيولة المعلومات: من جانب آخر، من المتعارف عليه أن تعقيد مشاركة المعلومات في الجيوش أمر بالغ الصعوبة، والتعقيد في مثل هذه المؤسسات المتعددة والمترامية الأطراف. فبشكل عام ينظم تشارك المعلومات حول عدة قيادات وخصوصاً رؤساء أركان الجيوش (القوات البرية والجوية، البحرية… إلخ) ومديري إدارات الجيش الأخرى والإدارة ذات الصلة بالدولة والقيادة السياسية. والتنسيق بين كل تلك الأطراف ليس بالأمر السهل، فكل من هذه الكيانات يتميز بثقافة داخلية متفردة سائدة، وتعمل وفق منطق معين، مما يجعل من «بلوك تشين» الحل المثالي لترشيد التواصل بينها والحفاظ على سيولة المعلومات وحمياتها من الاختراق.
3. حماية الاتصالات والمعلومات من الاختراق: من جانب آخر، أصبحت تقنية «بلوك تشين» الركن الأساسي لأمن أنظمة الاتصالات والمعلومات (CIS) المستخدمة في الكثير من الجيوش البرية لضمان سرية وأمن المعلومات والمصادقة على البيانات وتكاملها ومرونة الحصول عليها واستخدامها الاستخدام الأمثل، خصوصاً تلك المعلومات المتعلقة بيانات الخطط التشغيلية، وقواعد الاشتباك، وخطط الإمداد، وما إلى ذلك.
ولا تكف وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية DARPA عن تطوير منصات مراسلة آمنة بتقنيات «بلوك تشين» تتمتع رسائلها المشفرة بتقنيات يتعذر تمام التعرف على بياناتها الوصفية، ومعايير السرية فيها فائقة، كما أنها تتميز باستحالة التعرف على المرسل والمتلقي من قبل طرف ثالث.
4. تغيير وجه سلاسل التوريد والتسليح: يؤكد خبراء الدفاع أن تقنية «بلوك تشين» لديها القدرة على دفع عجلة النمو والكفاءة في كافة أفرع الجيوش، خصوصاً المؤسسات المسؤولة عن سلاسل التوريد والتسليح التي تشمل أطرافاً متعددة خصوصاً في القوات البرية، نظراً للخصائص التي تتميز بها تلك التقنيات، وعلى رأسها:
استحالة تغيير البيانات دون علم جميع الأشخاص المعنيين.
إمكانية تتبع جميع المعاملات.
عدم إمكانية التحكم في العمليات من أحد أطراف سلسلة التوريد دون الطرف الآخر.
تنسيق تفاعل المشاركين من الخارج ومن الداخل في سلسلة التوريد وتسليح القوات البرية والجيوش عموماً.
توفير سجل آمن يمكن التحقق منه، ويكون قابلاً للتتبع، وقابلاً للمشاركة بين الفاعلين.
توفير طريقة لرؤية كل جزء من سلسلة التوريد والتسليح في الوقت الفعلي له.
تحديد مشكلات التوريد ومعالجتها فورياً قبل أن تصبح منتشرة على نطاق واسع.
إضفاء اللامركزية على الإنتاج العسكري مع الحفاظ على سلامة وسرية البيانات.
السماح بمراقبة القوة العاملة أثناء التشغيل.
السماح ومراقبة آنية لكامل عمليات الإمدادات اللوجيستي.
ومن أحدث الأمثلة على تطبيقات blockchain في قطاع القوات البرية مشروع FIBR²EO للطباعة ثلاثية الأبعاد، للحفاظ على حالة تشغيل مواد القوات البرية (SIMMT) والقطاع الرقمي وتنسيق الابتكار (PNI) التابعين للجيش الفرنسي.
يهدف هذا المشروع إلى إتاحة إمكانيات الطباعة ثلاثية الأبعاد لسلسلة الصيانة والإنتاج المتعلق بقطع الغيار للمعدات الأرضية لصالح قطاع القوات البرية الفرنسية على التراب الوطني الفرنسي أو في مسرح العمليات الخارجية. وتتم مراقبة المطبوعات التي يتم إجراؤها عبر هذه الطابعات ثلاثية الأبعاد عبر نظام معلومات يعتمد أيضاً على تقنية blockchain والتي تتميز بـ:
1. إمكانية التتبع: تتبع كل استخدام لنموذج ثلاثي الأبعاد لإنتاج الطباعة.
2. النزاهة: التحقق من أن كل نموذج ثلاثي الأبعاد مطبوع يتوافق مع الملف الأصلي.
3. الثبات: الملفات المخزنة غير قابلة للتغيير.
4. الشفافية: إمكانية قيام كل جهة فاعلة بعرض جميع العمليات التي يتم تنفيذها.
ثانياً: تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي التفاعلي
في عام 2015 قامت شركة سامسونغ بتطوير روبوت نصف آلي ويتم التحكم فيه عن بعد، ليبدأ العمل على الحدود بين الكوريتين الشمالية والجنوبية. ويقوم الروبوت الذي سُمِّي «إس جي آر-آي1» بدوريات حدودية بين الكوريتين، ويمكنه التعرف على الهدف على بعد ميلين، وحين يلاحظ وجود شخص ما يطالبه أوتوماتيكياً برفع يديه، وتمت برمجته لإطلاق النار بعد ثلاثين ثانية من رصد نشاط المتسللين على الحدود.
وفي السنوات الأخيرة الماضية تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي التفاعلي في صناعة الروبوت العسكري. فعلى سبيل المثال، أثبتت مجموعة من التجارب المشتركة بين وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة U.S. Défense Advanced Research Projects Agency (DARPA) والجامعات الأمريكية قدرة الذكاء الاصطناعي التفاعلي على تعليم الروبوتات كيفية التفاعل والتكيف مع الظروف المتغيرة ذاتياً وآنياً، وسواء كانت المتغيرات متعلقة بالتضاريس، أو بالأحمال والأوزان المختلفة، أو بالإمساك بأشياء ذات الأشكال والأبعاد المتباينة، أثبتت الخوارزميات سرعتها في الاستجابة للمتغيرات كما أثبتت قدرتها على الاستمرار في التعلم الذاتي.
ولقد أثمر استخدام الذكاء الاصطناعي التفاعلي في صناعة الروبوت العسكري في فرنسا عن منتجات متميزة مثل:
- الروبوت القاطر PROBOT مع سلة يمكن استخدامها لقطر المصابين أو لنقل المواد والأسلحة. ويمكن تشغيل هذا الروبوت عن بُعد داخل وخارج مدى النظر، ويتمتع بقدرة تحميل تصل إلى 750 كجم.
- الروبوت المسلح PROBOT المدمج به برج FN Herstal مقاس 12.7 ملم الذي يتم تشغيله عن بعد. ويشكل الربوت ابتكاراً مهماً بفضل زيادة قدرة إطلاق النار ومداها، وللحماية الكاملة لمشغليها لاستحالة رؤيتهم من المستهدف.
- الروبوت NERVA المزود بكاميرا. ويتمتع بخفة الحركة والقدرة على التكيف والتخفي مما يسمح له بإنجاز مهام الاستطلاع والمراقبة والتشويش بكل يسر ونجاعة.
ثالثاً: تزايد الاعتماد على التطبيقات الخدمية الرقمية لمنتسبي قطاع القوات البرية
طور المكتب الرقمي (BNUM) التابع لمركز التنسيق الرقمي والابتكار (PNI) التابع للجيش الفرنسي متجر تطبيقات على الإنترنت تحت مسمى Milistore.
يجمع الروابط والتطبيقات الخاصة التي طورتها وزارة القوات المسلحة للعسكريين مثل خدمات التأمين وتطبيقات للاحتياجات اليومية لأعضائها. كما أنه يوفر حلاً أمنياً للمستخدم ويحذره من التهديدات الموجودة على هواتفه المحمولة. كما يسمح التطبيق بتوفير حقيقي للوقت والاستقلالية حتى في ميدان المعارك.
ومن أهم ما يمتاز به التطبيق أيضاً:
- حماية الهاتف من المخاطر المرتبطة بالتطبيقات أو الشبكات التي يستخدمها الجندي.
- الوصول إلى المعلومات حول الحياة في الوحدة العسكرية وأخبار الجيش.
- الوصول إلى خدمات الجيش في إجراءاته اليومية وخدماته المهنية.
رابعاً: تزايد تأسيس التشكيلات العسكرية المتخصصة في الرقمنة بالقوات البرية
على سبيل المثال، في عام 2024، قامت القوات البرية الفرنسية بتأسيس:
1. قيادة الدعم الرقمي والسيبراني للقوات البرية (CATNC): وهي القيادة المنوط بها الحفاظ على تماسك القوات البرية رقميا وسيبرانياً ومسؤولة عن الأداء العام والتوظيف والتطورات في مجالات الدعم الرقمي والسيبراني في مجال حرب الكمبيوتر الدفاعية.
وتم إنشاء CATNC في 1 يناير 2024 كجزء من تحول الجيش الفرنسي الرقمي، وهي تجسد التحول نحو «جيش قتالي» في المجالات الرقمية والسيبرانية وتساهم في تعزيز القدرة على العمل في عمليات متعددة المجالات.
وهي في وضع دائم لدعم العمليات في مجال التكنولوجيا الرقمية والمراقبة السيبرانية، وتدعم النشر التشغيلي للموارد البشرية والمادية لإجراء الإعداد التشغيلي للوحدات التابعة لها ومقر العمليات. كما أنه يساهم في سياسة الأمن الرقمي للجيش وتطوير العقيدة السيبرانية.
2. لواء الدعم الرقمي والسيبراني (BANC): والذي تم تأسيسه في 6 فبراير 2024، وتم إنشاء لواء الدعم الرقمي والسيبراني (ETNC)، استجابةً لـساحة المعركة الرقمية سريعة التطور. وتكمن مهمة لواء الدعم الرقمي والسيبراني في العمل في مناطق الصراع الجديدة مثل الفضاء السيبراني، أو البيئة الكهرومغناطيسية والمعلوماتية لترسيخ قدرة سيبرانية قوية ومنظمة ومرئية ومتكاملة لتأكيد الميزة التشغيلية والأفضلية للقوات البرية، وذلك من خلال رقمنة جميع المنصات القتالية، والجمع بين الإجراءات الحركية العملياتية والسيبرانية، وإنتاج سحابة قتالية حقيقية، بالإضافة إلى المعالجة المستقبلية للبيانات الضخمة وضمان القتال التعاوني.
كما كانت قد أسست القوات البرية الفرنسية MCO-Terre Lab عام 2019 وهو برنامج مخصص للابتكار في مجال صيانة المعدات الأرضية والحفاظ عليها في حالة تشغيلية من خلال رقمنة الصيانة وابتكار تطبيقات صيانة تنبئية.
الخاتمة
التحول الرقمي للقوات البرية يقوم على عدة عناصر، ستسمح لذلك القطاع بالمضي قدماً في تطوير المجالات التالية: تفسير البيانات (علم البيانات)، وتأمين البيانات (سلسلة الكتل)، وتوقع حالات الصراع (الذكاء الاصطناعي)، وأتمتة الإجراءات الحاسمة (الروبوتات المقاتلة)، إتاحة معلومات دعم القرار في جميع الأوقات وفي أي مكان (السحابة/5G )، وكل ذلك بهدف واحد: الحفاظ على التفوق التشغيلي. الشكل التوضيحي التالي يلقي الضوء على مجالات عمل التقنيات الرقمية التي ستشهد المزيد من الابتكار في قطاع القوات البرية في السنوات القليلة الماضية.
وبالرغم من كل هذا التقدم، يبدو أن رقمنة قطاع القوات البرية ليس بالأمر اليسير، فلقد تلقي الجيش الألماني صدمة جديدة تلقاها في سبتمبر من العام الماضي، بعد إخفاق تطوير مركبات القوات البرية، وتزويدها بأجهزة اتصالات رقمية بسبب مشاكل خاصة بتثبيتها على المركبات، ويعتقد الخبراء أن هذا الأمر قد يستغرق سنوات لحله، ما يعنى فشل الجيش الألماني في رقمنة القوات البرية رغم إنفاق المليارات في مشروع مهم ممول من الصندوق الخاص للجيش الألماني كان مخصصاً لتجهيز 34000 مركبة بأجهزة اتصالات رقمية تم تسلمها من الشركة المصنعة منذ يناير 2023، ولكن لا يمكن تثبيت بأجهزة الاتصالات الرقمية.
كما يبدو أن بعض التوقعات قد تكون مبالغاً فيها، فمنذ عشر سنوات تقريباً نقلت مجلة كمبيوتر ورلد عن سكوت هارتلي مهندس الأبحاث الأمريكي أنه «بعد عشرة سنوات من الآن، سيكون هناك على الأرجح عشرة روبوتات مقابل كل جندي في الجيش الأمريكي، وسوف يكون كل جندي محاطاً بعدد يتراوح ما بين واحد إلى خمسة روبوتات لحمايته والبحث عن الأعداء وإجراء عمليات مسح بحثاً عن الألغام الأرضية»، وذلك في سياق ذكر المجلة أن الجيش ومشاة البحرية الأمريكية اختبرا بالفعل روبوتات ذاتية الحركة في ميادين القتال.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح
)خبير بمركز تريندز للبحوث والاستشارات(