سياسات التعليم العسكري العالي في الجيوش الكبرى .. التوجهات والتحولات
1 يوليو 2024كان الجنرال شارل ديجول يؤكد دائماً أن أهم مبادئ الاستعداد الجيد للحرب هو إعداد القادة. ولذلك بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية، ألزم الجنرال ديجول نفسه كل عام تقريباً بالحضور وتفقد جميع مؤسسات التعليم العالي التابعة للأكاديمية العسكرية الفرنسية، لضمان جودة نظام إعداد النخب العسكرية المستقبلية ولتسليط الضوء على أهميتها القصوى.
في عالمنا المعاصر، تسعى جيوش الدول الكبرى لرسم سياسات التعليم العسكري العالي الخاص بها بشكل يضمن تفوقها ويضمن تحقيق أهدافها الاستراتيجية خصوصاً في ظل سياق التحولات التي تهز العالم منذ عام 2011 وتصلب السياق الجيواستراتيجي العالمي، واشتداد الصراع بين الدول وامتداده إلى مجالات، ما يجب أن يعكس على سياسات التعليم العسكري. فعلى سبيل المثال يتطلب التهجين الناتج عن الحرب الآن تكاملاً أكثر رسوخاً بين كل القوات، وهو الأمر الذي لا يمكن تصوره دون وجود قادة عسكريين مدربين على ذلك التكامل للتمكن من تولي مسؤوليات قيادية أو إدارية كبيرة. كما تشكل عودة الحرب في أوروبا والحاجة إلى القتال في مجالات متعددة، تحديات جديدة يتعين التصدي لها، ما يتطلب تعليماً عسكرياً محدثاً. ما هي قيمة أنظمة الأسلحة الأكثر ابتكاراً أو القوات الأفضل تدريباً دون تدريب القادة العسكريين على قيادة كل ذلك، ودون فهم القضايا وفهم الالتزامات نحو الغد؟ هذه هي الحاجة الملحة التي تسعى جيوش الدول للاستجابة لها لضمان استمرار تفردها العسكري وكفاءتها التشغيلية.
تهدف هذه الدراسة القصيرة لتسليط الضوء على أهم التوجهات والتحولات الحالية في سياسات التعليم العسكري العالي في الجيوش الكبرى، وهي كالتالي:
1- إعداد كبار الضباط لممارسة المسؤوليات بكفاءة عالية في جميع الظروف: ولمواجهة تحديات تدريب وإعداد كبار الأفراد العسكــريين القادرين على توقع ما هو غير محتمل، والتحليل في سياق التعقيد، واتخاذ القرار في ظل عدم اليقين، والتصــرف في ســياق مـــن الشدائد غير المعتادة، من الضروري أن يكون التعليم العسكري العالي في الجيوش الكبرى طموحاً ومبتكراً بشكل مستدام، وذلك خلال كامل الحياة المهنية للضباط والقادة على مستويات مختلفة، سواء في المجال التشغيلي أو في الإدارة المركزية. إن هذا الاستثمار الكبير من قبل المؤسسات التعليمية العسكرية للتكيف المستمر لرأسمالها البشري الإداري مع بيئة سريعة التغير يضمن أداء كبار قيادييها التنفيذيين في جمــــــيع الظــــــــروف. وبالتالي، فإن نظام التعليم العالي المطبق يستحق اهتماماً خاصاً ويجب أن يكون نتيجة لسياسات واضحة ومنظمة، حتى يكون قابلاً للقراءة بدرجة كافية، بحيث يمكن قياس القيمة المضافة الحقيقية له في الحياة المهنية للضباط.
2- تعليم عسكري عالٍ متناسب أكثر من أي وقت مضى مع التفرد العسكري والكفاءة التشغيلية: إدارة الجيوش، وخاصة القيادة العسكرية العليا، يجب أن تعتمد على تعليم عالٍ يزود الضباط برؤية لقضايا وأساليب العمل العسكري، قادر على منحهم تصوراً واضحاً لأهداف ووسائل العمل العسكري. ويستند التفرد العسكري إلى حقيقة أن كل ضابط جنرال كان في البداية ملازماً، مهما كان تدريبه الأولي. ويساهم هذا المرور الإجباري في جميع الرتب وفي جميع مستويات المسؤولية المتعاقبة وفي التدريب والإعداد المقدم في تلك المراحل في تكوين ضباط قادرين على اتخاذ القرار والتصرف مهما كانت خطورة الظروف المحيطة. كما يسهم التدريب والإعداد الجيد المتناسب مع التفرد العسكري في شرعية ومصداقية القادة، وبالتالي في جودة الإدارة العسكرية العليا وتتجنب مخاطر تثبيط الإرادة، ويضمن التماسك داخل القوات المسلحة وقدرتها على التكيف بسرعة مهما كانت الظروف والالتزام بالسلوك والقواعد العسكرية المكونة للتفرد العسكري وتعزيز المعرفة المتبادلة وتمتين الارتباط بين القوات والإسناد. هذه هي الشروط الأساسية للكفاءة التشغيلية.
3- تعليم عسكري عالٍ يستهدف الاستعداد لحروب الغد: يمكن القول إن التعليم العسكري العالي الحديث في الدول الكبرى مر بثلاث مراحل: حيث ركز في المرحلة الأولى على مناورة الأسلحة المشتركة للتشكيلات الأرضية الكبيرة. أما المرحلة الثانية، والتي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية وبلغت ذروتها في حرب الخليج الأولى، فركزت على أهمية التدريب المشترك والحلفاء كمواضيع للدراسة. واليوم، يقودنا تطور البيئة الاستراتيجية وأشكال الحرب الجديدة إلى المرحلة الثالثة والتي يجب أن تركز على إعداد ضباط متعددي المجالات والتخصصات.
4- تعليم عسكري عالٍ يتكيف مع بيئة استراتيجية متغيرة ومعقدة وصعب استشرافها: تتميز البيئة الاستراتيجية الجديدة اليوم بالتعقيد والتطور السريع وعدم القدرة على التنبؤ. فعالمنا المعاصر يشهد ترابطاً بين الأزمات والتهديدات، والذي يمكن أن يتجسد في بعض الأحيان كسلسلة متصلة بين مسارح العمليات الخارجية والأراضي الوطنية. منها أنه يشهد تحديات أمنية هجينة تخلط بين الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، وتطمس الحدود بين الحرب والسلام، وخلل في توازن القوى في العلاقات الدولية، وبالتالي زيادة احتمال نشوب حروب لتسوية النزاعات السياسية.
كما أن البيئات العسكرية الثلاث «البرية والبحرية والجوية» التي جرت فيها الصراعات المسلحة التقليدية، قد زادت عليها 3 مجالات جديدة للمواجهة العسكرية: «الفضاء الخارجي، والفضاء الإلكتروني، ومجال المعلومات». وهذه المجالات، التي اعتُبرت في البداية عوامل مضاعفة للقوة، أصبحت مناطق رمادية، لا سلام تام يعمها ولا هي في حالة حرب كاملة، ويشكل فيها إسناد أعمال مدمرة محتملة تحدياً حقيقياً. ومع ذلك، فمن المؤكد أن الصراع عالي الحدة سيبدأ في واحدة أو أكثر من هذه المناطق. وأمام هكذا تعقيد وسرعة تحول وعدم يقين، فإن المفاجأة الاستراتيجية أمر لا فكاك منه إلا بتطوير تعليم عسكري عالٍ يعضد القدرة على الصمود والبقاء والتفوق التشغيلي. إن الابتكار وحده، ليس فقط على المستوى التكنولوجي، بل وأيضاً على المستوى الإجرائي والتنظيمي، هو الذي سيجعل التكيف ممكناً أثناء تنفيذ عمليات متزايدة الصعوبة.
5- تعليم عسكري عالٍ يوفر بيئة إعداد وتدريب تنافسية وديناميكية: السياسات الجديدة للتعليم العسكري للجيوش الكبرى تعتبر هذا التعليم أداة مهمة في تعزيز الارتباط بين الجيش والشعب وسياق العلاقات الدولي. لذلك يجب تقديرها لأنها هي التي تحدد مكانة الضباط ومساهمتهم في الدفاع عن الدولة وعن الشعب وعن السلم العالمي.
6- تعليم يسمح باكتساب المعرفة اللازمة من خارج المجال العسكري: من أجل التمكن من تحمل القيادة، من الضروري أن يكتسب الضباط مجموعة متنوعة من المعرفة، ذات الطبيعة العسكرية بالطبع، ولكن أيضاً المعارف غير المتصلة بشكل مباشر بالمجال العسكري.
فلممارسة مهامه القيادية، يجب أن يتمتع الضابط بالمعرفة والمهارات العسكرية المناسبة لسياق الحروب الآنية والمستقبلية، وفي المقام الأول ثقافة غير عسكرية قوية. ويجب أن يشمل ذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكذلك العلوم البحتة والعلوم الطبيعية، حتى يتمكن من فهم تطور العالم والمجتمع، دون أن يكون لديه بالضرورة كل الخبرة في جميع المجالات. ولذلك يجب على مؤسسات التعليم العسكري العالي أن تفهم ضباطها السياق الاقتصادي والصناعي الكامن وراء تطوير القاعدة الصناعية والتكنولوجية الدفاعية. كما يجب أن تطلب منهم الاهتمام بالدراسات المستقبلية، والآثار المترتبة على القدرات الناجمة عن الاختراقات التكنولوجية الناشئة، وأن يكون هؤلاء قادرين على فهم تحديات أشكال الصراعات الجديدة.
7- تعليم يعزز الأبحاث المتعلقة بالحرب وتعتمد عليه الحرب: يسعي التعليم العسكري العالي للدول الكبرى إلى تكوين نخبة من الضباط الذين يجمعون بين الخبرة التشغيلية الغنية والإعداد والتعليم الفائق الجودة. ويعد تطوير دراسات الحرب من خلال مؤسسات التعليم العسكري العالي ضرورياً لدعم التفكير الاستراتيجي للجيوش وتعزيز تأثير فكرها العسكري.
8- تعليم عسكري عالٍ منفتح على الثقافة المدنية وعلى الثقافة المشتركة للشركاء والحلفاء: يعد فهم الثقافة المشتركة للشركاء والحلفاء مسألة أساسية لكي تكون فعالاً في التواصل معهم.
فعلى المستوى الوطني، يعد الانفتاح على العالم المدني، ومعرفة تنظيم وعمل المؤسسات المدنية الوطنية وفهم العمليات التي تحكم التفاعل مع الإدارات الوزارية الأخرى أمراً ضرورياً لكبار الضباط. ففي الواقع، الدفاع الوطني ليس له معنى إلا في إطار مشترك بين الوزارات، والذي، عند تطبيقه على إدارة الأزمات، يجعل من الممكن العمل على عوامل القوة التي تشكل مفهوم القوة الشاملة.
على المستوى الإقليمي والدولي، من المهم أن يتقن المسؤولون تنظيم وعمل المؤسسات الإقليمية. وتعد مؤسسات التعليم العسكري العالي المكان المثالي لتطوير المعرفة المتبادلة حول تاريخ وثقافة البلدان المختلفة بين الحلفاء، من أجل فهم مناهجهم المختلفة ورؤاهم الاستراتيجية. وهذا المزيج من المعرفة يشكل شرطاً لا غنى عنه لتطوير الثقافة الاستراتيجية الوطنية والثقافة الاستراتيجية للدول الحليفة.
وأخيراً، على المستوى الدولي، يجب أن يكون لدى كبار الضباط فهم للبيئة الاستراتيجية والقضايا العالمية، ومعرفة بالمنظمات الدولية، ولا سيما تلك المتعلقة بالأمن، من أجل فهم مصالح وأهداف الدولة والحلفاء، وأيضاً المنافسين الاستراتيجيين. وفي هذا السياق، يعد إتقان اللغات الحديثة، شرطاً أساسياً لأي رغبة في التأثير أو العمل في إطار متعدد الجنسيات.
9- تعليم عالٍ يتيح الوصول إلى تحمل مسؤوليات عالية ذات ثلاثة مستويات متكاملة: عادة ما ينقسم التعليم العسكري العالي في المؤسسات العسكرية الكبرى لثلاث درجات تقدمية ومتكاملة:
- المستوى الأول يشمل التعليم على مستوى تكتيكي أو فني عال. حيث يقوم بإعداد الضباط الذين سيتحملون مسؤوليات في مجالات محددة.
- المستوى الثاني يشمل التعليم على مستوى تشغيلي يتطلب خبرة عالية، ويقوم بإعداد الضباط لممارسة وظائف القيادة والإدارة.
- المستوى الثالث يزود الضباط المدعوين لتحمل مسؤوليات عليا بمعرفة أكثر تعمقاً في المجالات السياسية والعسكرية والاستراتيجية.
10- تعليم يسعى لتجسير الهوة بين الأجيال: يجب على الضابط الذي تتمثل مهمته في قيادة وتوجيه مرؤوسيه، والذي غالباً ما يكونون أصغر منه بكثير، أن يكون على دراية بتطور المجتمع وصفات تلك الأجيال والتحديات التي تواجهها، والديناميكيات التي تحكم تفاعلاتها. فلا يتمتع الجنود الشباب أو المتعاونون المدنيون مع الجيش بنفس المرجعية الثقافية التي يتمتع بها الضابط القائد. فالتغيرات والأولويات المجتمعية الجديدة وتطور تكنولوجيات المعلومات كلها عوامل تزيد من تفاقم الفجوة بين الأجيال، ويجب فهمها بشكل صحيح لممارسة القيادة الفعالة. ولذلك سيتعين على قادة المستقبل تكييف طريقتهم في القيادة مع الخصائص الجديدة لمرؤوسيهم، من أجل تعزيز مهاراتهم والاستفادة من قدراتهم على الابتكار من أجل ضمان النصر في الحرب الحديثة.
خاتمة
يمكن تلخيص الطموحات التي تسعى إليها سياسات التعليم العسكري العالي فيما يلي:
- تطوير القدرات التشغيلية الحديثة للجيوش بإعداد رأسمال بشري إداري يمتلك المهارات اللازمة لإنجاز مهام الجيوش في السياقات الآنية والمستقبلية.
- تقوية الرابطة بين الجيش والشعب.
- اعتبار التعليم العسكري العالي أداة من أدوات النفوذ الدولي، يحقق بها السياسي مصالح دولته.
- يجب أن تتمتع سياسيات التعليم العسكري بالمرونة وسرعة الاستجابة والتكيف مع التغييرات غير المتوقعة وتحمل الصدمات بشكل مستدام.
وفي سياق الأشكال الجديدة من الصراع والتي يمكن أن تتراوح بين حرب هجينة إلى مواجهة شاملة، من المهم إقامة شراكات، بما في ذلك خارج المجال العسكري، مع مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة «المجتمع المدني، القطاع الخاص، المنظمات الحكومية وغير الحكومية والدولية»، للتفكير في الحرب بجميع أبعادها وإعطاء مضمون للجيش. يجب أن تكون قيادة القيادة المركزية مرنة وديناميكية لزيادة سرعة اتخاذ القرار من المستوى السياسي الاستراتيجي إلى المستوى التكتيكي، مع تعزيز اللامركزية في السيطرة العملياتية.
وفي ساحة معركة ستسودها أنظمة الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة، يجب على التعليم العسكري العالي الموازنة بين الحاجة إلى السرعة والحد الأقصى من الكفاءة في اتخاذ القرار من جانب، ومتطلبات الحفاظ على السيطرة على توليد التأثيرات، مع مراعاة الاعتبارات الأخلاقية من جانب آخر.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح
(خبير بمركز تريندز للبحوث والاستشارات)