Ghost Shark هل تعيد الغواصة الأسترالية غير المأهولة تشكيل الحروب المستقبلية تحت الماء؟
1 يوليو 2024
لقد بات الاعتماد على المركبات غير المأهولة أحد أبرز سمات الأنظمة العسكرية الحديثة، فقد أضحت الطائرات بدون طيار في الحروب الجوية أمراً شائعاً خلال السنوات الأخيرة، رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد استخدمت هذا النوع من الطائرات في العراق وأفغانستان بدايةً من تسعينيات القرن الماضي، كما عكست الحرب الروسية- الأوكرانية مدى أهمية الطائرات بدون طيار في مسار المواجهات العسكرية الحديثة، والأمر ذاته ينطبق على الغواصات البحرية التي أثبتت مدى فاعليتها في إلحاق خسائر فادحة في السفن الأكبر حجماً وتنفيذ مهام متعددة وواسعة النطاق.
يبدو أن ثمة تطور تدريجي في أسس الحرب البحرية بدأت تتبلور بشكل ملحوظ، وهو ما يعزى بالأساس إلى تطور المركبات غير المأهولة تحت الماء، فهي كيانات تبحر في الأعماق التي لم تكن هدفاً يمكن تصوره سابقاً، وتشكل غواصة «القرش الشبح» Ghost Shark الأسترالية، التي أعلنت عنها «كانبرا» رسمياً في أبريل 2024 تطوراً لافتاً يعكس ملامح ومستقبل الدفاعات البحرية بشكل عام، وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ بشكل خاص.
الغواصة الأسترالية Ghost Shark
تعد غواصة القرش الشبح Ghost Sharkنموذجاً أولياً للمركبات غير المأهولة تحت الماء (UUVs) التي قدمتها أستراليا مؤخراً، حيث تشير العديد من الأدبيات إلى أن هذه الغواصات يمكن أن تمثل مستقبل الحروب تحت سطح البحر، إذ يمكنها ممارسة القوة مع تقليل الخطر على الحياة الإنسانية. وقد اعتبر البعض أن غواصة Ghost Sharkبمثابة «المركبة ذاتية القيادة تحت سطح الماء الأكثر تقدماً في العالم»، حيث إنها ذات قدرة معيارية متعددة الأغراض، يمكن من خلالها الاستجابة بمرونة لمهمات متنوعة.
تم تطوير النموذج الأولى من الغواصة الاسترالية Ghost Shark من قبل «مجموعة العلوم والتكنولوجيا الدفاعية» (DSTG) والبحرية الملكية الأسترالية (RAN) وشركة «أندوريل أستراليا» Anduril Australia و«مسرع القدرات الاستراتيجية المتقدمة» (ASCA)، وقد ألمحت وزارة الدفاع الأسترالية إلى أن هذه الغواصة ستعزز من القدرة الحربية الخفية والمستقلة وبعيدة المدى تحت سطح البحر، وأنها ستكون قادرة على إجراء عمليات استخباراتية ومراقبة واستطلاع.
وقد استغرق تطوير فكرة الغواصة الأسترالية ونقلها من مجرد فكرة إلى مرحلة التنفيذ الفعلي نحو عامين فقط، بدايةً من عام 2022، وبتكلفة بلغت حوالي 30 مليون دولار أمريكي، وطول يصل لنحو 36 قدماً، حيث تسلمت الحكومة الأسترالية أول نموذج أولي للغواصة Ghost Shark XL-AUV في أبريل 2024، قبل نحو عام من المدة المحددة للإنتهاء من تطوير هذا النموذج، مع توقع بتسليم ثلاثة نماذج أخرى بنهاية العام المقبل، وهو ما اعتبرته بعض التقديرات بمثابة نقلة نوعية في تطوير القدرات بالسرعة المطلوبة. وكانت شركة Anduril Australia قد بدأت المفاوضات مع البحرية الملكية الأسترالية في مايو 2022 لتصنيع وتسليم ثلاث غواصات غير مأهولة من طراز Ghost Shark XL-AUV في غضون ثلاث سنوات، وفي هذا الإطار تم إنشاء عقد تطوير مشترك بقيمة 140 مليون دولار أسترالي «حوالي 90 مليون دولار أمريكي» لإنشاء الغواصات الثلاث.
وفي هذا الإطار، كشف نائب الرئيس الأول للهندسة في شركة Anduril Australia، «شين أرنوت»، أنه تم تجميع النموذج الأولي من الغواصة الأسترالية غير المأهولة بواسطة فريق هندسي يضم 121 فرداً من 42 شركة أسترالية مختلفة، لحمل حمولات مختلفة بغية دعم مختلف المهام العسكرية وغير العسكرية، بما يتضمن جمع المعلومات الاستخباراتية المتقدمة والمراقبة والاستطلاع، بالتالي فهذه الغواصة تمتلك قدرة معيارية متعددة الأغراض، إذ يمكنها الاستجابة بمرونة لمتطلبات متعددة.
وقد أشارت بعض التقارير إلى أن الغواصة Ghost Shark ستكون قادرة على العمل على عمق يبلغ حوالي 19685 قدماً «نحو 6000 متراً»، والبقاء تحت الماء لمدة تصل لحوالي 10 أيام، وهو ما يعني قدرة الغواصة على العمل في كافة أنحاء منطقة «الإندوباسيفيك».
ويعد تطوير غواصة Ghost Shark جزءاً من استثمارات تبلغ حوالي 7.2 مليار دولار أسترالي خصصتها الحكومة في «كانبرا» بغية تطوير واكتساب قدرات الحرب تحت سطح البحر وتطوير المركبات البحرية الجديدة المستقلة وغير المأهولة، حيث تنفق أستراليا أكثر من 10 مليار دولار على الأنظمة المستقلة وغير المأهولة كجزء من خطة شاملة لتزويد قدرات الدفاع الأسترالية.
وتشبه غواصة Ghost Shark إلى حد كبير الغواصة الأمريكية (Orca UUV) التي طورتها شركة Boeing الأمريكية، وسلمتها للبحرية الأمريكية للتجريب في ديسمبر 2023، وهي غواصة متطورة ومستقلة وغير مأهولة أيضاً. لكن تجدر الإشارة إلى أن تطوير الغواصة الأمريكية (Orca UUV) استغرق أكثر من عقد من الزمان، على عكس الغواصة الأسترالية. فقد كان من المفترض أن تسلم شركة Boeing النموذج الأول من هذه الغواصة في ديسمبر 2020، لكنها تأخرت حتى ديسمبر 2023، ورغم أن التكلفة التقديرية للغواصة كانت حوالي 379 مليون دولار، بيد أن هذه التكلفة تجاوزت فعلياً حاجز الـ 621 مليون دولار. وعلى الرغم من عدم الكشف عن كثير من مواصفات وقدرات الغواصة الأسترالية الجديدة غير المأهولة، غير أن هناك بعض التقارير التي كشفت عن بعض من ملامح وقدرات هذه الغواصة، حيث تتسم الأخيرة بصغر حجمها نسبياً مقارنة بالغواصة التقليدية، كونها لا تحتاج إلى هيكل مقاومة الضغط للطاقم أو معدات معقدة لإخماد الصوت، وتعتمد بدلاً من ذلك على وضع الإلكترونيات في وحدات مقاومة للماء، وهو ما سيسمح للبحرية الملكية الأسترالية بتنفيذ حروب خفية ومستقلة وبعيدة المدى تحت سطح البحر.
لكن، تعد المشكلة الرئيسة التي تواجه الغواصة الأسترالية الجديدة هو ما يتعلق بالحجم، حيث تبدو صغيرة مقارنة بالغواصات التقليدية، وحوالي نصف حجم الغواصة الأمريكية (Orca UUV) التي يبلغ طولها حوالي 85 قدماً، ويشكل الحجم أهمية خاصة بالنسبة للغواصة، حيث يمنحها القدرة على التحمل وقوة نارية كبيرة، وبالتالي سيؤثر صغر حجم Ghost Shark على قدرتها على التحمل وقوتها النارية. بالإضافة لذلك، فالهيكل القصير نسبياً للغواصة الأسترالية، يعني أيضاً تقليل بطاريات الدفع تحت الماء وأجهزة الاستشعار للملاحة والكشف عن الأهداف، وقدرات الذكاء الاصطناعي على متن الغواصة، ناهيك عن الأسلحة التي يمكن من خلالها ضرب الغواصات والسفن الأخرى على السطح. فعلى سبيل المثال، لن تتمكن هذه الغواصة من حمل الطوربيد القياسي للبحرية الملكية الأسترالية، والذي يتمثل في American Mark 48، وستحتاج بدلاً من ذلك إلى طوربيدات أصغر حجماً.
تزايد الاعتماد على الغواصات غير المأهولة
ارتبط ظهور الغواصات غير المأهولة بالتوترات الجيوسياسية في حقبة الحرب الباردة، فقد كانت الحاجة ملحة في تلك الفترة إلى إيجاد آليات سرية للقيام بعمليات الاستطلاع وجمع المعلومات السرية في المجال البحري، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى الشروع في إجراء تجارب مبكرة على الروبوتات تحت الماء، وبالفعل تمكنت واشنطن في خمسينيات القرن الماضي من تطوير الغواصة المسماه بــ «الجميلة النائمة» Sleeping Beauty والمصممة لمهام الاستطلاع السرية. إلا أن نقطة التحول الحاسمة في تاريخ الغواصات غير المأهولة شهدتها فترة الثمانينيات عندما أطلقت واشنطن برنامجها للمركبات غير المأهولة تحت الماء (UUV)، حيث رسخت هذه الخطوة من أهمية هذا النوع من المركبات في العمليات البحرية ووضع الأساس للتطورات اللاحقة في هذا المجال. فقد أدت التطورات المتلاحقة التي شهدها العقد الأول من القرن الحالي، والمرتبطة بالتقدم الملحوظ في التصغير Miniaturization وتكنولوجيا الاتصالات والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي Machine Learning ML، إلى تعزيز قدرات الغواصات غير المأهولة في المعالجة الفورية لكميات هائلة من البيانات ومن ثم زيادة دعم استقلالية إتخاذ القرار، وزيادة قدرتها على القيام بمهام المراقبة والاستطلاع وجمع المعلومات الاستخباراتية وغيرها من الملفات الخاصة، حتى باتت الغواصات غير المأهولة تحت الماء تشكل أصولاً لا غني عنها في الساحة البحرية المعاصرة، إذ أن قدرتها على العمل سراً في البيئات الصعبة تحت الماء، ناهيك عن التقدم المتزايد في تقنيات الاستشعار، جعلها أداة مهمة لحماية المصالح البحرية.
وفي هذا الإطار، تزايد الاعتماد على الغواصات غير المأهولة في ظل تعدد وتنوع المهام التي يمكنها القيام بها، من مهام الاستطلاع والمراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية (ISR) بخصوص التضاريس تحت الماء ورصد التهديدات المحتملة وتحركات سفن العدو، فالطبيعة الخفية لهذه الغواصات تجعلها قادرة على القيام بهذه المهام دون تنبيه الخصوم، وهو ما يعد قيمة مضافة خاصة في المناطق الاستراتيجية والتي يكون فيها طرق المراقبة التقليدية غير مجدية. بالإضافة لدورها في اتخاذ التدابير المضادة للإلغام، حيث يمكنها التنقل عبر حقول الألغام وتحييد العبوات الناسفة ومن ثم تأمين مرور السفن البحرية. يضاف إلى ذلك الدور المحوري للغواصات غير المأهولة في الحرب المضادة للغواصات، عبر اكتشاف غواصات العدو وتتبعها ومراقبتها والقيام بدوريات تأمين للمناطق البحرية الرئيسة والاستراتيجية، فضلاً عن التطورات الراهنة في استخدام هذه الغواصات غير المأهولة في المراقبات البيئية والبحث العلمي.
وتتسم الغواصات غير المأهولة بميزة نسبية مقارنة بالغواصات التقليدية ذات التكلفة الباهظة، فعلى سبيل المثال، لا تعتمد الولايات المتحدة حالياً إلا على الغواصات الكبيرة المأهولة التي تعمل بالطاقة النووية، حيث يمكنها الإبحار لآلاف الأميال والبقاء لأشهر في مناطق الصراع، إلا أن الغواصات النووية تتسم بالتعقيد والتكلفة الباهظة فضلاً عن حاجتها لصيانة مكثفة، حيث تبلغ تكلفة بناء الغواصة الهجومية «فيرجينيا»، التي يبلغ طولها حوالي 377 قدماً، نحو 2 مليار دولار، وتحتاج لـ 18 شهراً من أجل بناءها، ومن ثم تعد الغواصات غير المأهولة بديلاً فعالاً للغواصات التقليدية، حيث يمكن للأولى أن تقوم بمهام زرع الألغام وإكتساحها ومطاردة غواصات وسفن العدو السطحية بتكلفة زهيدة ودون أية مخاطر على أطقم البشر. لكن، تجدر الإشارة إلى أن هناك تحديات تواجه أي قفزة تكنولوجية، بالتالي فإن عملية دمج الغواصات غير المأهولة في الاستراتيجيات العسكرية ينبثق عنها جملة من التحديات المرتبطة بنقاط ضعف الأمن السيبراني ومدى كفاءة الطاقة، بالإضافة إلى الآثار البيئية المحتملة.
هل يتم التخلي عن الغواصات القديمة التقليدية؟
ثمة تهديدات متزايدة تشهدها أعماق البحار، من خلال الاستهدافات المتكررة للبنية التحتية في أماكن متفرقة من العالم، ما دفع بعض التقديرات إلى وصف هذا العصر بعصر حروب قاع البحار، ففي ظل الطبيعة التي تتسم بدرجة عالية من الغموض تحت سطح البحر، باتت البنية التحتية أهدافاً مغرية للحروب الهجينة، وقد أصبح الأمر أكثر سهولة في ظل التطورات المرتبطة بالغواصات المستقلة غير المأهولة والتي يمكن إطلاقها من مسافة مئات أو آلاف الأميال، وتقترب من أهدافها دون أي يتم رصدها. لكن، تجدر الإشارة إلى أن هناك بعض التقارير الغربية التي كشفت أنه على الرغم من التطور المطرد والمستمر في مجال الغواصات غير المأهولة، بيد أنه من غير المرجح، على الأقل في المدي المنظور، أن تتخلى القوات البحرية تماماً عن استخدام الغواصات التقليدية الكبيرة، حتى وإن لجأت إلى الاعتماد بشكل متزايد على الغواصات غير المأهولة، فقد كشف تقرير صادر عن الجامعة الوطنية الأسترالية بعنوان «محيطات شفافة» عن أنه من المحتمل للغاية أن تصبح المحيطات شفافة تماماً بحلول خمسينيات القرن الحالي.
ويتسق ذلك مع تصريحات مؤسس شركة Australia Anduril، «بالمر لوكي»، والذي أشار إلى أن الغواصات التقليدية ستستمر في أداء أدوار مهمة، وأن الغواصات المستقلة غير المأهولة يمكن أن تعد بمثابة «مضاعف للقوة» Force Multiplier، لافتاً أن مستقبل الحروب تحت سطح البحر سيتم تحديده من خلال الأنظمة المستقلة غير المأهولة تحت الماء، لكن هذا لا يعني الاستغناء التام عن الغواصات التقليدية المأهولة، لكنها ستعمل بالأساس مع الأنظمة غير المأهولة.
هل تصبح الحروب في المستقبل تحت «محيطات شفافة»؟
ثمة تحركات حثيثة تقوم بها القوى الدولية الكبري في مجال التنافس على أعماق البحار والسيطرة على هذه المجالات، وفي هذا السياق، أعلن حلف الناتو، في فبراير 2023، عن إنشاء خلية تنسيق البنية التحتية تحت البحر، وذلك رداً على استهداف خط الغاز «نورد ستريم»، كما أطلقت فرنسا استراتيجية خاصة بها للحرب في قاع البحر في إطار التهديدات المتزايدة بفعل التقنيات البحرية المتقدمة، وعززت الحرب الروسية – الأوكرانية من أهمية الغواصات البحرية غير المأهولة.
وفي السياق ذاته، تعمل الولايات المتحدة على تطوير العديد من الغواصات غير المأهولة، كان آخرها الغواصة (Manta Ray) التي طورتها شركة Northrop Grumman وتم تجربتها في فبراير 2024. كما أقترحت واشنطن نظام «الحرب البحرية المتقدم» Advanced Undersea Warfare System، والذي ينطوي على شبكة من المحطات/المنصات البحرية الثابتة التي يمكنها نشر غواصات غير مأهولة دفاعية وهجومية. كما أن هناك ثمة تحركات صينية ملحوظة لتطوير أنظمة من الغواصات البحرية غير المأهولة، ورجحت بعض التقديرات الأمريكية أن تكون بكين قد تمكنت فعلياً من تطوير غواصة خاصة بها شبيهة نسبياً لغواصة Orca الأمريكية، بل أن هناك تقديرات أمريكية أخرى توقعت إتجاه الصين حالياً لتطوير أكثر من ستة أنواع من الغواصات غير المأهولة.
وتعمل بكين حالياً على تطوير «سور عظيم تحت الماء» Underwater Great Wall، يتشكل من السفن والقواعد والغواصات غير المأهولة لإحكام سيطرتها على هذه المنطقة، وبالفعل تمكن مشروع (1-Haidou) الصيني من تحقيق تقدم ملحوظ بالغوص إلى عمق قياسي بلغ حوالي 35787 قدماً (10908 متراً)، كما حققت الغواصة الصينية الأخرى «هايان» رقماً قياسياً آخر يتمثل في القدرة على التحمل من خلال إكمالها رحلة طولها يبلغ نحو 2236 ميلاً «حوالي 3600 كيلومتراً» لمدة 141 يوماً في بحر الصين الجنوبي. من ناحية أخرى، أعلنت روسيا مؤخراً عن توصلها لإنشاء غواصة غير مأهولة تعمل بالطاقة النووية، وهو ما يشكل تطوراً حاسماً في مجال المركبات غير المأهولة، وتدشين عصر جديد من الحروب البحرية، يستند بشكل أساسي إلى الأنظمة البحرية المستقلة. لكن على الجانب الآخر ذهبت بعض التقديرات إلى اعتبار أن تنامي تطور الغواصات غير المأهولة وتسارع انتشارها ربما يحفز من النهج الهجين لصراع «المنطقة الرمادية»، بما يعني تزايد احتمالية تجنب حرب واسعة النطاق، حيث تعمد الدول إلى استخدام هذه المركبات لتحقيق أهدافها دون أن تتجاوز عتبة الحرب التقليدية.
تحالف «الأوكوس» وتعزيز قدرات الغواصات الأسترالية
يمكن للغواصة الأسترالية غير المأهولة Ghost Shark أن تعزز من قدرات التحالف البحري بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في إطار تحالف «الأوكوس» AUKUS، فقد جاء إعلان أستراليا عن غواصتها غير المأهولة Ghost Shark متزامناً مع إعلان الولايات المتحدة عن إطلاق غواصتها الخاصة غير المأهولة أيضاً Manta Ray، حيث تعد الغواصات المستقلة تحت سطح البحر أحد مجالات التركيز الرئيسة الثمانية لاتفاقية «أوكوس»، وهو ما يعزى بالأساس إلى أن دول المجموعة تعاني بالفعل من العديد من التحديات التي تتراوح بين محاولات استقطاب والحفاظ على الموظفين المهرة، والحاجة إلى زيادة القدرات بشكل متسارع في ظل ميزانيات محدودة وتأخر في برامج التحديث، وربما يشكل الاعتماد على الغواصات غير المأهولة تحت الماء أحد الحلول الفاعلة في مواجهة هذه التحديات بالنسبة لدول «الأوكوس»، إذ لا تتكلف هذه الغواصات نفس التكلفة لتطوير الغواصات المأهولة، كما أن الأطر الزمنية لتطويرها أسرع بكثير، ناهيك عن عدم حاجتها لأفراد عسكرييين مدربين تدريبات عالية لأداء الوظائف من على متنها. وعلى الرغم من أن دول «الأوكوس» قد استثمرت جميعها بشكل كبير في تطوير غواصات غير مأهولة، غير أن كل منها تعامل مع هذه التحديات بطرق مختلفة، وهو ما تمخض عنه في بعض الأحيان تباينات كبيرة في النتائج، فقد بدأت المملكة المتحدة تجربة غواصاتها غير المأهولة بداية من عام 2018، حيث كانت شركة MSubs «ببليموث» قد حصلت على عقد بقيمة 4.6 مليون دولار لتحويل الغواصة المأهولة طراز S201 لنموذج أولي من الغواصات غير المأهولة، وتم تسليم هذا النموذج للبحرية الملكية في 2020، حيث بدأت سلسلة من التجارب لتطويره. وفي عام 2022 أطلقت المملكة المتحدة مشروع Cetus كخطوة أكثر تطوراً من S201. وبينما لا تزال المملكة المتحدة في مرحلة تطوير نموذجها الخاص بالغواصات غير المأهولة، وتقوم الولايات المتحدة على البناء الفعلي لغواصات غير مأهولة متطورة، اعتمدت أستراليا على استراتيجية «الكتلة بأسعار معقولة» في تطويرها لغواصتها «القرش الشبح»، وهذه الاستراتيجية تعني بالأساس وجود المزيد من المنصات غير المأهولة المنتشرة بشكل دائم في منطقة العمليات، وفي حالة تأهب مستمر للاستجابة السريعة حال الحاجة.
ورغم أن اتفاق AUKUS يعد بمثابة ميثاق أمني ناشئ لم يتطور بعد إلى إطار أمني شامل، لكنه يبقي آلية مبتكرة لتعزيز التعاون العسكري والدعم العملياتي بين دوله، وبمقدور هذا الميثاق أن يعيد تشكيل توازنات القوى الإقليمية، من خلال الاعتماد على ركيزتين أساسيتين، تتمثل الأولي في العمل على تطوير غواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية كاستثمار طويل المدي، بينما تتمثل الركيزة الثانية في الدفع نحو تطوير غواصات غير مأهولة متقدمة تعمل بالذكاء الاصطناعي، يمكنها تحقيق الأهداف الاستراتيجية قصيرة ومتوسطة المدى بكفاءة تتجاوز كثيراً قدرة الغواصات التقليدية المأهولة. وفي إطار اتفاق AUKUS وخطته التفصيلية، والتي تقدر تكلفتها بحوالي 268-368 مليار دولار، تستهدف أستراليا الحصول على نحو 3 غواصات تعمل بالطاقة النووية من طراز «فيرجينيا» من الولايات المتحدة، وذلك بحلول ثلاثينيات القرن الحالي، وذلك لحين دخول الجيل التالي من الغواصات الاسترالية، المصممة بالأساس في بريطانيا، للخدمة في أربعينيات القرن الحالي.
أخيراً، تشكل غواصة «القرش الشبح» أحد أهم الأدوات بالنسبة لأستراليا في تعزيز قدراتها البحرية من ناحية، وإعادة هيكلة قواعد اللعبة من ناحية أخرى، سواء فيما يتعلق بمعيار الزمن أو حتى فكرة «الكتلة بأسعار معقولة»، مع الأخذ في الاعتبار أن القدرات الهائلة التي تمتلكها هذه الغواصة، لا سيما اعتمادها على الذكاء الاصطناعي، إلى جانب أسعارها التنافسية ربما تجعلها أكثر رواجاً، خاصةً وأن شركة Anduril أعلنت أنها بصدد تأمين مبيعات غواصة Ghost Shark إلى الدول الحليفة لأستراليا.
» الأستاذ/ عدنان موسى
(مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة(
لقد بات الاعتماد على المركبات غير المأهولة أحد أبرز سمات الأنظمة العسكرية الحديثة، فقد أضحت الطائرات بدون طيار في الحروب الجوية أمراً شائعاً خلال السنوات الأخيرة، رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد استخدمت هذا النوع من الطائرات في العراق وأفغانستان بدايةً من تسعينيات القرن الماضي، كما عكست الحرب الروسية- الأوكرانية مدى أهمية الطائرات بدون طيار في مسار المواجهات العسكرية الحديثة، والأمر ذاته ينطبق على الغواصات البحرية التي أثبتت مدى فاعليتها في إلحاق خسائر فادحة في السفن الأكبر حجماً وتنفيذ مهام متعددة وواسعة النطاق.
يبدو أن ثمة تطور تدريجي في أسس الحرب البحرية بدأت تتبلور بشكل ملحوظ، وهو ما يعزى بالأساس إلى تطور المركبات غير المأهولة تحت الماء، فهي كيانات تبحر في الأعماق التي لم تكن هدفاً يمكن تصوره سابقاً، وتشكل غواصة «القرش الشبح» Ghost Shark الأسترالية، التي أعلنت عنها «كانبرا» رسمياً في أبريل 2024 تطوراً لافتاً يعكس ملامح ومستقبل الدفاعات البحرية بشكل عام، وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ بشكل خاص.
الغواصة الأسترالية Ghost Shark
تعد غواصة القرش الشبح Ghost Sharkنموذجاً أولياً للمركبات غير المأهولة تحت الماء (UUVs) التي قدمتها أستراليا مؤخراً، حيث تشير العديد من الأدبيات إلى أن هذه الغواصات يمكن أن تمثل مستقبل الحروب تحت سطح البحر، إذ يمكنها ممارسة القوة مع تقليل الخطر على الحياة الإنسانية. وقد اعتبر البعض أن غواصة Ghost Sharkبمثابة «المركبة ذاتية القيادة تحت سطح الماء الأكثر تقدماً في العالم»، حيث إنها ذات قدرة معيارية متعددة الأغراض، يمكن من خلالها الاستجابة بمرونة لمهمات متنوعة.
تم تطوير النموذج الأولى من الغواصة الاسترالية Ghost Shark من قبل «مجموعة العلوم والتكنولوجيا الدفاعية» (DSTG) والبحرية الملكية الأسترالية (RAN) وشركة «أندوريل أستراليا» Anduril Australia و«مسرع القدرات الاستراتيجية المتقدمة» (ASCA)، وقد ألمحت وزارة الدفاع الأسترالية إلى أن هذه الغواصة ستعزز من القدرة الحربية الخفية والمستقلة وبعيدة المدى تحت سطح البحر، وأنها ستكون قادرة على إجراء عمليات استخباراتية ومراقبة واستطلاع.
وقد استغرق تطوير فكرة الغواصة الأسترالية ونقلها من مجرد فكرة إلى مرحلة التنفيذ الفعلي نحو عامين فقط، بدايةً من عام 2022، وبتكلفة بلغت حوالي 30 مليون دولار أمريكي، وطول يصل لنحو 36 قدماً، حيث تسلمت الحكومة الأسترالية أول نموذج أولي للغواصة Ghost Shark XL-AUV في أبريل 2024، قبل نحو عام من المدة المحددة للإنتهاء من تطوير هذا النموذج، مع توقع بتسليم ثلاثة نماذج أخرى بنهاية العام المقبل، وهو ما اعتبرته بعض التقديرات بمثابة نقلة نوعية في تطوير القدرات بالسرعة المطلوبة. وكانت شركة Anduril Australia قد بدأت المفاوضات مع البحرية الملكية الأسترالية في مايو 2022 لتصنيع وتسليم ثلاث غواصات غير مأهولة من طراز Ghost Shark XL-AUV في غضون ثلاث سنوات، وفي هذا الإطار تم إنشاء عقد تطوير مشترك بقيمة 140 مليون دولار أسترالي «حوالي 90 مليون دولار أمريكي» لإنشاء الغواصات الثلاث.
وفي هذا الإطار، كشف نائب الرئيس الأول للهندسة في شركة Anduril Australia، «شين أرنوت»، أنه تم تجميع النموذج الأولي من الغواصة الأسترالية غير المأهولة بواسطة فريق هندسي يضم 121 فرداً من 42 شركة أسترالية مختلفة، لحمل حمولات مختلفة بغية دعم مختلف المهام العسكرية وغير العسكرية، بما يتضمن جمع المعلومات الاستخباراتية المتقدمة والمراقبة والاستطلاع، بالتالي فهذه الغواصة تمتلك قدرة معيارية متعددة الأغراض، إذ يمكنها الاستجابة بمرونة لمتطلبات متعددة.
وقد أشارت بعض التقارير إلى أن الغواصة Ghost Shark ستكون قادرة على العمل على عمق يبلغ حوالي 19685 قدماً «نحو 6000 متراً»، والبقاء تحت الماء لمدة تصل لحوالي 10 أيام، وهو ما يعني قدرة الغواصة على العمل في كافة أنحاء منطقة «الإندوباسيفيك».
ويعد تطوير غواصة Ghost Shark جزءاً من استثمارات تبلغ حوالي 7.2 مليار دولار أسترالي خصصتها الحكومة في «كانبرا» بغية تطوير واكتساب قدرات الحرب تحت سطح البحر وتطوير المركبات البحرية الجديدة المستقلة وغير المأهولة، حيث تنفق أستراليا أكثر من 10 مليار دولار على الأنظمة المستقلة وغير المأهولة كجزء من خطة شاملة لتزويد قدرات الدفاع الأسترالية.
وتشبه غواصة Ghost Shark إلى حد كبير الغواصة الأمريكية (Orca UUV) التي طورتها شركة Boeing الأمريكية، وسلمتها للبحرية الأمريكية للتجريب في ديسمبر 2023، وهي غواصة متطورة ومستقلة وغير مأهولة أيضاً. لكن تجدر الإشارة إلى أن تطوير الغواصة الأمريكية (Orca UUV) استغرق أكثر من عقد من الزمان، على عكس الغواصة الأسترالية. فقد كان من المفترض أن تسلم شركة Boeing النموذج الأول من هذه الغواصة في ديسمبر 2020، لكنها تأخرت حتى ديسمبر 2023، ورغم أن التكلفة التقديرية للغواصة كانت حوالي 379 مليون دولار، بيد أن هذه التكلفة تجاوزت فعلياً حاجز الـ 621 مليون دولار. وعلى الرغم من عدم الكشف عن كثير من مواصفات وقدرات الغواصة الأسترالية الجديدة غير المأهولة، غير أن هناك بعض التقارير التي كشفت عن بعض من ملامح وقدرات هذه الغواصة، حيث تتسم الأخيرة بصغر حجمها نسبياً مقارنة بالغواصة التقليدية، كونها لا تحتاج إلى هيكل مقاومة الضغط للطاقم أو معدات معقدة لإخماد الصوت، وتعتمد بدلاً من ذلك على وضع الإلكترونيات في وحدات مقاومة للماء، وهو ما سيسمح للبحرية الملكية الأسترالية بتنفيذ حروب خفية ومستقلة وبعيدة المدى تحت سطح البحر.
لكن، تعد المشكلة الرئيسة التي تواجه الغواصة الأسترالية الجديدة هو ما يتعلق بالحجم، حيث تبدو صغيرة مقارنة بالغواصات التقليدية، وحوالي نصف حجم الغواصة الأمريكية (Orca UUV) التي يبلغ طولها حوالي 85 قدماً، ويشكل الحجم أهمية خاصة بالنسبة للغواصة، حيث يمنحها القدرة على التحمل وقوة نارية كبيرة، وبالتالي سيؤثر صغر حجم Ghost Shark على قدرتها على التحمل وقوتها النارية. بالإضافة لذلك، فالهيكل القصير نسبياً للغواصة الأسترالية، يعني أيضاً تقليل بطاريات الدفع تحت الماء وأجهزة الاستشعار للملاحة والكشف عن الأهداف، وقدرات الذكاء الاصطناعي على متن الغواصة، ناهيك عن الأسلحة التي يمكن من خلالها ضرب الغواصات والسفن الأخرى على السطح. فعلى سبيل المثال، لن تتمكن هذه الغواصة من حمل الطوربيد القياسي للبحرية الملكية الأسترالية، والذي يتمثل في American Mark 48، وستحتاج بدلاً من ذلك إلى طوربيدات أصغر حجماً.
تزايد الاعتماد على الغواصات غير المأهولة
ارتبط ظهور الغواصات غير المأهولة بالتوترات الجيوسياسية في حقبة الحرب الباردة، فقد كانت الحاجة ملحة في تلك الفترة إلى إيجاد آليات سرية للقيام بعمليات الاستطلاع وجمع المعلومات السرية في المجال البحري، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى الشروع في إجراء تجارب مبكرة على الروبوتات تحت الماء، وبالفعل تمكنت واشنطن في خمسينيات القرن الماضي من تطوير الغواصة المسماه بــ «الجميلة النائمة» Sleeping Beauty والمصممة لمهام الاستطلاع السرية. إلا أن نقطة التحول الحاسمة في تاريخ الغواصات غير المأهولة شهدتها فترة الثمانينيات عندما أطلقت واشنطن برنامجها للمركبات غير المأهولة تحت الماء (UUV)، حيث رسخت هذه الخطوة من أهمية هذا النوع من المركبات في العمليات البحرية ووضع الأساس للتطورات اللاحقة في هذا المجال. فقد أدت التطورات المتلاحقة التي شهدها العقد الأول من القرن الحالي، والمرتبطة بالتقدم الملحوظ في التصغير Miniaturization وتكنولوجيا الاتصالات والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي Machine Learning ML، إلى تعزيز قدرات الغواصات غير المأهولة في المعالجة الفورية لكميات هائلة من البيانات ومن ثم زيادة دعم استقلالية إتخاذ القرار، وزيادة قدرتها على القيام بمهام المراقبة والاستطلاع وجمع المعلومات الاستخباراتية وغيرها من الملفات الخاصة، حتى باتت الغواصات غير المأهولة تحت الماء تشكل أصولاً لا غني عنها في الساحة البحرية المعاصرة، إذ أن قدرتها على العمل سراً في البيئات الصعبة تحت الماء، ناهيك عن التقدم المتزايد في تقنيات الاستشعار، جعلها أداة مهمة لحماية المصالح البحرية.
وفي هذا الإطار، تزايد الاعتماد على الغواصات غير المأهولة في ظل تعدد وتنوع المهام التي يمكنها القيام بها، من مهام الاستطلاع والمراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية (ISR) بخصوص التضاريس تحت الماء ورصد التهديدات المحتملة وتحركات سفن العدو، فالطبيعة الخفية لهذه الغواصات تجعلها قادرة على القيام بهذه المهام دون تنبيه الخصوم، وهو ما يعد قيمة مضافة خاصة في المناطق الاستراتيجية والتي يكون فيها طرق المراقبة التقليدية غير مجدية. بالإضافة لدورها في اتخاذ التدابير المضادة للإلغام، حيث يمكنها التنقل عبر حقول الألغام وتحييد العبوات الناسفة ومن ثم تأمين مرور السفن البحرية. يضاف إلى ذلك الدور المحوري للغواصات غير المأهولة في الحرب المضادة للغواصات، عبر اكتشاف غواصات العدو وتتبعها ومراقبتها والقيام بدوريات تأمين للمناطق البحرية الرئيسة والاستراتيجية، فضلاً عن التطورات الراهنة في استخدام هذه الغواصات غير المأهولة في المراقبات البيئية والبحث العلمي.
وتتسم الغواصات غير المأهولة بميزة نسبية مقارنة بالغواصات التقليدية ذات التكلفة الباهظة، فعلى سبيل المثال، لا تعتمد الولايات المتحدة حالياً إلا على الغواصات الكبيرة المأهولة التي تعمل بالطاقة النووية، حيث يمكنها الإبحار لآلاف الأميال والبقاء لأشهر في مناطق الصراع، إلا أن الغواصات النووية تتسم بالتعقيد والتكلفة الباهظة فضلاً عن حاجتها لصيانة مكثفة، حيث تبلغ تكلفة بناء الغواصة الهجومية «فيرجينيا»، التي يبلغ طولها حوالي 377 قدماً، نحو 2 مليار دولار، وتحتاج لـ 18 شهراً من أجل بناءها، ومن ثم تعد الغواصات غير المأهولة بديلاً فعالاً للغواصات التقليدية، حيث يمكن للأولى أن تقوم بمهام زرع الألغام وإكتساحها ومطاردة غواصات وسفن العدو السطحية بتكلفة زهيدة ودون أية مخاطر على أطقم البشر. لكن، تجدر الإشارة إلى أن هناك تحديات تواجه أي قفزة تكنولوجية، بالتالي فإن عملية دمج الغواصات غير المأهولة في الاستراتيجيات العسكرية ينبثق عنها جملة من التحديات المرتبطة بنقاط ضعف الأمن السيبراني ومدى كفاءة الطاقة، بالإضافة إلى الآثار البيئية المحتملة.
هل يتم التخلي عن الغواصات القديمة التقليدية؟
ثمة تهديدات متزايدة تشهدها أعماق البحار، من خلال الاستهدافات المتكررة للبنية التحتية في أماكن متفرقة من العالم، ما دفع بعض التقديرات إلى وصف هذا العصر بعصر حروب قاع البحار، ففي ظل الطبيعة التي تتسم بدرجة عالية من الغموض تحت سطح البحر، باتت البنية التحتية أهدافاً مغرية للحروب الهجينة، وقد أصبح الأمر أكثر سهولة في ظل التطورات المرتبطة بالغواصات المستقلة غير المأهولة والتي يمكن إطلاقها من مسافة مئات أو آلاف الأميال، وتقترب من أهدافها دون أي يتم رصدها. لكن، تجدر الإشارة إلى أن هناك بعض التقارير الغربية التي كشفت أنه على الرغم من التطور المطرد والمستمر في مجال الغواصات غير المأهولة، بيد أنه من غير المرجح، على الأقل في المدي المنظور، أن تتخلى القوات البحرية تماماً عن استخدام الغواصات التقليدية الكبيرة، حتى وإن لجأت إلى الاعتماد بشكل متزايد على الغواصات غير المأهولة، فقد كشف تقرير صادر عن الجامعة الوطنية الأسترالية بعنوان «محيطات شفافة» عن أنه من المحتمل للغاية أن تصبح المحيطات شفافة تماماً بحلول خمسينيات القرن الحالي.
ويتسق ذلك مع تصريحات مؤسس شركة Australia Anduril، «بالمر لوكي»، والذي أشار إلى أن الغواصات التقليدية ستستمر في أداء أدوار مهمة، وأن الغواصات المستقلة غير المأهولة يمكن أن تعد بمثابة «مضاعف للقوة» Force Multiplier، لافتاً أن مستقبل الحروب تحت سطح البحر سيتم تحديده من خلال الأنظمة المستقلة غير المأهولة تحت الماء، لكن هذا لا يعني الاستغناء التام عن الغواصات التقليدية المأهولة، لكنها ستعمل بالأساس مع الأنظمة غير المأهولة.
هل تصبح الحروب في المستقبل تحت «محيطات شفافة»؟
ثمة تحركات حثيثة تقوم بها القوى الدولية الكبري في مجال التنافس على أعماق البحار والسيطرة على هذه المجالات، وفي هذا السياق، أعلن حلف الناتو، في فبراير 2023، عن إنشاء خلية تنسيق البنية التحتية تحت البحر، وذلك رداً على استهداف خط الغاز «نورد ستريم»، كما أطلقت فرنسا استراتيجية خاصة بها للحرب في قاع البحر في إطار التهديدات المتزايدة بفعل التقنيات البحرية المتقدمة، وعززت الحرب الروسية – الأوكرانية من أهمية الغواصات البحرية غير المأهولة.
وفي السياق ذاته، تعمل الولايات المتحدة على تطوير العديد من الغواصات غير المأهولة، كان آخرها الغواصة (Manta Ray) التي طورتها شركة Northrop Grumman وتم تجربتها في فبراير 2024. كما أقترحت واشنطن نظام «الحرب البحرية المتقدم» Advanced Undersea Warfare System، والذي ينطوي على شبكة من المحطات/المنصات البحرية الثابتة التي يمكنها نشر غواصات غير مأهولة دفاعية وهجومية. كما أن هناك ثمة تحركات صينية ملحوظة لتطوير أنظمة من الغواصات البحرية غير المأهولة، ورجحت بعض التقديرات الأمريكية أن تكون بكين قد تمكنت فعلياً من تطوير غواصة خاصة بها شبيهة نسبياً لغواصة Orca الأمريكية، بل أن هناك تقديرات أمريكية أخرى توقعت إتجاه الصين حالياً لتطوير أكثر من ستة أنواع من الغواصات غير المأهولة.
وتعمل بكين حالياً على تطوير «سور عظيم تحت الماء» Underwater Great Wall، يتشكل من السفن والقواعد والغواصات غير المأهولة لإحكام سيطرتها على هذه المنطقة، وبالفعل تمكن مشروع (1-Haidou) الصيني من تحقيق تقدم ملحوظ بالغوص إلى عمق قياسي بلغ حوالي 35787 قدماً (10908 متراً)، كما حققت الغواصة الصينية الأخرى «هايان» رقماً قياسياً آخر يتمثل في القدرة على التحمل من خلال إكمالها رحلة طولها يبلغ نحو 2236 ميلاً «حوالي 3600 كيلومتراً» لمدة 141 يوماً في بحر الصين الجنوبي. من ناحية أخرى، أعلنت روسيا مؤخراً عن توصلها لإنشاء غواصة غير مأهولة تعمل بالطاقة النووية، وهو ما يشكل تطوراً حاسماً في مجال المركبات غير المأهولة، وتدشين عصر جديد من الحروب البحرية، يستند بشكل أساسي إلى الأنظمة البحرية المستقلة. لكن على الجانب الآخر ذهبت بعض التقديرات إلى اعتبار أن تنامي تطور الغواصات غير المأهولة وتسارع انتشارها ربما يحفز من النهج الهجين لصراع «المنطقة الرمادية»، بما يعني تزايد احتمالية تجنب حرب واسعة النطاق، حيث تعمد الدول إلى استخدام هذه المركبات لتحقيق أهدافها دون أن تتجاوز عتبة الحرب التقليدية.
تحالف «الأوكوس» وتعزيز قدرات الغواصات الأسترالية
يمكن للغواصة الأسترالية غير المأهولة Ghost Shark أن تعزز من قدرات التحالف البحري بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في إطار تحالف «الأوكوس» AUKUS، فقد جاء إعلان أستراليا عن غواصتها غير المأهولة Ghost Shark متزامناً مع إعلان الولايات المتحدة عن إطلاق غواصتها الخاصة غير المأهولة أيضاً Manta Ray، حيث تعد الغواصات المستقلة تحت سطح البحر أحد مجالات التركيز الرئيسة الثمانية لاتفاقية «أوكوس»، وهو ما يعزى بالأساس إلى أن دول المجموعة تعاني بالفعل من العديد من التحديات التي تتراوح بين محاولات استقطاب والحفاظ على الموظفين المهرة، والحاجة إلى زيادة القدرات بشكل متسارع في ظل ميزانيات محدودة وتأخر في برامج التحديث، وربما يشكل الاعتماد على الغواصات غير المأهولة تحت الماء أحد الحلول الفاعلة في مواجهة هذه التحديات بالنسبة لدول «الأوكوس»، إذ لا تتكلف هذه الغواصات نفس التكلفة لتطوير الغواصات المأهولة، كما أن الأطر الزمنية لتطويرها أسرع بكثير، ناهيك عن عدم حاجتها لأفراد عسكرييين مدربين تدريبات عالية لأداء الوظائف من على متنها. وعلى الرغم من أن دول «الأوكوس» قد استثمرت جميعها بشكل كبير في تطوير غواصات غير مأهولة، غير أن كل منها تعامل مع هذه التحديات بطرق مختلفة، وهو ما تمخض عنه في بعض الأحيان تباينات كبيرة في النتائج، فقد بدأت المملكة المتحدة تجربة غواصاتها غير المأهولة بداية من عام 2018، حيث كانت شركة MSubs «ببليموث» قد حصلت على عقد بقيمة 4.6 مليون دولار لتحويل الغواصة المأهولة طراز S201 لنموذج أولي من الغواصات غير المأهولة، وتم تسليم هذا النموذج للبحرية الملكية في 2020، حيث بدأت سلسلة من التجارب لتطويره. وفي عام 2022 أطلقت المملكة المتحدة مشروع Cetus كخطوة أكثر تطوراً من S201. وبينما لا تزال المملكة المتحدة في مرحلة تطوير نموذجها الخاص بالغواصات غير المأهولة، وتقوم الولايات المتحدة على البناء الفعلي لغواصات غير مأهولة متطورة، اعتمدت أستراليا على استراتيجية «الكتلة بأسعار معقولة» في تطويرها لغواصتها «القرش الشبح»، وهذه الاستراتيجية تعني بالأساس وجود المزيد من المنصات غير المأهولة المنتشرة بشكل دائم في منطقة العمليات، وفي حالة تأهب مستمر للاستجابة السريعة حال الحاجة.
ورغم أن اتفاق AUKUS يعد بمثابة ميثاق أمني ناشئ لم يتطور بعد إلى إطار أمني شامل، لكنه يبقي آلية مبتكرة لتعزيز التعاون العسكري والدعم العملياتي بين دوله، وبمقدور هذا الميثاق أن يعيد تشكيل توازنات القوى الإقليمية، من خلال الاعتماد على ركيزتين أساسيتين، تتمثل الأولي في العمل على تطوير غواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية كاستثمار طويل المدي، بينما تتمثل الركيزة الثانية في الدفع نحو تطوير غواصات غير مأهولة متقدمة تعمل بالذكاء الاصطناعي، يمكنها تحقيق الأهداف الاستراتيجية قصيرة ومتوسطة المدى بكفاءة تتجاوز كثيراً قدرة الغواصات التقليدية المأهولة. وفي إطار اتفاق AUKUS وخطته التفصيلية، والتي تقدر تكلفتها بحوالي 268-368 مليار دولار، تستهدف أستراليا الحصول على نحو 3 غواصات تعمل بالطاقة النووية من طراز «فيرجينيا» من الولايات المتحدة، وذلك بحلول ثلاثينيات القرن الحالي، وذلك لحين دخول الجيل التالي من الغواصات الاسترالية، المصممة بالأساس في بريطانيا، للخدمة في أربعينيات القرن الحالي.
أخيراً، تشكل غواصة «القرش الشبح» أحد أهم الأدوات بالنسبة لأستراليا في تعزيز قدراتها البحرية من ناحية، وإعادة هيكلة قواعد اللعبة من ناحية أخرى، سواء فيما يتعلق بمعيار الزمن أو حتى فكرة «الكتلة بأسعار معقولة»، مع الأخذ في الاعتبار أن القدرات الهائلة التي تمتلكها هذه الغواصة، لا سيما اعتمادها على الذكاء الاصطناعي، إلى جانب أسعارها التنافسية ربما تجعلها أكثر رواجاً، خاصةً وأن شركة Anduril أعلنت أنها بصدد تأمين مبيعات غواصة Ghost Shark إلى الدول الحليفة لأستراليا.
» الأستاذ/ عدنان موسى
(مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة(