الجيش الأميركي في مأزق بعد 50 عاما من انتقاله إلى التطوع
يبدو كشركة عائلية وغالبية المواطنين لا ترتبط بقواتها المسلحة
عدد أقل من الأميركيين يقبلون على الخدمة في الأسلحة المختلفة وبخاصة الجيش (أ ف ب/ غيتي)
بينما احتفلت الولايات المتحدة هذا الأسبوع بالذكرى الـ50 لانتقال الجيش الأميركي من نظام التجنيد الإجباري إلى نظام التطوع، وتفاخر القادة العسكريون بأن هذا النظام جعل القوات الأميركية أكثر احترافية وكفاءة، تظهر بيانات التطوع، خلال السنوات الأخيرة، وصولاً إلى العام الحالي أرقاماً مزعجة تعكس تراجع إقبال الشباب الأميركي على التطوع وفشل القادة والأجهزة المعنية في التواصل مع الأجيال الناشئة وإقناعها بالانضمام إلى صفوف القوات المسلحة والتمتع بالمزايا العديدة التي توفرها، فما سبب هذا التراجع المستمر وكيف يمكن أن يؤثر في الجيش وهيكل قوته؟
من الإجبار إلى التطوع
مع السنوات الأخيرة لحرب فيتنام وفي اليوم الأخير من شهر يونيو (حزيران) عام 1973 انتهى التجنيد الإجباري في الولايات المتحدة، الذي كان له الفضل في تجنيد 12 مليوناً خلال الحرب العالمية الثانية ونحو ثلاثة ملايين في حرب فيتنام، ومنذ ذلك الحين حل محله نظام التطوع الذي ظل سارياً حتى الآن ويحتفي به القادة العسكريون والمدنيون. وقال وزير الدفاع لويد أوستن، في الاحتفال بذكرى مرور نصف قرن على انطلاقه، إن الانتقال من التجنيد الإجباري إلى التطوع كان خطوة جريئة، لم يقم بها أي جيش آخر لديه قدرات مماثلة، مما أدى إلى قوة مشتركة أكثر احترافية وفعالية هي أقوى جيش في تاريخ البشرية، وهي تضع المعيار العالمي للاحتراف العسكري.
كما أثنت السيدة الأولى جيل بايدن في حفل تخرج مجموعة من مشاة البحرية الأميركية بولاية ساوث كارولينا، على اختيار الشباب للخدمة في القوات المسلحة التي وصفتها بأنها قلب قوة أميركا في زمن الحرب والسلام.
عدد متراجع
لكن عدداً أقل من الأميركيين يقبلون على الخدمة في الأسلحة المختلفة وبخاصة الجيش (القوات البرية) الذي فشل في تحقيق هدفه بتجنيد 15 ألفاً من المتطوعين عام 2022 بما يمثل 25 في المئة من العدد المطلوب تجنيده، ويسير على طريق فشل آخر في تجنيد 20 ألفاً هذا العام، بينما يواجه سلاح الجو ومشاة البحرية والبحرية تحديات مماثلة.
وفي جلسة استماع عقدتها لجنة الخدمات المسلحة بمجلس النواب الأميركي في شأن توقعات التوظيف للعام المالي 2023، قدر القادة العسكريون أن القوات الجوية ستفشل في تجنيد 10 آلاف بينما تتوقع البحرية أن تعجز عن تجنيد ستة آلاف بحار، في حين حقق كل من سلاح مشاة البحرية وسلاح القوة الفضائية توقعاته للقيام بمهمة التجنيد، وسط أصعب بيئة تجنيد عسكرية منذ عقود، إذ تكافح قيادة التجنيد في التواصل مع الأجيال الشابة وإقناعها بمتابعة حياتها في الخدمة.
قلق على حروب المستقبل
وتنفق القوات الأميركية أكثر من أي وقت مضى على التكنولوجيا لاستبدال البنية التحتية العسكرية القديمة، وتولي أهمية كبرى للذكاء الاصطناعي ودمجه في آلات القتال الجديدة بينما تعمل على استبدال الدبابات التي تعود إلى جيل الثمانينيات وإخراجها من ميدان المعركة، لكن إذا لم يكن لدى الولايات المتحدة الأفراد الموهوبون المتحمسون لاستخدام أنظمة الأسلحة الأكثر تطوراً، فلن تتمكن من القيام بذلك بحسب ما تقول وزيرة الجيش الأميركي كريستين ورموت في لقاء مع شبكة "سي أن بي سي" قبل أشهر عدة حين حذرت من أن أميركا تخاطر بالتخلف في السباق ضد الصين إذا لم تستطع تجنيد عدد كاف من الأميركيين في الخدمة ليتم تدريبهم على كيفية إعادة تشكيل الدفاع للصراعات المستقبلية.
وحذرت ورموت، وهي أول وزيرة للجيش في تاريخ الولايات المتحدة، من أنه ما لم يحدث تحول، فقد يضطر الجيش إلى تقليص هيكل قوته، وهو ما قد يعني إغلاق الوحدات، كما قد تتم الاستعانة بأفراد الحرس الوطني واحتياطي الجيش في الخدمة الفعلية.
لكن نتيجة لتقلص حجم القوات المسلحة الأميركية الذي وصل إلى مليون و460 ألفاً وتراجع عدد القوات البرية (الجيش) هذا العام إلى 466 ألفاً بعد أن سجل 476 ألفاً العام الماضي، لأنه لم يحقق هدف التجنيد بنسبة 25 في المئة، يتصاعد القلق في وزارة الدفاع "البنتاغون" في عصر منافسة القوى العظمى، على حد تعبير أستاذة الدراسات الاستراتيجية في مركز "ميريل" بكلية "جونز هوبكنز" للدراسات الدولية المتقدمة نورا بنساهل، إذ ترى أن الخطر يكمن في أنه إذا كان الجيش الأميركي صغيراً جداً للقيام بأنواع المهام التي يحتاج إليها في الحروب المستقبلية فسيكون ذلك أمراً سيئاً للولايات المتحدة، وهو ما يؤكده أيضاً فليكس راميريز من خدمات التجنيد في ولاية تكساس الذي اعتبر أن نقص القوات يمكن أن يؤثر في الاستعداد للمهام المنوطة بالقوات.
أسباب الأزمة
ويسهم عديد من العوامل في مشكلات تجنيد المتطوعين في الجيش، لكن يأتي على رأسها انخفاض النسبة المئوية للأميركيين المؤهلين للخدمة في الجيش الذين يستوفون متطلبات التجنيد من 29 في المئة في السنوات الأخيرة إلى 23 في المئة فقط، والذي يعود في جزء منه إلى الانفصال المتزايد عن المجتمع الناجم عن وباء "كوفيد-19" وفقاً لنائب مدير الشؤون العامة في قيادة التجنيد بالجيش في فورت نوكس بولاية كنتاكي بريان ماكغفرن، غير أن "البنتاغون" أصدر دراسات تظهر أن تراجع نسبة الشباب الأميركي المؤهلين للخدمة يعود إلى زيادة الوزن أو تعاطي المخدرات أو مشكلات الصحة العقلية والجسدية.
ومع ذلك فإن الانخفاض في هذه الأرقام يؤكد حقيقة أنه حتى قبل الوباء لم يكن هناك سوى نسبة صغيرة من الأميركيين المؤهلين الذين استوفوا معايير الجيش من حيث اللياقة البدنية واجتياز اختبارات في العلوم والرياضيات واللغة، وأن يكون المتقدمون في وضع أخلاقي جيد، مما يعني أنهم لم يرتكبوا جناية وليست لديهم مشكلة خطرة مع المخدرات أو الكحول، وهي قواعد لم تتكيف مع التغييرات في القانون، فعلى سبيل المثال أصبحت الماريجوانا الآن غير قانونية في أربع ولايات فقط من بين 50 ولاية، لكن الجيش لا يزال يعتبر أن الماريجوانا تحول دون التأهل للخدمة في الجيش.
انخفاض الرغبة في الخدمة
وترافق الانخفاض في نسبة الأميركيين المؤهلين للخدمة في الجيش مع تراجع الاهتمام أو الميول للخدمة. ويقول تسعة في المئة فقط من الأميركيين في سن الخدمة إنهم يريدون الانضمام إلى الخدمة في القوات الأميركية، بانخفاض كبير عن 23 في المئة قبل بضع سنوات، وهو أدنى مستوى منذ عام 2007 عندما كان العنف ضد الأميركيين مستشرياً في العراق، كما أن انسحاب أميركا الفاشل من أفغانستان العام الماضي أسهم في إضعاف رغبة الشباب الأميركي للالتحاق بالخدمة بحسب مجلة "الإيكونوميست".
وبحسب موقع "ميليتاري تايمز" فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه الجيش في ربيع وصيف عام 2022 أن بعض أكبر عقبات الانضمام إلى الجيش هي أن الشباب لا يريدون الموت أو الإصابة، أو التعامل مع ضغوط الجيش أو تأجيل تحقيق أحلام حياتهم.
لكن العامل الاقتصادي كان أيضاً حاسماً، فمع ازدهار سوق العمل في أميركا عقب انتهاء وباء "كوفيد" واجه الجيش منافسة شديدة من الشركات التي رفعت الأجور وقدمت مكافآت أكبر لجذب المتقدمين للعمل، مما قلل من جاذبية الانضمام إلى الجيش والقوات المسلحة عموماً على رغم المزايا العديدة التي توفرها والتي زادتها أخيراً من خلال تقديم حوافز للمجندين الجدد، بما في ذلك اختيار موقع العمل الأول ومكافآت تصل إلى 35 ألف دولار لأولئك الذين يمكنهم البدء في الخدمة في غضون 45 يوماً.
تأثير الاستقطاب السياسي
ومن بين العوامل الأخرى المؤثرة على الاستقطاب السياسي المتزايد في أميركا وتركيز اليمين واليسار، على حد سواء، على قضايا بعينها، مثل إثارة اليمين السياسي مخاوف من أن القوات المسلحة تستسلم لسياسات الاستيقاظ التي يقودها اليسار وتضخيم تداعياتها على المجتمع والجيش، بينما أثار اليسار السياسي مخاوف في شأن تطرف اليمين بين أعضاء الخدمة، إذ يزعم عدد متزايد من اليساريين أن أميركا قوة إمبريالية بجيش رجعي يعزز الإيمان بتفوق البيض، الأمر الذي يؤثر سلباً في عملية التجنيد كما يقول ماكنزي إيغلن من معهد "أميركان إنتربرايز"، وهو مؤسسة فكرية في واشنطن.
ومن المرجح أن مشكلات الجيش الموثقة في الحد من التحرش والاعتداء الجنسي، والتي جسدها مقتل الجندية فانيسا غيلين، قد ثبطت عزيمة عديد من الشابات عن الرغبة في الانضمام إلى الجيش.
هل من علاج؟
تحتاج المشكلات المعقدة إلى حلول متعددة، ويبدو أنه لدى الجيش الأميركي خيارات كثيرة لمعالجة مشكلات التجنيد وفقاً لمجلس العلاقات الخارجية الذي نشر تقريراً عن الأزمة قبل أسبوعين، من بينها تنفيذ البرامج التي تعد الشباب الأميركي بشكل أفضل بالوفاء بالمعايير الحالية مثل مساعدتهم على تلبية المتطلبات الأكاديمية واللياقة البدنية اللازمة للانضمام إلى الجيش، كما يمكن للأسلحة المختلفة تعديل معايير الدخول التي لا تؤثر في استعداد القوة مثلما فعلوا في الماضي حين خففوا من القيود المفروضة على الوشم، ويمكنهم فعل ذلك مرة أخرى من خلال عدم جعل استخدام الماريجوانا وبعض حالات الصحة العقلية غير مؤهلة تلقائياً.
وعلاوة على ذلك يمكن للجيش أن يجعل حياة الخدمة أكثر جاذبية من خلال توفير مزايا أفضل، وإنشاء برامج توظيف للزوج أو الزوجة، والسماح للمجندين بالبقاء لفترة أطول في القاعدة نفسها، وتعزيز الإعلانات الترويجية والحملات التسويقية للخدمة بشكل أفضل للجماهير المستهدفة، إذ يمكن للأفلام والبرامج التلفزيونية أن تصل إلى ذروة الاهتمام مثلما أدى إصدار فيلم "توب غان" لتوم كروز عام 1986 إلى ارتفاع الاهتمام بالقوات البحرية.
وبحسب وزيرة الجيش، فإن من المهم تحطيم بعض المفاهيم الخاطئة حول الخدمة في الجيش بعد 20 سنة من الحرب في العراق وأفغانستان، إذ تظهر بيانات استطلاعات الرأي أن أولياء الأمور قلقون ويقولون إذا انضم ابني إلى الجيش فهل سيصاب تلقائياً باضطراب ما بعد الصدمة؟ وهل سيتعرضون للتحرش الجنسي؟ وهل سيفكرون في الانتحار؟
كما تشير إلى حقيقة أن الجيش يحتفظ بالجنود بشكل جيد ويتجاوز أهداف الاحتفاظ بهم، كجزء من نشر الرسالة حول الجيش كخيار مهني، وهي تحذر من تحويل الجيش إلى كرة قدم سياسية، وتقول للآباء والجنود إنهم لا يحلفون اليمين لأي من الحزبين السياسيين ولا لرئيس معين وإنما يقسمون اليمين على الدستور لحماية أميركا.
أسئلة في الديمقراطية
ومع ذلك تظل مشكلة التجنيد لقوة المتطوعين تثير أسئلة فلسفية كبيرة حول الديمقراطية الأميركية، فعلى رغم مشكلات التجنيد الأخيرة من غير المرجح أن تتخلى الولايات المتحدة عن القوة المتطوعة بالكامل في أي وقت قريب، غير أن عبء القوة المتطوعة لا يتقاسمه جميع الأميركيين بالتساوي بحسب نورا بينساهل، إذ يخدم أقل من واحد في المئة من سكان الولايات المتحدة بالقوات المسلحة، ويبدو الجيش إلى حد كبير أشبه بـ"شركة عائلية"، بالنظر إلى أن ما يصل إلى 80 في المئة من المجندين الجدد كان لديهم قريب في الخدمة، ونحو 30 في المئة منهم أفادوا بأن أحد والديهم خدم في الجيش، ونتيجة لذلك يقع عبء الخدمة العسكرية على الشريحة الصغيرة نفسها من السكان، مما يعني أن الغالبية العظمى من مواطني الولايات المتحدة لديهم القليل من الارتباط بقواتهم المسلحة