زولتان باراني
مجندون روس في مركز تجنيد في سيمفيروبول، شبه جزيرة القرم، أبريل 2023 (رويترز)
في ربيع عام 2022، بينما كان الغرب يراقب غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، كانت إحدى أعظم المفاجآت هي ما كشفه عن القوة العسكرية الروسية. عندما بدأ الهجوم، افترض العديد من القادة والمحللين الغربيين أن أوكرانيا ستنهزم بسرعة بواسطة الجيش الروسي الضخم والقوات الجوية القوية والاحتياطات الكبيرة من الأسلحة الرئيسة. وبدلاً من ذلك، أثبتت القوات البرية الروسية أنها غير منظمة، وسيئة التدريب، وتفتقر إلى خطوط الإمداد الحيوية، في حين فشلت الطائرات الروسية في السيطرة على المجال الجوي الأوكراني. لقد استغرق الأمر أسابيع قبل أن يدرك الغرب بشكل كامل نقاط الضعف هذه ويساعد أوكرانيا على استغلالها.
وفي الأشهر الأخيرة، كانت هناك قراءة خاطئة مماثلة. ففي الأسابيع التي تلت بدء الهجوم المضاد البطيء في أوكرانيا في يونيو (حزيران)، ركز العديد من المعلقين على قوة وعمق الدفاعات الروسية. وأعرب البعض عن تشاؤمهم في شأن قدرة أوكرانيا على اختراقها على الإطلاق. وحذر آخرون من أن موسكو قد تأمر بتعبئة ثانية، لجلب مئات الآلاف من القوات الجديدة إلى ساحات القتال. ومع ذلك، بحلول أواخر أغسطس (آب)، كانت أوكرانيا تحقق مكاسب قوية، مع اعتراف مسؤولي إدارة بايدن بتقدم "ملحوظ"، بما في ذلك ضد خط الدفاع الثاني لروسيا.
وهذا النمط ليس جديداً. على مدى عقود، كان المحللون وصناع السياسات الغربيون يبالغون باستمرار في تقدير قوة موسكو العسكرية. ويعود ذلك جزئياً إلى نقص المعلومات الموثوقة. وعلى رغم أن روسيا (والاتحاد السوفياتي من قبلها) خاضت العديد من الحروب، فإن هناك أمثلة قليلة على مواجهة موسكو أعداء حازمين ومسلحين تسليحاً جيداً، كما أدت الدعاية الروسية والقمع الذي يمارسه الكرملين إلى الحد فعلياً من التحليل المستقل داخل روسيا، لكن هناك عاملاً آخر قد يكون أكثر أهمية: في تقييم قوة روسيا، مال الخبراء الأميركيون وغيرهم من الخبراء الغربيين إلى التركيز على التقييمات الكمية لأنظمة الأسلحة - الدبابات والطائرات والصواريخ - والقوة البشرية الخام، بدلاً من التركيز على الخصائص النوعية والنفسية التي تمتلكها التي غالباً ما تحدد أداء الجيش في ساحة المعركة.
في الواقع، في العديد من المقاييس النوعية، كانت القوات الروسية فقيرة إلى حد كبير. وتفتقر موسكو إلى ذلك النوع من الضباط المدربين تدريباً عالياً والذي أثبت أنه ضروري لأفضل جيوش العالم. وبسبب اعتمادها جزئياً على التجنيد الإجباري الذي يفرض بشكل غير متساو بين السكان، فإنها تعاني انخفاضاً في معنويات القوات. لقد سعى العديد من أفضل العقول الشابة في روسيا إلى تجنب الخدمة تماماً أو الفرار من البلاد. وبسبب النظام الاستبدادي في روسيا والفساد المستشري، فقد ثبت أنه من الصعب تحقيق ذاك النوع من الإبداع والقدرة على التكيف والتنوع الذي يميل إلى تحقيق أفضل النتائج في ساحة المعركة.
ومع ذلك، وبسبب السمعة التاريخية التي تتمتع بها روسيا كقوة عظمى، فإن المحللين يميلون إلى النظر إلى قواتها المسلحة بشكل مختلف، مع التركيز على القوة المادية وإهمال العوامل غير الملموسة الحاسمة مثل نوعية وخبرة قواتها وبشكل أكثر تحديداً، الطريقة التي بنت فيها روسيا قوتها البشرية. بالنتيجة، ربما يعرقل هذا تبني الولايات المتحدة وحلفاؤها استجابات سياسية أكثر فاعلية للحرب أو حتى يعوق قيام استراتيجية قتالية أوكرانية.
قوة عظمى أم ضجيج ضخم؟
تعود المبالغة في تقدير قوة موسكو العسكرية إلى منتصف القرن العشرين في الأقل. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بالغ الخبراء في كثير من الأحيان في تقدير القوات السوفياتية، وكان لذلك عواقب وخيمة على سياسة الأمن القومي الأميركي، وبخاصة الإنفاق الدفاعي. وربما كان المثال الأكثر شهرة هو ما يسمى بالجدل حول الفجوة الصاروخية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. إلى جانب معلقين مؤثرين في زمن الحرب الباردة مثل جوزيف ألسوب، قال السيناتور جون أف كينيدي إن إدارة أيزنهاور وصلت لمرحلة الرضا في مواكبتها برامج الصواريخ الروسية. خلال رئاسة كينيدي، بالغ مستشاروه العسكريون، الذين شحنتهم تلك المناقشة، في تقدير كمية ونوعية الصواريخ الباليستية السوفياتية العابرة للقارات بشكل خطر، ودعوا إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، مما دفع القيادة السوفياتية إلى استنتاج مفاده أن كينيدي كان متطرفاً خطراً. وحدث الشيء نفسه بعد عقدين من الزمن، في السنوات الأولى لإدارة ريغان: فقد دفعت التقييمات غير الدقيقة للتقدم العسكري السوفياتي من قبل مجتمع الاستخبارات الأميركية واشنطن إلى إعادة تقييم سياساتها الدفاعية وزيادة نفقاتها العسكرية.
ولم ينته هذا النمط بعد الحرب الباردة. أعرب معظم خبراء الأمن الغربيين عن تقديرهم الكامل لانحدار المؤسسة العسكرية الروسية بعد فشل الحرب السوفياتية في أفغانستان وانهيار الاتحاد السوفياتي، لكن الإصلاحات الدفاعية التي قامت بها موسكو، وبخاصة بعد إعادة تشكيل القوات المسلحة عام 2008، أسيء تقديرها من قبل معظم المحللين العسكريين الغربيين. وخلص كثير منهم إلى أن المؤسسة العسكرية الروسية طورت أسلحة جديدة قوية، وحسنت التدريب، وأصبحت قوة قتالية فعالة يمكن أن تشكل تحدياً خطراً لأكبر جيوش العالم.
وأدت هذه الحسابات الخاطئة، جنباً إلى جنب مع تقييمات أخرى على مدى العقد الماضي، بشكل مباشر إلى مبالغة الغرب في تقدير احتمالات نجاح القوات المسلحة الروسية في أوكرانيا. بحلول عام 2022، اعتقد معظم المحللين أنه من خلال امتلاك أحد أكبر الجيوش النظامية في العالم وتزويده بمجموعة متنوعة من أنظمة الأسلحة المتطورة، ستتمتع روسيا حتماً بميزة طبيعية على قوات الدفاع الأوكرانية الأصغر بكثير.
وهناك أربعة أسباب تقطع شوطاً طويلاً في تفسير هذه الأحكام الخاطئة. أولاً، كان المراقبون العسكريون الغربيون يميلون إلى إرساء افتراضاتهم على أدلة ناقصة. على سبيل المثال، يبدو أن كثيرين يفسرون ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 وتدخلها في سوريا عام 2015 على أنه دليل على نجاح إصلاحاتها الدفاعية بعد عام 2008. ومع ذلك، في شبه جزيرة القرم، لم يكن هناك أي قتال تقريباً وكان بعض السكان المحليين مؤيدين لروسيا، وفي سوريا، كان متاحاً للقوات الجوية الروسية أن تنفذ حملات قصف كبرى في ظل الغياب الفعلي للدفاعات الجوية. وبعبارة أخرى، لم تكشف هذه الصراعات إلا القليل عن أداء القوات الروسية في حرب برية تقليدية ضد عدو حازم ومسلح تسليحاً جيداً.
وبالتالي، كان من المفاجئ للعديد من هؤلاء المحللين أنفسهم أن جيش بوتين لم يتمكن من الاستيلاء على كييف خلال 48 ساعة عام 2022. ولم يأخذوا في الاعتبار حقيقة أن روسيا تواجه الآن وضعاً مختلفاً تماماً لمدينة يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة موزعين على 330 ميلاً مربعاً (855 كيلومتراً مربعاً) ويقسمها نهر كبير مع روافد، وكان سكانها معادين للقوات الروسية بأغلبيتهم الساحقة.
ثانياً، كان المحللون الغربيون على استعداد تام لقبول المعلومات الواردة من روسيا على محمل الجد. على سبيل المثال، أقنعت التقارير الروسية حول مناوراتها العسكرية واسعة النطاق العديد من خبراء الأمن بأن الجيش الروسي نجح بشكل كبير في تحسين الخدمات اللوجيستية، وأنظمة الاتصالات، والدعم الجوي للعمليات البرية، وبشكل أكثر عمومية، العمليات المشتركة بين مختلف فروع القوات المسلحة، لكن كان يفترض التشكيك بهذه المعلومات: فمن الصعب أن نتوقع من محللي الدفاع الروس أن يعترفوا بأن الإصلاح العسكري في بلادهم كان فاشلاً أو أن الفساد كان سرطاناً منتشراً في نظام حيازة الأسلحة. ومع ذلك، عندما بدأ بوتين بحشد القوات على حدود أوكرانيا أواخر عام 2021، خشي العديد من المحللين الغربيين من وقوع هجوم كاسح.
وتتعلق المشكلة الثالثة بطبيعة الاتصالات بين الخبراء العسكريين والأمنيين الروس وزملائهم في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) في السنوات التي سبقت الحرب. كان هؤلاء الخبراء الروس، الذين أقاموا علاقات مع الغرب، يميلون إلى أن يكونوا متحضرين، غربيين، متعددي اللغات، وأذكياء، لكن كانت لديهم أيضاً علاقات وثيقة مع الكرملين ودعموا السرديات الروسية الرسمية. ومن ناحية أخرى، طوال فترة حكم بوتين المستمرة منذ 23 عاماً، فرض نظامه أحكاماً بالسجن لعقود من الزمن على محللي الدفاع المحليين الذين قالوا أشياء أو نشروا مقالات غير مقبولة للرقابة حتى لو لم يتمتعوا بإمكانية الوصول إلى مواد سرية.
وأخيراً، ولكن ليس أقل أهمية، ركز الخبراء العسكريون الأميركيون بشكل كبير ومنذ فترة طويلة على أنظمة الأسلحة والتكنولوجيا الجديدة في روسيا بوتين. منذ عام 2010، تنظم وزارة الدفاع الروسية مناورات سنوية واسعة النطاق بمشاركة عشرات الآلاف من الجنود، تتضمن مناورات للأسلحة المشتركة بين الخدمات، وتستعرض الأسلحة والمعدات العسكرية الجديدة، بدءاً من أنظمة الاتصالات الشخصية عالية التقنية وصولاً إلى صاروخ "زيركون" الباليستي فرط الصوتي. وبمراقبة هذه الأحداث المنظمة بشكل مسرحي، خلص العديد من المراقبين الغربيين إلى أن روسيا كانت تبني جيشاً حديثاً ومحترفاً وفعالاً. وهكذا، عندما غزت القوات الروسية أوكرانيا، افترض كثيرون أنها ستتمكن بسرعة من إخضاع ثاني أكبر دولة في أوروبا. قليلون أولوا اهتماماً وثيقاً للتركيبة الفعلية للقوات الروسية نفسها وتدريبها واستعدادها.
خلطة عجيبة
إن نقاط الضعف المتأصلة في القوات المسلحة الروسية لها علاقة كبيرة بالطريقة التي تنظم بها قوتها البشرية. في معظم الجيوش القائمة على المتطوعين، يوفر الانضمام إلى الجيش بشكل عام وسيلة للحراك الاجتماعي، وسبل العيش الآمنة، والفوائد مدى الحياة. يعتمد التطويع الناجح أيضاً بشكل كبير على حالة الاقتصاد العام: فالأسواق المزدهرة تميل إلى تعقيد التجنيد العسكري وجذب الجنود الجدد. وعلى النقيض من ذلك، فإن التجنيد الإجباري لا يتأثر بتقلبات الاقتصاد، ولكن نادراً ما ينفذ بشكل عادل، وبخاصة في الأنظمة الديكتاتورية مثل روسيا. عادة ما يتمكن أبناء النخب السياسية والتجارية وحتى عائلات الطبقة الوسطى العليا من تجنب الخدمة العسكرية الإلزامية.
ويعتمد الجيش الروسي المعاصر على نظام هجين من المتعاقدين المتطوعين والجنود المجندين. على رغم أن الحكومة الروسية كانت تفضل منذ فترة طويلة الانتقال إلى قوة مؤلفة بالكامل من المتطوعين، والتي من شأنها أن توفر قوة محترفة تتكون من جنود يريدون الخدمة بالفعل، فإنها لا تستطيع الاتكال فقط على المتطوعين للوصول إلى هدفها المتمثل في 900 ألف إلى مليون عسكري محترف – بما في ذلك الضباط وضباط الصف والجنود. منذ أن بدأ غزو موسكو غير المبرر لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، احتاجت إلى تكثيف تجنيد المتطوعين بأجر وتجنيد الرجال في سن التجنيد لتلبية متطلباتها من القوى البشرية.
وفي أواخر عام 2010، وفي أعقاب الإصلاحات العسكرية، وضعت الحكومة الروسية نصب أعينها جذب نصف مليون جندي متعاقد، واستكمالهم بنحو 250 ألف مجند، ولكن لم يكن من الممكن الوصول إلى هذا العدد من المتعاقدين، لأن الرواتب، على رغم أنها كانت تنافسية في البداية، تآكلت بسرعة بسبب التضخم. ومع تحسن الفرص الاقتصادية في قطاعات أخرى من الاقتصاد الروسي، لم يكن القائمون على التجنيد العسكري يجذبون عدداً أقل فحسب، بل وعلى نحو متزايد أيضاً أشخاصاً غير مناسبين ليكونوا جنوداً. بحلول مارس (آذار) 2020، كان الجيش الروسي يتكون من نحو 405 آلاف متعاقد و225 ألف مجند، كثير منهم كانوا مدربين تدريباً سيئاً للغاية. ومن غير المرجح أن تكون هذه الأرقام قد تغيرت بشكل كبير قبل الغزو.
ما الذي يسيء الغرب فهمه في شأن الجيش الروسي؟
مشكلة القوات المسلحة البشرية في موسكو وكيف يمكن لواشنطن استغلالها
زولتان باراني الجمعة 15 سبتمبر 2023 0:02
مجندون روس في مركز تجنيد في سيمفيروبول، شبه جزيرة القرم، أبريل 2023 (رويترز)
في ربيع عام 2022، بينما كان الغرب يراقب غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، كانت إحدى أعظم المفاجآت هي ما كشفه عن القوة العسكرية الروسية. عندما بدأ الهجوم، افترض العديد من القادة والمحللين الغربيين أن أوكرانيا ستنهزم بسرعة بواسطة الجيش الروسي الضخم والقوات الجوية القوية والاحتياطات الكبيرة من الأسلحة الرئيسة. وبدلاً من ذلك، أثبتت القوات البرية الروسية أنها غير منظمة، وسيئة التدريب، وتفتقر إلى خطوط الإمداد الحيوية، في حين فشلت الطائرات الروسية في السيطرة على المجال الجوي الأوكراني. لقد استغرق الأمر أسابيع قبل أن يدرك الغرب بشكل كامل نقاط الضعف هذه ويساعد أوكرانيا على استغلالها.
وفي الأشهر الأخيرة، كانت هناك قراءة خاطئة مماثلة. ففي الأسابيع التي تلت بدء الهجوم المضاد البطيء في أوكرانيا في يونيو (حزيران)، ركز العديد من المعلقين على قوة وعمق الدفاعات الروسية. وأعرب البعض عن تشاؤمهم في شأن قدرة أوكرانيا على اختراقها على الإطلاق. وحذر آخرون من أن موسكو قد تأمر بتعبئة ثانية، لجلب مئات الآلاف من القوات الجديدة إلى ساحات القتال. ومع ذلك، بحلول أواخر أغسطس (آب)، كانت أوكرانيا تحقق مكاسب قوية، مع اعتراف مسؤولي إدارة بايدن بتقدم "ملحوظ"، بما في ذلك ضد خط الدفاع الثاني لروسيا.
وهذا النمط ليس جديداً. على مدى عقود، كان المحللون وصناع السياسات الغربيون يبالغون باستمرار في تقدير قوة موسكو العسكرية. ويعود ذلك جزئياً إلى نقص المعلومات الموثوقة. وعلى رغم أن روسيا (والاتحاد السوفياتي من قبلها) خاضت العديد من الحروب، فإن هناك أمثلة قليلة على مواجهة موسكو أعداء حازمين ومسلحين تسليحاً جيداً، كما أدت الدعاية الروسية والقمع الذي يمارسه الكرملين إلى الحد فعلياً من التحليل المستقل داخل روسيا، لكن هناك عاملاً آخر قد يكون أكثر أهمية: في تقييم قوة روسيا، مال الخبراء الأميركيون وغيرهم من الخبراء الغربيين إلى التركيز على التقييمات الكمية لأنظمة الأسلحة - الدبابات والطائرات والصواريخ - والقوة البشرية الخام، بدلاً من التركيز على الخصائص النوعية والنفسية التي تمتلكها التي غالباً ما تحدد أداء الجيش في ساحة المعركة.
في الواقع، في العديد من المقاييس النوعية، كانت القوات الروسية فقيرة إلى حد كبير. وتفتقر موسكو إلى ذلك النوع من الضباط المدربين تدريباً عالياً والذي أثبت أنه ضروري لأفضل جيوش العالم. وبسبب اعتمادها جزئياً على التجنيد الإجباري الذي يفرض بشكل غير متساو بين السكان، فإنها تعاني انخفاضاً في معنويات القوات. لقد سعى العديد من أفضل العقول الشابة في روسيا إلى تجنب الخدمة تماماً أو الفرار من البلاد. وبسبب النظام الاستبدادي في روسيا والفساد المستشري، فقد ثبت أنه من الصعب تحقيق ذاك النوع من الإبداع والقدرة على التكيف والتنوع الذي يميل إلى تحقيق أفضل النتائج في ساحة المعركة.
ومع ذلك، وبسبب السمعة التاريخية التي تتمتع بها روسيا كقوة عظمى، فإن المحللين يميلون إلى النظر إلى قواتها المسلحة بشكل مختلف، مع التركيز على القوة المادية وإهمال العوامل غير الملموسة الحاسمة مثل نوعية وخبرة قواتها وبشكل أكثر تحديداً، الطريقة التي بنت فيها روسيا قوتها البشرية. بالنتيجة، ربما يعرقل هذا تبني الولايات المتحدة وحلفاؤها استجابات سياسية أكثر فاعلية للحرب أو حتى يعوق قيام استراتيجية قتالية أوكرانية.
قوة عظمى أم ضجيج ضخم؟
تعود المبالغة في تقدير قوة موسكو العسكرية إلى منتصف القرن العشرين في الأقل. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بالغ الخبراء في كثير من الأحيان في تقدير القوات السوفياتية، وكان لذلك عواقب وخيمة على سياسة الأمن القومي الأميركي، وبخاصة الإنفاق الدفاعي. وربما كان المثال الأكثر شهرة هو ما يسمى بالجدل حول الفجوة الصاروخية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. إلى جانب معلقين مؤثرين في زمن الحرب الباردة مثل جوزيف ألسوب، قال السيناتور جون أف كينيدي إن إدارة أيزنهاور وصلت لمرحلة الرضا في مواكبتها برامج الصواريخ الروسية. خلال رئاسة كينيدي، بالغ مستشاروه العسكريون، الذين شحنتهم تلك المناقشة، في تقدير كمية ونوعية الصواريخ الباليستية السوفياتية العابرة للقارات بشكل خطر، ودعوا إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، مما دفع القيادة السوفياتية إلى استنتاج مفاده أن كينيدي كان متطرفاً خطراً. وحدث الشيء نفسه بعد عقدين من الزمن، في السنوات الأولى لإدارة ريغان: فقد دفعت التقييمات غير الدقيقة للتقدم العسكري السوفياتي من قبل مجتمع الاستخبارات الأميركية واشنطن إلى إعادة تقييم سياساتها الدفاعية وزيادة نفقاتها العسكرية.
ولم ينته هذا النمط بعد الحرب الباردة. أعرب معظم خبراء الأمن الغربيين عن تقديرهم الكامل لانحدار المؤسسة العسكرية الروسية بعد فشل الحرب السوفياتية في أفغانستان وانهيار الاتحاد السوفياتي، لكن الإصلاحات الدفاعية التي قامت بها موسكو، وبخاصة بعد إعادة تشكيل القوات المسلحة عام 2008، أسيء تقديرها من قبل معظم المحللين العسكريين الغربيين. وخلص كثير منهم إلى أن المؤسسة العسكرية الروسية طورت أسلحة جديدة قوية، وحسنت التدريب، وأصبحت قوة قتالية فعالة يمكن أن تشكل تحدياً خطراً لأكبر جيوش العالم.
وأدت هذه الحسابات الخاطئة، جنباً إلى جنب مع تقييمات أخرى على مدى العقد الماضي، بشكل مباشر إلى مبالغة الغرب في تقدير احتمالات نجاح القوات المسلحة الروسية في أوكرانيا. بحلول عام 2022، اعتقد معظم المحللين أنه من خلال امتلاك أحد أكبر الجيوش النظامية في العالم وتزويده بمجموعة متنوعة من أنظمة الأسلحة المتطورة، ستتمتع روسيا حتماً بميزة طبيعية على قوات الدفاع الأوكرانية الأصغر بكثير.
وهناك أربعة أسباب تقطع شوطاً طويلاً في تفسير هذه الأحكام الخاطئة. أولاً، كان المراقبون العسكريون الغربيون يميلون إلى إرساء افتراضاتهم على أدلة ناقصة. على سبيل المثال، يبدو أن كثيرين يفسرون ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 وتدخلها في سوريا عام 2015 على أنه دليل على نجاح إصلاحاتها الدفاعية بعد عام 2008. ومع ذلك، في شبه جزيرة القرم، لم يكن هناك أي قتال تقريباً وكان بعض السكان المحليين مؤيدين لروسيا، وفي سوريا، كان متاحاً للقوات الجوية الروسية أن تنفذ حملات قصف كبرى في ظل الغياب الفعلي للدفاعات الجوية. وبعبارة أخرى، لم تكشف هذه الصراعات إلا القليل عن أداء القوات الروسية في حرب برية تقليدية ضد عدو حازم ومسلح تسليحاً جيداً.
وبالتالي، كان من المفاجئ للعديد من هؤلاء المحللين أنفسهم أن جيش بوتين لم يتمكن من الاستيلاء على كييف خلال 48 ساعة عام 2022. ولم يأخذوا في الاعتبار حقيقة أن روسيا تواجه الآن وضعاً مختلفاً تماماً لمدينة يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة موزعين على 330 ميلاً مربعاً (855 كيلومتراً مربعاً) ويقسمها نهر كبير مع روافد، وكان سكانها معادين للقوات الروسية بأغلبيتهم الساحقة.
ثانياً، كان المحللون الغربيون على استعداد تام لقبول المعلومات الواردة من روسيا على محمل الجد. على سبيل المثال، أقنعت التقارير الروسية حول مناوراتها العسكرية واسعة النطاق العديد من خبراء الأمن بأن الجيش الروسي نجح بشكل كبير في تحسين الخدمات اللوجيستية، وأنظمة الاتصالات، والدعم الجوي للعمليات البرية، وبشكل أكثر عمومية، العمليات المشتركة بين مختلف فروع القوات المسلحة، لكن كان يفترض التشكيك بهذه المعلومات: فمن الصعب أن نتوقع من محللي الدفاع الروس أن يعترفوا بأن الإصلاح العسكري في بلادهم كان فاشلاً أو أن الفساد كان سرطاناً منتشراً في نظام حيازة الأسلحة. ومع ذلك، عندما بدأ بوتين بحشد القوات على حدود أوكرانيا أواخر عام 2021، خشي العديد من المحللين الغربيين من وقوع هجوم كاسح.
وتتعلق المشكلة الثالثة بطبيعة الاتصالات بين الخبراء العسكريين والأمنيين الروس وزملائهم في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) في السنوات التي سبقت الحرب. كان هؤلاء الخبراء الروس، الذين أقاموا علاقات مع الغرب، يميلون إلى أن يكونوا متحضرين، غربيين، متعددي اللغات، وأذكياء، لكن كانت لديهم أيضاً علاقات وثيقة مع الكرملين ودعموا السرديات الروسية الرسمية. ومن ناحية أخرى، طوال فترة حكم بوتين المستمرة منذ 23 عاماً، فرض نظامه أحكاماً بالسجن لعقود من الزمن على محللي الدفاع المحليين الذين قالوا أشياء أو نشروا مقالات غير مقبولة للرقابة حتى لو لم يتمتعوا بإمكانية الوصول إلى مواد سرية.
وأخيراً، ولكن ليس أقل أهمية، ركز الخبراء العسكريون الأميركيون بشكل كبير ومنذ فترة طويلة على أنظمة الأسلحة والتكنولوجيا الجديدة في روسيا بوتين. منذ عام 2010، تنظم وزارة الدفاع الروسية مناورات سنوية واسعة النطاق بمشاركة عشرات الآلاف من الجنود، تتضمن مناورات للأسلحة المشتركة بين الخدمات، وتستعرض الأسلحة والمعدات العسكرية الجديدة، بدءاً من أنظمة الاتصالات الشخصية عالية التقنية وصولاً إلى صاروخ "زيركون" الباليستي فرط الصوتي. وبمراقبة هذه الأحداث المنظمة بشكل مسرحي، خلص العديد من المراقبين الغربيين إلى أن روسيا كانت تبني جيشاً حديثاً ومحترفاً وفعالاً. وهكذا، عندما غزت القوات الروسية أوكرانيا، افترض كثيرون أنها ستتمكن بسرعة من إخضاع ثاني أكبر دولة في أوروبا. قليلون أولوا اهتماماً وثيقاً للتركيبة الفعلية للقوات الروسية نفسها وتدريبها واستعدادها.
خلطة عجيبة
إن نقاط الضعف المتأصلة في القوات المسلحة الروسية لها علاقة كبيرة بالطريقة التي تنظم بها قوتها البشرية. في معظم الجيوش القائمة على المتطوعين، يوفر الانضمام إلى الجيش بشكل عام وسيلة للحراك الاجتماعي، وسبل العيش الآمنة، والفوائد مدى الحياة. يعتمد التطويع الناجح أيضاً بشكل كبير على حالة الاقتصاد العام: فالأسواق المزدهرة تميل إلى تعقيد التجنيد العسكري وجذب الجنود الجدد. وعلى النقيض من ذلك، فإن التجنيد الإجباري لا يتأثر بتقلبات الاقتصاد، ولكن نادراً ما ينفذ بشكل عادل، وبخاصة في الأنظمة الديكتاتورية مثل روسيا. عادة ما يتمكن أبناء النخب السياسية والتجارية وحتى عائلات الطبقة الوسطى العليا من تجنب الخدمة العسكرية الإلزامية.
ويعتمد الجيش الروسي المعاصر على نظام هجين من المتعاقدين المتطوعين والجنود المجندين. على رغم أن الحكومة الروسية كانت تفضل منذ فترة طويلة الانتقال إلى قوة مؤلفة بالكامل من المتطوعين، والتي من شأنها أن توفر قوة محترفة تتكون من جنود يريدون الخدمة بالفعل، فإنها لا تستطيع الاتكال فقط على المتطوعين للوصول إلى هدفها المتمثل في 900 ألف إلى مليون عسكري محترف – بما في ذلك الضباط وضباط الصف والجنود. منذ أن بدأ غزو موسكو غير المبرر لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، احتاجت إلى تكثيف تجنيد المتطوعين بأجر وتجنيد الرجال في سن التجنيد لتلبية متطلباتها من القوى البشرية.
وفي أواخر عام 2010، وفي أعقاب الإصلاحات العسكرية، وضعت الحكومة الروسية نصب أعينها جذب نصف مليون جندي متعاقد، واستكمالهم بنحو 250 ألف مجند، ولكن لم يكن من الممكن الوصول إلى هذا العدد من المتعاقدين، لأن الرواتب، على رغم أنها كانت تنافسية في البداية، تآكلت بسرعة بسبب التضخم. ومع تحسن الفرص الاقتصادية في قطاعات أخرى من الاقتصاد الروسي، لم يكن القائمون على التجنيد العسكري يجذبون عدداً أقل فحسب، بل وعلى نحو متزايد أيضاً أشخاصاً غير مناسبين ليكونوا جنوداً. بحلول مارس (آذار) 2020، كان الجيش الروسي يتكون من نحو 405 آلاف متعاقد و225 ألف مجند، كثير منهم كانوا مدربين تدريباً سيئاً للغاية. ومن غير المرجح أن تكون هذه الأرقام قد تغيرت بشكل كبير قبل الغزو.
اقرأ المزيد
عقوبات بريطانية ضد شركات إيرانية "تزود الجيش الروسي"
3 كيلومترات تقرب الجيش الروسي من منطقة حررتها أوكرانيا
عشرات القتلى... كييف تعلن عن "ضربة مدمرة" ضد الجيش الروسي
هل زلزلت حرب أوكرانيا كرامة الجيش الروسي وعرت بوتين؟
القوات الأوكرانية تجد الجيش الروسي المنسحب في حالة بائسة
مشكلة ثقافة سوء معاملة الجنود في الجيش الروسي
ويسهم هذا الهيكل الهجين أيضاً في إحدى نقاط الضعف الدائمة في القوات المسلحة الروسية: ندرة ضباط الصف المحترفين. في أفضل جيوش العالم، غالباً ما يكون ضباط الصف بمثابة العمود الفقري ويكونون مسؤولين عن تدريب القوات، وتشغيل أنظمة الأسلحة المتطورة، والحفاظ على الروح المعنوية والانضباط، وتوفير حلقة وصل حيوية بين الضباط والجنود، ولكن في حالة روسيا، هناك عدد قليل نسبياً من ضباط الصف المحترفين والمدربين تدريباً جيداً، والذين تميل روسيا إلى استخدام المتعاقدين معهم.
علاوة على ذلك، يميل كبار الضباط في روسيا إلى رفض تفويض السلطة، الأمر الذي يحرم زملاءهم الأصغر سناً من فرص تطوير صفات المبادرة والقيادة. وكما أصبح واضحاً بعد بدء غزو أوكرانيا، فمن دون وجود عدد كاف من ضباط الصف المدربين بشكل مناسب، لم تكن روسيا قادرة على القتال بفعالية. كان جنودها يفتقرون إلى التوجيه والانضباط، وكان رفض تفويض السلطة يعني أن كبار الضباط - بما في ذلك الجنرالات - كانوا يقودون القوات إلى الجبهة، مما أدى إلى سقوطهم في أرض المعركة. وقد قتل ما لا يقل عن تسعة جنرالات روس في الحرب حتى الآن، وهو رقم غير عادي في أي صراع حديث.
ويبدو أن بوتين وجنرالاته يدركون أن متطلبات القوة البشرية اللازمة لحرب الاستنزاف الحالية البطيئة التي يخوضونها في أوكرانيا لا يمكن تلبيتها إلا من خلال تدابير جذرية. وكانت إحدى هذه الخطوات هي القرار الذي اتخذه بوتين في سبتمبر (أيلول) 2022 بتعبئة 300 ألف مجند، أرسل كثير منهم إلى الجبهة مع القليل من التدريب، كما يجند الكرملين جنوداً من قيرغيزستان ودول مجاورة أخرى وأيضاً وسع الحد العمري للرجال المؤهلين للتجنيد. ويتساءل المرء ما إذا كانت هذه التدابير ستعوض عن عشرات الآلاف من الضحايا وخسارة مئات الآلاف من الرجال في سن الخدمة العسكرية - بما في ذلك العديد من أفضل المتعلمين في البلاد - الذين فروا منذ بدء الغزو. وتأتي هذه القيود لتضاف على الاتجاهات الديموغرافية غير المواتية بالفعل في روسيا.
ريفي وفقير وقديم
ومن الناحية النظرية، ينبغي أن يكون الجزء المتطوع من القوات المسلحة الروسية قوياً، كما هو الحال في العديد من الجيوش الأخرى، يخدم المتطوعون في الجيش إما لأنهم وطنيون ويتمتعون بممارسة الانضباط العسكري وأسلوب الحياة المصاحب له أو لأنهم يأتون من مجموعات محرومة اجتماعياً واقتصادياً ولمن تقدم الخدمة العسكرية فوائد قد لا تكون متاحة بطريقة أخرى، ولكن في حالة روسيا، كانت الغلبة للفئة الأخيرة، وكانت النتيجة أن المشاركة في القوات المسلحة متفاوتة إلى حد كبير في جميع أنحاء البلاد، وأن الرجال من المناطق الريفية والمناطق النائية ممثلون بشكل كبير. على رغم قلة الإشارات على الحرب المستمرة في موسكو وسانت بطرسبورغ فإن الحرب في المناطق البعيدة والأكثر فقراً من البلاد هي حقيقة حاضرة دائماً، وليس من غير المألوف أن يشترك فيها الرجال في منتصف العمر المتقدم. ونتيجة لذلك، فإن نسبة متزايدة من الجيش الروسي تجاوزت سن القتال النموذجية.
كما حرفت رواتب الجنود تكوين الجيش. ومن أجل الحفاظ على مستوى التجنيد منذ بدء الحرب في أوكرانيا، جعلت الحكومة المشاركة في القوات المسلحة أكثر ربحية بكثير مما كانت عليه قبل الغزو. وبحلول أوائل عام 2023، كانت الدولة تقدم ما يصل إلى 2600 دولار شهرياً للراغبين في التجنيد، وهو راتب يفوق مرات عدة ما يكسبه الأشخاص العاديون في بلدة صغيرة في روسيا. ويضاف إلى هذه الأجور مساعدة اجتماعية شاملة، بما في ذلك إعانات الإسكان، وضمان الالتحاق بالجامعات، ومزايا المحاربين القدامى مدى الحياة. في يوليو (تموز) 2023، أعلن نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري ميدفيديف، أن 185 ألف مجند جديد انضموا إلى الجيش، على رغم أنه لم يوضح ما إذا كان هذا العدد يشمل المجندين والمتطوعين.
وفي الوقت نفسه بدأت روسيا حملة تجنيد في كازاخستان، موطن نحو ثلاثة ملايين إثني روسي، لكن الزعماء الكازاخستانيين لم يؤيدوا حرب بوتين، كما أن قوانين البلاد - مثل قوانين جمهوريات آسيا الوسطى الأخرى - تحظر على مواطنيها الانضمام إلى الجيوش الأجنبية. علاوة على ذلك، ونظراً إلى ثروة كازاخستان النفطية واقتصادها الديناميكي، فمن غير الواضح كم عدد المواطنين الكازاخستانيين الذين قد يعرضون حياتهم للخطر حتى في مقابل دفعة لمرة واحدة تبلغ 495 ألف روبل (5300 دولار أميركي) وراتب شهري لا يقل عن 190 ألف روبل (2000 دولار أميركي).
واستهدفت شركات التجنيد الروسية رجالاً من جمهوريات آسيا الوسطى الأخرى أيضاً، والذين من المرجح أن تكون عقود الخدمة هذه أكثر إغراء بالنسبة إليهم. وفي سبتمبر 2022، سهل مجلس الدوما، وهو المجلس التشريعي الروسي، على الأشخاص الذين يخدمون في الجيش الحصول على الجنسية الروسية، وتقصير شرط الخدمة من ثلاث سنوات إلى سنة واحدة.
ولا يزال من غير الواضح أيضاً مدى فعالية المرتزقة في الحملة الروسية في أوكرانيا. ويبدو أن شركة فاغنر شبه العسكرية وبعد وفاة زعيمها، يفغيني بريغوجين، لم تعد جهة فاعلة في أوكرانيا، على رغم أنها لا تزال نشطة للغاية في أفريقيا، مما يؤدي إلى تفاقم تحديات القوة البشرية التي يواجهها الجيش الروسي في أوكرانيا. وقد تحركت الدولة الآن لوضع جيوش خاصة أخرى، والتي كانت غير قانونية من الناحية الفنية في روسيا، تحت سيطرتها. هناك العديد منهم، وجميعهم على علاقات وثيقة مع الكرملين. وهي تعمل ظاهرياً كشركات أمنية لإمبراطوريات أعمال النفط والغاز التابعة لحكم الأوليغارشية، لكن معظمها كان يقاتل في أوكرانيا. على رغم أن المرتزقة قد يكونون جنوداً أكثر تحفيزاً وفعالية، كما أظهر مثال فاغنر، فإنهم أقل عرضة بكثير للخضوع للقيادة العسكرية الرسمية.
ما يأتي بسهولة يذهب بسهولة
لكن المرتزقة غير المنضبطين والمتطوعين المسنين لا يشكلون سوى جزء من التحدي الذي تواجهه روسيا. ويأتي جزء كبير من قوتها البشرية الحالية - نحو الثلث - من المجندين. ويحظر التشريع الجديد الآن على الرجال في سن الخدمة العسكرية مغادرة البلاد. وترسل إخطارات التجنيد الآن إلكترونياً، ويجب على المتسلمين إبلاغ مكتب التجنيد المحلي الخاص بهم في غضون 20 يوماً أو مواجهة عقوبات قاسية (بما في ذلك تعليق رخصة القيادة، وعدم الأهلية للحصول على القروض المصرفية، وحظر تسجيل العقارات). وفي الوقت نفسه جرى توسيع أهلية التجنيد من الفئة العمرية ما بين 18 و27 عاماً إلى الذين تراوح أعمارهم ما بين 18 و30 سنة، كما قام مجلس الدوما بتمديد الحد الأقصى لسن تعبئة جنود الاحتياط إلى 55 سنة في حالة صغار الضباط و70 سنة لكبار الضباط.
وبحسب الروايات الرسمية الروسية فإن هذه الإجراءات أتت بالنتائج المرجوة. وبالتالي، من المفترض أن يؤدي الاستدعاء الصيفي في يونيو 2023 إلى تجنيد 140 ألف مجند، ووقع المتطوعون 117 ألف عقد جديد في الأشهر الستة الأولى من العام، لكن بعض المحللين، بما في ذلك الخبراء الروس في المنفى، قدروا أن الأعداد الحقيقية من المرجح أن تكون أقل بكثير، وربما أقل من نصف هذه الأرقام.
وكان أحد المؤشرات على استماتة الحكومة لحشد قوة بشرية هو استخدامها على نطاق واسع لنزلاء السجون في المهام القتالية - وهو نهج يعود إلى عهد ستالين. وفي سبتمبر 2022، فتح بوتين الطريق أمام المدانين للانضمام إلى القوات المسلحة مقابل تخفيف الأحكام الصادرة في حقهم وغيرها من المزايا المحتملة. ووفقاً لبعض التقديرات، انضم ما لا يقل عن 40 ألف مدان إلى الجيش في النصف الثاني من عام 2022 وحده. صرحت فاغنر أنه من بين 49 ألف سجين سابق جندتهم للحرب في أوكرانيا، مات 20 في المئة منهم في ساحة المعركة. بكل المقاييس، يعامل المدانون بقسوة أكبر من الجنود النظاميين، لكن أولئك الذين أوفوا بالتزاماتهم التعاقدية سمح لهم بالمغادرة كرجال أحرار.
والعامل الآخر الذي ساعد في حجب القوة العسكرية الفعلية لروسيا هو عدم اهتمام الكرملين الواضح بالخسائر البشرية. لقد أبدت النخب السياسية السوفياتية والروسية تقليدياً قدراً كبيراً من اللامبالاة وعدم الاكتراث لأعداد الضحايا. منذ سبتمبر 2022، عندما أعلنت حكومة بوتين عن رقم منخفض بشكل غير واقعي بلغ 5937 قتيلاً من القوات الروسية، لم يقدم الكرملين أي بيانات جديدة عن الضحايا الروس. ونظراً إلى ندرة الأرقام الروسية وعدم موثوقيتها، فقد قدمت العديد من المصادر الغربية والأوكرانية والروسية المستقلة أرقامها الخاصة، والتي هي بحكم تعريفها تخمينية.
وقدر مسؤولون أميركيون عدد قتلى الحرب الروس بنحو 50 ألفاً في مايو (أيار) 2023، بينما قدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية Center for Strategic and International Studies العدد ما بين 60 ألفاً و70 ألفاً في السنة الأولى من الحرب وحدها. وأصدرت إحدى وسائل الإعلام الروسية المستقلة "ميديازونا"، ما قد يكون التقدير الأكثر صرامة وموثوقية - يعتمد إلى حد كبير على بيانات الميراث - وأرقامها قريبة بشكل ملحوظ من أرقام الحكومة الأميركية. وجدت "ميديازونا" أن ما يقرب من 47 ألف رجل روسي لقوا حتفهم في أوكرانيا وأن 78 ألفاً آخرين أصيبوا بجروح خطرة لدرجة أنهم لن يتمكنوا من العودة إلى القتال. بعبارة أخرى، خسرت روسيا حتى الآن نحو 125 ألف جندي، وهو ما يعادل تقريباً حجم قوتها الغازية الأصلية، وعدداً من الرجال أكبر بكثير مما فقدته في كل حروبها الأخرى منذ الحرب العالمية الثانية.
ويتجلى موقف الجيش الروسي المتراخي تجاه الضحايا في إهماله العام الطب القتالي. وفي الغرب، أحرز تقدم كبير في الجمع بين الجنود الجرحى والرعاية الحرجة بسرعة - وهو ما يسمى بالساعة الذهبية [أي الفترة القصيرة الحرجة التي يمكن إنقاذ الحياة فيها]، لكن في حالة روسيا، كان أطباء الجيش غير مجهزين وبحالة يرثى لها، وغالباً ما يكونون غير قادرين على تقديم أكثر من مجرد الإسعافات الأولية. ويساعد هذا في تفسير الانخفاض الكبير في معدل بقاء الضحايا الروس على قيد الحياة: إذ تبلغ نسبة الجرحى إلى القتلى في أوكرانيا سبعة إلى واحد، بينما تظل النسبة في روسيا ثلاثة إلى واحد فقط. وعلى رغم أن علماء النفس الروس يقدرون أن أكثر من 100 ألف من المحاربين القدامى سيحتاجون إلى مساعدة مهنية للتعامل مع اضطرابات الصحة العقلية، فإن البلاد تحتفظ بـ10 مستشفيات فقط للمحاربين القدامى، منها مستشفى واحد فقط يضم 32 سريراً يركز على إعادة التأهيل النفسي.
ومن المحتمل أن يكون الضرر الذي يلحق بالمعنويات العامة للجيش هو عدم المساواة في التركيبة السكانية لمن يقتل. ويأتي عدد غير متناسب إلى حد كبير من الذين يموتون من الأقليات العرقية وسكان الريف في البلاد. ووفقاً لوسائل الإعلام المستقلة، مقابل كل جندي من موسكو يموت في هذه الحرب، يموت أكثر من 87 شخصاً ممن جاؤوا من داغستان، الجمهورية الواقعة في أقصى جنوب روسيا، و275 شخصاً ممن جندوا من بورياتيا، وهي جمهورية في الشرق الأقصى الروسي، و350 شخصاً من توفا، موطن أقلية آسيوية وأفقر منطقة في روسيا. ويدرك الكرملين تمام الإدراك أن احتياطاته من القوى البشرية أكبر بكثير من احتياطات أوكرانيا، وأنه قادر على استبدال الجنود القتلى بسرعة. وعلى حد تعبير نائب وزير دفاع إستونيا كوستي سالم: "في روسيا فإن حياة الجندي لا تساوي شيئاً... وكل الجنود المفقودين من الممكن تعويضهم، ولن يؤدي عدد الخسائر إلى تحويل الرأي العام ضد الحرب".
الضعف الروسي والفرصة الغربية
لم يلب أداء المؤسسة العسكرية الروسية في أوكرانيا توقعات المحللين الغربيين، لكن تلك التوقعات لم تكن مبنية على افتراضات واقعية، ولكن أولئك الذين قيموا المؤسسة العسكرية الروسية بشكل شمولي وكلي، لم يكن من الممكن أن يصابوا بالصدمة إزاء انخفاض الروح المعنوية، وضعف التدريب، والإهمال العام لجنودها (وهو ما يتجلى حتى في مثل هذه الهفوات التي تبدو بسيطة ولكنها مهمة، مثل انخفاض ضغط إطارات مركباتهم العسكرية). ويكمن وراء هذه القضايا المحددة الاستبداد العميق الذي يسلط الضوء على السياسة العسكرية الروسية والفساد المتفشي الذي استنزف قوة قواتها المسلحة.
إن الفهم الخاطئ المستمر بين المحللين والمسؤولين الغربيين للقوة العسكرية الروسية له عواقب وخيمة. وسوء الفهم هذا في المراحل الأولى من الحرب الحالية، ربما يكون قد خفف من الدعم في العواصم الغربية الذي كانت أوكرانيا في أمس الحاجة إليه. وقد شجع القبول غير النقدي للتقارير والبيانات الصادرة عن موسكو كثيرين على الإيمان بحتمية انتصار روسيا في نهاية المطاف. ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تتحسن فعالية القوات الروسية مع استمرار الحرب.
وقد يكون اجتماع بوتين المرتقب مع كيم جونغ أون لمناقشة إمكانية قيام كوريا الشمالية بتزويد موسكو بالأسلحة علامة على أن الكرملين غير متفائل في شأن قدرته على تسليح جنوده بالأسلحة التي يحتاجون إليها. ومن خلال الاعتراف بالدعاية الروسية وتجاهلها، وعوضاً عنها الانكباب على دراسة وتحديد نقاط الضعف الفعلية للجيش الروسي، قد تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من تطوير أساليب جديدة وأفضل يمكن أن تسمح لهم بمساعدة أوكرانيا على الانتصار والتعجيل بنهاية الحرب. تماماً كما فعلت الولايات المتحدة مع حرب السوفيات في أفغانستان.
*زولتان باراني هو أستاذ لعلوم الحوكمة في جامعة تكساس ويشغل كرسي مئوية فرانك سي إروين جونيور
مجندون روس في مركز تجنيد في سيمفيروبول، شبه جزيرة القرم، أبريل 2023 (رويترز)
في ربيع عام 2022، بينما كان الغرب يراقب غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، كانت إحدى أعظم المفاجآت هي ما كشفه عن القوة العسكرية الروسية. عندما بدأ الهجوم، افترض العديد من القادة والمحللين الغربيين أن أوكرانيا ستنهزم بسرعة بواسطة الجيش الروسي الضخم والقوات الجوية القوية والاحتياطات الكبيرة من الأسلحة الرئيسة. وبدلاً من ذلك، أثبتت القوات البرية الروسية أنها غير منظمة، وسيئة التدريب، وتفتقر إلى خطوط الإمداد الحيوية، في حين فشلت الطائرات الروسية في السيطرة على المجال الجوي الأوكراني. لقد استغرق الأمر أسابيع قبل أن يدرك الغرب بشكل كامل نقاط الضعف هذه ويساعد أوكرانيا على استغلالها.
وفي الأشهر الأخيرة، كانت هناك قراءة خاطئة مماثلة. ففي الأسابيع التي تلت بدء الهجوم المضاد البطيء في أوكرانيا في يونيو (حزيران)، ركز العديد من المعلقين على قوة وعمق الدفاعات الروسية. وأعرب البعض عن تشاؤمهم في شأن قدرة أوكرانيا على اختراقها على الإطلاق. وحذر آخرون من أن موسكو قد تأمر بتعبئة ثانية، لجلب مئات الآلاف من القوات الجديدة إلى ساحات القتال. ومع ذلك، بحلول أواخر أغسطس (آب)، كانت أوكرانيا تحقق مكاسب قوية، مع اعتراف مسؤولي إدارة بايدن بتقدم "ملحوظ"، بما في ذلك ضد خط الدفاع الثاني لروسيا.
وهذا النمط ليس جديداً. على مدى عقود، كان المحللون وصناع السياسات الغربيون يبالغون باستمرار في تقدير قوة موسكو العسكرية. ويعود ذلك جزئياً إلى نقص المعلومات الموثوقة. وعلى رغم أن روسيا (والاتحاد السوفياتي من قبلها) خاضت العديد من الحروب، فإن هناك أمثلة قليلة على مواجهة موسكو أعداء حازمين ومسلحين تسليحاً جيداً، كما أدت الدعاية الروسية والقمع الذي يمارسه الكرملين إلى الحد فعلياً من التحليل المستقل داخل روسيا، لكن هناك عاملاً آخر قد يكون أكثر أهمية: في تقييم قوة روسيا، مال الخبراء الأميركيون وغيرهم من الخبراء الغربيين إلى التركيز على التقييمات الكمية لأنظمة الأسلحة - الدبابات والطائرات والصواريخ - والقوة البشرية الخام، بدلاً من التركيز على الخصائص النوعية والنفسية التي تمتلكها التي غالباً ما تحدد أداء الجيش في ساحة المعركة.
في الواقع، في العديد من المقاييس النوعية، كانت القوات الروسية فقيرة إلى حد كبير. وتفتقر موسكو إلى ذلك النوع من الضباط المدربين تدريباً عالياً والذي أثبت أنه ضروري لأفضل جيوش العالم. وبسبب اعتمادها جزئياً على التجنيد الإجباري الذي يفرض بشكل غير متساو بين السكان، فإنها تعاني انخفاضاً في معنويات القوات. لقد سعى العديد من أفضل العقول الشابة في روسيا إلى تجنب الخدمة تماماً أو الفرار من البلاد. وبسبب النظام الاستبدادي في روسيا والفساد المستشري، فقد ثبت أنه من الصعب تحقيق ذاك النوع من الإبداع والقدرة على التكيف والتنوع الذي يميل إلى تحقيق أفضل النتائج في ساحة المعركة.
ومع ذلك، وبسبب السمعة التاريخية التي تتمتع بها روسيا كقوة عظمى، فإن المحللين يميلون إلى النظر إلى قواتها المسلحة بشكل مختلف، مع التركيز على القوة المادية وإهمال العوامل غير الملموسة الحاسمة مثل نوعية وخبرة قواتها وبشكل أكثر تحديداً، الطريقة التي بنت فيها روسيا قوتها البشرية. بالنتيجة، ربما يعرقل هذا تبني الولايات المتحدة وحلفاؤها استجابات سياسية أكثر فاعلية للحرب أو حتى يعوق قيام استراتيجية قتالية أوكرانية.
قوة عظمى أم ضجيج ضخم؟
تعود المبالغة في تقدير قوة موسكو العسكرية إلى منتصف القرن العشرين في الأقل. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بالغ الخبراء في كثير من الأحيان في تقدير القوات السوفياتية، وكان لذلك عواقب وخيمة على سياسة الأمن القومي الأميركي، وبخاصة الإنفاق الدفاعي. وربما كان المثال الأكثر شهرة هو ما يسمى بالجدل حول الفجوة الصاروخية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. إلى جانب معلقين مؤثرين في زمن الحرب الباردة مثل جوزيف ألسوب، قال السيناتور جون أف كينيدي إن إدارة أيزنهاور وصلت لمرحلة الرضا في مواكبتها برامج الصواريخ الروسية. خلال رئاسة كينيدي، بالغ مستشاروه العسكريون، الذين شحنتهم تلك المناقشة، في تقدير كمية ونوعية الصواريخ الباليستية السوفياتية العابرة للقارات بشكل خطر، ودعوا إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، مما دفع القيادة السوفياتية إلى استنتاج مفاده أن كينيدي كان متطرفاً خطراً. وحدث الشيء نفسه بعد عقدين من الزمن، في السنوات الأولى لإدارة ريغان: فقد دفعت التقييمات غير الدقيقة للتقدم العسكري السوفياتي من قبل مجتمع الاستخبارات الأميركية واشنطن إلى إعادة تقييم سياساتها الدفاعية وزيادة نفقاتها العسكرية.
ولم ينته هذا النمط بعد الحرب الباردة. أعرب معظم خبراء الأمن الغربيين عن تقديرهم الكامل لانحدار المؤسسة العسكرية الروسية بعد فشل الحرب السوفياتية في أفغانستان وانهيار الاتحاد السوفياتي، لكن الإصلاحات الدفاعية التي قامت بها موسكو، وبخاصة بعد إعادة تشكيل القوات المسلحة عام 2008، أسيء تقديرها من قبل معظم المحللين العسكريين الغربيين. وخلص كثير منهم إلى أن المؤسسة العسكرية الروسية طورت أسلحة جديدة قوية، وحسنت التدريب، وأصبحت قوة قتالية فعالة يمكن أن تشكل تحدياً خطراً لأكبر جيوش العالم.
وأدت هذه الحسابات الخاطئة، جنباً إلى جنب مع تقييمات أخرى على مدى العقد الماضي، بشكل مباشر إلى مبالغة الغرب في تقدير احتمالات نجاح القوات المسلحة الروسية في أوكرانيا. بحلول عام 2022، اعتقد معظم المحللين أنه من خلال امتلاك أحد أكبر الجيوش النظامية في العالم وتزويده بمجموعة متنوعة من أنظمة الأسلحة المتطورة، ستتمتع روسيا حتماً بميزة طبيعية على قوات الدفاع الأوكرانية الأصغر بكثير.
وهناك أربعة أسباب تقطع شوطاً طويلاً في تفسير هذه الأحكام الخاطئة. أولاً، كان المراقبون العسكريون الغربيون يميلون إلى إرساء افتراضاتهم على أدلة ناقصة. على سبيل المثال، يبدو أن كثيرين يفسرون ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 وتدخلها في سوريا عام 2015 على أنه دليل على نجاح إصلاحاتها الدفاعية بعد عام 2008. ومع ذلك، في شبه جزيرة القرم، لم يكن هناك أي قتال تقريباً وكان بعض السكان المحليين مؤيدين لروسيا، وفي سوريا، كان متاحاً للقوات الجوية الروسية أن تنفذ حملات قصف كبرى في ظل الغياب الفعلي للدفاعات الجوية. وبعبارة أخرى، لم تكشف هذه الصراعات إلا القليل عن أداء القوات الروسية في حرب برية تقليدية ضد عدو حازم ومسلح تسليحاً جيداً.
وبالتالي، كان من المفاجئ للعديد من هؤلاء المحللين أنفسهم أن جيش بوتين لم يتمكن من الاستيلاء على كييف خلال 48 ساعة عام 2022. ولم يأخذوا في الاعتبار حقيقة أن روسيا تواجه الآن وضعاً مختلفاً تماماً لمدينة يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة موزعين على 330 ميلاً مربعاً (855 كيلومتراً مربعاً) ويقسمها نهر كبير مع روافد، وكان سكانها معادين للقوات الروسية بأغلبيتهم الساحقة.
ثانياً، كان المحللون الغربيون على استعداد تام لقبول المعلومات الواردة من روسيا على محمل الجد. على سبيل المثال، أقنعت التقارير الروسية حول مناوراتها العسكرية واسعة النطاق العديد من خبراء الأمن بأن الجيش الروسي نجح بشكل كبير في تحسين الخدمات اللوجيستية، وأنظمة الاتصالات، والدعم الجوي للعمليات البرية، وبشكل أكثر عمومية، العمليات المشتركة بين مختلف فروع القوات المسلحة، لكن كان يفترض التشكيك بهذه المعلومات: فمن الصعب أن نتوقع من محللي الدفاع الروس أن يعترفوا بأن الإصلاح العسكري في بلادهم كان فاشلاً أو أن الفساد كان سرطاناً منتشراً في نظام حيازة الأسلحة. ومع ذلك، عندما بدأ بوتين بحشد القوات على حدود أوكرانيا أواخر عام 2021، خشي العديد من المحللين الغربيين من وقوع هجوم كاسح.
وتتعلق المشكلة الثالثة بطبيعة الاتصالات بين الخبراء العسكريين والأمنيين الروس وزملائهم في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) في السنوات التي سبقت الحرب. كان هؤلاء الخبراء الروس، الذين أقاموا علاقات مع الغرب، يميلون إلى أن يكونوا متحضرين، غربيين، متعددي اللغات، وأذكياء، لكن كانت لديهم أيضاً علاقات وثيقة مع الكرملين ودعموا السرديات الروسية الرسمية. ومن ناحية أخرى، طوال فترة حكم بوتين المستمرة منذ 23 عاماً، فرض نظامه أحكاماً بالسجن لعقود من الزمن على محللي الدفاع المحليين الذين قالوا أشياء أو نشروا مقالات غير مقبولة للرقابة حتى لو لم يتمتعوا بإمكانية الوصول إلى مواد سرية.
وأخيراً، ولكن ليس أقل أهمية، ركز الخبراء العسكريون الأميركيون بشكل كبير ومنذ فترة طويلة على أنظمة الأسلحة والتكنولوجيا الجديدة في روسيا بوتين. منذ عام 2010، تنظم وزارة الدفاع الروسية مناورات سنوية واسعة النطاق بمشاركة عشرات الآلاف من الجنود، تتضمن مناورات للأسلحة المشتركة بين الخدمات، وتستعرض الأسلحة والمعدات العسكرية الجديدة، بدءاً من أنظمة الاتصالات الشخصية عالية التقنية وصولاً إلى صاروخ "زيركون" الباليستي فرط الصوتي. وبمراقبة هذه الأحداث المنظمة بشكل مسرحي، خلص العديد من المراقبين الغربيين إلى أن روسيا كانت تبني جيشاً حديثاً ومحترفاً وفعالاً. وهكذا، عندما غزت القوات الروسية أوكرانيا، افترض كثيرون أنها ستتمكن بسرعة من إخضاع ثاني أكبر دولة في أوروبا. قليلون أولوا اهتماماً وثيقاً للتركيبة الفعلية للقوات الروسية نفسها وتدريبها واستعدادها.
خلطة عجيبة
إن نقاط الضعف المتأصلة في القوات المسلحة الروسية لها علاقة كبيرة بالطريقة التي تنظم بها قوتها البشرية. في معظم الجيوش القائمة على المتطوعين، يوفر الانضمام إلى الجيش بشكل عام وسيلة للحراك الاجتماعي، وسبل العيش الآمنة، والفوائد مدى الحياة. يعتمد التطويع الناجح أيضاً بشكل كبير على حالة الاقتصاد العام: فالأسواق المزدهرة تميل إلى تعقيد التجنيد العسكري وجذب الجنود الجدد. وعلى النقيض من ذلك، فإن التجنيد الإجباري لا يتأثر بتقلبات الاقتصاد، ولكن نادراً ما ينفذ بشكل عادل، وبخاصة في الأنظمة الديكتاتورية مثل روسيا. عادة ما يتمكن أبناء النخب السياسية والتجارية وحتى عائلات الطبقة الوسطى العليا من تجنب الخدمة العسكرية الإلزامية.
ويعتمد الجيش الروسي المعاصر على نظام هجين من المتعاقدين المتطوعين والجنود المجندين. على رغم أن الحكومة الروسية كانت تفضل منذ فترة طويلة الانتقال إلى قوة مؤلفة بالكامل من المتطوعين، والتي من شأنها أن توفر قوة محترفة تتكون من جنود يريدون الخدمة بالفعل، فإنها لا تستطيع الاتكال فقط على المتطوعين للوصول إلى هدفها المتمثل في 900 ألف إلى مليون عسكري محترف – بما في ذلك الضباط وضباط الصف والجنود. منذ أن بدأ غزو موسكو غير المبرر لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، احتاجت إلى تكثيف تجنيد المتطوعين بأجر وتجنيد الرجال في سن التجنيد لتلبية متطلباتها من القوى البشرية.
وفي أواخر عام 2010، وفي أعقاب الإصلاحات العسكرية، وضعت الحكومة الروسية نصب أعينها جذب نصف مليون جندي متعاقد، واستكمالهم بنحو 250 ألف مجند، ولكن لم يكن من الممكن الوصول إلى هذا العدد من المتعاقدين، لأن الرواتب، على رغم أنها كانت تنافسية في البداية، تآكلت بسرعة بسبب التضخم. ومع تحسن الفرص الاقتصادية في قطاعات أخرى من الاقتصاد الروسي، لم يكن القائمون على التجنيد العسكري يجذبون عدداً أقل فحسب، بل وعلى نحو متزايد أيضاً أشخاصاً غير مناسبين ليكونوا جنوداً. بحلول مارس (آذار) 2020، كان الجيش الروسي يتكون من نحو 405 آلاف متعاقد و225 ألف مجند، كثير منهم كانوا مدربين تدريباً سيئاً للغاية. ومن غير المرجح أن تكون هذه الأرقام قد تغيرت بشكل كبير قبل الغزو.
ما الذي يسيء الغرب فهمه في شأن الجيش الروسي؟
مشكلة القوات المسلحة البشرية في موسكو وكيف يمكن لواشنطن استغلالها
زولتان باراني الجمعة 15 سبتمبر 2023 0:02
مجندون روس في مركز تجنيد في سيمفيروبول، شبه جزيرة القرم، أبريل 2023 (رويترز)
في ربيع عام 2022، بينما كان الغرب يراقب غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، كانت إحدى أعظم المفاجآت هي ما كشفه عن القوة العسكرية الروسية. عندما بدأ الهجوم، افترض العديد من القادة والمحللين الغربيين أن أوكرانيا ستنهزم بسرعة بواسطة الجيش الروسي الضخم والقوات الجوية القوية والاحتياطات الكبيرة من الأسلحة الرئيسة. وبدلاً من ذلك، أثبتت القوات البرية الروسية أنها غير منظمة، وسيئة التدريب، وتفتقر إلى خطوط الإمداد الحيوية، في حين فشلت الطائرات الروسية في السيطرة على المجال الجوي الأوكراني. لقد استغرق الأمر أسابيع قبل أن يدرك الغرب بشكل كامل نقاط الضعف هذه ويساعد أوكرانيا على استغلالها.
وفي الأشهر الأخيرة، كانت هناك قراءة خاطئة مماثلة. ففي الأسابيع التي تلت بدء الهجوم المضاد البطيء في أوكرانيا في يونيو (حزيران)، ركز العديد من المعلقين على قوة وعمق الدفاعات الروسية. وأعرب البعض عن تشاؤمهم في شأن قدرة أوكرانيا على اختراقها على الإطلاق. وحذر آخرون من أن موسكو قد تأمر بتعبئة ثانية، لجلب مئات الآلاف من القوات الجديدة إلى ساحات القتال. ومع ذلك، بحلول أواخر أغسطس (آب)، كانت أوكرانيا تحقق مكاسب قوية، مع اعتراف مسؤولي إدارة بايدن بتقدم "ملحوظ"، بما في ذلك ضد خط الدفاع الثاني لروسيا.
وهذا النمط ليس جديداً. على مدى عقود، كان المحللون وصناع السياسات الغربيون يبالغون باستمرار في تقدير قوة موسكو العسكرية. ويعود ذلك جزئياً إلى نقص المعلومات الموثوقة. وعلى رغم أن روسيا (والاتحاد السوفياتي من قبلها) خاضت العديد من الحروب، فإن هناك أمثلة قليلة على مواجهة موسكو أعداء حازمين ومسلحين تسليحاً جيداً، كما أدت الدعاية الروسية والقمع الذي يمارسه الكرملين إلى الحد فعلياً من التحليل المستقل داخل روسيا، لكن هناك عاملاً آخر قد يكون أكثر أهمية: في تقييم قوة روسيا، مال الخبراء الأميركيون وغيرهم من الخبراء الغربيين إلى التركيز على التقييمات الكمية لأنظمة الأسلحة - الدبابات والطائرات والصواريخ - والقوة البشرية الخام، بدلاً من التركيز على الخصائص النوعية والنفسية التي تمتلكها التي غالباً ما تحدد أداء الجيش في ساحة المعركة.
في الواقع، في العديد من المقاييس النوعية، كانت القوات الروسية فقيرة إلى حد كبير. وتفتقر موسكو إلى ذلك النوع من الضباط المدربين تدريباً عالياً والذي أثبت أنه ضروري لأفضل جيوش العالم. وبسبب اعتمادها جزئياً على التجنيد الإجباري الذي يفرض بشكل غير متساو بين السكان، فإنها تعاني انخفاضاً في معنويات القوات. لقد سعى العديد من أفضل العقول الشابة في روسيا إلى تجنب الخدمة تماماً أو الفرار من البلاد. وبسبب النظام الاستبدادي في روسيا والفساد المستشري، فقد ثبت أنه من الصعب تحقيق ذاك النوع من الإبداع والقدرة على التكيف والتنوع الذي يميل إلى تحقيق أفضل النتائج في ساحة المعركة.
ومع ذلك، وبسبب السمعة التاريخية التي تتمتع بها روسيا كقوة عظمى، فإن المحللين يميلون إلى النظر إلى قواتها المسلحة بشكل مختلف، مع التركيز على القوة المادية وإهمال العوامل غير الملموسة الحاسمة مثل نوعية وخبرة قواتها وبشكل أكثر تحديداً، الطريقة التي بنت فيها روسيا قوتها البشرية. بالنتيجة، ربما يعرقل هذا تبني الولايات المتحدة وحلفاؤها استجابات سياسية أكثر فاعلية للحرب أو حتى يعوق قيام استراتيجية قتالية أوكرانية.
قوة عظمى أم ضجيج ضخم؟
تعود المبالغة في تقدير قوة موسكو العسكرية إلى منتصف القرن العشرين في الأقل. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بالغ الخبراء في كثير من الأحيان في تقدير القوات السوفياتية، وكان لذلك عواقب وخيمة على سياسة الأمن القومي الأميركي، وبخاصة الإنفاق الدفاعي. وربما كان المثال الأكثر شهرة هو ما يسمى بالجدل حول الفجوة الصاروخية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. إلى جانب معلقين مؤثرين في زمن الحرب الباردة مثل جوزيف ألسوب، قال السيناتور جون أف كينيدي إن إدارة أيزنهاور وصلت لمرحلة الرضا في مواكبتها برامج الصواريخ الروسية. خلال رئاسة كينيدي، بالغ مستشاروه العسكريون، الذين شحنتهم تلك المناقشة، في تقدير كمية ونوعية الصواريخ الباليستية السوفياتية العابرة للقارات بشكل خطر، ودعوا إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، مما دفع القيادة السوفياتية إلى استنتاج مفاده أن كينيدي كان متطرفاً خطراً. وحدث الشيء نفسه بعد عقدين من الزمن، في السنوات الأولى لإدارة ريغان: فقد دفعت التقييمات غير الدقيقة للتقدم العسكري السوفياتي من قبل مجتمع الاستخبارات الأميركية واشنطن إلى إعادة تقييم سياساتها الدفاعية وزيادة نفقاتها العسكرية.
ولم ينته هذا النمط بعد الحرب الباردة. أعرب معظم خبراء الأمن الغربيين عن تقديرهم الكامل لانحدار المؤسسة العسكرية الروسية بعد فشل الحرب السوفياتية في أفغانستان وانهيار الاتحاد السوفياتي، لكن الإصلاحات الدفاعية التي قامت بها موسكو، وبخاصة بعد إعادة تشكيل القوات المسلحة عام 2008، أسيء تقديرها من قبل معظم المحللين العسكريين الغربيين. وخلص كثير منهم إلى أن المؤسسة العسكرية الروسية طورت أسلحة جديدة قوية، وحسنت التدريب، وأصبحت قوة قتالية فعالة يمكن أن تشكل تحدياً خطراً لأكبر جيوش العالم.
وأدت هذه الحسابات الخاطئة، جنباً إلى جنب مع تقييمات أخرى على مدى العقد الماضي، بشكل مباشر إلى مبالغة الغرب في تقدير احتمالات نجاح القوات المسلحة الروسية في أوكرانيا. بحلول عام 2022، اعتقد معظم المحللين أنه من خلال امتلاك أحد أكبر الجيوش النظامية في العالم وتزويده بمجموعة متنوعة من أنظمة الأسلحة المتطورة، ستتمتع روسيا حتماً بميزة طبيعية على قوات الدفاع الأوكرانية الأصغر بكثير.
وهناك أربعة أسباب تقطع شوطاً طويلاً في تفسير هذه الأحكام الخاطئة. أولاً، كان المراقبون العسكريون الغربيون يميلون إلى إرساء افتراضاتهم على أدلة ناقصة. على سبيل المثال، يبدو أن كثيرين يفسرون ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 وتدخلها في سوريا عام 2015 على أنه دليل على نجاح إصلاحاتها الدفاعية بعد عام 2008. ومع ذلك، في شبه جزيرة القرم، لم يكن هناك أي قتال تقريباً وكان بعض السكان المحليين مؤيدين لروسيا، وفي سوريا، كان متاحاً للقوات الجوية الروسية أن تنفذ حملات قصف كبرى في ظل الغياب الفعلي للدفاعات الجوية. وبعبارة أخرى، لم تكشف هذه الصراعات إلا القليل عن أداء القوات الروسية في حرب برية تقليدية ضد عدو حازم ومسلح تسليحاً جيداً.
وبالتالي، كان من المفاجئ للعديد من هؤلاء المحللين أنفسهم أن جيش بوتين لم يتمكن من الاستيلاء على كييف خلال 48 ساعة عام 2022. ولم يأخذوا في الاعتبار حقيقة أن روسيا تواجه الآن وضعاً مختلفاً تماماً لمدينة يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة موزعين على 330 ميلاً مربعاً (855 كيلومتراً مربعاً) ويقسمها نهر كبير مع روافد، وكان سكانها معادين للقوات الروسية بأغلبيتهم الساحقة.
ثانياً، كان المحللون الغربيون على استعداد تام لقبول المعلومات الواردة من روسيا على محمل الجد. على سبيل المثال، أقنعت التقارير الروسية حول مناوراتها العسكرية واسعة النطاق العديد من خبراء الأمن بأن الجيش الروسي نجح بشكل كبير في تحسين الخدمات اللوجيستية، وأنظمة الاتصالات، والدعم الجوي للعمليات البرية، وبشكل أكثر عمومية، العمليات المشتركة بين مختلف فروع القوات المسلحة، لكن كان يفترض التشكيك بهذه المعلومات: فمن الصعب أن نتوقع من محللي الدفاع الروس أن يعترفوا بأن الإصلاح العسكري في بلادهم كان فاشلاً أو أن الفساد كان سرطاناً منتشراً في نظام حيازة الأسلحة. ومع ذلك، عندما بدأ بوتين بحشد القوات على حدود أوكرانيا أواخر عام 2021، خشي العديد من المحللين الغربيين من وقوع هجوم كاسح.
وتتعلق المشكلة الثالثة بطبيعة الاتصالات بين الخبراء العسكريين والأمنيين الروس وزملائهم في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) في السنوات التي سبقت الحرب. كان هؤلاء الخبراء الروس، الذين أقاموا علاقات مع الغرب، يميلون إلى أن يكونوا متحضرين، غربيين، متعددي اللغات، وأذكياء، لكن كانت لديهم أيضاً علاقات وثيقة مع الكرملين ودعموا السرديات الروسية الرسمية. ومن ناحية أخرى، طوال فترة حكم بوتين المستمرة منذ 23 عاماً، فرض نظامه أحكاماً بالسجن لعقود من الزمن على محللي الدفاع المحليين الذين قالوا أشياء أو نشروا مقالات غير مقبولة للرقابة حتى لو لم يتمتعوا بإمكانية الوصول إلى مواد سرية.
وأخيراً، ولكن ليس أقل أهمية، ركز الخبراء العسكريون الأميركيون بشكل كبير ومنذ فترة طويلة على أنظمة الأسلحة والتكنولوجيا الجديدة في روسيا بوتين. منذ عام 2010، تنظم وزارة الدفاع الروسية مناورات سنوية واسعة النطاق بمشاركة عشرات الآلاف من الجنود، تتضمن مناورات للأسلحة المشتركة بين الخدمات، وتستعرض الأسلحة والمعدات العسكرية الجديدة، بدءاً من أنظمة الاتصالات الشخصية عالية التقنية وصولاً إلى صاروخ "زيركون" الباليستي فرط الصوتي. وبمراقبة هذه الأحداث المنظمة بشكل مسرحي، خلص العديد من المراقبين الغربيين إلى أن روسيا كانت تبني جيشاً حديثاً ومحترفاً وفعالاً. وهكذا، عندما غزت القوات الروسية أوكرانيا، افترض كثيرون أنها ستتمكن بسرعة من إخضاع ثاني أكبر دولة في أوروبا. قليلون أولوا اهتماماً وثيقاً للتركيبة الفعلية للقوات الروسية نفسها وتدريبها واستعدادها.
خلطة عجيبة
إن نقاط الضعف المتأصلة في القوات المسلحة الروسية لها علاقة كبيرة بالطريقة التي تنظم بها قوتها البشرية. في معظم الجيوش القائمة على المتطوعين، يوفر الانضمام إلى الجيش بشكل عام وسيلة للحراك الاجتماعي، وسبل العيش الآمنة، والفوائد مدى الحياة. يعتمد التطويع الناجح أيضاً بشكل كبير على حالة الاقتصاد العام: فالأسواق المزدهرة تميل إلى تعقيد التجنيد العسكري وجذب الجنود الجدد. وعلى النقيض من ذلك، فإن التجنيد الإجباري لا يتأثر بتقلبات الاقتصاد، ولكن نادراً ما ينفذ بشكل عادل، وبخاصة في الأنظمة الديكتاتورية مثل روسيا. عادة ما يتمكن أبناء النخب السياسية والتجارية وحتى عائلات الطبقة الوسطى العليا من تجنب الخدمة العسكرية الإلزامية.
ويعتمد الجيش الروسي المعاصر على نظام هجين من المتعاقدين المتطوعين والجنود المجندين. على رغم أن الحكومة الروسية كانت تفضل منذ فترة طويلة الانتقال إلى قوة مؤلفة بالكامل من المتطوعين، والتي من شأنها أن توفر قوة محترفة تتكون من جنود يريدون الخدمة بالفعل، فإنها لا تستطيع الاتكال فقط على المتطوعين للوصول إلى هدفها المتمثل في 900 ألف إلى مليون عسكري محترف – بما في ذلك الضباط وضباط الصف والجنود. منذ أن بدأ غزو موسكو غير المبرر لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، احتاجت إلى تكثيف تجنيد المتطوعين بأجر وتجنيد الرجال في سن التجنيد لتلبية متطلباتها من القوى البشرية.
وفي أواخر عام 2010، وفي أعقاب الإصلاحات العسكرية، وضعت الحكومة الروسية نصب أعينها جذب نصف مليون جندي متعاقد، واستكمالهم بنحو 250 ألف مجند، ولكن لم يكن من الممكن الوصول إلى هذا العدد من المتعاقدين، لأن الرواتب، على رغم أنها كانت تنافسية في البداية، تآكلت بسرعة بسبب التضخم. ومع تحسن الفرص الاقتصادية في قطاعات أخرى من الاقتصاد الروسي، لم يكن القائمون على التجنيد العسكري يجذبون عدداً أقل فحسب، بل وعلى نحو متزايد أيضاً أشخاصاً غير مناسبين ليكونوا جنوداً. بحلول مارس (آذار) 2020، كان الجيش الروسي يتكون من نحو 405 آلاف متعاقد و225 ألف مجند، كثير منهم كانوا مدربين تدريباً سيئاً للغاية. ومن غير المرجح أن تكون هذه الأرقام قد تغيرت بشكل كبير قبل الغزو.
اقرأ المزيد
عقوبات بريطانية ضد شركات إيرانية "تزود الجيش الروسي"
3 كيلومترات تقرب الجيش الروسي من منطقة حررتها أوكرانيا
عشرات القتلى... كييف تعلن عن "ضربة مدمرة" ضد الجيش الروسي
هل زلزلت حرب أوكرانيا كرامة الجيش الروسي وعرت بوتين؟
القوات الأوكرانية تجد الجيش الروسي المنسحب في حالة بائسة
مشكلة ثقافة سوء معاملة الجنود في الجيش الروسي
ويسهم هذا الهيكل الهجين أيضاً في إحدى نقاط الضعف الدائمة في القوات المسلحة الروسية: ندرة ضباط الصف المحترفين. في أفضل جيوش العالم، غالباً ما يكون ضباط الصف بمثابة العمود الفقري ويكونون مسؤولين عن تدريب القوات، وتشغيل أنظمة الأسلحة المتطورة، والحفاظ على الروح المعنوية والانضباط، وتوفير حلقة وصل حيوية بين الضباط والجنود، ولكن في حالة روسيا، هناك عدد قليل نسبياً من ضباط الصف المحترفين والمدربين تدريباً جيداً، والذين تميل روسيا إلى استخدام المتعاقدين معهم.
علاوة على ذلك، يميل كبار الضباط في روسيا إلى رفض تفويض السلطة، الأمر الذي يحرم زملاءهم الأصغر سناً من فرص تطوير صفات المبادرة والقيادة. وكما أصبح واضحاً بعد بدء غزو أوكرانيا، فمن دون وجود عدد كاف من ضباط الصف المدربين بشكل مناسب، لم تكن روسيا قادرة على القتال بفعالية. كان جنودها يفتقرون إلى التوجيه والانضباط، وكان رفض تفويض السلطة يعني أن كبار الضباط - بما في ذلك الجنرالات - كانوا يقودون القوات إلى الجبهة، مما أدى إلى سقوطهم في أرض المعركة. وقد قتل ما لا يقل عن تسعة جنرالات روس في الحرب حتى الآن، وهو رقم غير عادي في أي صراع حديث.
ويبدو أن بوتين وجنرالاته يدركون أن متطلبات القوة البشرية اللازمة لحرب الاستنزاف الحالية البطيئة التي يخوضونها في أوكرانيا لا يمكن تلبيتها إلا من خلال تدابير جذرية. وكانت إحدى هذه الخطوات هي القرار الذي اتخذه بوتين في سبتمبر (أيلول) 2022 بتعبئة 300 ألف مجند، أرسل كثير منهم إلى الجبهة مع القليل من التدريب، كما يجند الكرملين جنوداً من قيرغيزستان ودول مجاورة أخرى وأيضاً وسع الحد العمري للرجال المؤهلين للتجنيد. ويتساءل المرء ما إذا كانت هذه التدابير ستعوض عن عشرات الآلاف من الضحايا وخسارة مئات الآلاف من الرجال في سن الخدمة العسكرية - بما في ذلك العديد من أفضل المتعلمين في البلاد - الذين فروا منذ بدء الغزو. وتأتي هذه القيود لتضاف على الاتجاهات الديموغرافية غير المواتية بالفعل في روسيا.
ريفي وفقير وقديم
ومن الناحية النظرية، ينبغي أن يكون الجزء المتطوع من القوات المسلحة الروسية قوياً، كما هو الحال في العديد من الجيوش الأخرى، يخدم المتطوعون في الجيش إما لأنهم وطنيون ويتمتعون بممارسة الانضباط العسكري وأسلوب الحياة المصاحب له أو لأنهم يأتون من مجموعات محرومة اجتماعياً واقتصادياً ولمن تقدم الخدمة العسكرية فوائد قد لا تكون متاحة بطريقة أخرى، ولكن في حالة روسيا، كانت الغلبة للفئة الأخيرة، وكانت النتيجة أن المشاركة في القوات المسلحة متفاوتة إلى حد كبير في جميع أنحاء البلاد، وأن الرجال من المناطق الريفية والمناطق النائية ممثلون بشكل كبير. على رغم قلة الإشارات على الحرب المستمرة في موسكو وسانت بطرسبورغ فإن الحرب في المناطق البعيدة والأكثر فقراً من البلاد هي حقيقة حاضرة دائماً، وليس من غير المألوف أن يشترك فيها الرجال في منتصف العمر المتقدم. ونتيجة لذلك، فإن نسبة متزايدة من الجيش الروسي تجاوزت سن القتال النموذجية.
كما حرفت رواتب الجنود تكوين الجيش. ومن أجل الحفاظ على مستوى التجنيد منذ بدء الحرب في أوكرانيا، جعلت الحكومة المشاركة في القوات المسلحة أكثر ربحية بكثير مما كانت عليه قبل الغزو. وبحلول أوائل عام 2023، كانت الدولة تقدم ما يصل إلى 2600 دولار شهرياً للراغبين في التجنيد، وهو راتب يفوق مرات عدة ما يكسبه الأشخاص العاديون في بلدة صغيرة في روسيا. ويضاف إلى هذه الأجور مساعدة اجتماعية شاملة، بما في ذلك إعانات الإسكان، وضمان الالتحاق بالجامعات، ومزايا المحاربين القدامى مدى الحياة. في يوليو (تموز) 2023، أعلن نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري ميدفيديف، أن 185 ألف مجند جديد انضموا إلى الجيش، على رغم أنه لم يوضح ما إذا كان هذا العدد يشمل المجندين والمتطوعين.
وفي الوقت نفسه بدأت روسيا حملة تجنيد في كازاخستان، موطن نحو ثلاثة ملايين إثني روسي، لكن الزعماء الكازاخستانيين لم يؤيدوا حرب بوتين، كما أن قوانين البلاد - مثل قوانين جمهوريات آسيا الوسطى الأخرى - تحظر على مواطنيها الانضمام إلى الجيوش الأجنبية. علاوة على ذلك، ونظراً إلى ثروة كازاخستان النفطية واقتصادها الديناميكي، فمن غير الواضح كم عدد المواطنين الكازاخستانيين الذين قد يعرضون حياتهم للخطر حتى في مقابل دفعة لمرة واحدة تبلغ 495 ألف روبل (5300 دولار أميركي) وراتب شهري لا يقل عن 190 ألف روبل (2000 دولار أميركي).
واستهدفت شركات التجنيد الروسية رجالاً من جمهوريات آسيا الوسطى الأخرى أيضاً، والذين من المرجح أن تكون عقود الخدمة هذه أكثر إغراء بالنسبة إليهم. وفي سبتمبر 2022، سهل مجلس الدوما، وهو المجلس التشريعي الروسي، على الأشخاص الذين يخدمون في الجيش الحصول على الجنسية الروسية، وتقصير شرط الخدمة من ثلاث سنوات إلى سنة واحدة.
ولا يزال من غير الواضح أيضاً مدى فعالية المرتزقة في الحملة الروسية في أوكرانيا. ويبدو أن شركة فاغنر شبه العسكرية وبعد وفاة زعيمها، يفغيني بريغوجين، لم تعد جهة فاعلة في أوكرانيا، على رغم أنها لا تزال نشطة للغاية في أفريقيا، مما يؤدي إلى تفاقم تحديات القوة البشرية التي يواجهها الجيش الروسي في أوكرانيا. وقد تحركت الدولة الآن لوضع جيوش خاصة أخرى، والتي كانت غير قانونية من الناحية الفنية في روسيا، تحت سيطرتها. هناك العديد منهم، وجميعهم على علاقات وثيقة مع الكرملين. وهي تعمل ظاهرياً كشركات أمنية لإمبراطوريات أعمال النفط والغاز التابعة لحكم الأوليغارشية، لكن معظمها كان يقاتل في أوكرانيا. على رغم أن المرتزقة قد يكونون جنوداً أكثر تحفيزاً وفعالية، كما أظهر مثال فاغنر، فإنهم أقل عرضة بكثير للخضوع للقيادة العسكرية الرسمية.
ما يأتي بسهولة يذهب بسهولة
لكن المرتزقة غير المنضبطين والمتطوعين المسنين لا يشكلون سوى جزء من التحدي الذي تواجهه روسيا. ويأتي جزء كبير من قوتها البشرية الحالية - نحو الثلث - من المجندين. ويحظر التشريع الجديد الآن على الرجال في سن الخدمة العسكرية مغادرة البلاد. وترسل إخطارات التجنيد الآن إلكترونياً، ويجب على المتسلمين إبلاغ مكتب التجنيد المحلي الخاص بهم في غضون 20 يوماً أو مواجهة عقوبات قاسية (بما في ذلك تعليق رخصة القيادة، وعدم الأهلية للحصول على القروض المصرفية، وحظر تسجيل العقارات). وفي الوقت نفسه جرى توسيع أهلية التجنيد من الفئة العمرية ما بين 18 و27 عاماً إلى الذين تراوح أعمارهم ما بين 18 و30 سنة، كما قام مجلس الدوما بتمديد الحد الأقصى لسن تعبئة جنود الاحتياط إلى 55 سنة في حالة صغار الضباط و70 سنة لكبار الضباط.
وبحسب الروايات الرسمية الروسية فإن هذه الإجراءات أتت بالنتائج المرجوة. وبالتالي، من المفترض أن يؤدي الاستدعاء الصيفي في يونيو 2023 إلى تجنيد 140 ألف مجند، ووقع المتطوعون 117 ألف عقد جديد في الأشهر الستة الأولى من العام، لكن بعض المحللين، بما في ذلك الخبراء الروس في المنفى، قدروا أن الأعداد الحقيقية من المرجح أن تكون أقل بكثير، وربما أقل من نصف هذه الأرقام.
وكان أحد المؤشرات على استماتة الحكومة لحشد قوة بشرية هو استخدامها على نطاق واسع لنزلاء السجون في المهام القتالية - وهو نهج يعود إلى عهد ستالين. وفي سبتمبر 2022، فتح بوتين الطريق أمام المدانين للانضمام إلى القوات المسلحة مقابل تخفيف الأحكام الصادرة في حقهم وغيرها من المزايا المحتملة. ووفقاً لبعض التقديرات، انضم ما لا يقل عن 40 ألف مدان إلى الجيش في النصف الثاني من عام 2022 وحده. صرحت فاغنر أنه من بين 49 ألف سجين سابق جندتهم للحرب في أوكرانيا، مات 20 في المئة منهم في ساحة المعركة. بكل المقاييس، يعامل المدانون بقسوة أكبر من الجنود النظاميين، لكن أولئك الذين أوفوا بالتزاماتهم التعاقدية سمح لهم بالمغادرة كرجال أحرار.
والعامل الآخر الذي ساعد في حجب القوة العسكرية الفعلية لروسيا هو عدم اهتمام الكرملين الواضح بالخسائر البشرية. لقد أبدت النخب السياسية السوفياتية والروسية تقليدياً قدراً كبيراً من اللامبالاة وعدم الاكتراث لأعداد الضحايا. منذ سبتمبر 2022، عندما أعلنت حكومة بوتين عن رقم منخفض بشكل غير واقعي بلغ 5937 قتيلاً من القوات الروسية، لم يقدم الكرملين أي بيانات جديدة عن الضحايا الروس. ونظراً إلى ندرة الأرقام الروسية وعدم موثوقيتها، فقد قدمت العديد من المصادر الغربية والأوكرانية والروسية المستقلة أرقامها الخاصة، والتي هي بحكم تعريفها تخمينية.
وقدر مسؤولون أميركيون عدد قتلى الحرب الروس بنحو 50 ألفاً في مايو (أيار) 2023، بينما قدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية Center for Strategic and International Studies العدد ما بين 60 ألفاً و70 ألفاً في السنة الأولى من الحرب وحدها. وأصدرت إحدى وسائل الإعلام الروسية المستقلة "ميديازونا"، ما قد يكون التقدير الأكثر صرامة وموثوقية - يعتمد إلى حد كبير على بيانات الميراث - وأرقامها قريبة بشكل ملحوظ من أرقام الحكومة الأميركية. وجدت "ميديازونا" أن ما يقرب من 47 ألف رجل روسي لقوا حتفهم في أوكرانيا وأن 78 ألفاً آخرين أصيبوا بجروح خطرة لدرجة أنهم لن يتمكنوا من العودة إلى القتال. بعبارة أخرى، خسرت روسيا حتى الآن نحو 125 ألف جندي، وهو ما يعادل تقريباً حجم قوتها الغازية الأصلية، وعدداً من الرجال أكبر بكثير مما فقدته في كل حروبها الأخرى منذ الحرب العالمية الثانية.
ويتجلى موقف الجيش الروسي المتراخي تجاه الضحايا في إهماله العام الطب القتالي. وفي الغرب، أحرز تقدم كبير في الجمع بين الجنود الجرحى والرعاية الحرجة بسرعة - وهو ما يسمى بالساعة الذهبية [أي الفترة القصيرة الحرجة التي يمكن إنقاذ الحياة فيها]، لكن في حالة روسيا، كان أطباء الجيش غير مجهزين وبحالة يرثى لها، وغالباً ما يكونون غير قادرين على تقديم أكثر من مجرد الإسعافات الأولية. ويساعد هذا في تفسير الانخفاض الكبير في معدل بقاء الضحايا الروس على قيد الحياة: إذ تبلغ نسبة الجرحى إلى القتلى في أوكرانيا سبعة إلى واحد، بينما تظل النسبة في روسيا ثلاثة إلى واحد فقط. وعلى رغم أن علماء النفس الروس يقدرون أن أكثر من 100 ألف من المحاربين القدامى سيحتاجون إلى مساعدة مهنية للتعامل مع اضطرابات الصحة العقلية، فإن البلاد تحتفظ بـ10 مستشفيات فقط للمحاربين القدامى، منها مستشفى واحد فقط يضم 32 سريراً يركز على إعادة التأهيل النفسي.
ومن المحتمل أن يكون الضرر الذي يلحق بالمعنويات العامة للجيش هو عدم المساواة في التركيبة السكانية لمن يقتل. ويأتي عدد غير متناسب إلى حد كبير من الذين يموتون من الأقليات العرقية وسكان الريف في البلاد. ووفقاً لوسائل الإعلام المستقلة، مقابل كل جندي من موسكو يموت في هذه الحرب، يموت أكثر من 87 شخصاً ممن جاؤوا من داغستان، الجمهورية الواقعة في أقصى جنوب روسيا، و275 شخصاً ممن جندوا من بورياتيا، وهي جمهورية في الشرق الأقصى الروسي، و350 شخصاً من توفا، موطن أقلية آسيوية وأفقر منطقة في روسيا. ويدرك الكرملين تمام الإدراك أن احتياطاته من القوى البشرية أكبر بكثير من احتياطات أوكرانيا، وأنه قادر على استبدال الجنود القتلى بسرعة. وعلى حد تعبير نائب وزير دفاع إستونيا كوستي سالم: "في روسيا فإن حياة الجندي لا تساوي شيئاً... وكل الجنود المفقودين من الممكن تعويضهم، ولن يؤدي عدد الخسائر إلى تحويل الرأي العام ضد الحرب".
الضعف الروسي والفرصة الغربية
لم يلب أداء المؤسسة العسكرية الروسية في أوكرانيا توقعات المحللين الغربيين، لكن تلك التوقعات لم تكن مبنية على افتراضات واقعية، ولكن أولئك الذين قيموا المؤسسة العسكرية الروسية بشكل شمولي وكلي، لم يكن من الممكن أن يصابوا بالصدمة إزاء انخفاض الروح المعنوية، وضعف التدريب، والإهمال العام لجنودها (وهو ما يتجلى حتى في مثل هذه الهفوات التي تبدو بسيطة ولكنها مهمة، مثل انخفاض ضغط إطارات مركباتهم العسكرية). ويكمن وراء هذه القضايا المحددة الاستبداد العميق الذي يسلط الضوء على السياسة العسكرية الروسية والفساد المتفشي الذي استنزف قوة قواتها المسلحة.
إن الفهم الخاطئ المستمر بين المحللين والمسؤولين الغربيين للقوة العسكرية الروسية له عواقب وخيمة. وسوء الفهم هذا في المراحل الأولى من الحرب الحالية، ربما يكون قد خفف من الدعم في العواصم الغربية الذي كانت أوكرانيا في أمس الحاجة إليه. وقد شجع القبول غير النقدي للتقارير والبيانات الصادرة عن موسكو كثيرين على الإيمان بحتمية انتصار روسيا في نهاية المطاف. ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تتحسن فعالية القوات الروسية مع استمرار الحرب.
وقد يكون اجتماع بوتين المرتقب مع كيم جونغ أون لمناقشة إمكانية قيام كوريا الشمالية بتزويد موسكو بالأسلحة علامة على أن الكرملين غير متفائل في شأن قدرته على تسليح جنوده بالأسلحة التي يحتاجون إليها. ومن خلال الاعتراف بالدعاية الروسية وتجاهلها، وعوضاً عنها الانكباب على دراسة وتحديد نقاط الضعف الفعلية للجيش الروسي، قد تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من تطوير أساليب جديدة وأفضل يمكن أن تسمح لهم بمساعدة أوكرانيا على الانتصار والتعجيل بنهاية الحرب. تماماً كما فعلت الولايات المتحدة مع حرب السوفيات في أفغانستان.
*زولتان باراني هو أستاذ لعلوم الحوكمة في جامعة تكساس ويشغل كرسي مئوية فرانك سي إروين جونيور