إيقونة المادة

عن "عقدة الاضطهاد" التي تعانيها الثقافة الفرنسية تجاه الإنجليز2

إبراهيم العريس
الحل الوحيد"

ولعل الأشد قسوة من بين تلك الضروب تلك الحكاية التي تعيدنا هنا إلى القصة التي يرويها رومان غاري وأشرنا إليها أعلاه. وفحواها هنا أنه خلال الحرب وإذ راحت حكومة فيشي البيتانية النازية تمارس سياسة اضطهاد اليهود واعتقالهم بل حتى التخلص منهم في معسكرات الاعتقال، بدا من الواضح أن تلك الملاحقات تهدد "الحوليات" بدورها والسبب: أن واحداً من مؤسسيها، أي مارك بلوك، يهودي حتى وإن كان مؤسسها الثاني لوسيان فيفر "فرنسي لا غبار على فرنسيته". فما العمل؟ بكل بساطة هناك حل واحد يحفظ لـ"الحوليات" وجودها ومكانتها. وهو حل رأى فيفر في مناقشته الأمر مع شريكه أنه يقتضي اختفاء هذا الأخير. ومن هنا قد تكون الوسيلة الفضلى لذلك الاختفاء توجه بلوك إلى المناطق الجنوبية الواقعة تحت سلطة المقاومة الديغولية - اليسارية، فيربط مصيره بمصيرها مبتعداً عن باريس و"الحوليات" ريثما تستقيم الأمور. صحيح أن بلوك راقت له الفكرة وتوجه بالفعل إلى تلك المناطق... سراً ومن دون أن يخبر لا هو ولا شريكه بالأمر أحداً. وهكذا توجه بلوك وهو مطمئن في عام 1944. غير أن سلطات فيشي سرعان ما علمت بأمره فطاردته واعتقلته ثم أعدمته. كيف حدث ذلك؟ لا أحد يملك جواباً، فهل كان لشريكه علاقة بالأمر؟ فراير لم يوضح ذلك. ومن المؤكد في المقابل أن ما من أحد اتهم فيفر بشيء. ولا حتى إيفانز الذي أورد الحكاية من دون أن يعلق عليها بالتأكيد، فما حصل في الماضي يبقى ملكاً للماضي، والمؤرخ ليس محققاً ولا قاضياً.

تحت شعار المقاومة

لكن بإمكان المؤرخ أن يختم حكايته، وإيفانز لم يتخل عن مثل تلك الإمكانية. وهكذا نجده يكتب على سبيل الاستطراد أن لوسيان فيفر أمضى سنوات ما بعد الحرب هادئاً مطمئناً ولا سيما أنه في أشهر القتال الأخيرة أعلن بدوره انتماءه إلى المقاومة، قائلاً في رسالة بعث بها باسم "الحوليات" إلى وزارة الداخلية أن هذه كانت من المؤسسات الأكاديمية القليلة "التي حافظت على روح المقاومة"، مستشهداً في ذلك بمقاومة بلوك وانضمامه هو نفسه إلى المقاومة "على خطى ذلك المؤرخ البطل". ومن الطبيعي أن فيفر لم يجد، بحسب ما يؤكد إيفانز، من يعارض توصيفه هذا، ففي نهاية الأمر ظلت تلك الوثيقة محفوظة في الأرشيف الخاص بوزارة الداخلية التي كان فيفر قد توجه إليها في سبيل الحصول على بعض الوثائق الإدارية الرسمية. ويبقى أن لوسيان فيفر، ودائماً بحسب إيفانز، تمكن بعد الحرب من الاستفادة "من الهيكلية المركزية التراتبية لتعليم التاريخ في الإطار الجامعي الفرنسي ليصل إلى قمة التعليم التاريخي الذي كان قبل ذلك حكراً على التاريخين السياسي والدبلوماسي". وبقيت له تلك المكانة التي مكنته على أية حال، وحتى رحيله عن عالمنا في عام 1956 من أن تكون له هيمنته الكبرى على "الحوليات" مكانة كان قد بدأ يشاركه فيها خليفته الكبير فرنان بروديل الذي عرف كيف يحيي معه ذكرى "رفيقنا وأستاذنا الكبير إريك بلوك الذي استشهد في سبيل الوطن معطياً لمؤسستنا الثورية مكانة تتجاوز الإطار الأكاديمي لتحلق في فضاء العمل الوطني المقاوم". وطبعاً في ذلك الحين كان من الصعب على أي كان أن يتذكر قصة رومان غاري. فهذا النوع من التاريخ ينطوي وينسى على عكس التاريخ الاجتماعي والاقتصادي الذي تهتم به "الحوليات" وكبار مفكريها... حتى وإن كان يمت بصلة ما إلى التاريخ الأخلاقي وتاريخ الذهنيات الذي لا بأس من وضعه جانباً في حالات الضرورة القصوى!

independentarabia
الكاتب
madodedo
المشاهدات
482
الإصدار الأول
آخر تحديث
تقييم
0.00 نجوم 0 تقييمات

المزيد من المواد من madodedo

عودة
أعلى