أنقرة تقترب فعليًا من الدخول إلى نادي الدول التي تعتمد على الطاقة النووية السلمية كمصدر رئيسي ومستقر لإنتاج الكهرباء.
الاثنين 2025/09/15
منعطف حاسم
إسطنبول - يشكل مشروع محطة “أق قويو” النووية منعطفا إستراتيجيا في مسار تركيا نحو تحقيق أمنها الطاقي وتوطين التكنولوجيا النووية ضمن منظومتها الاقتصادية والصناعية. وبالرغم من أن المشروع يمثل فرصة لتأمين مصادر طاقة مستقرة، إلا أن تحديات التمويل والعقوبات الغربية على روسيا تثير مخاوف بشأن استدامته.
ومع اقتراب تشغيل المفاعل الأول في المحطة الواقعة بولاية مرسين جنوب البلاد، تقترب تركيا فعليًا من الدخول إلى نادي الدول التي تعتمد على الطاقة النووية السلمية كمصدر رئيسي ومستقر لإنتاج الكهرباء، وهو ما يعكس طموحا تركيًّا طويل المدى لتقليل الاعتماد على واردات الطاقة، خاصة من الغاز الطبيعي الذي شكل تاريخيا عبئا على الميزان التجاري التركي.
ويعد المشروع الذي انطلقت أولى مراحله في أبريل 2023، أكبر استثمار في مجال الطاقة في تاريخ الجمهورية التركية، ويأتي ثمرة لاتفاق ثنائي أُبرم مع روسيا عام 2010، ما يضفي عليه أبعادا جيوسياسية لا تقل أهمية عن قيمته التقنية والاقتصادية.
وبينما تبقى أنقرة شريكا مهما في المؤسسات الغربية، فإن تعاونها مع موسكو في مشروع بهذا الحجم يعكس سياسة خارجية متعددة الاتجاهات، تسعى من خلالها تركيا إلى تأمين مصالحها الحيوية بعيدا عن الاستقطاب الدولي التقليدي.
وجود منشأة نووية روسية داخل تركيا يثير مخاوف أمنية، إذ يُنظر إليه كرمز لتوسع النفوذ الروسي في منطقة حيوية
ويعكس التقدم في المشروع كذلك قدرة تركيا على إدارة مشاريع معقدة فنيّا وتكنولوجيّا، خاصة عقب بلوغ مرحلة اختبار الأنظمة والمعدات في المفاعل الأول، وهي مرحلة حرجة تتطلب دقة تقنية عالية وامتثالا صارما للمعايير الدولية في مجال السلامة النووية.
وتشير تصريحات المدير العام لشركة “أق قويو” سيرجي بوتسكخ أمس الأحد إلى أن الفرق العاملة قد دخلت فعليا مرحلة التفعيل، تمهيدا للانتقال إلى التشغيل الفعلي، وهو ما يدل على أن المشروع يسير ضمن الجدول الزمني المخطط له، رغم التحديات اللوجستية والسياسية المحيطة به.
ولا تقتصر أهمية “أق قويو” على إنتاج الكهرباء فحسب، بل تتعداه إلى بناء قاعدة بشرية مؤهلة في مجال التكنولوجيا النووية، حيث تم إرسال مئات الطلاب الأتراك إلى روسيا للتدريب، ما يسهم في نقل المعرفة وبناء قدرات محلية قد تُستخدم لاحقا في مشاريع مماثلة أو في تطوير سياسات وطنية للطاقة. كما أن المشروع يوفر الآلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، ما يعزز تأثيره الاقتصادي والاجتماعي في المديين المتوسط والبعيد، لاسيما في منطقة مرسين التي تحتضن المشروع.
وبالرغم من أن المشروع يحمل آفاقا كبيرة، فإنه لا يخلو من التحديات. ففضلا عن الحاجة إلى ضمان أعلى معايير السلامة في التشغيل والتخزين والتخلص من النفايات النووية، هناك ضرورة لإيجاد توازن في العلاقات الدولية، خاصة أن الشريك الرئيسي في المشروع، وهو روسيا، يعيش عزلة جزئية بسبب تطورات النظام الدولي.
وهذا قد يُلقي بظلاله على التعاون المستقبلي، ما يفرض على تركيا تعزيز استقلاليتها التقنية تدريجيا، وتوسيع شراكاتها مع جهات متعددة لضمان استمرارية هذا النوع من المشاريع.
ويضع المشروع الذي تنفذه شركة روساتوم الحكومية الروسية، ويعتمد على نموذج “البناء والتملك والتشغيل”، روسيا في موقع إستراتيجي هام داخل بنية الطاقة التركية، وهو ما يثير قلقا متزايدا في أنقرة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، خاصة عقب تزايد التوترات بين روسيا والدول الغربية.
وترى سارة خان، الخبيرة في الطاقة، أن نموذج البناء والتملك والتشغيل الذي تتبعه روسيا في “أق قويو” يضع الجانب التركي في موقف ضعيف إلى حد كبير، لأن كل مرحلة من مراحل تشغيل المحطة تعتمد على روسيا، وهو ما قد يجعل تركيا عرضة لضغوط سياسية أو عقوبات قد تفرض على روسيا، مضيفة أن “هذا المشروع يجب أن يُدار بحذر شديد مع وجود خطط بديلة للطوارئ.”
ويثير وجود منشأة نووية روسية داخل تركيا مخاوف أمنية ودبلوماسية، إذ يُنظر إليه كرمز لتوسع النفوذ الروسي في منطقة حيوية، ويشكل اختبارا لقدرة تركيا على التوفيق بين علاقتها مع روسيا وانتمائها إلى الناتو. كما تثير بعض التقارير قلقا من احتمال استخدام موسكو قنوات التمويل المرتبطة بالمشروع لتجاوز العقوبات الغربية، ما يضيف المزيد من التعقيد السياسي.
ويقول د. علي مصطفى، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أنقرة، إن “المشروع يمثل نقطة حساسة في العلاقات التركية – الروسية، فاعتماد تركيا على روساتوم لتشغيل محطتها النووية بالكامل يعزز نفوذ موسكو في قطاع الطاقة التركي، وهذا قد يؤثر على قرارات أنقرة السياسية خصوصا في ظل التوترات الراهنة بين روسيا والغرب. تركيا في حاجة إلى إستراتيجية واضحة لتقليل المخاطر المحتملة المرتبطة بهذا الاعتماد.”
وعلى مدى عقود فشلت أنقرة في جذب الاستثمار الغربي بسبب مزيج من المخاوف السياسية والتقلبات الاقتصادية وغياب الثقة بالإطار التنظيمي التركي.
وكانت الجهات الغربية حذرة من المخاطر الجيوسياسية التي تحيط بتركيا، بما في ذلك موقعها المحاذي لنقاط نزاع كبرى مثل سوريا والعراق وشرق المتوسط والقوقاز. كما أثار النهج التركي في الحكم، خاصة بعد التوترات مع الاتحاد الأوروبي والانزياح نحو الحكم المركزي، تساؤلات لدى العواصم الغربية حول ضمانات الشفافية والحوكمة والاستقلال الرقابي في مشروع بالغ الحساسية كالمشروع النووي.
وفي الوقت ذاته أثّرت الاعتبارات الاقتصادية والمالية سلبا. فتمويل مشروع نووي يتطلب التزامات طويلة الأجل وضمانات سيادية، وهي أمور ترددت المؤسسات الغربية، سواء منها الحكومية أو الخاصة، في توفيرها لأنقرة في ظل تاريخ من التضخم وعدم الاستقرار المالي. وترك هذا الغياب للثقة الاستثمارية فراغا إستراتيجيا سرعان ما استغلته روسيا.